تفسير سورة الرحمن [14-36]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:14-16]. قوله تعالى: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) أي: آدم عليه السلام. ((مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)) قال أبو السعود : تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بموجب شكر النعمة المتعلقة بذات كل واحد من الثقلين؛ لأن الخطاب في هذه السورة هو موجه للثقلين: الجن والإنس، وصرح به في قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الرحمن:33]، فعلم أن الخطاب بالتثنية موجه للثقلين: الجن والإنس، فهنا تمهيد لما سوف يحصل من التوبيخ على تقصير الجن والإنس في شكر نعم الله تبارك وتعالى المتعلقة بذاتيهما، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بأن خلقه أولاً من صلصال كالفخار، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، والفخار: الخزف. وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً، ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالاً، أي: أن الأصل هو التراب، فجعل التراب طيناً لما أضيف إليه الماء، ثم صار كالحمأ المسنون، ثم صار صلصالاً كالفخار، هذه أخبار عن حالات أصله، وقد أتت بكل حالة آية تدل على إحدى هذه المراحل، فلا تعارض بين الآية الناطقة بإحدى هذه المراحل وبين ما نطقت به الآيات الأخرى. ((وَخَلَقَ الْجَانَّ)) أي: الجن أو أبا الجن. ((مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)) أي: من لهب صافٍ، واللهب الصافي هو الذي لا دخان له. (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) أي: مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما ومن سوابغ النعم عليكما، ومما أظهره لكما بالقرآن الكريم.

قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))[الرحمن:17-18]. قوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أي: مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما. ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) يعني: بما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى، كاختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم.

قال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:19-21]. قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، يعني: أرسل البحرين ((يلتقيان))، من قولك: مرج فلان دابته إذا أرسلها وتركها، والمعنى: أرسل وأجرى البحر الملح والبحر العذب. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ يعني: يتجاوران، وهذا معروف بظاهرة الأنهار والبحار، فكثير من الأنهار تلتقي في النهاية مع البحار، وتصب فيها ماءها، فما أعجب خلق الله سبحانه وتعالى لهذه البحور والأنهار التي تصب فيها، فلا الأنهار جفت، ولا البحار امتلأت!! فهنا يشير الله سبحانه وتعالى إلى آية أخرى من آياته ونعمة من نعمه وهي قوله: (( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ))، أي: أرسل وأطلق البحرين (( يَلْتَقِيَانِ ))، البحرين: العذب والملح، ويمكن أن يقال: المالح أيضاً كما يقول الشاعر: تلونْتَ ألواناً علي كثيرة وخالط عذباً في إخائك مالح فهذا شاهد في استعمال كلمة مالح في الملح. (( يَلْتَقِيَانِ )) يعني: يتجاوران. (( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ )) أي: حاجز من قدرة الله تعالى وبديع صنعه. (( لا يَبْغِيَانِ )) أي: لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، والناس المتخصصون في علوم البحار يعرفون جيداً أن هناك منطقة دائماً تكون بين النهر العذب وبين البحر الملح، وهذه منطقة لها خواص معينة، فهي بمثابة برزخ وحاجز حتى إنه لتعيش فيها كائنات مائية خاصة لا تعيش في العذب ولا تعيش في الملح، وهذه نحن نلاحظها هنا في مصر في منطقة رشيد، وهذه الأماكن التي يحصل فيها هذا الإلتقاء والتشابك حينما تصور من الفضاء أو من الجو تلاحظ بشكل مميز، وهي التي تحول دون اختلاط البحرين تماماً في بعضهما البعض، فلا يبغي واحد منهما على الآخر؛ فلذلك قال تعالى: بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ يعني: إذا دخل أحدهما في الآخر قد يجري فيه فراسخ ولا يتلاشى ولا يضمحل حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه كما نشاهده. وهذه ليست فقط بين البحار والأنهار، فإن هناك حدوداً ربانية بين البحار، فمثلاً: المحيط الأطلسي والبحر المتوسط عند نقطة التقائهما هناك أيضاً برزخ وحاجز، فخصائص هذا الماء غير خصائص الماء الآخر، والكائنات التي تعيش هنا ليست الكائنات التي تعيش هنا.. وهكذا، وهذه موجودة حتى بين البحار الكبرى. (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، أي: مما في البحرين وخلقهما من الفوائد.

أشار إلى بعض الآلاء التي هي في البحرين العذب والملح بقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:22-23]. قوله:يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ هذه نعمة جديدة وتوبيخ جديد للجن والإنس على عدم شكر هذه النعمة، أو على التقصير في شكر هذه النعمة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: كبار الدرر أو الدر وصغاره، والمرجان: الخرز الأحمر المعروف، وإنما قيل منهما مع أنه يخرج من أحدهما وهو الملح؛ لأنه لامتدادهما يكون خارجاً منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. قال الناصر : وهذا هو الصواب، ومثله قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] أي: من إحدى القريتين، لكن هو إذا كان من إحدى القريتين فيصدق عليه أنه خرج من مجموع القريتين، كما في قوله تبارك وتعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] وليس هناك رسل من الجن، وإنما أتى الرسل من الإنس فقط، فيصدق أيضاً أن يقال: إن الرسل بعثوا من مجموع الإنس والجن، ولا يتعارض هذا مع كونهم من الإنس فقط، فهذا مذهب من يقول: إن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من الملح فقط، قالوا: (( يَخْرُجُ مِنْهُمَا )) من أحدهما وهو الملح، والمقصود: يخرج من مجموعهما فلا يتنافى مع كونه يخرج من الملح فقط، وكما يقال: فلان من أهل مصر، هذه صفة، وإن كان من محلة منها، كأن يكون من الإسكندرية مثلاً أو من المنيا أو غيرها، فيكون من أهل مصر، ولا تعارض بين الاثنين. يقول: ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس لتحليهم بها كما يشير له قوله تعالى: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12]، قال سبحانه: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، ولو تأملنا هذه الآية التي أوردها القاسمي للاستشهاد هنا على نعمة الله سبحانه وتعالى في قوله: (( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا )) فسوف نبدأ بالحديث عن هذا الباب الشائع عند المفسرين، والذي تناقلوه جيلاً بعد جيل، وهو الذي شرحناه آنفاً، وهو أن المقصود: يخرج منهما، يعني: من أحدهما وهو الملح، بناءً على أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان فقط من الملح، لكن إذا تأملنا هذه الآية: (( وَمِنْ كُلٍّ )) وهذا التنوين هو تنوين تعويض، وهو تعويض عن اسم، فعندما تقول: كل إنسان قائم، فيمكن أن تحذف كلمة إنسان وتنون كل فتصبح كلٌ قائم، فهذا التنوين ينوب عن الاسم، فكذلك هنا: (( وَمِنْ كُلٍّ ))، يعني: من كل من البحرين. تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12]، اللحم الطري: الأسماك التي تأكلونها من هذا النوع ومن هذا. فإذاً قوله هو: ((وَمِنْ كُلٍّ)) ينبغي أن يشمل أيضاً قوله: ((وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا))، وهذا يتعارض مع ما سبق، وسوف نوضح هذا إن شاء الله بالتفصيل. فلما كان خروج هذين الصنفين اللؤلؤ والمرجان نعمة على الناس قال تبارك وتعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، وهي كما ذكرنا في أمثالها من قبل. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ قال ابن عباس : أي: أرسلهما، وقال ابن زيد : أي منعهما أن يلتقيان بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما. وعلماء المسلمين والمفسرون في ذلك الوقت لم يكونوا قد أطلعوا على هذه الدراسات الحديثة والتصوير الذي يتم من الفضاء والدراسات بالآلات الحديثة وغير ذلك، لكنهم في ضوء القرآن الكريم فهموا أن بينهما برزخاً لا يبغيان. والمراد بقوله: (( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ )) الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وقال الله تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان:53] أي: أرسلهما، هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:53] أي: حدود فاصلة بين الاثنين. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ يعني: جعل بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا، وهنا ابن كثير يفسرها بأن البرزخ حاجز أرضي، في حين أن الآية أوضحت أن المقصود أنه حينما يكون الماء مجاوراً للماء تكون بينهما منطقة البرزخ أو هذا الحاجز. لكن لا شك أن التفسير أحياناً يتأثر بمستوى الدراسات العلمية حسب عصر كل مفسر، وهذا يعتبر من التراث البشري؛ لأن ذلك في حدود علمه، فهي كمعلومات بشرية تركها الله سبحانه وتعالى للبشر يكتشفونها بمرور الأزمان. فلا شك أن قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:19-20]، إذا كان بينهما البرزخ من البر ومن الأرض فليس هذا التقاءً ولا تظهر بذلك آية، وإنما الآية العظمى في أن يلتقيا بالفعل دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويضمحل فيه. يقول ابن كثير : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى، كما قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]، والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الإطلاق، واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ، وقيل: كباره وجيده، وقيل: نوع من الجواهر أحمر اللون. أما قوله: (( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا )) فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحلية إنما هي من الملح دون العذب، وهذا التفسير بما كان يعرفه ابن كثير من الثقافة السائدة في ذلك الوقت. يقول ابن كثير : ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )).

هنا بحث للعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تكلم فيه على هذا الموضوع بكلام جيد سنتلوه عليكم، يقول رحمه الله تعالى: قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو : ((يُخَرج منهما اللؤلؤ والمرجان)) بضم الياء وفتح الراء مبنية للمفعول، وعليه فاللؤلؤ نائب فاعل يخرج، وقرأه باقي السبعة: (يَخرُج منهما)، بفتح الياء وضم الراء مبنية للفاعل، وعليه فاللؤلؤ فاعل يخرج. ثم يقول: اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن المراد بقوله في هذه الآية: (( يَخْرُجُ مِنْهُمَا ))، أي: من مجموعهما الصادق بالبحر الملح، وأن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه، وأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر الملح وحده دون العذب. وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه؛ لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل، وذلك في قوله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12] فالتنوين في قوله: (( وَمِنْ كُلٍّ ))، تنوين عوض، أي: من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحماً طرياً، وتستخرجون حلية تلبسونها وهي اللؤلؤ والمرجان، وهذا مما لا نزاع فيه. يعلق الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى -والشيخ عطية ممن توفوا في عام الحزن أيضاً وهو العام المنصرم توفي هذا العالم الجليل الذي هو أخص تلامذة الإمام القرآني العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى- يعلق في الهامش على قول شيخه يقول: هذا الاستنتاج الذي توصل إليه فضيلة الوالد رحمه الله يعتبر فتحاً من الله؛ لأنه توصل إليه استنتاجاً، فجاء الواقع يشهد بذلك وإن لم يطلع عليه الشيخ رحمه الله تعالى، فكان ذلك مما يلزم التعليق أو التنبيه عليه، وذلك أنه قد ثبت وجود اللؤلؤ في الماء العذب كما ذهب إليه رحمه الله، كما جاء في دائرة معارف الشعب المصرية عدد (ثلاثة وسبعين) صحيفة (سبعة وثلاثين وخمسمائة)، حيث تكلمت عن اللؤلؤ إلى أن جاء فيها ما نصه: وأنواع المحار جميعها قد تنتج اللؤلؤ ولكنه يوجد غالباً في أنواع معينة منها، فلقد عثر مثلاً على لآلئ رائعة الجمال في محار المياه العذبة التي تعيش في بريطانيا وخاصة أنهار ويلز واسكتنلدا. وأشهر لؤلؤة منها عثر عليها في نهر (كيمواي) في القرن السابع عشر وأهداها أحد نبلاء الإنجليز إلى الملكة كاترين وما زالت محفوظة ضمن مجوهرات التاج البريطاني في برج لندن، ولا يزال الأهالي يقتنون المحار عند مصب هذا النهر.. إلى آخره. فكان إثبات الشيخ رحمه الله تعالى وجزمه باستخراج اللؤلؤ من الماء العذب مغايراً لما عليه جميع المفسرين إثباتاً مؤيداً بنور الله، شهد بهذا كله الواقع وصدقه الحس، وفي ذلك تأييد لكل مجتهد وجد مستنداً صريحاً لما ذهب إليه، ولما فهمه من كتاب الله وإن غاير أقوال الآخرين ما دام له مستند ظاهر كهذه المسألة، يعني: هذه المعلومات تفيد أنه يخرج اللؤلؤ أيضاً من الأنهار العذبة وليس فقط من المالحة كما كانت معلومات من سبق. يقول: وهذا مصداق ما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه وما نطق به من مشكاة النبوة حينما سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء من الوحي؟ فقال: لا، إلا بما في هذه الصحيفة أو فهماً في كتاب الله يعطيه من شاء من عباده، وهذا هو الفهم الصحيح المستند إلى نص صريح يعطيه الله تعالى له رحمه الله رحمة واسعة. ونحن ما فصلنا قليلاً في هذه المسألة إلا لأن هذا القول شائع جداً في كتب التفاسير ويضرب به المثل في أن الخطاب في هذه الآية بالذات يراد به أحد المجموعين وإن كان الخبر يشمل الاثنين. فقوله تعالى: (( يَخْرُجُ مِنْهُمَا )) يعني: من البحر الملح والبحر العذب، على خلاف ما هو شائع عند عامة المفسرين، ولم يخالف فيما نعلم إلا العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى؛ لأنه جمع بين هذا وبين الآية التي في سورة فاطر: (( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ))، ومن كل أيضاً: (( تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا )).

قال الله تبارك وتعالى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:24-25]، ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. قوله: ((وَلَهُ الْجَوَارِ)) يعني: السفن، جمع جارية. ((الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)) وقراءة أخرى: (المنشِآت) فإذا قلنا: المنشآت -بكسر الشين- فهي بمعنى: الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن بشكل أفقي، وبفتحها المنشآت بمعنى المرفوعات القلاع التي تقبل بهن وتدبر. فقوله: (( وَلَهُ الْجَوَارِ )) يعني: السفن الجارية. وقد فسرت هنا بما كان في زمن المفسرين، فالذي كان يحرك السفينة فيما مضى الشراع فقط، فلذلك قال: (المنشَآت) بمعنى: القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر؛ لأن حركة السفينة تتم حسب حركة الرياح بالأشرعة المعروفة، لكن الآن نحن نرى سفائن منشآت فعلاً في البحار كالأعلام، يعني: كالجبال من ضخامتها. وخبر السفينة التي تسمى (تيتانك) ليس ببعيد، والخبر معروف جداً فإن أصحابها كانوا قد طغوا وتجبروا وبغوا وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24]، وكان الاحتفال بتدشين بناء هذه السفينة فيه نوع من الاغترار الشديد جداً بمدى فخامتها، فأغرقها الله سبحانه وتعالى وأهلكها، وكان بعضهم قد صرح في حينها بأن هذه السفينة لا يمكن أن تغرق بأي حال من الأحوال لما فيها من الاستعدادات والاحتياطات وكذا وكذا. فالشاهد أننا نرى هذه السفن -كنا على شاطئ البحر- في الأفق كأنها جبل جاثم فوق سطح الماء، ليست الأشرعة فقط كما كان عليه الحال فيما مضى، لكنه جسم السفينة نفسه كالجبل، وتعرفون اليوم حاملات الطائرات وبعض السفن التي تكون مدناً كاملة مقامة على ظهر البحر، فهذا كله من تسخير الله ومن نعم الله على العباد، ولكن أكثر الناس لا يشكرون؛ ولذلك قال تعالى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:24-25]. والأعلام: جمع علم، والعلم هو: الجبل الطويل، ولما كانت السفن من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع قال تعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، أي: بأي نعمه التي أنعم بها عليكم في هذه الجمادات، من خلق موادها والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإمضائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره سبحانه وتعالى، فالسفينة وهي هذه الكتلة الهائلة على البحر، واستعمالها في نقل الأشياء الثقيلة وفي نقل المسافرين وفي الحروب ونحو ذلك كلّ ذلك لا شك في أنه من قدرة الله تبارك وتعالى؛ لأنه إذا قال قائل: العقل البشري هو الذي يبني هذه الأشياء، فإننا نقول: ومن أعطى الإنسان نعمة العقل؟ الله سبحانه وتعالى، ومن أراد أن يحس بقيمتها فليقارن بين الشخص العاقل وبين الشخص المجنون الذاهب عقله، وانظر إلى الفرق بينهما حتى تدرك ما قيمة العقل، أو بالأحرى قس الإنسان العاقل بالبهائم والحيوانات وقارن بينهما، فالله سبحانه وتعالى هو الذي وهب للإنسان نعمة العقل، وأمتن عليه به، فكل ما نجم عن نعمة العقل ما هو إلا من فيض نعمة الله سبحانه وتعالى على الإنسان بهذا العقل.

قال الله تبارك وتعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:26-28]. قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، كقوله أيضاً: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقوله تبارك وتعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وقوله تبارك وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، والوجه صفة من صفات الله العلي التي وصف بها نفسه، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق. كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:26-27] يعني: كل من على ظهر الأرض هالك، وهنا نلاحظ أنه لم يأت فيما مضى قريباً ذكر الأرض إلا في قوله تعالى: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10] فبسبب بعد العهد والسياق عن لفظة الأرض قال بعض المفسرين: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ هذا الضمير كناية عن غير المذكور وهو الأرض. (( فَانٍ )) أي: هالك. (( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ )) أي: ذاته الكريمة. (( ذُو الْجَلالِ )) ذو العظمة والعلو والكبرياء. (( وَالإِكْرَامِ )) أي: التفضل التام، وهذه الآية كآية: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ . وقال بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، المعنى: أن الله تعالى مستحق أن يجلَّ ويكرم ولا يجحد ولا يكفر به. وهناك احتمال آخر في التفسير: وهو أن يكون معنى: (( ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )): أنه يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم. وقد يحتمل احتمال ثالث وهو: أن يكون أحد الأمرين مضافاً إلى الله تعالى، والثاني: مضافاً إلى الخلق، بمعنى: أن أحد الأمرين في قوله ((ذو الجلال)) مضافاً إلى الله تعالى، يعني: أن الجلال صفة لله، واللفظ الآخر: وهو الإكرام يكون مضافاً إلى العبد، بمعنى: أن الفعل منه، كقوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:56] فتكون الآية على هذا الاحتمال الثالث مثل هذه الآية تماماً، فقوله: ((هو أهل التقوى)) مضافة إلى العبد، (( وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ )) هو الله سبحانه وتعالى. فإذاً: أحدهما راجع إلى العبد والآخر راجع إلى الله سبحانه وتعالى، فالجلال صفة الله، والإكرام فعله بعباده، وهو أنه يكرم عباده. ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل وينقلب الأول بالثواب ويبوء الآخر بالعقاب، فذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، قال الله سبحانه وتعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، فإذا كانت الدنيا دار فناء، والعباد والصالحون إنما يعملون للإقامة في الآخرة والتمتع بجنات النعيم، فإن هذا الفناء لابد منه لكي يكون وسيلة إلى برزخ يمر به العبد إلى بعد ذلك، وهذه المرحلة الأخرى وهي يوم البعث والنشور الذي ينتهي به استقرار المؤمنين في الجنة والكافرين في النيران وفي العقاب والعذاب. فلا شك أن هذا الإخلاء من هذه الزاوية نعمة من نعم الله على العباد، يتجلى فيها عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته، فيقول: ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل. فإظهار أهل الحق لتمييز الحق من الضلال من نعم الله عز وجل. ويقول: وينقلب الأول بالثواب ويبوء الآخر بالعقاب، فذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، لذلك قال سبحانه وتعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )). وقد أشار الرازي إلى ما في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ من الفوائد بقوله: فيه فوائد منها: الحث على العبادة، وترك الزمان اليسير إلى الطاعة. أي: فيها حث على أن يجتهدوا في العبادة، وأن يستثمروا الزمان اليسير القليل في الطاعة. ومنها: المنع من الوثوق بما يكون للمرء. يعني: إياك أن تثق أو تتوكل على مال أو جاه أو منصب أو سلطان أو كذا أو كذا، وإنما تجعل ثقتك وتوكلك على الله سبحانه وتعالى وحده، لأن الكل يفنى ويهلك فلا يوثق به ولا يصلح أن تتوكل عليه، وإنما يصح التوكل على الباقي سبحانه وتعالى. فلا يقول المرء إذا كان في نعمة: إنها لن تذهب، فيترك الرجوع إلى الله معتمداً على ماله وملكه، ولكن يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . ومنها: الأمر بالصبر إن كان في ضر، فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب والضر زائل، وإذا أصابه بلاء أو ضرر يتذكر هذه الآية: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، فلابد لهذا البلاء من نهاية، فيهون عليه البلاء ويسهل عليه الصبر، ويعصم نفسه من أن يقع في الكفر. ومنها: ترك اتخاذ الغير معبوداً؛ لأن كل من عدا الله فان، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، فالله سبحانه وتعالى الذي يبقى وجهه ذو الجلال والإكرام هو الأحق بأن يعبد ولا يشرك به شيء فانٍ. ومنها: الزجر عن الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى، فإن أمرهم إلى الزوال قريب. أي: أن الإنسان لا يغتر إذا كان مقرباً من ملك أو حاكم وأنه سيحميه ويرزقه ويعطيه ويفعل به كذا وكذا؛ لأنه لو تذكر قول الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ لعلم أن هذا عما قريب سوف يزول، ومهما طال بهم الزمان فنهايتهم إلى التراب، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]. ومنها: حسن التوحيد. أن يحسن الإنسان توحيد الله تبارك وتعالى، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً؛ لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد، وأي إله يعبد من دون الله فإنه فان بدلالة هذه الآية، فلا يصح الشرك الأكبر، وأيضاً لا يصح الشرك الأصغر الذي هو الرياء؛ لأن هؤلاء الذين ترائي من أجلهم إذا كانوا فانين فلماذا تبطل ثواب العبادة بأن تتزين لهم؟! فهؤلاء الناس لن يقدروا على ثوابك، وإنما الرياء يحبط عبادتك ويذهب جهدك سدى؛ فلذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من تذكر هذه الآية الكريمة: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبداً. قال قتادة: أنبأ بما خلق ثم أنبأ أن ذلك كله فان. وفي الدعاء المأثور: (يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك). فالإنسان يحرص على أن يتوكل على الله سبحانه وحده ويستعيذ بالله من أن يكله إلى غيره، ولا ينبغي للإنسان أن يتوكل على غير الله تبارك وتعالى. وقال الشعبي: إذا قرأت: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ فلا تسكت حتى تقرأ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ؛ لأن هذه الآيات متقابلة في المعنى، فيها نفي وفيها إثبات، ينبغي أن نصل بينهما في القراءة، فلا تقرأ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ثم تقف، بل الأدب والأكمل أن تتم المعنى؛ لأن المعنى يظهر بالصور المتضادة، فإذا كان كل من عليها فان فلابد أن تثبت قوله تعالى بعدها (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). وهذه الآية كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي: هو أهل أن يجلَّ فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، وكقوله إخباراً عن المتصدقين: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:9]. قال ابن عباس : (( ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )) أي: ذو العظمة والكبرياء. ولما أخبر عن تساوي أهل الأرض كلهم في الفناء، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))؛ لأن الموت والفناء هو وسيلة للانتقال إلى دار الجزاء ودار الرحمة والعدل.

قال تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:29-30]. قوله: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ، هذا إخبار عن غناه عما سواه، وامتداد لمعاني ما مضى؛ لأنه إذا كان: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ، فإذا كان هو الباقي سبحانه وتعالى وهو ذو الجلال والإكرام فإنه مستحق لأن يعبد ويجلَّ ويعظم ولا يلحد ولا يكفر به، ثم إنكم لا غنى لكم عن الله طرفة عين، ولا تستطيعون الاستغناء عن الله، بل أنتم فقراء إلى الله فقراً ذاتياً يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فلذلك أتبع ذلك بقوله: (( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) وهذا إخبار عن غنى الله سبحانه وتعالى عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الأشياء، فكلهم يسألون الله سبحانه وتعالى سواء بلسان الحال أو بلسان المقال، والله سبحانه وتعالى غني عنهم وهم الفقراء إليه بدليل أنهم يسألونه: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ . قال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير : قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )) من شأنه أن يجيب داعياً، أو يعطي سائلاً، أو يفك عانياً، أو يشفي سقيماً. وقال مجاهد : كل يوم هو يجيب داعياً، ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً. وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض، يحيي حياً، ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وطريقهم، ومنتهى شكواهم. وعن صهيب بن جبلة الفزاري قال: إن ربكم كل يوم هو في شأن، فيعتق رقاباً، ويعطي رغاباً، ويقسم عقاباً. وأقوال المفسرين عموماً تعود إلى هذه المعاني وسنزيدها إن شاء الله تعالى إيضاحاً. يقول القاسمي : (( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) أي: يدعونه ويرغبون إليه ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي وغناه المطلق. (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )) أي: كل وقت يحدث أموراً، ويجدد أحوالاً، كما قال الحسين بن الفضل : هو سوق المقادير إلى المواقيت؛ ولذلك فإن هذه الآية من الآيات التي يستدل بها في مسألة القدر في التقدير اليومي، ومسألة القدر هي سدس الإيمان، فالإيمان ستة أسداس، وهي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما قال لابنه: إنك مهما فعلت، فإذا لقيت الله دون أن تؤمن بالقدر كأنك ما فعلت شيئاً، لا تنجو من النار حتى تؤمن بالقدر.

أنواع المقادير التي يقدرها الله سبحانه وتعالى

باختصار شديد نلفت النظر إلى هذه المسألة -نظراً لأهمية مدارسة العقيدة وبالذات قضية القضاء والقدر- فإن الآية مما يستدل بها على إحدى مراتب المقادير؛ لأن التقدير أنواع: فمنه التقدير الأزلي حينما أمر الله سبحانه وتعالى القلم بأن يكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة). ومنه: التقدير الذي كان حينما استخرج من صلب آدم عليه السلام الذرية وقال: (هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار). ومنه: التقدير الحولي الذي هو التقدير السنوي ودليله قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:3-4]، ففي ليلة القدر في كل سنة تتم كتابة المقادير من هذه السنة إلى السنة التي تليها، وما الذي سيحصل في هذا الوجود خلال هذه السنة. وهذا التقدير ليس بجديد بل هو موافق دائماً لما أثبت في اللوح المحفوظ، مطابقاً لعلم الله سبحانه وتعالى السابق، ولكن تعاد كتابته، أو يكتب من جديد موافقاً لما سبق، وليس فيه أي تغيير. فإذاً: هناك التقدير الأزلي وهو تقدير أصلي عند خلق القلم. ثم التقدير حينما استخرج الله سبحانه وتعالى من صلب آدم الذرية. وهناك التقدير الحولي كل سنة، ودليله قوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، وليست ليلة النصف من شعبان وإنما ليلة القدر، بدليل قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، ونفهمها من ظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، فهذه تفسر تلك. ثم هناك التقدير اليومي، ودليله هذه الآية: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فكل يوم يكتب فيه تقدير للأشياء التي سوف تحصل في هذا اليوم، فهو يبديها وليس يبتديها، تكشف هذه الأحكام وليس إنشاء لها من جديد؛ لأنها سبقت في علم الله سبحانه وتعالى الأزلي. وهناك مرحلة أخرى من التقدير وهي التقدير العمري والجنين في بطن أمه، حيث يأتي الملك فيؤمر بنفخ الروح، ويؤمر بكتب أربعة أشياء، فيقول: (أي ربي ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟)، فهذا يكتب في هذه اللحظة أو في هذا الوقت بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الجنين موافقاً لما سبق، وموافقاً أيضاً لما سيأتي في أنواع التقادير الأخرى كما ذكرنا، إذاً: فهذه الآية من آيات القدر ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وهي دليل على التقدير اليومي. قال مجاهد : يعطي سائلاً، ويفك عانياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً. وقوله تبارك وتعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) أي: مما أجاب به سؤالكما، فأنتم تسألون الله وما أكثر ما سألتم الله سبحانه وتعالى بلسان الحال أو بلسان المقال فأجاب سؤالكم ودعاءكم وآتاكم من فضله، (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آناً فآناً. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )): أراد في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر : الدهر كله يومان: أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة. فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب. وقيل المراد بذلك: الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر، والشأن في اللغة: الخطب العظيم، والجمع: الشئون. والمراد بالشأن ها هنا الجمع (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فهو مفرد لكن يراد به الجمع كقوله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر:67]، يعني: أطفالاً. وقال الكلبي : شأنه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمقادير التي سبق بها القلم تساق في كل يوم إلى المواقيت، أي: الزمان الذي حدده الله كي يموت فلان أو يمرض فلان، أو يرزق فلان، أو ينصر فلان.. وهكذا. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )): من شأنه أن يميت حياً، ويقر في الأرحام ما شاء، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد، فانصرف كئيباً إلى منزله، فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره، فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه، فقال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً، يعني: أن هذه كلها من أفعال الربوبية ومن مقتضياتها، وهي من أدلة حدوث العالم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدث فيه، وهذه المخلوقات تخضع لما يشاء الله سبحانه وتعالى فيها، فأي جبار مهما طغى وتجبر لا يستطيع أن يرد قضاء الله سبحانه وتعالى إذا نزل به، وأي سفاح من السفاحين كرئيس الجمهورية العربية السورية، الذي دك بلدة حماة على المسلمين، وانتهكت الأعراض، واستبيحت الأموال، وقتل عشرة آلاف مسلم في يوم أو في يومين، فهذا السفاح انظر إلى نهايته، كيف أنه خضع للموت ولم يملك الاعتراض على ملك الموت الذي أتى لقبض روحه، بل إنه خضع لما أراده الله سبحانه وتعالى به. ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) فهذا الشأن هو الذي يحدث الله فيه ما يشاء في خلقه مما يقضيه ويقدره بهم. فلما قال هذا الغلام للأمير: شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، يعني: كل ما يحدث في العالم من أمور وأحداث يشاءها الله سبحانه وتعالى فالله هو الذي يدبرها، فهناك إرادة وهناك قوة هي قوة الله سبحانه وتعالى تغير أحوال هذا العالم من حال إلى حال، في حين أن الكفار يعتقدون -حتى الذي يعتقد أن هناك إلهاً- أن الله سبحانه وتعالى خلق العالم ثم حركه ثم تركه ونسي العالم، فليست هناك محاكمة ولا شريعة ولا حلال وحرام؛ لأنه خلق العالم وحركه ثم تركه!! كلا، بل العالم وكل هذه الموجودات لا غنى لها عن الله طرفة عين، ولا يمكن أن تستغني عن الله سبحانه وتعالى طرفة عين وإلا فسد كل ما في هذا الوجود ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافىً ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً. فقال له: فرجت عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام. فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا داخل في قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فقد غير حالي وغير حال الوزير، أي: حين خلع ثياب الوزير التي هي ثياب الوزارة وكساها لهذا الغلام، فقال له: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا نموذج من نماذج أن الله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، يحدث في خلقه ما يشاء من الأفعال. وعن عبد الله بن طاهر أنه دعى الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، وقد صح أن الندم توبة. وقوله: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فما بال الأضعاف. يعني: الإشكال الأول: وهو أنه قد صح الحديث (أن الندم توبة) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول الله عز وجل: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، والسياق في ذم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، فإذا كان أصبح من النادمين فكيف يعذب؟ وتعرفون الحديث: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فإذا كان سياق الآية واضحاً في ذم قابيل مع أنه ندم، وكان الندم توبة فلماذا يعذب؟! فقال له الحسين بن الفضل : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركها فيها الأمم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على أنه لم يحمل جثة أخيه لكي يواريها في التراب فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، أي: على أنه لم يدفن أخاه، وليس من النادمين على المعصية نفسها، والله تعالى أعلم. وأما الإشكال الثاني في قوله: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا كان القلم قد جرى بكل ما يكون إلى يوم القيامة، فكيف أنه كل يوم هو في شأن، أي: تقدر أشياء كل يوم؟ فقال له: أما قوله: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فإنها شئون يبديها لا شئون يبتديها، فانظر إلى فصاحة العلماء ووجازة كلامهم المبارك، فقوله: (شئون يبديها) يعني: يخرج إلى حيز الوجود ما علمه الله من قبل، فما كان غيباً يخرج علمه للشهادة في وقته الذي حدده الله سبحانه وتعالى، فـ((كل يوم هو في شأن)) أي: أن هناك تقديراً عما سيحصل في كل يوم لهذه المخلوقات، وهذا لا يتعارض على الإطلاق مع ما كتب في اللوح المحفوظ، فهي شئون يبديها ويكشفها وليست شئون يبتديها، فهذا العلم ليس علماً مستأنفاً وليس علماً محدثاً وإنما هو موافق لعلم الله سبحانه وتعالى. وأما الإشكال الثال

باختصار شديد نلفت النظر إلى هذه المسألة -نظراً لأهمية مدارسة العقيدة وبالذات قضية القضاء والقدر- فإن الآية مما يستدل بها على إحدى مراتب المقادير؛ لأن التقدير أنواع: فمنه التقدير الأزلي حينما أمر الله سبحانه وتعالى القلم بأن يكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة). ومنه: التقدير الذي كان حينما استخرج من صلب آدم عليه السلام الذرية وقال: (هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار). ومنه: التقدير الحولي الذي هو التقدير السنوي ودليله قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:3-4]، ففي ليلة القدر في كل سنة تتم كتابة المقادير من هذه السنة إلى السنة التي تليها، وما الذي سيحصل في هذا الوجود خلال هذه السنة. وهذا التقدير ليس بجديد بل هو موافق دائماً لما أثبت في اللوح المحفوظ، مطابقاً لعلم الله سبحانه وتعالى السابق، ولكن تعاد كتابته، أو يكتب من جديد موافقاً لما سبق، وليس فيه أي تغيير. فإذاً: هناك التقدير الأزلي وهو تقدير أصلي عند خلق القلم. ثم التقدير حينما استخرج الله سبحانه وتعالى من صلب آدم الذرية. وهناك التقدير الحولي كل سنة، ودليله قوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، وليست ليلة النصف من شعبان وإنما ليلة القدر، بدليل قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، ونفهمها من ظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، فهذه تفسر تلك. ثم هناك التقدير اليومي، ودليله هذه الآية: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فكل يوم يكتب فيه تقدير للأشياء التي سوف تحصل في هذا اليوم، فهو يبديها وليس يبتديها، تكشف هذه الأحكام وليس إنشاء لها من جديد؛ لأنها سبقت في علم الله سبحانه وتعالى الأزلي. وهناك مرحلة أخرى من التقدير وهي التقدير العمري والجنين في بطن أمه، حيث يأتي الملك فيؤمر بنفخ الروح، ويؤمر بكتب أربعة أشياء، فيقول: (أي ربي ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟)، فهذا يكتب في هذه اللحظة أو في هذا الوقت بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الجنين موافقاً لما سبق، وموافقاً أيضاً لما سيأتي في أنواع التقادير الأخرى كما ذكرنا، إذاً: فهذه الآية من آيات القدر ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وهي دليل على التقدير اليومي. قال مجاهد : يعطي سائلاً، ويفك عانياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً. وقوله تبارك وتعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) أي: مما أجاب به سؤالكما، فأنتم تسألون الله وما أكثر ما سألتم الله سبحانه وتعالى بلسان الحال أو بلسان المقال فأجاب سؤالكم ودعاءكم وآتاكم من فضله، (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آناً فآناً. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )): أراد في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر : الدهر كله يومان: أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة. فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب. وقيل المراد بذلك: الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر، والشأن في اللغة: الخطب العظيم، والجمع: الشئون. والمراد بالشأن ها هنا الجمع (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فهو مفرد لكن يراد به الجمع كقوله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر:67]، يعني: أطفالاً. وقال الكلبي : شأنه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمقادير التي سبق بها القلم تساق في كل يوم إلى المواقيت، أي: الزمان الذي حدده الله كي يموت فلان أو يمرض فلان، أو يرزق فلان، أو ينصر فلان.. وهكذا. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )): من شأنه أن يميت حياً، ويقر في الأرحام ما شاء، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد، فانصرف كئيباً إلى منزله، فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره، فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه، فقال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً، يعني: أن هذه كلها من أفعال الربوبية ومن مقتضياتها، وهي من أدلة حدوث العالم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدث فيه، وهذه المخلوقات تخضع لما يشاء الله سبحانه وتعالى فيها، فأي جبار مهما طغى وتجبر لا يستطيع أن يرد قضاء الله سبحانه وتعالى إذا نزل به، وأي سفاح من السفاحين كرئيس الجمهورية العربية السورية، الذي دك بلدة حماة على المسلمين، وانتهكت الأعراض، واستبيحت الأموال، وقتل عشرة آلاف مسلم في يوم أو في يومين، فهذا السفاح انظر إلى نهايته، كيف أنه خضع للموت ولم يملك الاعتراض على ملك الموت الذي أتى لقبض روحه، بل إنه خضع لما أراده الله سبحانه وتعالى به. ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) فهذا الشأن هو الذي يحدث الله فيه ما يشاء في خلقه مما يقضيه ويقدره بهم. فلما قال هذا الغلام للأمير: شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، يعني: كل ما يحدث في العالم من أمور وأحداث يشاءها الله سبحانه وتعالى فالله هو الذي يدبرها، فهناك إرادة وهناك قوة هي قوة الله سبحانه وتعالى تغير أحوال هذا العالم من حال إلى حال، في حين أن الكفار يعتقدون -حتى الذي يعتقد أن هناك إلهاً- أن الله سبحانه وتعالى خلق العالم ثم حركه ثم تركه ونسي العالم، فليست هناك محاكمة ولا شريعة ولا حلال وحرام؛ لأنه خلق العالم وحركه ثم تركه!! كلا، بل العالم وكل هذه الموجودات لا غنى لها عن الله طرفة عين، ولا يمكن أن تستغني عن الله سبحانه وتعالى طرفة عين وإلا فسد كل ما في هذا الوجود ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافىً ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً. فقال له: فرجت عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام. فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا داخل في قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فقد غير حالي وغير حال الوزير، أي: حين خلع ثياب الوزير التي هي ثياب الوزارة وكساها لهذا الغلام، فقال له: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا نموذج من نماذج أن الله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، يحدث في خلقه ما يشاء من الأفعال. وعن عبد الله بن طاهر أنه دعى الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، وقد صح أن الندم توبة. وقوله: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فما بال الأضعاف. يعني: الإشكال الأول: وهو أنه قد صح الحديث (أن الندم توبة) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول الله عز وجل: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، والسياق في ذم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، فإذا كان أصبح من النادمين فكيف يعذب؟ وتعرفون الحديث: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فإذا كان سياق الآية واضحاً في ذم قابيل مع أنه ندم، وكان الندم توبة فلماذا يعذب؟! فقال له الحسين بن الفضل : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركها فيها الأمم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على أنه لم يحمل جثة أخيه لكي يواريها في التراب فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، أي: على أنه لم يدفن أخاه، وليس من النادمين على المعصية نفسها، والله تعالى أعلم. وأما الإشكال الثاني في قوله: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا كان القلم قد جرى بكل ما يكون إلى يوم القيامة، فكيف أنه كل يوم هو في شأن، أي: تقدر أشياء كل يوم؟ فقال له: أما قوله: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))، فإنها شئون يبديها لا شئون يبتديها، فانظر إلى فصاحة العلماء ووجازة كلامهم المبارك، فقوله: (شئون يبديها) يعني: يخرج إلى حيز الوجود ما علمه الله من قبل، فما كان غيباً يخرج علمه للشهادة في وقته الذي حدده الله سبحانه وتعالى، فـ((كل يوم هو في شأن)) أي: أن هناك تقديراً عما سيحصل في كل يوم لهذه المخلوقات، وهذا لا يتعارض على الإطلاق مع ما كتب في اللوح المحفوظ، فهي شئون يبديها ويكشفها وليست شئون يبتديها، فهذا العلم ليس علماً مستأنفاً وليس علماً محدثاً وإنما هو موافق لعلم الله سبحانه وتعالى. وأما الإشكال الثال

قال تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:31-32]. قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ، معناها: سنقصد لحسابكم، قال القرطبي : يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً، وتفرغت لكذا، واستفرغت مجهودي في كذا، أي: بذلته، والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه وإنما المعنى: فاحذر أن تتصور أن قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ، كفراغ واحد من البشر، أن يقول مثلاً: أنا سوف أفضي نفسي وأخلص الذي في يدي وأتفرغ لك!! لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شيء عن شيء، والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، وإنما المعنى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ، أي: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذاً أتفرغ لك، يعني: أقصدك، وتقول للرجل الذي لا شغل له أصلاً وليس منشغلاً بشيء: قد فرغت لي، قد فرغت تشتمني، يعني: أخذت في هذا الأمر وأقبلت عليه. وقال الزجاج : الفراغ في اللغة على معنيين: أحدهما: الفراغ من الشغل. والآخر: القصد للشيء والإقبال عليه، كما هنا في هذه الآية، فمعنى الفراغ: سنقصد لحسابكم، وليس معناها: سنفرغ من شغل معين ثم نتفرغ لكم. وهو تهديد ووعيد، تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، فليس هذا على سبيل تمثيل تدبيره تعالى أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي والإماتة والإحياء والمنع والإعطاء، ليس فيه تمثيل بحال من كان في شغل يشغله عن شغل آخر، فإذا فرغ من ذلك الشغل شرع في الآخر، لكن المقصود هنا سَنَفْرُغُ لَكُمْ ، أي: سنقصد لحسابكم. وقيل: الفراغ: الخلاص عن المهام، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقد وقع مستعاراً للأخذ في الجزاء وحده، فمعنى: (( سَنَفْرُغُ لَكُمْ )) سنحاسبكم أيها الثقلان. والثقلان: تثنية ثَقَل بفتحتين، فعل بمعنى: مفعل، أي:مثقل؛ لأنهما أثقلا الأرض، أو بمعنى: مفعول؛ لأنهما أُثقلا بالتكاليف، وقال الحسن : لثقلهما بالذنوب. والخطاب في ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ)) قيل: للمجرمين من الثقلين، لكن يأباه قوله تعالى: (( أَيُّهَا الثَّقَلانِ ))، فالمقصود بالتهديد هم، ولا مانع من تهديد جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم؛ لأن المقصود بـ(سنفرغ) سنقصد لحسابكم، فتشمل الفريقين، ولا يفهم من هذا اللفظ الكريم وعيد بحت، بل هو حامل للوعد أيضاً، فهي تشمل وعداً ووعيداً، حتى يقال: إنها وعيد فقط في حق المجرمين! بل هي في حق الجميع، أي: سنقصد المؤمنين بالوعد لحسابهم ومثوبتهم الإثابة الحسنة على الإيمان والعمل الصالح، ونقصد المجرمين لحسابهم بالعدل، بالعقوبة والجزاء وكفى، فهذه عامة وتشمل الأمرين معاً. يقول: والخطاب في (لكم) قيل: للمجرمين، لكن يأباه قوله: (( أَيُّهَا الثَّقَلانِ ))،المقصود بالتهديد هم ولا مانع من تهديد الجميع، ولا يفهم من هذا أن اللفظ الكريم وعيد بحت بل هو حامل للوعد أيضاً؛ لأن المعنى سنفرغ لحسابكم، وسنثيب أهل الطاعة ونعاتب العصاة، وهو جلي؛ ولذلك اعتد ذلك نعمة عليهم، فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: من ثوابه أهل طاعته وعقابه أهل معصيته.

الكلام على أخوف آية في كتاب الله سبحانه وتعالى

وهذه الآية الكريمة وهي قول الله تبارك وتعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ، من الآيات التي رشحها بعض العلماء بأنها أخوف آية في القرآن الكريم، يعني: كما أن هناك بحثاً معروفاً في علوم التفسير وعلوم القرآن في أرجى آية، هناك بحث آخر في أخوف آية، وقد تكلمنا على الآيات المحتملة لهذا مرات كثيرة، أما أخوف آية فما أظن أننا فصلنا فيها، وإن كان الوقت لا يحتمل التفصيل لكن سنشير إشارة عابرة إلى هذا البحث، فما هي أخوف آية للعصاة في القرآن الكريم؟ قيل: هذه الآية: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ، فإنها تهديد بالحساب، وقيل: أخوف آية قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:130-131]. قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. يقول الغماري : فالعجب من ضعف العلماء الذين يتحايلون لإباحة صور من الربا بعد سماعهم للآية الكريمة، يا ويلهم من الله سبحانه وتعالى. وفي سورة الزمر آية مثل هذه في الشدة إن لم تكن أشد منها وهي قوله تبارك وتعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر:47]، قال الزمخشري : وعيد لهم -يعني: وعيد للذين ظلموا- لا كنه لفظاعته وشناعته، يقول: وهو نظير قوله تعالى في الوعد: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، هذا في الوعد والثواب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، أما هذه فقيل: إنها في الوعيد بنفس الدرجة على الجهة الأخرى، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، وجزع محمد بن المنكدر عند موته، فقيل له، فقال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، يعني: ما لم أكن أظنه، قلت: وهذه والله قاصمة الظهر، نسأل الله العفو والعافية، هذا كلام الزمخشري . وآية ثالثة مثل سابقتها وهي قوله تعالى: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:62-63]، فعبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: (( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))، وعجائب القرآن لا تنتهي، وروعة القرآن الكريم ومعجزاته لا تنفد أبداً، ولو أن الواحد منا لم يعتن بكلام العلماء ويحاول أن يستخرج مثل هذه العجائب ربما صعب عليه جداً. فقوله: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:62-63]، النكتة أنه في الذنب الأول قال: (( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))، وفي الثانية قال: (( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )). يقول الغماري أيضاً في خواطره: عبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: (( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))، وعبر في التاركين للنهي عن المنكر؛ لأنهم العلماء والأحبار لما رأوا هؤلاء لم ينهوهم عن المنكر، فعبر عن التاركين نهيهم بجملة: (( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )). قال الزمخشري : كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، يعني: الساكت عن النهي عن المنكر أشد وزراً من مرتكب المنكر، قال: لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، يعني: أن الشيء المتقن الذي يكون الإنسان قد تدرب فيه مدة كافية وتمكن منه، يقال فيه: إن فلاناً هذا عنده الصنعة الفلانية، فتجد عنده المهارة والتمكن وكثرة الممارسة. يقول الزمخشري بعد ذلك: وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة له بفعل غيره، يعني: عامل المعصية عنده شهوة في داخله هي التي تؤزه عليها أزاً، لكن الشخص المطالب بأن ينهاه ليس معه نفس هذه الشهوة؛ لأن شهوة غيره ليست في قلبه هو، فبالتالي يكون أقوى في النهي عن المنكر، فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالاً من المواقع، ولعمري إن هذه الآية مما تهز المسامع وتنعي على العلماء توانيهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هي أشد آية في القرآن، يعني: آية الوعيد للذين يتركون النهي عن المنكر، وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62]، هؤلاء العصاة، لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:62-63]، وهذا دليل على أن الترك فعل؛ لأنه قال في الترك (( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )) فعبر بالصنعة؛ لأن هؤلاء قد تمكنوا ورسخوا في هذا العمل. وعن الضحاك قال: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، وتوضيح ذلك أنه لما ترك الإنكار على مرتكبي المناكير معبراً عنه بالصناعة كان هذا الذم أشد من سابقه؛ لأنه جعل ما ذموا به صناعة لهم وحرفة لازمة وهم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم، وهذا وجه الأشدية التي أشار إليها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: هي أشد آية في القرآن، والأخوفية التي ذكرها الضحاك في قوله: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. وفي سورة التوبة آية شديدة أيضاً وهي قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24]. قال الحسن : أمره: عقوبة عاجلة أو آجلة. وقال الزمخشري : وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه هل يجدُ عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله، أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول ويغويه الشيطان عن أقل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره. والبحث في أخوف آية بحث في آيات كثيرة جداً نرجو أن تأتي فرصة فيما بعد كي نفصله.