الوقوع السمعي والإجماع على وجود النسخ
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
جواز النسخ السمعي أو الوقوع والإجماع على وجود النسخالجواز السمعي أو الوقوع:
في القرآن آيات كثيرة نسخت أحكامها، وهذا دليل في طيِّه أدلةٌ متعددة؛ لأن كل آية من هذه الآيات المنسوخة تعتبر مع ناسخها دليلاً كاملاً على وقوع النَّسخ؛ إذ الوقوعُ يكفي في إثباته وجودُ فرد واحد[1].
ولنكتفِ بذكر آيتين من القرآن الجمهورُ على نسخهما:
الأولى: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65].
فهذه الآية نُسخت بالآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66].
الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 240].
فهذه الآية منسوخة بآية سبقَتْها في الترتيب، وهي قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 234].
ولا غرابةَ في نسخ آية بآية سبقتها في الترتيب أو الوضع؛ لأنه - كما هو معلوم - القرآن غير مرتَّب على النزول[2].
الإجماع على وجود النَّسخ:
أجمع سلف الأمة، كما أجمع خلفها - إلا مَن خالف ممن لا يُعتدُّ بخلافه - على أن النَّسخ وقَع في الشريعة الإسلامية، وإذا كان المفسرون وعلماء الأصول قد عالجوا قضايا النَّسخ في أثناء كتبهم، فإن العديد من العلماء في العصور المختلفة قد ألَّفوا كتبًا خاصة ببيان النَّسخ في القرآن الكريم، وهذه الكتب منها ما هو مخطوط، ومنها ما هو مطبوع، ومنها ما أشارت له كتب التراجم والتاريخ، وكل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن المنكِرين لوقوع النَّسخ قد خالفوا النص القرآنيَّ والسنة النبوية الصحيحة، ومنطقَ العقل السليم، وإجماع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم"[3].
[1] مناهل العرفان: 2 /193.
[2] وقد ذهَب بعض أهل العلم - منهم العلامة السعدي - إلى عدم النسخ، وأن الآية الأولى في بيان الواجب، وهو التربص أربعة أشهرٍ وعشرًا، والثانية: في بيان أن ما زاد على هذه المدة فهو مستحبٌّ رعاية لحق الزوج؛ ولذلك نفى الله تعالى الجناح، ولو كان التربص حولاً كاملاً واجبًا في بداية الأمر، لَمَا اكتفى بنفيِ الجُناح، لكن هذا لا يسلم، والراجح النسخ، كما قرره العلامة ابن باز رحمه الله تعالى.
[3] مع القرآن الكريم للدكتور شعبان محمد إسماعيل، نقلاً من أصول الفقه الميسر له: 2/ 229.