وتبقى المقاومة!!
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
لن يكون اغتيال الشيخ أحمد ياسين -مؤسس وزعيم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)- كما أرادته دولة الكيان الصهيوني: نهاية المقاومة والفعل الجهادي وإقبارًا لمشروع التحرير الكامل لأرض فلسطين .. على العكس من ذلك؛ سيكون انطلاقة جديدة لشرارة المقاومة، وإسقاطًا لأي خيار"سلامي"، والأكثر من ذلك والأخطر منه، أن اغتيال شيخ المقاومة ياسين أعاد التكاتف الشعبي الفلسطيني حول المضمون الإسلامي للمقاومة الفلسطينية؛ فالشيخ ياسين سيصبح من الآن -من وقت اغتياله- رمزًا شعبيًّا كبيرًا للمقاومة الإسلامية، ليس في فلسطين فحسب؛ بل في عموم العالم العربي والإسلامي.
إن إقدام دولة الغصب الصهيوني على اغتيال الشيخ ياسين، لا يفسر إلا بأمر واحد، وهو أن هذا الكيان الغاصب وصل حدًّا من التهرؤ الداخلي والارتباك السياسي والعمى الاستراتيجي، حيث إن المجرم أرييل شارون (منفذ مجازر صبرا وشاتيلا) فقد بوصلة التخطيط السياسي، ولم يعد أمامه سوى الإقدام على خطوات غبية كهذه الخطوة الفاصلة المتمثلة في اغتيال شيخ تحول منذ الثمانينيات في صفوف الفلسطينيين والعرب والمسلمين إلى رمز جهادي وأسطورة حية للمقاومة والتحدي والبطولة؛ فمنذ صعوده إلى الحكم في دولة الكيان الوهمي قبل ثلاث سنوات، عمل المجرم شارون على تحقيق ما وعد به ناخبيه من تحقيق للأمن في مدة لا تتجاوز المئة يوم، ومرت تلك المدة دون أن يرى الصهاينة شيئًا ملموسًا على الأرض، مما زاد في جنون الليكودي الأحمق؛ فرسم لنفسه استراتيجية واضحة تستهدف القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) واغتيال رموزها، مثلما حاول مع إسماعيل هنية وعبد العزيز الرنتيسي وفشل، ومثلما فعل باغتياله للشيخ إسماعيل أبي شنب أحد قياديي الحركة، وأخيرًا في إقدام حكومته وأجهزة مخابراته على تنفيذ أخطر جريمة، تمثلت في اغتيال القائد الأبرز للحركة.
لماذا أقدم "شارون" على الاغتيال؟
المعروف أن الكيان الصهيوني ظل دائمًا يعتبر الشيخ الشهيد أحمد ياسين على رأس قائمة المطلوبين، ولكنه لم يكن يمتلك الجرأة لاغتياله مخافة إدخال نفسه في"جحر الثعابين" وإثارة الفتنة عليه، خصوصًا وأن الكيان الصهيوني يدرك جيدًا التجذر الجماهيري للحركة في صفوف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات الشتات، كما يدرك أن السلطة الوطنية الفلسطينية تعتبر ذلك خطًّا أحمر، خشية انقلاب موازين القوة في الداخل الفلسطيني وتراجع سقف الخيارات السياسية.
وفي الأسابيع الأخيرة عندما راج الحديث وسط الصهاينة عن احتمال الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، أصبح مطلوبًا أن تقدم الحكومة الصهيونية قبل تنفيذ ذلك الخيار على خطوة أوسع مدى تحمل توقيعها، وتؤكد بأنها لم تقدم على خيار الانسحاب بسبب الانهزام أمام المقاومة المسلحة وعمليات الاستشهاد المتواصلة؛ بل أنها فعلت ذلك من موقع قوة وتفوق ميداني، ومن جانب آخر كان هدف الحكومة الصهيونية هو أن تخلف بعد انسحابها من القطاع فتنة داخلية وفوضى بين الفلسطينيين، ربما تبرر لها فيما بعد العودة مجددًا بدعوى القضاء على هذه الفوضى على بعد خطوات قليلة من "حدودها"، وهي استراتيجية صهيونية معروفة منذ بدء ما سمي بالحلول السلمية بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ومن الجانب الثالث يبدو أن المجرم شارون كان يتوهم بأن اغتيال الشيخ ياسين سوف ينهي المقاومة ويضع حدًّا للعمليات الاستشهادية، وربما -وهذا أيضًا غير مستبعد منه- يدفع الجيل الثاني في الحركة إلى الموافقة على الحل السلمي والذهاب إلى قاعات المفاوضات.
تنسيق صهيو ـ أمريكي
ولكن شارون لم يكن ليقدم على مثل هذه الخطوة الكبيرة بدون أن تكون في جيبه أوراق ضمان، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية وإلى حد ما من بلدان الاتحاد الأوروبي؛ فحركة (حماس) أصبحت تحتل رأس قائمة المنظمات المتهمة بممارسة "الإرهاب" بالنسبة للإدارة الأمريكية، ما يعني أن أي إجراء للردع تجاهها هو إجراء مقبول ومسوغ، والاتحاد الأوروبي اعتبر رسميًّا في السنة الماضية أن الحركة حركة "إرهابية" ودعا إلى حظرها وتجميد أموالها في الخارج، وفي الليلة التي تقرر فيها اغتيال الشيخ ياسين، كان وزير الخارجية الصهيوني"شالوم" يزور واشنطن لمقابلة المسؤولين الأمريكيين وأخذ الضوء الأخضر منهم، على الرغم من أنه صرح عقب العملية بأنه لم يجر أي تنسيق مع الإدارة الأمريكية فيها، وهو تصريح يأتي ليؤكد التنسيق لا لينفيه، فعملية بهذا الحجم، استيقظ شارون ووزير دفاعه شاؤول موفاز فجرًا للمصادقة عليها، وأشرف عليها المجرم شارون بنفسه، عملية لا يمكن أن تكون نابعة عن مزاج وغير مسبوقة بتنسيق قوي مع الإدارة الأمريكية والمتعاطفين مع الكيان الصهيوني في بلدان الاتحاد الأوروبي، وما يعزز هذا أن الناعق باسم البيت الأبيض أعلن في تصريح له عقب العملية أن لدولة "إسرائيل" الحق في الدفاع عن نفسها، أي أن الاغتيال كان بضوء أخضر من البيت الأبيض.
ما بعد الاغتيال: المعادلة الجديدة
من الصعب التكهن بما يمكن أن يجره اغتيال شيخ المقاومة الإسلامية أحمد ياسين من مضاعفات وآثار على الوضع الفلسطيني في الداخل، كما على طريقة التعاطي مع الشأن الفلسطيني في الخارج، بالنظر إلى أن الحقبة القادمة مرشحة لكل الاحتمالات والتوقعات، ولكن المؤكد هو أن القضية الفلسطينية قد دخلت باغتيال الشيخ ياسين مرحلة جديدة سيؤرخ بها في مسار المقاومة وفي تاريخ القضية ككل؛ بل في منطقة الشرق الأوسط برمته.
لقد أدخل اغتيال الشيخ ياسين معادلة جديدة في دائرة الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة، معادلة تؤكد على أن الخيار السلمي أو الاستسلامي لم يدفع الحكومات الصهيونية المتعاقبة إلى تقديم أي شيء للفلسطينيين على طبق من ذهب، وأن العدو لا يفهم سوى لغة القوة والتحدي، وهو ما سيؤثر على مواقف الشارع الفلسطيني ويجعل الخيار السلمي للسلطة أكثر عزلة من ذي قبل.
أما على صعيد حركة (حماس)؛ فإن الاغتيال من شأنه أن يدفعها نحو المزيد من تصليب عودها وتقوية جبهتها الداخلية، بعد أن بات العدو لا يوفر أي شخص فيها، من القاعدة إلى القمة، ولكن شعبية الحركة والمقاومة ذات العنوان الإسلامي عمومًا ستخرج هي الرابح الأكبر من جريمة الاغتيال؛ فالمؤكد أن الشعب الفلسطيني الذي خرج بكامله في جنازة الشيخ يوم الاثنين قد أدلى بصوته في أكبر استفتاء شعبي فلسطيني على احتضان فكرة المقاومة بالإجماع.
إدريس الكنبوري