تفسير سورة الذاريات [24-60]


الحلقة مفرغة

انتهينا في تفسير سورة الذاريات إلى قول الله تبارك وتعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] وقلنا من قبل: إن الضمير في قوله تعالى: ((إنه لحق)) يحتمل أن يعود إلى ما ذكر من الآيات والرزق، أو يعود إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعود إلى قوله: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] أي: أن ما توعدون من العذاب السماوي لحق، ومما يؤيده أن الله سبحانه وتعالى أتبع ذلك بأنباء وعيد المكذبين، فبدأ منها بنبأ قوم لوط عليه السلام؛ لأن قراهم واقعة في طريق كفار قريش، فكانوا يمرون في أثناء أسفارهم على قراهم قوم لوط، فبدأ الله تعالى بذكر قصة تعذيب قوم لوط، وإن كان بدأها بذكر خبر إبراهيم: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ )). ومناسبة ذكر قصة إبراهيم هنا مع أن الهدف الأساسي لذهاب الملائكة ومرورهم بإبراهيم عليه السلام إنما كان لإهلاك قوم لوط، لكنهم قبل أن يذهبوا مروا بإبراهيم لتبشيره بالولد. قوله: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) يعني: الملائكة الذين دخلوا عليه في صورة ضيف. قال الزمخشري: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ)) هذا فيه تفخيم للحديث، وتنبيه على أنه ليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه بالوحي. ((الْمُكْرَمِينَ)) أي: أنهم في أنفسهم مكرمون؛ لأن الملائكة كرام، وهذا وصف ثابت للملائكة، أو أن الخليل إبراهيم عليه السلام أكرمهم بنفسه غاية الإكرام وأخدمهم امرأته ونحو ذلك مما سنذكره من ملامح كرم ضيافة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الملائكة.

قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:25-30]. قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ)) أي: سلام عليكم. ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) أي: أنتم قوم لا أعرفكم. وهذا كالسؤال منه عن أحوالهم ليعرفهم، فإن قولك لمن لقيته: أنا لا أعرفك عرفني نفسك وصفها. ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِن)) أي: ذهب إليهم في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يكفه ويعذره؛ لأن الضيف إذا سألته: هل نعد لك الطعام أم لا؟ سوف يستحي وفي الغالب أنه يقول: لا، ويكفك عن أن تكرمه، لكن الكريم كإبراهيم عليه السلام لشدة حرصه على إكرام ضيوفه لم يستأذن الضيف، ولم يخبرهم بأنه سيعد الطعام أو كذا، وإنما ذهب خفية، وهذا من غاية الإكرام. عن أبي عبيد قال: إنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية؛ لأن الروغ فيه معنى الاستخفاء، ولذلك يقال: روغ اللقمة إذا غمسها في السمن تماماً حتى رويت من السمن. ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) أي: قد أنضجه وشواه. قوله: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)) أي: وضعه بين أيديهم. ((قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)) أي: منه. قال القاضي : وهو مشعر بكونه حنيذاً، يعني: مشوياً، والهمزة في قوله: (أَلا تَأْكُلُونَ) للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب، فقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) أفضل من أن يقول: كلوا؛ لأن في قوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) حث على الأكل على طريقة الأدب وفيه تلطف بهم. أو أنه قال هذه العبارة: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) حينما رأى إعراضهم عن الطعام، فللإنكار عليهم قال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)). ((فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)) أي: أضمر الخيفة؛ لظنه أنهم أرادوا به سوءاً. ((قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)) أي: يبلغ ويكمل علمه. ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)) أي: صيحة. ((فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) أي: لطمت وجهها تعجباً على عادة النساء في كل غريب عندهن، ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) أي: عاقر ليس لي ولد. ((قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ)) أي: مثل الذي قلنا وأخبرنا به قال ربك، فإنما نخبرك عن الله فاقبلي قوله ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة. ((إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)).

قوله: ((وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)) من الغلام؟ هو إسحاق عليه السلام؛ لقوله تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] ولأن في نفس هذه القصة في سورة هود جاء نفس سياق ضيافة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الملائكة. هناك أمر آخر في قوله تعالى: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) العجوز العقيم؟ هي سارة امرأته وقد كانت حرة، أما هاجر فكانت أمة؛ ولذلك قال: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فأبدت السبب من جهتها، وفي سورة هود أبدت السبب من جهتها ومن جهة إبراهيم عليه السلام قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:72] فهذا إنما كان في حق سارة وليس في حق هاجر .

الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى له كلام قيم جداً في تفسير هذه الآيات، يقول رحمه الله تعالى: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ )) إلى آخر الآيات، في هذا ثناء على إبراهيم عليه السلام من وجوه متعددة:

الوجه الأول: معنى الإكرام في قوله: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)

الوجه الأول: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، فعلى أحد القولين: أنه إكرام إبراهيم لهم، والقول الآخر: أنهم المكرمون عند الله، ولا تنافي بين القولين؛ فالآية تدل على المعنيين.

الوجه الثاني: عدم ذكر استئذان الضيف حين دخلوا على إبراهيم وسبب ذلك

الوجه الثاني: قوله تعالى: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ)) فلم يذكر استئذانهم وفي هذا دليل على أنه كان قد عرف واشتهر بإكرام الضيفان، واعتياد قراهم، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورد، وهو لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم. أي: أن إبراهيم عليه السلام جعل بابه مفتوحاً والطعام مهيئاً.

الوجه الثالث: الفرق بين سلام الملائكة على إبراهيم وسلامه عليهم

قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا)) ما إعراب (سلاماً)؟ مفعول مطلق بمعنى: نسلم عليك سلاماً. فقال إبراهيم: (سلام) أي: سلام عليكم. أيهما أفضل تحية الملائكة أم تحية إبراهيم؟ تحية إبراهيم أفضل؛ لأن الرفع في اللغة العربية أكمل من النصب. يقول ابن القيم : الوجه الثالث: قوله لهم: (سلام) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب، والسلام بالرفع أكمل؛ فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت واللزوم، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قولهم: (سلاماً) يدل على سلمنا سلاماً، وقوله: (سلام) أي: سلام عليكم.

الوجه الرابع: وجه حذف المبتدأ في قوله: (قوم منكرون)

الوجه الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: ((قوم منكرون))، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف، كأن يقول لهم: أنتم قوم منكرون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام. وإنما قال: ((قوم منكرون))، فلم يعين من هؤلاء القوم، ولم يقل لهم: أنتم قوم منكرون.

الوجه الخامس: وجه حذف الفاعل في قوله: (قوم منكرون)

الوجه الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: ((قوم منكرون)) ولم يقل: إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.

الوجه السادس: عدم إشعار الضيف بإعداد الطعام من كرم الضيافة

الوجه السادس: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم، والروغان: هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه. وأفظع من هذا من يقول له: نعد لك العشاء أو تنام قليلاً، فهذا مما يؤخذ من قوله: ((فراغ إلى أهله))، وفي الآية الأخرى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69]، قوله: ((فما لبث)) يعني: اختفى وقتاً يسيراً؛ لأن طول الغيبة عن الضيف يشعره بالاحتشام، وأنه أثقل على أهل البيت، بحيث أنهم انقطعوا عن أعمالهم وصاروا يعدون له الطعام، لكن اختفى يسيراً ليجيئهم بنزلهم.

الوجه السابع: من الكرم استعداد أهل البيت لطروق الضيف في كل وقت

الوجه السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً عندهم مهيئاً للضيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه. أي: أنه كان دائماً يعد الطعام لنزل الضيوف، فلم يذهب ليشتريه، أو ليستقرضه من جيرانه، أو يفعل شيئاً من هذا؛ لأنه عليه السلام المتصف بهذا الكرم الشديد البليغ.

الوجه الثامن: من كرم الضيافة خدمة صاحب البيت للضيف بنفسه

قوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ))، دل على خدمته للضيف بنفسه. أي: أن من إكرام الضيف أن يقوم صاحب البيت على خدمته كائناً من كان، وليس من المروءة استخدام الضيف، ويمكن أن يستعين بالغلمان أو الخدم أو كذا، لكن إبراهيم عليه السلام لم يفعل ذلك وإنما خدم الضيف بنفسه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.

الوجه التاسع: من كرم الضيافة الإتيان بكل الذبيحة للضيف

الوجه التاسع: أنه جاء بعجل كامل ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) ولم يأت ببضعة منه. أي: لم يقطعه أو يأتي بجزء منه، وهذا من تمام كرمه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهو تركهم وشأنهم يختارون ما يستحسنونه من أجزاء هذا العجل.

الوجه العاشر: من كرم الضيافة اختيار الذبيحة السمينة للضيف لا الهزيلة

العاشر: أنه سمين لا هزيل ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) أي: غير هزيل. ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.

الوجه الحادي عشر: من كرم الضيافة تقريب الطعام إلى الضيف

الحادي عشر: أنه قربه إليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ))، فالطعام يقرب للضيف حيث هو جالس، وهذا من تمام الكرم، ولم يأمر خادمه بأن يحمله ويقربه إليهم، لكن قربه بنفسه. وأنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة بحيث يجلس الضيف ثم يقرب الطعام إليه ويحمله إلى حضرته، ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب هو إليه. فمن كرم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه هو الذي قربه إليهم، فالطعام هو الذي يقرب إليهم وليس الضيوف هم الذين يقربون إلى الطعام.

الوجه الثاني عشر: من كرم الضيافة التلطف في القول عند ابتداء الأكل

الثالث عشر: أنه قال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) وهذا عرض وتلطف في القول، وهو أحسن من قوله: كلوا أو مدوا أيديكم، وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه، ولهذا يقولون: باسم الله.. ألا تتصدق؟.. ألا تجبر؟ ونحو ذلك من العبارات التي فيها التلطف بالضيف.

الوجه الثالث عشر: سبب عرض إبراهيم الأكل على ضيوفه

الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل؛ لأنه رآهم لا يأكلون؛ ولأن عادة إبراهيم عليه السلام أن ضيوفه لم يكونوا يحتاجون إلى الإذن في الأكل، فعادة ضيوف إبراهيم عليه السلام أنه كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا، وهؤلاء الضيوف خالفوا هذه العادة، فاستوحش وأوجس منهم خيفة، أي: أحسها وأضمرها في نفسه ولم يبدها لهم، فقال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)).

الوجه الرابع عشر: من كرم الضيافة عدم إظهار الريبة والخوف عند عدم أكل الضيوف

الخامس عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم ولم يظهر لهم، أي أنه لم يصرح بذلك وإنما سألهم هذا السؤال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) كأنه يستكشف سر رفضهم الطعام؛ لأن العادة أن من أكل طعامك فإنك تستريح إليه وتطمئن إليه وتأمن من شره، أما إذا لم يأكل الطعام فقد تشك وتظن أنه أتى يريد أن يفعل بك شراً، فإبراهيم لما خاف منهم لم يظهر لهم ذلك. قوله: فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا: ((لا تخف وبشروه بالغلام)). فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها فهي من التكلفات التي هي تخلف وتكلف. أي: تخلف عن أخلاق الإسلام وآداب الإسلام وأخلاق إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظروا إلى آداب الضيافة، لا كهذه الأفعال المتكلفة التي يلتقطها بعض الناس من آداب الكفار مما يسمونه: آداب (الإتكيت) وهذه الأشياء كلها تكلف وسخافة، كأن يضع الشوكة في اليد اليسار والسكين في اليمين وغير ذلك من الأفعال التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي إذا قارنها بأخلاق الإسلام وآداب الإسلام، فإنك لا تجد وجه مقارنة على الإطلاق. ثم يقول: فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين.

الوجه الأول: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، فعلى أحد القولين: أنه إكرام إبراهيم لهم، والقول الآخر: أنهم المكرمون عند الله، ولا تنافي بين القولين؛ فالآية تدل على المعنيين.

الوجه الثاني: قوله تعالى: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ)) فلم يذكر استئذانهم وفي هذا دليل على أنه كان قد عرف واشتهر بإكرام الضيفان، واعتياد قراهم، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورد، وهو لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم. أي: أن إبراهيم عليه السلام جعل بابه مفتوحاً والطعام مهيئاً.

قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا)) ما إعراب (سلاماً)؟ مفعول مطلق بمعنى: نسلم عليك سلاماً. فقال إبراهيم: (سلام) أي: سلام عليكم. أيهما أفضل تحية الملائكة أم تحية إبراهيم؟ تحية إبراهيم أفضل؛ لأن الرفع في اللغة العربية أكمل من النصب. يقول ابن القيم : الوجه الثالث: قوله لهم: (سلام) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب، والسلام بالرفع أكمل؛ فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت واللزوم، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قولهم: (سلاماً) يدل على سلمنا سلاماً، وقوله: (سلام) أي: سلام عليكم.

الوجه الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: ((قوم منكرون))، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف، كأن يقول لهم: أنتم قوم منكرون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام. وإنما قال: ((قوم منكرون))، فلم يعين من هؤلاء القوم، ولم يقل لهم: أنتم قوم منكرون.

الوجه الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: ((قوم منكرون)) ولم يقل: إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.

الوجه السادس: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم، والروغان: هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه. وأفظع من هذا من يقول له: نعد لك العشاء أو تنام قليلاً، فهذا مما يؤخذ من قوله: ((فراغ إلى أهله))، وفي الآية الأخرى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69]، قوله: ((فما لبث)) يعني: اختفى وقتاً يسيراً؛ لأن طول الغيبة عن الضيف يشعره بالاحتشام، وأنه أثقل على أهل البيت، بحيث أنهم انقطعوا عن أعمالهم وصاروا يعدون له الطعام، لكن اختفى يسيراً ليجيئهم بنزلهم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2821 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2586 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2578 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2505 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2443 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2413 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2403 استماع