تفسير سورة الفتح [25-29]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25]. قوله تعالى: ((هم الذين كفروا)) إشارة إلى أن كف الله الأيدي عنهم لم يكن لأمر فيهم؛ لأنهم كفروا وصدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وهذا يقتضي قتالهم، فلا يقع ظن لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهم اختلاف أو اصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع، فالاختلاف باق مع كف أيدي الفريقين بعضهم عن بعض، فهم ما زالوا كافرين، فالاختلاف باق، والنزاع مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا الهدي فازدادوا كفراً وعداوة، والسبب والعلة في الكف ليس لأنهم زال عنهم وصف الكفر، ولكن لعلة أخرى وهي: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) هذه كانت حكمة الكف، كف الله الفريقين عن القتال؛ كي لا يقتل المؤمنون الذين يخفون إيمانهم بمكة إذا أخرجوا معهم مضطرين، فهذه هي العلة، وليست العلة زوال وصف الكفر عنهم، بل الاختلاف بينكم وبينهم باق، وهم يستحقون أن يقاتلوا وأن يؤدبوا، ولكن سبب الكف هو ما ذكره الله في قوله تبارك وتعالى: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . قوله تعالى: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) أي: موجودون بمكة مع الكفار، ((لم تعلموهم)) يعني: لم تعلموهم بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم. ((أن تطئوهم)) أي: أن تقتلوهم مع الكفار، لو أن الله سبحانه وتعالى قدر لكم أن تقتلوهم في تلك الغزوة -غزوة الحديبية- وتفتحوا مكة؛ لقتل المؤمنون المذكورون. قال بعض المفسرين: ((أن تطئوهم)) يجوز أن تكون بدلاً من رجال ونساء غير معلومين، ويجوز أن يكون بدل المفعول ((لم تعلموهم))، فالتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين، وتقدير الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر محذوف تقديره: ولولا رجال ونساء موجودون أو بالحضرة.

معنى المعرّة

قوله تعالى: ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) أي: معرة إثم وغرامة من عره إذا عراه ما يكرهه، ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) يعني: تطئوهم غير عالمين بهم، والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة؛ لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتلين لهم. ((لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) يعني: لو تميز الكفار عن المؤمنين الذين بين أظهرهم لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً يعني: لسلطناكم عليهم فقتلتموهم قتلاً ذريعاً، وعن جنيد بن سبع قال: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) قال: كنا تسعة نفر: سبعة رجال، وامرأتين. (( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )) يعني: بقتل المؤمنين إياهم. وفسر ابن إسحاق المعرة: بالدية، فتصيبكم منهم معرة يعني: دية، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من الدية، وهو مذهب الشافعي ، وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من الدية، وقال ابن جرير: المعرة: هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين، قال ابن جرير : وإنما اخترت هذا القول دون الذي قاله ابن إسحاق لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية؛ لأن الله تعالى قال: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، ولم يوجب على قاتله خطأً ديته؛ فلذلك قلنا: معنى المعرة في هذا الموضع: الكفارة. (( لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ )): كأنه قال: لكن كفها عنكم ولم يأذن لكم في مقاتلتهم ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وهناك تفسير آخر لقوله: ((ليدخل الله في رحمته من يشاء))، وهو: أن هذه الآية فيمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر شيخ المفسرين ابن جرير أي: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها. ((لو تزيلوا)) أي: لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ((لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) من قتل أو أسر أو نوع آخر من العذاب الآجل. قال الكياالهراسي : في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى بعض المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار تترسوا بهم، وهذا مذهب من يرى أن الترس لا يقتلون، يعني: لو أن الكفار أسروا من المسلمين وتترسوا بهم بما يسمى الآن بالدرع البشري، أخذوا بعض الأسرى من المسلمين ووضعوهم كدرع بشري بحيث إذا ضربهم المسلمون يصيبون المسلمين، وهذا بحث يستحق التفصيل، ولكن نقول باختصار: لا يجوز ذلك إلا إذا كان لمصلحة ضرورية كلية قطعية، وبين ذلك الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية، وفصل الكلام فيما يتعلق بمسألة التترس بالمسلمين.

قوله تعالى: ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) أي: معرة إثم وغرامة من عره إذا عراه ما يكرهه، ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) يعني: تطئوهم غير عالمين بهم، والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة؛ لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتلين لهم. ((لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) يعني: لو تميز الكفار عن المؤمنين الذين بين أظهرهم لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً يعني: لسلطناكم عليهم فقتلتموهم قتلاً ذريعاً، وعن جنيد بن سبع قال: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) قال: كنا تسعة نفر: سبعة رجال، وامرأتين. (( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )) يعني: بقتل المؤمنين إياهم. وفسر ابن إسحاق المعرة: بالدية، فتصيبكم منهم معرة يعني: دية، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من الدية، وهو مذهب الشافعي ، وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من الدية، وقال ابن جرير: المعرة: هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين، قال ابن جرير : وإنما اخترت هذا القول دون الذي قاله ابن إسحاق لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية؛ لأن الله تعالى قال: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، ولم يوجب على قاتله خطأً ديته؛ فلذلك قلنا: معنى المعرة في هذا الموضع: الكفارة. (( لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ )): كأنه قال: لكن كفها عنكم ولم يأذن لكم في مقاتلتهم ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وهناك تفسير آخر لقوله: ((ليدخل الله في رحمته من يشاء))، وهو: أن هذه الآية فيمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر شيخ المفسرين ابن جرير أي: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها. ((لو تزيلوا)) أي: لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ((لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) من قتل أو أسر أو نوع آخر من العذاب الآجل. قال الكياالهراسي : في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى بعض المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار تترسوا بهم، وهذا مذهب من يرى أن الترس لا يقتلون، يعني: لو أن الكفار أسروا من المسلمين وتترسوا بهم بما يسمى الآن بالدرع البشري، أخذوا بعض الأسرى من المسلمين ووضعوهم كدرع بشري بحيث إذا ضربهم المسلمون يصيبون المسلمين، وهذا بحث يستحق التفصيل، ولكن نقول باختصار: لا يجوز ذلك إلا إذا كان لمصلحة ضرورية كلية قطعية، وبين ذلك الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية، وفصل الكلام فيما يتعلق بمسألة التترس بالمسلمين.

قال الله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح:26]. ((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)) وذلك حين جعل سهيل بن عمرو في قلبه الحمية التي جعلته يمتنع من أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، فحمية الجاهلية منعته أن يقر باسم الرحمن سبحانه وتعالى، وأن يكتب فيه أيضاً محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عامه ذلك، والحمية هي: الأنفة والاستكبار. ((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)): هذا عطف على منوي، يعني: ((إذ جعل الذي كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)) فهم المسلمون أن يأبوا ذلك ويقاتلوا، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، فقوله: ((فأنزل الله سكينته)) عطف على شيء مفهوم وإن لم يكن مذكوراً في الآية، لكن نزول السكينة كان لكف المؤمنين عن أن يقاتلوهم لما منعوهم بسبب حمية الجاهلية، وحينما أصروا على أن يكتب: باسمك اللهم، وأن يكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بدلاً من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون هموا أن يأبوا الانقياد لهذه الحمية الجاهلية، وأن يقاتلوا على ذلك ((فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)) يعني: الوقار والتثبت حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم ذكره. ((فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى)) أي: اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها، وهي كلمة التوحيد، ((وكانوا أحق بها)) يعني: متصفين بمزيد استحقاق لها، وكانوا أحق بها من الكفار. وقوله: ((وأهلها)) يعني: كانوا مستأهلين لها، ((وكان الله بكل شيء عليماً)) يعلم حق كل شيء فيسوقه إلى مستحقه.

قال تبارك وتعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27]. قال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله: أي: لقد صدق الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصراً بعضهم رأسه ومحلقاً بعضهم. ثم روى عن مجاهد أنه قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين يعني: الرسول عليه السلام أري هذه الرؤيا وهو في الحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه محلقين، ورؤيا الأنبياء حق، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟! وعن ابن زيد : قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رءوسكم ومقصرين) ولم يقل: ذلك العام، فلما نزل بالحديبية طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياك؟! فهذه الرواية تذكر أن المنافقين هم الذين قالوا: أين رؤياك؟ فقال الله تعالى: ((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ)) يعني: كأن الله سبحانه وتعالى يرد على هؤلاء الذين قالوا: أين رؤياك؟ بهذه الآية: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) يعني: إني لم أر أنكم تدخلونها هذا العام، فهو رأى في المنام أنه وأصحابه يدخلون مكة بالصفة المذكورة في الآية، ولكن لم ينص على السنة التي يدخلون فيها مكة، ولم يقل: إنه يدخلها هذا العام أو في هذه الغزوة غزوة الحديبية. ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا)) الرؤيا: منصوب بنزع الخافض، أي: صدقه في رؤياه، أي: حقق صدقها عنده كما هو عادة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام.

الاستثناء بقول: إن شاء الله

قوله تعالى: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) هذا حال من الرؤيا، أي: متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام، ((لتدخلن)) هذا جواب قسم محذوف، يعني: والله لتدخلن ((المسجد الحرام إن شاء الله آمنين))، إن شاء الله تعليق واستثناء بالمشيئة؛ لتعليم العباد أنهم إذا أرادوا أن يتكلموا عن شيء مما يقع في المستقبل فمن الأدب أنهم يستثنون، فيقول أحدهم: إن شاء الله، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، وسبب نزولها الأسئلة المعروفة التي وجهت للنبي عليه الصلاة والسلام عن الروح والفتية وذي القرنين . وفي حديث يأجوج ومأجوج: (إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم، وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس؛ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله، فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه؛ فيحفرونه ويخرجون على الناس). ويقول الله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18] حلفوا أنهم يصرمون الثمر مصبحين ولا يستثنون أي: ولم يقولوا: إن شاء الله، فعوقبوا بما عوقبوا به. وفي حديث سليمان عليه السلام أنه قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله فلم يقل -يعني: أنه نسي أن يقول: إن شاء الله- فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون).

خطأ بعض الناس في الاستثناء

بعض الناس يسيء استعمال أدب الاستثناء أو يخطئ فيه، مثلاً يسأل عن شيء هو حقيقة مثل: ما اسمك؟ فيقول: إن شاء الله أخوك فلان! وهذا ليس موضعه. وبعض الناس يستعملونها كشماعة يعلقون عليها التعريض والمراوغة في الكلام، والمعنى الصحيح للاستثناء هو تعليق الأمور المستقبلة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، فبعض الناس يستعملونها في المراوغة والتعريض واللف والدوران في الكلام كالثعالب، ويعلق ذلك بكلمة: إن شاء الله، وما ينوي بها إلا خداع من يكلمه. ينبغي استعمال الاستثناء في الموضع اللائق به، فإذا قيل مثلاً: أين ذهبت بالأمس؟ لا تقل: إن شاء الله ذهبت إلى المكان الفلاني، فهذا فعل ماض وقع، فليس للاستثناء هنا موضع، والله جل وعلا ذكر الاستثناء هنا: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، مع أنه تعالى قال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ [الفتح:27]، تأكيداً لما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال: (إن شاء الله)، فهذا تعليم من الله سبحانه وتعالى، فإنه أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبر أنه صدقه في هذه الرؤيا، وأقسم أنهم لابد داخلون في المستقبل؛ ومع ذلك يقول الله تعالى: (إن شاء الله)، وإذا كان الله قال ذلك فنحن أولى أن نتعلم هذا الأدب، وأن نعلق العمل بالمشيئة. أيضاً قال: (إن شاء الله) للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، ربما بعضهم يكون قد مات حينما يأتي موعد تحقيق هذا الوعد، أو يتخلف لعذر من الأعذار أو غير ذلك، فليس كل المؤمنين الحاضرين في الحديبية سوف يدخلون. إذاً: إما إنها لتعليم العباد، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: لتدخلنه من شاء الله دخوله منكم، أو أنه حكاية لما قاله له الملك الذي أراه الرؤيا في المنام، فقال له نفس العبارة: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) أو حكاية لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ لأنهم لما يكونوا قد دخلوا بعد، فلما حكى لهم الرؤيا قال لهم: إن شاء الله.

معنى قوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين)

قوله تعالى: (محلقين): حال مقدرة؛ لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، يعني: هل يحلقون ويقصرون وقت دخولهم مكة أم يدخلون محرمين؟ يدخلون محرمين، (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين) فمحلقين حال مقدرة؛ لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، وفي الكلام نسبة ما للجزء إلى الكل: (محلقين رءوسكم ومقصرين) يعني: محلقاً بعضكم ومقصراً بعضكم، والقرينة عليه: أن الحلق والتقصير لا يجتمعان، فالمحرم إما أن يحلق وإما أن يقصر، ولا يجتمعان؛ فلذلك لابد من نسبة كل منهما لبعض منهم، فالبعض يحلق والبعض يقصر، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: والمقصرين!).

معاني المسجد الحرام

المسجد الحرام يطلق في القرآن الكريم ويراد به أربعة معان: الأول: الكعبة المشرفة كما قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:149] يعني: جهة الكعبة المشرفة، وقال تبارك وتعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:97]. الثاني: يطلق المسجد الحرام على المسجد كله، يقول صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). الثالث: يطلق المسجد الحرام على مكة المكرمة كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وكان الإسراء من بيت أم هانئ من مكة وليس من المسجد نفسه. الرابع: يطلق المسجد الحرام على الحرم كله، يعني: مكة وما حولها من الحرم؛ لأن حدود الحرم أوسع من حدود مدينة مكة، وحدود الحرم تبدأ من العلامات المنصوبة التي تفصل بين الحل والحرم، فالمسجد الحرام قد يطلق على الحرم كله، يعني: مكة وما حولها من حدود الحرم، والدليل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] والمراد منعهم من دخول الحرم نفسه.

الحلق أفضل من التقصير في النسك

أخر النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء للمقصرين، وكرر الدعاء ثلاثاً للمحلقين، وهذا يدل على أن التقصير مفضول لكنه يجزئ بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تبارك وتعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] فهذا يدل على أنه يجزئ التحلل بمجرد التقصير. وقد روى الشيخان وغيرهما التقصير عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فمن الخطأ أن بعض الإخوة ينظر بنظرة الازدراء أو الاحتقار لمن يحج أو يعتمر ثم يقصر شعر رأسه، مع أن هذا ليس منكراً، نعم بلا شك أن الحلق أفضل، ولكن التقصير يجزئ، وبعض الناس لسبب أو لآخر لا يحلق عند التحلل، فلا ينبغي أبداً لمن يحلق أن ينظر إلى أخيه الذي يقصر على أنه مقصر، مقصر شعره ومقصر في طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا ينظر إليه نظرة ازدراء. وأيضاً بعض الأخوات تزدري من تلبس جلباباً أو حجاباً يستوفي شروط الحجاب الشرعي لكنه بغير اللون الأسود، ومن قال: إننا نتعبد بالألوان؟ والتعبد بالألوان شيء من بدع الأخوات، وقد يقلن: هذه التزامها فيه ضعف؛ لأنها تلبس حجاباً بغير اللون الأسود! هذا من تنطع بعض الأخوات، وهذا من عندهن وليس من الشرع.

ليس على النساء حلق

قولنا: الحلق أفضل من التقصير، هذا خاص بالرجال، أما النساء فليس عليهن حلق، وإنما عليهن التقصير فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير)، يعني تجمع شعرها كله ثم تقص منه قدر الأنملة.

حكم حلق الشعر في غير النسك

ما حكم حلق شعر الرأس في غير النسك؟ حلق الرأس في الحج والعمرة مما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحلق الرأس لحاجة مثل التداوي جائز، فيجوز أن يحلق الإنسان رأسه للتداوي من بعض الأمراض الجلدية أو من بعض الحشرات كالقمل مثلاً، وهذه الأشياء قد تعالج بأن يزيل شعر رأسه تماماً، فهذا جائز للحاجة. أما حلق شعر الرأس على وجه التعبد والتدين والزهد فهذا بدعة لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. إذً: يحلق الإنسان رأسه في الحج والعمرة، وهذا مما أمر به الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويحلق رأسه للحاجة كالتداوي، وهذا جائز، أما أن يحلق رأسه في غير النسك لغير حاجة، يعني: من غير حج ولا عمرة ولا مرض فهذا فيه قولان: الأول: أنه مكروه، وهو مذهب مالك وغيره؛ لأنه شعار أهل البدعة من الخوارج الذين كانوا يحلقون رءوسهم. الثاني: أنه مباح، وهو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة والشافعي ، فله أن يحلقه بلا تعبد في الحج والعمرة، ولا لحاجة كمرض، فلا بأس أن يحلق، لكن لو نوى به التعبد فهذا بدعة لم يأمر الله سبحانه وتعالى بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست واجبة ولا مستحبة عند أحد من الفقهاء؛ لأن التعبد بحلق الرأس من سيما الخوارج، وهذه علامة من خصائص الخوارج كما في الحديث: (سيماهم التحليق).

معنى قوله تعالى: (لا تخافون)

يقول القاسمي رحمه الله تبارك وتعالى: قوله تعالى: آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] لا تخافون: هذه حال مؤكدة لقوله: آمنين، أي: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين لا تخافون، فهذه حال مؤكدة لقوله تعالى: (آمنين)، أو مؤكدة لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، آمنين يعني: في الحال، لا تخافون يعني: في المستقبل، فيكون قد أثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.

خبر عمرة القضاء

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سماك بن خرشة كما هو مقرر في موضعه، ثم رجع إلى المدينة فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار وأصحابه يلبون، فلما كان قريباً من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم -وهي العلامات التي توضع تحدد حدود للحرم- بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟!) قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح، فقال صلى الله عليه وسلم: (لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج) فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرج رءوس الكفار من مكة -أي: من شدة الحقد والغيظ خرجوا من مكة- لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول : باسم الذي لا دين إلا دينه باسم الذي محمد رسوله خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله بأن خير القتل في سبيله يا رب إني مؤمن بقيله وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول: ما يتباعثون من العجف -أي: من الهزال والضعف الذي نزل بهم- فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، فأصبحنا غداً حين ندخل على القوم وبنا جمامة -يعني: نتقوى بها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم)، فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحِجْر، فاضطبع رسول صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال: (لا يرى القوم فيكم غميزة)، فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي، أما إنهم لينقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط؛ فكانت سنة، والمقصود بذلك الرمل، وقد كان المشركون جلسوا في الجهة الشمالية التي تقابل الحِجْر يراقبون الصحابة وهم يطوفون، فالصحابة رملوا الثلاثة الأشواط الأولى؛ ليظهروا الجلد والقوة لئلا يشمت بهم الكفار، وقد كان الصحابة متعبين، فكانوا يرملون في الجهات الثلاث، ثم في الجهة الرابعة التي هي الجهة اليمانية، كانوا يستترون بالكعبة، فمن ثم كانوا بين الركنين يمشون ليستريحوا من هذه الهرولة، حتى لا يشمت بهم المشركون، فصارت سنة بعد ذلك، فهذا هو سبب هذه السنة، وهذا مثل سبب مشروعية السعي حينما سعت هاجر . وروى الإمام أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب -أي: أضعفتهم- ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحِجْر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون). وفي رواية: (ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) يعني: كانوا يمشون في المنطقة اليمانية؛ لأنه لو أمرهم أن يرملوا الأشواط كلها لكان في ذلك مشقة شديدة عليهم، ولم يستطيعوا أن يكملوا، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

معنى قوله تعالى: (فعلم ما لم تعلموا)

قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أي: من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم عليها عامكم ذلك، يعني: علم ما لم تعلموا حينما تم صلح الحديبية، ثم قدر وقضى أن تعودوا، وذلك لما علمه الله من الخير الكثير في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها في عامكم ذلك. قال ابن جرير: (فعلم ما لم تعلموا) وذلك علمه تعالى ذكره بما في مكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك، وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه.

معنى قوله تعالى: (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً)

قوله تعالى: ((فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)): فجعل من دون ذلك -يعني: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم- فتحاً قريباً، وهو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش. أو (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً) وهو فتح خيبر، (من دون ذلك) يعني: قبل تحقق الرؤيا، ففتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود، وإلى الأول ذهب الزهري فقال: يعني صلح الحديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، أمن الناس بعضهم بعضاً، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد من الناس يعقل شيئاً إلا دخل فيه، فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر، ووافقه مجاهد ، وقال ابن جرير : والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما -يعني: فتح خيبر وأيضاً صلح الحديبية- ما ترتب عليه من الخيرات العظيمة.

قوله تعالى: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) هذا حال من الرؤيا، أي: متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام، ((لتدخلن)) هذا جواب قسم محذوف، يعني: والله لتدخلن ((المسجد الحرام إن شاء الله آمنين))، إن شاء الله تعليق واستثناء بالمشيئة؛ لتعليم العباد أنهم إذا أرادوا أن يتكلموا عن شيء مما يقع في المستقبل فمن الأدب أنهم يستثنون، فيقول أحدهم: إن شاء الله، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، وسبب نزولها الأسئلة المعروفة التي وجهت للنبي عليه الصلاة والسلام عن الروح والفتية وذي القرنين . وفي حديث يأجوج ومأجوج: (إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم، وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس؛ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله، فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه؛ فيحفرونه ويخرجون على الناس). ويقول الله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18] حلفوا أنهم يصرمون الثمر مصبحين ولا يستثنون أي: ولم يقولوا: إن شاء الله، فعوقبوا بما عوقبوا به. وفي حديث سليمان عليه السلام أنه قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله فلم يقل -يعني: أنه نسي أن يقول: إن شاء الله- فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون).