تفسير سورة القمر [6-53]


الحلقة مفرغة

يقول تبارك وتعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:6-8]. (( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ )): هذا وقف التمام، يعني: هذا تمام الكلام المتصل بما مضى، فيقرأ المرء: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر:5] * (( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ))، ثم يبتدئ الكلام: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ [القمر:6]. أو يكون الكلام متصلاً، ويكون المعنى كما سنبين إن شاء الله تعالى. فقوله عز وجل هنا: (( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ )) أي: اصفح عن أذاهم، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد. ثم بين هذا اليوم الذي يلقون فيه الوعيد الشديد بقوله: (( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ )) ، وكما ذكرنا إما أن نقف وقفاً تاماً: (( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ))، ثم نبتدئ: (( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ))، يعني: يخرجون من الأجداث يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ ))[القمر:6-7] فتكون: (يومَ) منصوبة بقوله تعالى: (( يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ ))، أو تكون منصوبة بفعل تقديره: واذكر يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ . أما إذا قلنا: إنه لا وقف بعد قوله: (( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ )) فيكون المعنى: أعرض عنهم يوم القيامة، ولا تسأل عنهم ولا عن أحوالهم، فإنهم يُدعَون إلى شيء نكر، وينالهم عذاب شديد، كما تقول لمن أخبرته بأمر عظيم وقع وجرى لشخص: لا تسأل عما جرى لفلان، لأنه أمر عظيم فظيع، فهذا نفس المعنى هنا: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)) يعني: أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم ولا عن أحوالهم؛ فإن البلاء الذي يكونون فيه عظيم. (( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ))، أي: داعي الله إلى موقف القيامة. أو الداعي الذي يأمره الله سبحانه وتعالى أن يدعوهم إلى الحضور في موقف القيامة، وهذا الداعي هو ملَك. وقيل الداعي هو إسرافيل يدعوهم بالنفخة الثانية. أو الداعي هو الله سبحانه وتعالى كقوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، فإذا دعاهم فإنهم يخرجون من الأجداث. ((إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، أي: شيء فظيع تنكره النفوس إعظاماً له، وهو موقف الحساب، وليس معنى تنكره النفوس أنهم يجحدونه ويكذبون به ساعتها، إنما تنكره النفوس من شدة إعظامهم لهذا الموقف، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء. ((خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ))[القمر:7]، من الذل والصغار، وهذا حالهم حينما يُدعون إلى موقف القيامة أو حينما يخرجون من الأجداث. يقال: خشع بصرُه إذا غَض طرْفَه. ونلاحظ هنا أنه أضاف الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز والذل يتبين في عين الإنسان، وهذا محمل دقيق، وهو أن عامة أحوال الإنسان تظهر في عينيه، فالعين تظهِر ما يخفيه الإنسان من الشعور بالعز أو بالانكسار أو بالذل أو بالفرح والسرور، فالعين آية من آيات الله سبحانه وتعالى تكشف عما في باطن الإنسان، وعن أحواله النفسيه الدفينة أو الكامنة في نفسه، فلهذا كان للنظر إلى العين أثر مهم جداً في انعكاسه على من يحادثه الإنسان وينظر إليه، ولذلك يقولون: إذا أردت أن تعرف صدق الشخص وهو يحدثك بحديث فانظر إلى عينيه، فإنه يظهر على عينيه الاضطراب إذا كان كاذباً فيما يقول. هذا فيما يتعلق بإضافة الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز والذل يتبين في عين الإنسان، كما قال تبارك وتعالى: أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات:9]، وقال عز وجل أيضاً: خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:45]. (( يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ )) يعني: من قبورهم، جمع جَدَث، ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ))[القمر:7] شبههم في الكثرة والتموج والانتشار بالجراد، والجراد مثلٌ في الكثرة، فإذا أردت أن تشبه شيئاً وأن تصفه بالكثرة الكاثرة فإنك تشبهه بالجراد، لأن أسراب الجراد إذا هاجمت الحقول والمزارع فإنها تكون كثيرة جداً. والسر -والله أعلم- في تشبيههم بالجراد كما قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الجراد لا جهة له يقصدها، فهو أبداً مختلط بعضه في بعض، فهم يخرجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يقصدها. وبين الإمام القرطبي رحمه الله تعالى هنا معنىً آخر: وهو أنه ربط بين قوله عز وجل: ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ))[القمر:7] وبين قوله تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر:8]، أما قوله عز وجل: (( مُهْطِعِينَ )) فمعناه: مسرعين مادِّي أعناقهم إليه، بمعنى: أنهم شُبهوا أولاً بالجراد عند خروجهم من القبور، ليس لأحد منهم جهة يقصدها، ثم بعد ذلك تكون حال أخرى. إذاً: هما صفتان في وقتين مختلفين: الوقت الأول: عند الخروج من الأجداث. الوقت الثاني: حينما يدعوهم الداعي إلى موقف الحساب وهو موقف القيامة، فحينئذٍ يحددون جهة الداعي ويسرعون نحوه ((مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ))[القمر:8]. فقوله تبارك وتعالى هنا: ((خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ))، كقول الله تبارك وتعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4]. (يوم عسر) لشدة أهواله.

قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9]، ذكر الله تبارك وتعالى جملاً من وقائع الأمم الماضية تأليفاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. (( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ )) أي: قبل أهل مكة (( قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ))، هذا الفعل (وازدجر) معطوف على: (( وَقَالُوا ))، والفعل (( وَقَالُوا )) معطوف على: (( فَكَذَّبُوا ))، في قوله: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9] أي: أن كلمة (وازدجر) ليست داخلة في مقول القول؛ بل هي جملة مستقلة جديدة ليست داخلة في الكلام الذي قالوه. هم قالوا: (( مَجْنُونٌ )) حينما كذبوه، (( وَازْدُجِرَ )) نوح، بمعنى أنه زُجِرَ عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة، كما تدل عليه صيغة (افتُعِل). قال الناصر : وليس قوله: (( فَكَذَّبُوا )) الثاني تكراراً. لأننا نلاحظ هنا تكرر مادة (التكذيب)، فقال: (( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ))، ثم قال: (( فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا ))، فيقول الناصر : وليس قوله (( فَكَذَّبُوا )) الثاني تكراراً؛ لأن الأول مطلق والثاني مقيد، فلا يكون تكراراً. فهذا كقوله في نفس السورة: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [القمر:29]، فإن تعاطيه هو نفس عقره؛ ولكن ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصه إسهاباً، وهو بمثابة ذكره مرتين. جواب آخر: هو أن المكذَّب أولاً محذوف دل عليه ذكر نوح، فكأنه عز وجل قال: كذبت قوم نوح نوحاً، ثم جاء تكذيبهم بتكذيبهم ثانياً مضافاً إلى قوله: (( عَبْدَنَا ))، فوصف نوحاً بخصوص العبودية لكونها صفة عالية شريفة، فالتكذيب المخبر عنه ثانياً أبشع عليهم من المذكور أولاً بتلك اللمحة، وكرر لأجل بيان عظم جريمتهم حينما لم يكذبوا شخصاً عادياً وإنما كذبوا عبد الله ورسوله نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقيل: لأنهم كذبوه تكذيباً عقب تكذيب؛ لأن نوحاً مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فكلما مضى منهم قرن مكذب تبعه الجيل الذي يأتي بعده، ويأتي قرن آخر مكذب، فهذا هو السر في تكرار مادة (التكذيب)، ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا))[القمر:9]. وقيل: إنه لم يذكر المفعول به فيُقدر الضمير: كذبت قبلهم قوم نوح المرسلين، كما جاء في آيات آخرى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، مع أن الذي أرسل إليهم هو نبي واحد، ولكن لأن القاعدة: الكفر بنبي واحد يستلزم الكفر بجميع الأنبياء وينقض الإيمان كله من أصله.

قال تبارك وتعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر:10-14]. (( فَدَعَا رَبَّهُ ))، يعني: فدعا عليهم نوح ربه، (( أَنِّي مَغْلُوبٌ ))، أنهم غلبوني بتمردهم، (( فَانْتَصِرْ )). يقول القاسمي : (( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ ))، أي: غلبني قومي تمرداً وعتواً فلم يسمعوا مني، واستحكم اليأس منهم؛ لأنهم جيل وراء جيل، وقرن وراء قرن، ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، وما يأتي جيل إلا ويكون كافراً كالذي قبله، حينئذٍ دعا عليهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (فاستحكم اليأس منهم، فانتقم منهم بعذاب ترسله عليهم). فمعنى قوله تعالى: (( فَانْتَصِرْ ))، يعني: فانتقم لي ممن كذبني. (( فَفَتَحْنَا ))، هذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاء نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالطوفان الذي هلكوا فيه. ونجد المفسرين لدقتهم في الفهم يقدرون هنا كلاماً تدل عليه المواضع الأخرى التي ذكرت قصة نوح، فيقولون: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ))، فأجبنا دعاءه، وهذه دل عليها قوله في سورة الأنبياء: (( وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ))[الأنبياء:76]. ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ))[القمر:10]، فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة؛ لأن الأمر باتخاذ السفينة كان قبل الطوفان. (( فَفَتَحْنَا ))، وفي قراءة ابن عامر : (( فَفَتَّحْنَا )) بالتشديد (( بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ))[القمر:11]، أي: متدفق، والماء المنهمر هو الكثير السريع الانصباب، فشبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء، وشُق لها أديم الخضراء، يقول الشاعر: أعيني جودا بالدموع الهوامر على خير بادٍ من معد وحاضر (أعيني جودا بالدموع الهوامر) يعني: الغزار الكثيرة. (( وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونَاً ))[القمر:12]، أي: وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، (( فَالْتَقَى الْمَاءُ ))، أي: ماء السماء وماء الأرض، ماء من السماء كثير وسريع الانصباب، وماء ينبع ويتفجر من الأرض، (( عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ))[القمر:12]، أي: على حالٍ قدَّره الله وقضاه في اللوح المحفوظ، وهذا الأمر هو هلاك قوم نوح وغرقهم. وقيل: (( عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ))[القمر:12]، يعني: كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض بعلم الله سبحانه وتعالى، أي: أن هذا الماء الذي نبع من الأرض وتفجر منها هو في كمه يساوي نفس كمِّ الماء الذي نزل من السماء. لكن القول الأول أقرب. وقال محمد بن كعب القرظي مشيراً إلى أن كل شيء إنما يجري بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء. ثم تلا هذه الآية: (( فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ))[القمر:12]. فهذا نوع من الاستشهاد بالآية على معنىً آخر، وهو أن كل شيء سبق قضاء الله سبحانه وتعالى به؛ وقوله: (كانت الأقوات قبل الأجساد)، يعني: قبل أن يخلق الله النفس يكون قد كتب لها رزقها وقوتها الذي تقتاته. (وكان القدر قبل البلاء)، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، كونها تقع على وفق علمه السابق وتقديره السابق فهذا أمر يسير جداً في حق الله سبحانه وتعالى، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، فهذا مما يدل على عظم وعموم قدرته تبارك وتعالى. ((وَحَمَلْنَاهُ )) يعني: وحملناه على سفينة (( ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ))، وهذا من بديع الكلام، حيث أقيمت صفاتها مقامها، لتأديتها مؤداها؛ لأن هذا الوصف يؤدي المعنى. ((وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، يعني: على السفينة، وألواحُها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت، أما (الدُّسُر) فجمع دِسار كـ(حِمار) و(حُمُر)، أما إذا قلنا: إن (دُسُر) جمع دَسْر فتكون كـ(سَقْف) و(سُقُف)، وهي أضلاع السفينة، أو حبالها التي تشد فيها، أو مساميرها، فـ(الدُّسُر) المسامير والحبال التي تُشَد بها الألواح. هناك قول آخر في (الدُّسُر): إن الدُّسُر هو صدر السفينة؛ لأنه يدسر الماء، أي: يشق الماء ويدفعه إلى الأمام، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن زكاة العنبر، فقال: إنما هو شيء دَسَره البحر)، رواه الإمام أحمد ، يعني: قَذَفه أو دَفَعه البحر. (( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ))، أي: بمرأىً منا، أي: بحفظ الله عز وجل وعنايته، ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ))، من هو الذي كان كُفر؟ إما أنه الله سبحانه وتعالى، فيكون المعنى: جزاء لمن كُفر به، وهو الله عز وجل. أو جزاء لمن كان كُفر به، وهو نوح عليه السلام، وما جاء به نوح. فهذا هنا من الكفر الذي هو ضد الإيمان. قال بعض المفسرين: قوله تبارك وتعالى: (( جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ )) (مَن) هنا تكون بمعنى (ما) أي: جزاء لما كان كُفر من نعم الله عند الذين أغرقهم؛ لأن (مَن) قد تأتي بمعنى (ما). وقد قرأها قتادة : (( جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ ))، أي: لمن كان كَفَرَ بالله.

قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر:15-16]. (( وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا )) إما قصة نوح عليه السلام، أو السفينة على جبل الجودي حتى رآها صدر هذه الأمة كما ذُكر في كتب التفسير، وإن كان قد حصل بحث مشهور من قبل لجنة أوروبية أعتقد أنها إنكليزية في شريط فيديو مشهور اسمه (سفينة نوح) وقد رأيته عند أحد الإخوة هنا، هي عبارة عن بعثة من الباحثين الإنكليز، يصورون جبل الجودي، ومما يذكر عنهم أنهم ليس لديهم تحمس لدين معين، وإنما يبحثون في أي شيء، فكان مما أتوا به: النصوص الموجودة في التوراة التي تشير إلى موضع استقرار السفينة، وأتوا بنص القرآن الكريم: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44]، وبحثوا وتحروا بأجهزة كشف، وصوروا الموقع وحدود السفينة عن طريق أجهزة معينة ترصد حدود السفينة في الأرض، وبالفعل حددوا موقع السفينة على جبل الجودي، وصوروا الجبل، والسفينة مرسومة عن طريق أجهزة معينة ترصد الشيء المدفون في الأرض، واستنتجوا أن القول الوحيد الصحيح هو ما أشار إليه القرآن الكريم من أنها استوت على الجودي. فقوله تبارك وتعالى: (( وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً ))، إما: تركنا القصة عبرة وآية، وإما: تركنا السفينة نفسها حتى يراها الناس وتكون آية وعبرة يعتبر بها. ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) أي: فهل من معتبر ومتعظ؟ وأصله: (مُذْتَكر). (( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ )) أي: كيف كان عذابي لهؤلاء الكفرة من قوم نوح، وإنذاراتي لما أحللت بهم، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه.

يقول تبارك وتعالى: (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ))[القمر:17]. (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ )) أي: سهلناه للادِّكار والاتعاظ؛ لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية. وقال بعض المفسرين: سهلناه للحفظ والقراءة. وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، أن من مظاهر تيسير القرآن للذكر: أن قلوب الآدميين تطيق أن تحمل كلام الله عز وجل في الصدور، حتى يستظهره الغلام ذو السبع السنوات، ويستطيع أن يحفظ كلام الله عن ظهر قلب، ولا شك أن هذه الآية فيها حض على الإقدام على حفظ القرآن الكريم وقراءته وتلاوته؛ لأن هذا الأسلوب فيه تحضيض وتحريض. (( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ))، كأن الله سبحانه وتعالى يقول: إن حفظ القرآن يسير؛ لكن انْوِ أنت وأقبل على هذا يسهله الله عليك، هذا وعد من الله بالتسهيل على من صعدت همته إلى حفظ كلام الله، (( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ))، يعني: فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب : فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه؟ وقال محمد بن كعب القرظي : فهل من منزجر عن المعاصي؟ يعني: بزواجر ومواعظ القرآن الكريم، (( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ))، فيعتبر بما فيه ويثوب إلى رشده؟ وكما قلنا: هذا حث على قراءته وحفظه وتعلمه، ولذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين لما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل.

قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر:9-16]. للعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فيما يتعلق بقصة نوح عليه السلام، يقول: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ، أن نبيه نوحاً دعاه قائلاً: إن قومه غلبوه؛ سائلاً ربه أن ينتصر له منهم، وأن الله انتصر له منهم فأهلكهم بالغرق؛ لأنه تعالى فتح (( أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ )) وأنه تعالى فجر الأرض عيوناً، وإعرابها: تمييز محوَّل عن المفعول، والأصل: فجرنا عيون الأرض. والتفجير: إخراج الماء منها بكثرة، و(ال) في قوله: (الماء) للجنس، ومعناه: التقى ماء السماء وماء الأرض، (( عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ )) أي: قدره الله وقضاه. وقيل: إن معناه أن الماء النازل من السماء والمتفجر من الأرض جعلهما الله بمقدارٍ ليس أحدهما أكثر من الآخر. والأول أظهر. وما تضمنته هذه الآيات الكريمة من دعاء نوح ربه جل وعلا أن ينتصر له من قومه فينتقم منهم، وأن الله أجابه فانتصر له منهم فأهلكهم جميعاً بالغرق في هذا الماء الملتقي من السماء والأرض، وضحه قوله تعالى في سورة الأنبياء: وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الأنبياء:76-77]، وقال تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات:75-76]، إلى قوله: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [الصافات:82]. وبين جل وعلا أن دعاء نوح فيه سؤاله الله عز وجل أن يهلكهم إهلاكاً مستأصلاً، فجاءت آيات تبين قوله هنا: (( فَانْتَصِرْ ))، أي: انتقم لي، كقول الله تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً [نوح:26-27]، وهذا طبقاً للتجربة السابقة بالإضافة إلى إخبار الله عز وجل في قوله: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]). يقول: وما دعا نوح على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن، وذلك في قوله: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]، وقد قال تعالى: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]. قالوا: وقوله تعالى: (( وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونَاً )) قرأه ابن كثير ، وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وعاصم في رواية شعبة ، وحمزة ، والكسائي : عِيُونَاً [القمر:12] بكسر (العين) لمجانسة (الياء)، ولها نظير في سورة الأحزاب: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، وفي قراءة أخرى: (( بِيُوتِكُنَّ )). وقرأه نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر في رواية هشام ، وعاصم في رواية حفص : (( عُيُونَاً )) بضم (العين) على الأصل. قوله تعالى: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ، لم يبين هنا ذات الألواح والدُّسُر؛ ولكنه بين في موضع آخر أن المراد: وحملناه على سفينة ذات ألواح، أي: من الخشب، و(دُسُر) أي: مسامير تربط بعض الخشب ببعض، وواحد (الدُّسُر) دِسار كـكُتُب وكِتاب، وعلى هذا القول أكثر المفسرين. وقال بعض العلماء وبعض أهل اللغة: (الدُّسُور): الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة. وقال بعض العلماء: (الدُّسُور): جؤجؤ السفينة، يعني: صدرها ومقدمها الذي تدسر به الماء، أي: تدفعه وتمخره به، قالوا: هو من الدَّسْر، أي الدفع. فمن الآيات الدالة على أن ذات الألواح والدسر هي السفينة قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، أي: السفينة، كما يدل عليه قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32]، (الجوار) السفن التي تجري، وقال تعالى: (( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ))[العنكبوت:15]، وقال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41]. قوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال بعض العلماء: إن (الهاء) أو الضمير في قوله: (( تَرَكْنَاهَا )) عائد إلى هذه الفعلة العظيمة التي فعل الله سبحانه وتعالى بقوم نوح، والمعنى: ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح وإهلاكنا لهم آية لمن بعدهم؛ لينزجروا ويكفوا عن تكذيب الرسل؛ لئلا نفعل بهم مثلما فعلنا بقوم نوح. وكون هذه الفعلة آية نص عليه تعالى في قوله: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً [الفرقان:37]، وقال تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:119-121]. فهذا كله يؤيد القول بأن الآية هي ما فعله الله بهم من الإغراق. وقال بعض العلماء: الضمير في: (( تَرَكْنَاهَا ))، عائد إلى السفينة. وكون سفينة نوح آية بينه الله تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا [العنكبوت:15] أي: السفينة آيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت:15]، وقال تعالى أيضاً: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41-42].

قال الله تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحَاً صَرْصَرَاً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ))[القمر:18-22 ]. (( كَذَّبَتْ عَادٌ ))، أي: نبيهم هوداً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بمثل ما كذبت به قوم نوح، (( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ )). (( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحَاً صَرْصَرَاً ))، أي: شديدة الهبوب لها صرير (( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ))، أي: شر وشؤم عليهم. جاء في بعض الكتب: أن هذا الوقت كان يوم أربعاء في آخر الشهر، ولا يصح في هذا شيء؛ لأن التشاؤم معتقد جاهلي بغيض، وبعض الناس تدعي أن في يوم الأربعاء ساعة نحس والعياذ بالله، فيتشاءمون من هذا اليوم أو من ساعة معينة في هذا اليوم، وإن كان رُوي في بعض الأحاديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على الكفار ثلاثة أيام، دعا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستُجيب له يوم الأربعاء فيما بين الصلاتين) يعني: بين الظهر والعصر، وهو من حديث جابر بن عبد الله ، ويزعمون أن هذا وقت نحس، وحتى لو صح هذا فيطلق على أنه نحس على الكفار. وقد ذكر بعض المفسرين كـالقرطبي رحمه الله تعالى: أن من أوقات إجابة الدعاء خاصة دعاء المظلوم على الظالم يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فيدعو عليه، فإن لم يسبق رجعة -يعني: الظالم لم يتب- قبل حلول هذا الوقت؛ فلا بد أن يصيبه عذاب. فعلى أي الأحوال هذا لم يرد في حديث مرفوع صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلمه، والله تعالى أعلم. والشيطان يسول للناس أمثال هذه المعتقدات التي لا تثبت، وهذا مِن تلاعبه بهم، كما فعلوا ما هو أشنع من ذلك حينما زعم الجهلة الحمقى أن في يوم الجمعة ساعة نحس! كيف يكون هذا في اليوم المبارك العظيم الذي هو العيد الأسبوعي للمسلمين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن فيه ساعة إجابة وليست ساعة نحس، على خلافٍ في تحديد هذه الساعة؛ هل هي متنقلة؟ وإن كان أقرب الأوقات أنها آخر ساعة بعد العصر، والله تعالى أعلم. على أي الأحوال حتى لو فرضنا ورود حديث، وصح أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا عليهم يوم الأربعاء ما بين الصلاتين فأنزل الله العذاب بهم أو هزم هؤلاء الكفار، فإنه لا يُحمل على أن المسلمين يتشاءمون، لأن المسلم لا يتطير أبداً ولا يتشاءم، فإن هذا من العقائد الجاهلية البغيضة، لكن لو صح ذلك فنقول: إنه نحس على الفجار وعلى المفسدين، لا على الصالحين، وهذا اليوم الذي يصفه الله بقوله: (( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ))، هل أصاب هذا الشر وهذا الشؤم هوداً عليه السلام والمؤمنين معه؟ لا. إنما كان نحساً على من أرسل عليهم العذاب، وهو لا شك حقيق أن يكون نحساً عليهم لكفرهم واستحقاقهم غضب الله وعقابه. (( مُسْتَمِرٍّ )) أي: دائم الشؤم، فاستمر عليهم ودام حتى أهلكهم، هذا إذا قلنا: (( مُسْتَمِرٍّ )) بمعنى: دائم الشر أو الشؤم. هناك تفسير آخر لقوله: (( مُسْتَمِرٍّ )) أنه من المرارة، فهو يوم مرير شديد المرارة؛ لعظم البلاء والنكال الذي وقع بهم في هذا اليوم. (( تَنزِعُ النَّاسَ )) أي: هذه الريح الصرصر تقلعهم عن أماكنهم، (( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ))، أي: فتتركهم كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ؛ لأن هذه الريح تنزع الناس فترفعهم ثم تقلبهم على رءوسهم، ثم تدكهم في الأرض فتنكسر أعناقهم، فيصبحون كأعجاز النخل التي لا رأس لها لما انكسرت رءوسها، فيُلقَون في الأرض بهذه الهيئة وهذه الصورة، (( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ )) أي: أصول نخل منخلع عن مغارسه. وأصل (منقعر) ما أُخرج من القعر، فنلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى شبههم بالنخل؛ لأنهم كانوا طوالاً، وهذا معروف عن قوم عاد ، حتى ذكر بعض المفسرين أن الواحد منهم كان طوله اثني عشر ذراعاً، أي حوالي ستة أمتار، والله أعلم. فلعل هذه مناسبة تشبيههم بالنخل. (( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ))، كرره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوهم، أي: فكيف كان عذابي لقومه وإنذاري لهم على لسانه. (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )).

قال تعالى:كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [القمر:23-26]. يحتمل أن يكون (النذر) هنا بمعنى الإنذار، أو جمع نذير، أي الرسل، وإنما جمع لأن من كذب نبياً واحداً فقد كذب كل الرسل، فلذلك قال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ . وهذا على القول بأن (النذر) جمع نذير، أما (النذر) بمعنى الإنذار، فيكون المعنى: كذبت ثمود بما أنذرهم به نبيهم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. (( فَقَالُوا أَبَشَرَاً )) يعني: أنتبع بشراً (( مِنَّا وَاحِدَاً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذَاً ))، إذا اتبعناه، (( لَفِي ضَلالٍ ))، أي: خطأ وذهابٍ عن الصواب، (( وَسُعُرٍ )) أي: جنون أو عناء، فهو اسمٌ مفرد. وقيل: (( وَسُعُرٍ )): جمع سعير، كأنهم رتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على عدم اتباعهم له. قال الزمخشري : قالوا: (( أَبَشَرَاً )): إنكاراً لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، قالوها إنكاراً، يعني: هل يصلح أن نتبع بشراً مثلنا من جنس البشر؟! وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة، وقالوا: (( مِنَّا )) لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى، (( وَاحِدَاً )) قالوها إنكاراً لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً، أو أرادوا واحداً من أبنائهم من أشرافهم وأفاضلهم، ويدل على هذا قولهم: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا [القمر:25]، يقصدون بذلك ازدراء نبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. (( أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ )) يعني: الوحي، أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا ، أي: وفينا من هو أحق بها؛ لكونه أعز مالاً ونفراً، فكأنهم يقصدون: كيف خُص من بيننا بالنبوة والوحي وفينا من هو أكثر منه مالاً وأعز نفراً؟ ((بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ))، أي: متكبر حمله كبره وفخره بنفسه على أن يطلب منا أن نتبعه ونكون أتباعاً له. وقيل: إن معنى (الأشر) المرِح المتكبر، أو البَطِر. وقيل: إن الأشر المتعدي إلى منزلة لا يستحقها. وقيل: الذي يقول كلاماً ولا يبالي ما قال. وأما قوله: (( إِنَّا إِذَاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ )) كما قلنا: قيل إن (السعر) هو الجنون، إذا قلنا: إنها كلمة مفردة، تقول العرب: ناقة مسعورة، كأنها مجنونة من النشاط. وهناك معنى آخر لـ(سعر) مفرداً، أي: شقاء وعناء لأجل ما يلزمنا من طاعته، رتب على طاعتنا إياه تكاليف وأوامر ونواهٍ وهكذا. (( سَيَعْلَمُونَ غَدَاً ))، أي: عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة. (( مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ )) أي: من المتكبر عن الحق البَطِر له. وقوله تعالى هنا: (( سَيَعْلَمُونَ غَدَاً )) هو على التقريب وليس على التحديد، فليس هو اليوم الثاني مباشرة، بل استعملت هنا على عادة العرب أو على عادة الناس في قولهم للعواقب: غداً، على سبيل التقريب، وتقول العرب في الكلام عن عواقب الأمور: إن مع اليوم غداً، يعني: هناك عاقبة لهذا اليوم، وقال الشاعر: من لم يكن ميتاً في اليوم مات غداً (مات غداً) يعني: في المستقبل، وليس المقصود أنه يموت بالفعل في الغد. ولذلك فسره المفسرون بقولهم: وذلك عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة، فأطلق عليه (غداً) مع أنه بعيد نسبياً عن الأيام التي كانوا فيها.

يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ ))، أي: مخرجوها من الهضبة (( فِتْنَةً لَهُمْ ))، ابتلاءً واختباراً لهم، فقوله (فتنة): مفعول من أجله؛ لأنهم اقترحوا على صالح إخراج ناقةٍ من صخرة، وأنها إن خرجت لهم من هذه الصخرة آمنوا به واتبعوه، فأخرج الله الناقة من تلك الصخرة معجزةً لصالح عليه السلام. و(( فِتْنَةً لَهُمْ )) أي: ابتلاءً واختباراً، وذلك أن تلك الناقة معجزة عاينوها، وأن الله حذرهم على لسان نبيهم صالح من أن يمسوها بسوء، وأنهم إن تعرضوا لها بأذى أخذهم الله بعذابه. والمفسرون يقولون: إنهم قالوا له: إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء اتبعناك. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله أرسل لهم هذه الناقة امتحاناً واختباراً، وأنهم إن تعرضوا لآية الله -الناقة- بسوء أهلكهم وضحه قوله تعالى في سورة الأعراف: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف:73]. وقال تعالى في سورة هود عن صالح عليه السلام: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:64-65]. وقال تعالى في الشعراء: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:155-156]. وقد بين تعالى أنهم عقروا الناقة فجاءهم العذاب المستأصل في آيات من كتابه، كقوله تعالى في الأعراف: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ .. [الأعراف:77]، إلى قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف:78]. وقال تعالى: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ [الشعراء:157-158]، وقال: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس:14-15]. فمعنى: (مرسلو) هنا مخرجو الناقة، أخرجها لهم من الصخرة، حينما سألوا صالحاً أن يخرج لهم ناقة من تلك الصخرة. (( فِتْنَةً لَهُمْ )) يعني: مرسلوها لهم كما أرادوا، آية وحجة لصالح على قومه امتحاناً لهم وابتلاء. (( فَارْتَقِبْهُمْ ))، أي: انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها، (( وَاصْطَبِرْ )) على دعوتهم، أو (( وَاصْطَبِرْ )) على ما يصيبك من أذاهم. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي: أخبر يا صالح ثمود أن الماء -وهو ماء البئر الذي كانت تشرب منها الناقة- قسمة بينهم، فيوم للناقة ويوم لثمود، فقوله: (( بَيْنَهُمْ )) أي: بين الناقة وثمود، وغلَّب العقلاء على الناقة، والضمير يعود إلى عاقل وهم هؤلاء البشر، (( كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ )) أي: يحضره صاحبه؛ فتحضر الناقة شرب يومها وتحضر ثمود شرب يومها. وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آية أخرى، وهي قوله تعالى في الشعراء: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155]، وشرب الناقة هو الذي حذرهم منه صالح لئلا يتعرضوا له في قوله تعالى: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13]، يعني: إياكم أن تتعرضوا لشرب هذه الناقة في موعدها. (( وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ ))، الذي يردونه لشرب مواشيهم (( قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ))أي: مقسوم بينهم لها شرب ولهم شرب يوم (( كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ))، أي: يحضره صاحبه في نوبته ويستحقه، و(الشِّرب) النصيب من الماء.

قال تعالى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:29-32]. ثم أشار تبارك وتعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ . (( فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ )) وهو كما يقول المفسرون: قيدار بن سالف ، (( فَتَعَاطَى ))، يعني: تعاطى عقر الناقة. وقيل: (تعاطى) أي: تناول الناقة بيده، (( فَعَقَرَ )) أي: فعقرها فقتلها، (( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ )). إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً صاحها جبريل عليه السلام عليهم، فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي: كالشجر اليابس المتكسر، كما سنبين إن شاء الله تعالى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ : قال أبو حيان في البحر المحيط: (تعاطى) هو مطاوع (عاطى)، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً، فتعاطها قيدار وتناول العقر بيده، والعرب تقول: تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله. ولذلك رأينا بعض المفسرين يفسر (( فَتَعَاطَى )) بأنه تعاطى العقر، فتكون بمعنى العقر. و(تعاطى) كما قال القاسمي معناه هنا: تناول الناقة بيده، فالفعل هنا: إما فعل الشيء أو تناوله، فتعاطى كذا إذا فعله أو تناوله، وعاطاه إذا تناوله، ومنه قول حسان رضي الله عنه: كلتاهما حلب العصير فعاطَني بزجاجة أرخاهما بالمفصل وقوله: (( فَعَقَرَ ))، أي: تعاطى عقر الناقة فعقرها، فمفعولا الفعلين (تعاطى، عقر) محذوفان. وعبر عن عاقر الناقة هنا بأنه صاحبهم: (( فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ ))، وعبر عنه في سورة الشمس بأنه أشقاهم في قوله: إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ، وهذه الآية الكريمة تشير إلى إزالة إشكال معروف في الآية، وإيضاح ذلك: أن الله تبارك وتعالى في هذه الآية نسب العقر لواحد لا لجماعة: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ، مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخر إلى ثمود كلهم، كقوله في سورة الأعراف: (( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ))[الأعراف:77]، وقال في سورة هود: (( فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ))[هود:65]، وقال في الشعراء: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ [الشعراء:157]، وقال في سورة الشمس: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [الشمس:14]. يقول: ووجه إشارة الآية إلى إزالة هذا الإشكال هو: أن قوله تعالى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ، يدل على أن ثمود اتفقوا كلهم على عقر الناقة، فنادوا واحداً منهم لينفذ ما اتفقوا عليه أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره، ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون، وصحت نسبة العقر إلى المنفذ المباشر للعقر، وصحت نسبته أيضاً إلى الجميع لأنهم متمالئون، كما دل عليه ترتيب تعاطي العقر بـ(الفاء) في قوله تبارك وتعالى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ، على ندائهم. يعني: رُتب التعاطي على النداء، (( فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ )) بعدما تمالئوا واتفقوا على العقر، فلما نادوه لكي ينفذ هذه المهمة (( تَعَاطَى فَعَقَرَ )). وجمع بعض العلماء بين هذه الآيات بوجه آخر: وهو أن إطلاق المجموع مراداً به بعضه أسلوب عربي مشهور، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، من ذلك قوله تعالى: فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191] على قراءة حمزة ، بصيغة المجرد في الفعلين؛ لأن من قُتل ومات لم يبق فيه نفَس ولا حياة، فالمراد: إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر الذي ما زال حياً. ونظيره قول عبد الله بن مطيع : فإن تقتلونا عند حرة واقم فإنا على الإسلام أول مَن قتل أي: فإن تقتلوا بعضنا. ومنه أيضاً قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات:14]، وهذا في بعض الأعراب دون بعض، والدليل قول الله تبارك وتعالى: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:99] إلى قوله: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:99]. ومِن أشهر الشواهد العربية على أنه قد يطلق المجموع ويراد به البعض قول الشاعر: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدَي ورقاء عن رأس خالد وقوله تعالى: (( فَعَقَرَ )) أي: قتلها. والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح، ومنه قول امرئ القيس : تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ ومن إطلاق العقر على نحر الإبل لقِرَى الضيف قول جرير : تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا يقول الله تبارك وتعالى: (( فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ )) يعني: حضوه على عقرها، (( فَتَعَاطَى )) على العقر (( فَعَقَرَ )). فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً [القمر:30-31] صاحها جبريل -عليه السلام- عليهم، فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ، أي: كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها، أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء: (( كَهَشِيمِ الْمُحْتَظَرِ )) على أنه اسم مكان، أي: كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها. وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم، وأنهم بادوا عن آخرهم فلم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد الزرع والنبات بعد خضرة ورقه وحسن نباته، قال ابن زيد : كان العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبيس الشوك. وعن سفيان : الهشيم: إذا ضربت الحظيرة بالعصا تهشم ذاك الورق فيسقط، والعرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً. (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )).