تفسير سورة الحجرات [1-5]


الحلقة مفرغة

نشرع في تفسير سورة الحجرات: لما نوه الله سبحانه وتعالى في سورة القتال بذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصرح في ابتدائها باسمه الشريف، وسمى السورة به، وملأ سورة الفتح بتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وختمها باسمه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، عليه الصلاة والسلام، ومدح أتباعه لأجله، افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل؛ للعد من حزبه، والفوز بقربه، ومدار ذلك على معاني الأخلاق. وهذه السورة تسمى سورة الآداب، وتسمى سورة الحجرات. يقول المهايمي : سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام، وهو من أعظم مقاصد القرآن. فمن لم يعظم الرسول عليه الصلاة والسلام أقصى التعظيم، ويحترمه غاية الاحترام، فإنه لا يستحق أن يعد من بني البشر أو أن ينسب إلى الإنسان العاقل كما سيأتي ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.

وهذه السورة سورة مدنية بإجماع المفسرين، وآيها ثماني عشرة، وقيل: هي مدنية إلا آية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، ولعل من استثنى هذه الآية استند إلى قول عبد الله بن مسعود : ما كان فيه (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) فإنه نزل بالمدينة، وما كان فيه (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ )) فإنه نزل بمكة. وفي الحقيقة هذا ليس بمطرد. يعني: أن عبد الله بن مسعود إن كان صح هذا عنه فلابد أنه كان يستثني؛ لأن هذه القاعدة ليست مطردة، لكن حقيقة الأمر أن السور المكية يغلب عليها النداء بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كما في سورة يونس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس:23]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس:104]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس:108]، هذا في يونس، وفي سورة لقمان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ [لقمان:33]. كذلك السور المدنية يغلب عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، لأن غالب الخطاب كان موجهاً إلى المؤمنين بالفعل في مجتمع المدينة، فيغلب على السور المدنية الخطاب: بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما في سورة البقرة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا [البقرة:104]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153]، وسورة البقرة مدنية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]. إذاً: الغالب أن السور المكية يغلب فيها النداء: بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، والسور المدنية يغلب فيها النداء بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن لا توجد آية مكية فيها صيغة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن يوجد سور مدنية وفيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، كآيات سورة الحجرات هذه في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى )) وفي سورة البقرة وهي سورة مدنية قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21]، وفيها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]. وفي سورة النساء قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:170] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النساء:174]. كذلك سورة الحج سورة مدنية وفيها قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الحج:5]. وما ذهب إليه البعض من استثناء هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ.. [الحجرات:13] إلى آخره اعتماد على النداء: بـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في أن هذه الآية بالذات في السورة تعتبر مكية، فهذا قول غير صحيح.

انفردت هذه السورة بآداب جليلة أدب الله سبحانه وتعالى بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من التوقير والتبجيل، قال بعض العلماء: كانت العرب في جفاء وسوء أدب عند خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فالسورة فيها الأمر بمكارم الأخلاق، ورعاية الآداب. ولما كان إيمانهم إيماناً علياً عظيماً طولبوا بآداب تتناسب مع هذا الإيمان العالي، وإن اغتفر بعضه لغيرهم ممن ليس في درجتهم، يعني: قد يتسامح في ترك بعض هذه الآداب ممن هو دونهم في المرتبة والإيمان؛ لأنه ليس في درجة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكأنه قد قيل لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل كما في الآيات الأخيرة في سورة الفتح، وبداية هذه السور متناسقة مع خاتمة الفتح ففيها بيان أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد مدحهم الله في كتابه، ونصت الكتب السابقة على الفضل والثناء؛ وبسبب استماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وبسبب معيتهم له عليه الصلاة والسلام كما في قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.. [الفتح:29]، فهذا ثناء الله عليهم قبل أن يخلقوا في التوراة، كذلك قال تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [الفتح:29] إلى آخر السورة الكريمة، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل، فإنه درجة لم ينلها غيركم من الأمم، فقابلوا هذا التشريف وهذا التعظيم بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب، أو سوء خطب في الجواب، وصادقوا بين ظواهركم وبواطنكم، وليكن علنكم منبئاً بسليم سرائركم.

يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: أي: لا تقولوا خلاف السنة.

تفسير ابن جرير لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

وقال ابن جرير : أي: يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم! لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، محكي عن العرب فلان يقدم بين يدي الإمام.. بمعنى: يعجل الأمر والنهي دونه. و(تقدموا) إما متعد حذف مفعوله لأنه أريد به العموم، أي: ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم فيه كل مذهب، والمعنى: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله. أو أنه فعل متعد لكن نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع، فأنت تريد أن تصفه بأنه يعطي ويمنع فقط، ولا تريد أن تعين ما تنتقد يعطي وما يمنع. وفي هذه الجملة تجوزان: أحدهما: في قوله: ((بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) فإن حقيقته ما بين العضوين (اليدين) فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة ، وقال ابن كثير إنه جيد. لكنه في الحقيقة حديث منكر، فهو ضعيف ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما حقق ذلك كثير من الأئمة، لكن الشاهد هنا بفرض صحته أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا) بضم التاء هذه قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها، وقد حكي عن العرب: قدمت في كذا وتقدمت في كذا.

تفسير القرطبي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية أيضاً: قوله تعالى: (( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، أصل في ترك الاعتراض على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لإنسان أن يعترض أو يضع رأيه في طريق السنة أبداً، كما قال سفيان : دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي. فهذه الآية أصل أصيل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها لـحفصة : قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف -يعني: سريع البكاء والحزن لرقة قلبه- وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، فقال صلى الله عليه وسلم: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس). الخطاب هنا (إنكن) في صيغة جمع، لكن المراد به عائشة فقط، قال القرطبي رحمه الله تعالى: والمقصود من قوله: (إنكن لأنتن صواحب يوسف)، أي: مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن الصديق لكونه لا يسمع المؤمنين القراءة من بكائه؛ لكن مرادها أمر زائد على ذلك في الحقيقة، وهو ألا يتشاءم الناس به، ولذا قالت: (خشيت لو أن أبا بكر خلف الرسول عليه السلام في الإمامة فإنه سوف يتشاءم الناس أنه أول رجل حل محل الرسول عليه السلام في الصلاة) فأرادت أن تصرف عنه هذه الإمامة. وهذا مثل زليخا امرأة العزيز استدعت النسوة، وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة قال تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:30] * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا)[يوسف:31] ففي الظاهر أنها دعتهن لأجل الإكرام والضيافة، لكن غرضها في الحقيقة خلاف ما أظهرته، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه السلام، ويعذرنها في محبته، فهذا هو وجه الشبه في إظهار خلاف ما يبطن، فعبر بالجمع في قوله: (إنكن) والمراد: عائشة فقط، كذلك أيضاً: (صواحب يوسف) جمع لكن المقصود به زليخا امرأة العزيز. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]. قوله: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))، أي: في التقديم أو في مخالفة الحكم، والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق العار بك، فتنهاه أولاً عن عين ما قارفه، ثم تعم وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه لم يرتكب تلك الفعلة، وكل ما يكون في طريقها ويتعلق بسببها. ((إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) أي: فحقيق أن يتقى ويراقب.

لا دليل لأهل الظاهر في نفي القياس بالآية

وفي الإكليل: قال الكيا الهراسي : قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية يدل على النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه، ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء، وربما احتج بها نفاة القياس، وهو باطل منهم. يعني: هذه الآية يحتج بها الظاهرية الذين ينكرون القياس كأصل من أصول الشريعة؛ لأن الله قال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، ولم يترك دليلاً آخر خلاف الكتاب والسنة، فهذا باطل من هؤلاء القوم، فإن القياس قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يدي الكتاب والسنة؛ إذ قد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس هذا تقدماً بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير الشنقيطي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((لا تُقَدِّمُوا)) فيه لعلماء التفسير ثلاثة أوجه: الوجه الأول منها وهو أصحها: أنه مضارع (قدم) اللازمة بمعنى: (تقدم) كما تقول: وجه وتوجه، وبين وتبين، ومنه مقدمة الجيش وهي خلاف ساقته، ومقدمة الكتاب، و(مقدمة) اسم فاعل قدم بمعنى: تقدم، والعرب تقول: لا تقدم بين يدي الأبي، يعني: لا تعجل بالأمر والنهي دونه، ويدل على هذا الوجه قراءة يعقوب من الثلاثة الذين هم تمام العشرة: (لا تَقَدَّموا) وأصلها لا تتقدموا بحذف إحدى التاءين، هذا هو أصح الوجوه. الوجه الثاني: أنه مضارع (قدم) المتعدي، والمفعول محذوف لإرادة التعميم، أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله، بل أمسكوا عن ذلك حتى تصدروا فيه عن أمر الله ورسوله. الوجه الثالث: أنه مضارع (قدم) المتعدية، ولكنها أجريت مجرى اللازم،وقطع النظر عن وقوعه على مفعولها؛ لأن المراد هو أصل الفعل دون وقوعه على مفعوله كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ونظير ذلك في القرآن الكريم قوله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [غافر:68]، (يحيي) فعل فهو متعد، يحيى الموتى أو يحيى البشر وهكذا، لكن لما كان المقصود في هذه الآية إثبات اختصاص الله سبحانه وتعالى بالإحياء والإماتة، ولا يراد في ذلك وقوعهما على مفعول، فيقطع النظر عن المفعول. وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، (يعلم) فعل متعد، أي: يعلم الفقه ويعلم التفسير ويعلم الطب، لكن لما أريد مجرد وصف القوم بالعلم، وأنهم لا يستوون مع غير المتصفين بالعلم أجري الفعل المتعدي مجرى اللازم، كذلك (لا تُقَدِّمُوا) يعني: لا تكونوا من المتصفين بالتقديم بقطع النظر عن وقوعه على مفعوله.

وقال ابن جرير : أي: يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم! لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، محكي عن العرب فلان يقدم بين يدي الإمام.. بمعنى: يعجل الأمر والنهي دونه. و(تقدموا) إما متعد حذف مفعوله لأنه أريد به العموم، أي: ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم فيه كل مذهب، والمعنى: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله. أو أنه فعل متعد لكن نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع، فأنت تريد أن تصفه بأنه يعطي ويمنع فقط، ولا تريد أن تعين ما تنتقد يعطي وما يمنع. وفي هذه الجملة تجوزان: أحدهما: في قوله: ((بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) فإن حقيقته ما بين العضوين (اليدين) فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة ، وقال ابن كثير إنه جيد. لكنه في الحقيقة حديث منكر، فهو ضعيف ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما حقق ذلك كثير من الأئمة، لكن الشاهد هنا بفرض صحته أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا) بضم التاء هذه قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها، وقد حكي عن العرب: قدمت في كذا وتقدمت في كذا.

يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية أيضاً: قوله تعالى: (( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، أصل في ترك الاعتراض على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لإنسان أن يعترض أو يضع رأيه في طريق السنة أبداً، كما قال سفيان : دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي. فهذه الآية أصل أصيل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها لـحفصة : قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف -يعني: سريع البكاء والحزن لرقة قلبه- وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، فقال صلى الله عليه وسلم: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس). الخطاب هنا (إنكن) في صيغة جمع، لكن المراد به عائشة فقط، قال القرطبي رحمه الله تعالى: والمقصود من قوله: (إنكن لأنتن صواحب يوسف)، أي: مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن الصديق لكونه لا يسمع المؤمنين القراءة من بكائه؛ لكن مرادها أمر زائد على ذلك في الحقيقة، وهو ألا يتشاءم الناس به، ولذا قالت: (خشيت لو أن أبا بكر خلف الرسول عليه السلام في الإمامة فإنه سوف يتشاءم الناس أنه أول رجل حل محل الرسول عليه السلام في الصلاة) فأرادت أن تصرف عنه هذه الإمامة. وهذا مثل زليخا امرأة العزيز استدعت النسوة، وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة قال تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:30] * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا)[يوسف:31] ففي الظاهر أنها دعتهن لأجل الإكرام والضيافة، لكن غرضها في الحقيقة خلاف ما أظهرته، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه السلام، ويعذرنها في محبته، فهذا هو وجه الشبه في إظهار خلاف ما يبطن، فعبر بالجمع في قوله: (إنكن) والمراد: عائشة فقط، كذلك أيضاً: (صواحب يوسف) جمع لكن المقصود به زليخا امرأة العزيز. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]. قوله: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))، أي: في التقديم أو في مخالفة الحكم، والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق العار بك، فتنهاه أولاً عن عين ما قارفه، ثم تعم وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه لم يرتكب تلك الفعلة، وكل ما يكون في طريقها ويتعلق بسببها. ((إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) أي: فحقيق أن يتقى ويراقب.

وفي الإكليل: قال الكيا الهراسي : قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية يدل على النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه، ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء، وربما احتج بها نفاة القياس، وهو باطل منهم. يعني: هذه الآية يحتج بها الظاهرية الذين ينكرون القياس كأصل من أصول الشريعة؛ لأن الله قال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، ولم يترك دليلاً آخر خلاف الكتاب والسنة، فهذا باطل من هؤلاء القوم، فإن القياس قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يدي الكتاب والسنة؛ إذ قد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس هذا تقدماً بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((لا تُقَدِّمُوا)) فيه لعلماء التفسير ثلاثة أوجه: الوجه الأول منها وهو أصحها: أنه مضارع (قدم) اللازمة بمعنى: (تقدم) كما تقول: وجه وتوجه، وبين وتبين، ومنه مقدمة الجيش وهي خلاف ساقته، ومقدمة الكتاب، و(مقدمة) اسم فاعل قدم بمعنى: تقدم، والعرب تقول: لا تقدم بين يدي الأبي، يعني: لا تعجل بالأمر والنهي دونه، ويدل على هذا الوجه قراءة يعقوب من الثلاثة الذين هم تمام العشرة: (لا تَقَدَّموا) وأصلها لا تتقدموا بحذف إحدى التاءين، هذا هو أصح الوجوه. الوجه الثاني: أنه مضارع (قدم) المتعدي، والمفعول محذوف لإرادة التعميم، أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله، بل أمسكوا عن ذلك حتى تصدروا فيه عن أمر الله ورسوله. الوجه الثالث: أنه مضارع (قدم) المتعدية، ولكنها أجريت مجرى اللازم،وقطع النظر عن وقوعه على مفعولها؛ لأن المراد هو أصل الفعل دون وقوعه على مفعوله كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ونظير ذلك في القرآن الكريم قوله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [غافر:68]، (يحيي) فعل فهو متعد، يحيى الموتى أو يحيى البشر وهكذا، لكن لما كان المقصود في هذه الآية إثبات اختصاص الله سبحانه وتعالى بالإحياء والإماتة، ولا يراد في ذلك وقوعهما على مفعول، فيقطع النظر عن المفعول. وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، (يعلم) فعل متعد، أي: يعلم الفقه ويعلم التفسير ويعلم الطب، لكن لما أريد مجرد وصف القوم بالعلم، وأنهم لا يستوون مع غير المتصفين بالعلم أجري الفعل المتعدي مجرى اللازم، كذلك (لا تُقَدِّمُوا) يعني: لا تكونوا من المتصفين بالتقديم بقطع النظر عن وقوعه على مفعوله.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع