تفسير سورة الحجرات [11-13]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يستخف ولا يستهزئ بهم، والعرب تقول: سخر منه يسخر على القياس، إذا استهزأ به. وقد نهى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس، مبيناً أن المسخور منه قد يكون خيراً من الساخر. ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأقرب الأفضل واستهزاؤه به، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله سبحانه وتعالى في غير هذا الموضع، كقول الله عز وجل: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، فبين أن من سخر من الناس سخر الله سبحانه وتعالى منه وله عذاب أليم. وبين الله سبحانه وتعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من دعاة المؤمنين في دار الدنيا، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:29-36]. فلا ينبغي لمن رأى مسلماً في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه؛ لهذه الآيات التي ذكرنا: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، فالقوم هنا بمعنى: الرجال، كما قال الشاعر: ولا أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء يعني: أرجال هم أم نساء؟ فهنا قوم: بمعنى رجال، (( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال فيروا أنفسهم خيراً من المسخور منه. (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ))، أي: يكن المسخور منهن أفضل عند الله سبحانه وتعالى من الساخرات.

الإشارة في الآية إلى عدم الاختلاط بين الرجال والنساء

ولم يقل الله سبحانه وتعالى: لا يسخر قوم من نساء، ولا نساء من قوم، ولم يقل: لا يسخر رجل من امرأة ولا امرأة من رجل؛ للإشعار بأن مجالسة الرجل المرأة الأجنبية مستقبح شرعاً؛ ولأن الإنسان إنما يسخر ممن يجالسه غالباً، والهيئة الاجتماعية في المجتمع المسلم مبنية على حظر الاختلاط بين الرجال والنساء. فلا يرد على هذا الأساس احتمال كبير أن تحصل سخرية رجل من امرأة أو امرأة من رجل، وقد رأينا في هذا الزمان كيف أزيل نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء حتى صار الرجل يتعامل مع المرأة، والمرأة تتعامل مع الرجل كأنه أخوها أو أبوها بلا حواجز ولا حدود ولا حياء، كما نرى الموظفات في المكاتب والشوارع وفي الطرقات وفي كل مكان، وربما صرخت المرأة في محل عام مثلاً تتعارك مع الرجل كأنها رجل، وتثبت أمامهم في غاية الجسارة وقلة الحياء.

شمول النهي لكل معاني السخرية

فلذلك قصر الله سبحانه وتعالى بين الرجال والنساء فقال: (( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ )). فإن مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال، ولا الأوضاع والأطوار التي يدور أمر السخرية عليها غالباً، فأمر السخرية غالباً لا يدور على أمور ظاهرة، وإنما يدور على شكل الإنسان أو على ملابسه أو على هيئته أو على طريقته في الكلام أو على وظيفته وعمله أو غير ذلك، هذا غالباً يكون مناط السخرية في الأمور الظاهرة، وبالذات أمور الدنيا. بين الله سبحانه وتعالى أن مناط الخيرية ليس في الأمور والأشكال الظاهرة التي تدور حولها السخرية غالباً، بل مناط الخيرية إنما هو للأمور الكائنة في القلوب: (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ))، يعني: في القلوب وفي الباطن عند الله. فالذي ينظر إليه الله القلوب والأعمال وليس الصور والأشكال، فالمناط إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله سبحانه وتعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله سبحانه وتعالى، ويستهين بمن عظمه الله عز وجل. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغني للفقير، وآخرون خصوا السخرية بما يحصل على أحد زلة أو هفوة فيسخر به من أجلها. قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: والصواب أن يقال: إن الله عم بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض في جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك.

كلام الغزالي في تحريم السخرية والاستهزاء

وقد عد الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء السخرية من آفات النساء، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه، وينقل القاسمي هذا الكلام عن الغزالي، ونحن نتحرز من كتاب الإحياء، لأن الإحياء كتاب فيه نظر شديد، وفيه صدام صريح للشريعة سواء في العقيدة أو في الفروع أو في ضلالات الصوفية التي حشا بها هذا الكتاب، وهي ضلالات مهلكة ومحرقة. فينبغي الحذر من كتاب الإحياء، مع ما تضمنه من الخير الكبير الذي انتفع به كثير من الخلق، لكنه كتاب لا يعد مرجعاً معتبراً ومحترماً عند أهل السنة وأهل الحديث، ولذلك ما كان يقتنيه بعض طلاب العلم إلا من أجل تحقيقات الإمام العراقي رحمه الله تعالى في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الآثار. فليحذر من كتاب الإحياء، لما فيه من الضلالات والطامات المصادمة للشريعة، وحشوه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الضعيفة والباطلة والموضوعة، والبدع التي يزخر بها هذا الكتاب من الاعتقادات والأعمال. وهو كما قلنا لا يخلو من خير، ولذلك لا يغوص فيه إلا من يحسن السباحة كي لا يغرق، يقول الغزالي رحمه الله تعالى: الآفة الحادية عشرة: السخرية والاستهزاء. وهذا محرم مهما كان مؤذياً، كما قال الله سبحانه وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، فإذا كانت هذه السخرية تؤدي إلى أذية أخيه المسلم فهي حرام، ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يبحث منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة بالفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، فأي وسيلة استعملت لأجل الاستهزاء والسخرية وإظهار النقائص والتنبيه عليها، سواء كان بالكلام أو بغمزة العين أو بإخراج لسانه أو بمحاكاته في الحركة؛ فكل هذا سخرية. فإذا كان بحضرة المستهزأ به لا يسمى ذلك غيبة وإن كان فيه معنى الغيبة، لكن ما دام هو موجوداً لا يسمى ذلك غيبة. وقد نبهنا من قبل أن بعض الناس تقول له: يحرم عليك أن تغتابه يقول: أنا أستطيع أن أقول هذا في وجهه. نقول: نعم إذا قلته في غيبته فهو غيبة، وإن قلته في وجهه فهو أذية للمسلم ومواجهة له بما يكره، كحال الاستهزاء واللمز والسخرية. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا)، يعني: لو قال لي: خذ مبلغاً من المال مكافأة لك على أن تقوم بمحاكاة فلان، ما أحب أن أفعل هذا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، قال ابن عباس : إن الصغيرة التبسم للاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك. يعني: لو كان يستهزئ من المؤمن فتبسم فهذه هي الصغيرة، أما إذا أراد أن يسخر منه فقهقه بذلك وصدر منه كثرة الضحك والقهقهة فهي الكبيرة. وهذه إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر. وقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله)، وإن كان في صحة هذا الحديث كلام، لكن معناه صحيح؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية صحيحة، وهي من عدل الله سبحانه وتعالى أن يجازي الإنسان من نفس جنس عمله، جزاء بما كنتم تعملون. فمن عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله، فلابد أن تدور الأيام ويبتلى بنفس الذنب الذي سخر من أخيه بسببه، وبالذات إذا كان قد تاب منه، فلا ينبغي أن يعان الشيطان عليه بتعييره والسخرية منه. وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له، وعليه نبه سبحانه وتعالى: (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ))، أي: لا تستحقره استصغاراً، فلعله خير منك، وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به.

حكم سخرية ممثلي الكوميديا ونحوهم

أما من جعل نفسه مسخرة كممثل الكوميديا ونحوه، فهو يفرح أن يضحك الناس عليه، ويرى أنه إنسان ناجح جداً، وأنه جنى المجد العظيم حين يقف ويأتي بحركات وبروفات تضحك الناس؛ فهذا لا يدخل في هذه الآية، لأنه سعيد وفخور بأنه مسخرة، ولذلك لا يتشبث بهذه الوظيفة أو هذا العمل إلا من كان أحقر الناس وأعدمهم مروءة، ولا يمكن لإنسان محترم أو عنده مروءة أن يقبل هذا. وإنما يكون سفلة الناس ورعاعهم وأحطهم هم الذين يقبلون مثل هذه الأعمال؛ فضلاً عن أن يسخروا بها. وإنما يحرم الاستهزاء في حق من يتأذى به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا ارتبك فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيراً أو ناقصاً لعيب من العيوب. فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها.

حكمة تخصيص النهي عن السخرية بلفظ الجمع (قوم)

يقول أبو السعود رحمه الله تعالى: القوم مختص بالرجال؛ لأنهم القوام على النساء. وهو في الأصل إما جمع فاعل كقوم وزور في جمع قائم وزائر، أو مصدرٌ نُعِتَ به فشاع في الجمع، وأما تعميمه للفريقين الرجال والنساء في مثل: قوم عاد، قوم فرعون، فإما للتغليب -تغليب الرجال على النساء- أو لأن النساء توابع للرجال. واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع، يعني: لم يرد النهي بصيغة المفرد: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة، وإنما جاء بصيغة الجمع: (( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ))، لغلبة وقوع السخرية في المجامع، لأن فيها القابلية للضحك، والتفاعل معه في مثل هذه المجامع يكون أسهل، تجد الواحد إذا كان في وسط مجموعة من الأصدقاء أو شلة من الشباب مثلاً، فإنه يضحكهم، ويكون هناك استعداد أكثر لأن يسخر من أحد ويستحقره. فاختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع؛ ولأنه غالباً يقصد فيه أن يضع من غيره ويرفع من نفسه، وهذا غالباً ما يقع أمام جمع من الناس، ولا يكون في حالة الانفراد. (( لا يَسْخَرْ قَومٌ ))، هذا التنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن السخرية من بعض، بما أنه مما يجري بين بعض وبعض.

النهي عن اللمز

قوله: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: لا يعب بعضكم على بعض ولا يطعن فيه، وهذه عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم. وهذا ما نبهنا عليه مراراً: أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن الإخوة في الله بلفظ النفس، فإخوانك المؤمنون حتى وإن كانوا غير موجودين معك الآن فإنه يطلق عليهم لفظ (أنفسهم). فهذا له نظائر كثيرة في القرآن، منها: قول الله سبحانه وتعالى: رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]، أي: منكم، وقال تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، يعني: إخوانكم، كذلك هنا: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: إخوانكم، وقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12] يعني: بإخوانهم، فهذا مما يعبر به عن رابطة الأخوة في الله. فقيل: إن معنى الآية: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ )) لا تلمزوا إخوانكم المؤمنين، أو يكون المعنى: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به الذم فقد لمز نفسه، والمراد: لا ترتكبوا أمراً تعابون به، وانتقد هذا الرأي بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله تعالى: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ))؛ لأن التنابز يكون من مجموعة لمجموعة أو شخص لشخص، فنسق الخطاب واحد، فأتت هذه الآية. أي: ذكر الله تبارك وتعالى: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ))، والأنسب للسياق أن يكون المعنى: لا تلمزوا إخوانكم ولا تنابزوا أيضاً فيما بينكم بالألقاب. وقد يكون معنى قوله تعالى: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم، كما يقول بعض الناس: (من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة)، وكما في الحديث: (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه)، فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضاً. فالمقصود على هذا من قوله: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: لا تلمزوا الناس فيلمزوكم فتكونوا في حكم من لمز نفسه؛ لأنكم الذين سلكتم هذا اللمز. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: لا يلمز أحدكم أخاه، وقد توعد الله جل وعلا الذين يلمزون الناس في قوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، والهمزة: كثير الهمز للناس، واللمزة: كثير اللمز. قال بعض العلماء: الهمز يكون بالفعل، كالغمز بالعين احتقاراً وازدراءً، واللمز يكون باللسان فتدخل فيه الغيبة، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله عز وجل: (( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ))، ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى: (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ))، فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه.

النهي عن التنابز بالألقاب

قوله تبارك وتعالى: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ )): واللقب: ما سمي به الإنسان بعد اسمه من لفظ يدل على المدح أو الذم لمعنى فيه، فهذا معنى اللقب، أنه ما سمي به الإنسان بعد اسمه؛ لأن اللقب يكون لمعنى في الإنسان من مدح أو ذم. فقوله تعالى هنا: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ))، أي: لا تتداعوا بالألقاب التي يكرهها الملقب، وقد روي أنه عني بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها، وهذا رواه الإمام أحمد وأبو داود . لذلك من حق المسلم على أخيه أن يدعوه بالاسم الذي يحبه. أي فإذا عرفت أنه يكره اسماً معيناً أو لقباً معيناً فينبغي أن تجتنبه، فلا تناديه إلا بالاسم الذي يحبه، فهذا من الآداب الإسلامية. وفسر بعض السلف هذه الآية بقول الرجل للرجل: يا فاسق يا منافق! وبعضهم فسرها بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، كرجل أسلم فيوصف بالفسوق مع أنه قد تاب، بمعنى: أنه يعيره بذنب قد تاب منه أو يعيره بالكفر بعدما أسلم، وربما يدخل نصراني في الإسلام فينتقصونه ويعيرونه بأنه كان نصرانياً مع أنه دخل في الإسلام. فالمقصود: أن الإسلام يجب ما كان قبله، ألم يكن عمر رضي الله تعالى عنه وغيره من الصحابة على غير الإسلام قبل أن يدخلوا فيه؟! فلا يضر ذلك شيئاً؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا ينبغي أن يعير مسلم بماض قد تاب إلى الله سبحانه وتعالى منه من كفر أو ذنب أو فسوق. يقول ابن جرير: إن الآية تشمل ذلك كله. يعني: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.

تفسير قوله: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)

قوله: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، والاسم هنا معناه: الذكر، أي: بئس الذكر الفسوق بعد الإيمان. فالشاهد اللغوي على أن الاسم يطلق ويراد به الذكر قول العربي: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته، وحقيقته: ما سما ذكره وارتفع بين الناس، ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل بالآية: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق. في قوله تعالى: (( بَعْدَ الإِيمَانِ )) ثلاثة أوجه: أحدها: استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة، يعني: لا يليق بمن كبر وتاب أن يفعل هذه الأفعال، على حد قول الشاعر: إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل فالوجه الأول هو استقباح الجمع بين صفة الإيمان وصفة الفسق؛ لأن الإيمان يحرم الفسق ويزجر عنه، فالمعنى: بئس الشأن بالنسبة للمؤمن أن يقع في هذا الفسوق. الوجه الثاني في الآية: أنه كان يقال لمن أسلم من اليهود: يا يهودي! فنهوا عن ذلك وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه. والجملة على هذا التأويل متعلقة بالنهي عن التنابز. أي أنه على التفسير الأول جاء: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ )) وانتهى الكلام، ثم استؤنف معنى جديد: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، يعني: يستقبح من المؤمن أن يجمع بين الإيمان وبين الوقوع في الفسق؛ لأن الإيمان يأبى الفسق ويحرمه؛ فلا علاقة بين الجملتين إلا من وجه معين، وهو أن التنابز في حد ذاته نوع من الفسق والمعصية. وعلى الوجه الثاني وهو أن معنى: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ )): بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه وإسلامه، تكون الجملة متعلقة بقوله تعالى: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ )). الوجه الثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن. أي: فيكون قوله: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ )) كما تقول لمتحول من التجارة إلى الفلاحة: بئس الحرفة الفلاحة بعد التجارة، فكذلك هنا: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، يعني: بئس أن يجعل من فسق غير مؤمن. واختار ابن جرير الوجه الثالث، لا ذهاباً لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن كما أنه غير كافر فهو في منزلة بين المنزلتين، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد. وهنا إشارة إلى معنى معين في الوجه الثالث، وهو أن المعتزلة يذهبون إلى أن الفاسق غير مؤمن ولا كافر، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، مع أنهم يحكمون عليه في الآخرة بالخلود في النار، لكن هذا في الدنيا قريب من مذهب الواقفة الذين يتوقفون في بعض المسائل. فاختيار الإمام ابن جرير للمذهب الثالث ليس موافقة للمعتزلة في ضلالهم ورأيهم، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية الكريمة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ))، فاقتضى الكلام ختم الآية بالوعيد؛ لأن الآية ذكرت هذه المناهي، فإن التلقيب بما يكرهه الناس أمر مذموم، يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وقدم على معصيتنا بعد إيمانه فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن بالألقاب فهو فاسق: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقاً. ثم ضعف الإمام ابن جرير الوجه الثاني قال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه أو بقبيح ركوبه ما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عما كان ركب قبل التوبة من القبيح فيختم آخرها بالوعيد. (( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ ))، أي: من نبز أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو سخر منه: (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))، أي: الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.

ولم يقل الله سبحانه وتعالى: لا يسخر قوم من نساء، ولا نساء من قوم، ولم يقل: لا يسخر رجل من امرأة ولا امرأة من رجل؛ للإشعار بأن مجالسة الرجل المرأة الأجنبية مستقبح شرعاً؛ ولأن الإنسان إنما يسخر ممن يجالسه غالباً، والهيئة الاجتماعية في المجتمع المسلم مبنية على حظر الاختلاط بين الرجال والنساء. فلا يرد على هذا الأساس احتمال كبير أن تحصل سخرية رجل من امرأة أو امرأة من رجل، وقد رأينا في هذا الزمان كيف أزيل نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء حتى صار الرجل يتعامل مع المرأة، والمرأة تتعامل مع الرجل كأنه أخوها أو أبوها بلا حواجز ولا حدود ولا حياء، كما نرى الموظفات في المكاتب والشوارع وفي الطرقات وفي كل مكان، وربما صرخت المرأة في محل عام مثلاً تتعارك مع الرجل كأنها رجل، وتثبت أمامهم في غاية الجسارة وقلة الحياء.

فلذلك قصر الله سبحانه وتعالى بين الرجال والنساء فقال: (( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ )). فإن مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال، ولا الأوضاع والأطوار التي يدور أمر السخرية عليها غالباً، فأمر السخرية غالباً لا يدور على أمور ظاهرة، وإنما يدور على شكل الإنسان أو على ملابسه أو على هيئته أو على طريقته في الكلام أو على وظيفته وعمله أو غير ذلك، هذا غالباً يكون مناط السخرية في الأمور الظاهرة، وبالذات أمور الدنيا. بين الله سبحانه وتعالى أن مناط الخيرية ليس في الأمور والأشكال الظاهرة التي تدور حولها السخرية غالباً، بل مناط الخيرية إنما هو للأمور الكائنة في القلوب: (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ))، يعني: في القلوب وفي الباطن عند الله. فالذي ينظر إليه الله القلوب والأعمال وليس الصور والأشكال، فالمناط إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله سبحانه وتعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله سبحانه وتعالى، ويستهين بمن عظمه الله عز وجل. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغني للفقير، وآخرون خصوا السخرية بما يحصل على أحد زلة أو هفوة فيسخر به من أجلها. قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: والصواب أن يقال: إن الله عم بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض في جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك.