تفسير سورة الدخان


الحلقة مفرغة

سورة الدخان سورة مكية، وآيها تسع وخمسون، وقد روي مرفوعاً: (من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك) وهذا الحديث منكر لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1-2] تقدم الكلام مراراً في الحروف المقطعة في أوائل السور. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ يعني: ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم، وكانت في رمضان، كما قال سبحانه وتعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]. إذاً: وصف هذه الليلة بأنها أنزل فيها القرآن يفسره قوله عز وجل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، ووصف الليلة بأنها مباركة أيضاً يفسره قوله تبارك وتعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3]، ولا شك أن كونها خيراً من ألف شهر مظهر من مظاهر هذه البركة، كما أن إنزال القرآن فيها مظهر أيضاً من مظاهر كونها ليلة مباركة. قال ابن كثير : ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد النجعة؛ فإن نص القرآن أنها في رمضان، وما روي من الآثار في فضل ليلة النصف من شعبان لا تثبت، فهي ما بين مرسل وضعيف، وعلى فرض صحتها فهي لا تفيد أن القرآن نزل فيها، والبركة اليُمن، ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين، وذلك بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى والنجاة من الضلال والردى. قال القاشاني : ووصفها بالمباركة لظهور الرحمة والبركة والهداية والعدالة في العالم بسببها، وازدياد رتبته صلى الله عليه وسلم وكماله بها، كما سماها ليلة القدر؛ لأن قدره وكماله إنما ظهر بها. قوله: (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) أي: من خالف مقتضى الحكمة وقوة الدلائل، واختار المذام، وتذلل للهوى، ولم يكتف بهداية الله، ولم يقت روحه بقوت معارفه، وذلك لتقوم حجة الله على عباده.

قال الله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] أي: يفصل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة على وجه متين محمود عند الكمل، تقتات به أرواحهم، وترحم به نفوسهم. وهذه الآية تدل على نوع من أنواع القدر وهو التقدير الحولي؛ لأن ليلة القدر تأتي في الحول مرة في شهر رمضان، حيث يكتب في ليلة القدر موافقاً لما سبق به القضاء في اللوح المحفوظ ما يحصل من هذه السنة إلى السنة التي تليها؛ فإن هناك تقديراً عاماً قبل خلق السماوات والأرض، وهناك تقديراً يومياً ويدل عليه قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] وهذه التقادير لا تتناقض ولا تتعارض؛ لأنها كلها تكون متوافقة مع ما سبق به القدر في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:5] نصب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، فبعدما فخّم الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]، ووصفه بقوله: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:2]، فهذا بيان لفخامة القرآن الذاتية من حيث كونه كلام الله سبحانه وتعالى، ومن حيث كونه كتاباً مبيناً؛ أتبع ذلك ببيان فخامته الإضافية إلى الله. إذاً: قوله عز وجل: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان:6] أي: مرسلين إلى الناس رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ رحمة منه تعالى بهم لمسيس الحاجة إليه، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان:6] السميع لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها، (العليم) أي: بمقادير قابلياتها، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال.

قال الله تعالى: رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الدخان:7]. قوله: (إن كنتم موقنين) أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدون اليقين، وليس معنى: (إن كنتم موقنين) يعني: إن كنتم متصفين باليقين؛ لأن الخطاب هنا يعم أيضاً الكافرين، فيقول أبو مسلم : (إن كنتم موقنين) أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا، كقولهم: فلان منجد مسهم أي: يريد نجداً وسهاماً. انتهى. وقيل: معناه: (إن كنتم موقنين) بما تقرون به من أنه رب الجميع وخالقهم، وذلك بتوحيد الربوبية؛ فينبغي ألا تعبدوا إلا الله كما أنكم توقنون أن لا رب إلا الله، ولذلك أتبع الآية التالية بقوله: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:8]. قال عز وجل: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان:9] أي: بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته؛ لأن الإيقان يستلزم قبول البرهان، فإنما يقولون هذا القول وهذا الإقرار على سبيل مزجه باللعب.

قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:10-12]. قوله: (فارتقب) أي: انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه. يقول القاسمي : وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه:

الوجه الأول في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)

قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، يعني السبع العجاف التي قاد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام الحركة الاقتصادية في مصر وأخرجهم من الأزمة، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام أن يعاقبوا بسنين جدب وقحط كسني يوسف عليه السلام، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام على قريش فأخذوا بالمجاعة. ما علاقة ذلك الجدب بالدخان؟ قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان. كأن هذا عرض نفسي، كما يعبر في الأمراض النفسية بالهلوسة البصرية، وهو خلل في إدراك الأشياء، فيرى شيئاً معيناً نتيجة خلل أو اضطراب، وبعض الأدوية قد تحصل بها تلك الهلوسة للإنسان إذا استيقظ من النوم. روى ابن جرير عن مسروق قال: (كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن ! إن قاصاً عند أبواب كندة يقص، ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بنفوس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله! فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؟ فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ))[ص:86] إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من قريش إدباراً عن دعوته ورفضاً، قال: اللهم سبعاً كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حطت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، قال الله عز وجل: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ )) * (( يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) * (( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ )) * (( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ )) * (( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ )) * (( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ))[الدخان:10-15] قال: فكشف عنهم). والحقيقة أن هذه الآية من الآيات التي اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها اختلافاً مشهوراً، ولذلك يهتم بها علماء التفسير اهتماماً خاصاً، فيفصلون الكلام فيها ويطيلون النفس، فهذا ابن مسعود يجزم بأن آية الدخان قد مضت في هذه المناسبة التي ذكرنا، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. إذاً: ابن مسعود كان يقطع بأن آية الدخان قد مضت، وهي الدخان الذي كان يراه أحدهم من شدة الجوع كأنه في السماء. قال ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما. ثم قال: وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى جماعة من السلف كـمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود : (ثم عادوا) وفي الآية: (إنكم عائدون). يعني: حينما يستجيب الله لدعاء نبيه فيكشف عنكم هذا العذاب سوف تعودون إلى الكفر من جديد، ولا توفون بما وعدتم به من الإيمان والطاعة. يقول: ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب حاضراً ذلك، فلذلك قال أبو طالب : وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت في المدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل جداً، والله المستعان. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: أحدهما: أن في سنة القحط يعظم اليبس بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان، ولذلك يقال لسنة المجاعة: الغبراء. ثانيهما: أن العرب يسمون الشر الغالب الكثير بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، يعني: حصل بسببه شر كثير أو شر غالب، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. وقال الشهاب : الظاهر أن هذه التسمية استعارة؛ لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذ يشبهه أو على ما يلزمه الدخان؛ ولـذا قـيل: تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان لا بد أن تكون هناك صفات غير مرغوبة في الإنسان، كالعود لا يفوح منه الريح الطيب إلا مع خروج الدخان فيه. يعني: أنه لا يوجد إنسان معصوم يسلم من الشر قط إلا الأنبياء. إذاً: هذا ما يتعلق بالوجه الأول في تفسير الآية على ما قاله وانتصر له وجزم به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو: أن الدخان آية حصلت ومضت وانقضت.

الوجه الثاني في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)

الوجه الثاني في الآية: أن هذا الدخان المذكور في قوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد وهو آت، وهذا قول حذيفة رضي الله تعالى عنه، ويروى عن علي وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي : واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الوجه الأول: أن قوله: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ )) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، فقوله: (يوم تأتي السماء بدخان) نص واضح وصريح على أن السماء نفسها سوف تأتي بدخان، ولا شك أن الأصل حمل الآية على الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة تصرفه عنها. إذاً: لفظ هذه الآية: (( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ )) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة للعين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء، فهذا الشيء الذي يراه الجائع من شدة الجوع من ظلمة أو غبراء لا يطلق عليه دخان، ولا ينطبق عليه قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين). (يَغْشَى النَّاسَ) فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل يرجح هذا التأويل، وهذا لا يجوز. الوجه الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً يقول عز وجل: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك؛ لأنها حالة عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً. الوجه الثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس، قال تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز، وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل. الوجه الرابع: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عده الدخان من الآيات المنتظرة، فقد ثبت في الأحاديث أن الدخان من الآيات المنتظرة ومن أشراط الساعة. والقول الأول لا شك أنه يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً. فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى قص عنهم أنهم يقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام الأمر؛ فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى ذلك عنهم رجعوا إلى شركهم؛ ولأننا إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ. نقول: هذا كلام أيضاً فيه نظر، ويجاب عنه: ما المستغرب أنها تكون آية من آيات القيامة ومن أشراط الساعة، وأنهم إذا نزلت بهم يقولون: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) فيقول الله لهم بعدما يصيبهم هذا العذاب أو هذا الدخان: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15] أي: رغم كشفنا عنكم هذا العذاب، فهل هذا فيه أي إشكال؟! ليس فيه أي إشكال، إلا في حالة واحدة وهي لو كانت هذه العلامة مثل: علامة طلوع الشمس من مغربها حيث يغلق باب التوبة ولا يستجاب لهم في مثل ذلك، لكن لم يأت دليل على أن آية الدخان مثل هذه العلامة، فلا إشكال في كون العذاب يقع عليهم كما أخبر الله ويدعون الله قائلين: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) ويقول الله لهم: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون). ثم يقول: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فإن عامة علامات القيامة لا توجب انقطاع التكليف، فخروج المهدي مثلاً لا يوجب انقطاع التكليف على النفس، ونزول المسيح عليه الصلاة والسلام لا يوجب انقطاع التكليف، وغير ذلك من أشراط الساعة التي لا توجب انقطاع التكليف، بل الناس يخافون جداً فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه، والله تعالى أعلم. وقد رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرها التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة. فـابن عباس يخالف قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في مجموعة أخرى من الصحابة والتابعين. إذاً: قول ابن عباس لا شك أنه ظاهر القرآن، وهو أن قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ من علامات الساعة، أي: دخان بين واضح يراه كل أحد، أما على تفسير ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فليس بدخان بيّن حقيقي وإنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، لكن قوله تعالى: يَغْشَى النَّاسَ يعني: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: (يغشى الناس) أي: عامة الناس، أما ما حصل لأهل مكة فكان في الكافرين. قوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: (هذا عذاب أليم)، كقوله عز وجل: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:13-14] أي: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون)، أو يقول بعضهم لبعض: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون). وقوله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12] أي يقول الكافرون ذلك إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، وكذا أيضاً قوله تعالى: وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم:44]، وهكذا هنا حين قالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12] قال لهم الله سبحانه وتعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ [الدخان:13] أي: كيف لهم في التذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان:14] أي: ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون، كقوله جلت عظمته: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23]، وكقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51] إلى آخر سورة سبأ. ثم قال تعالى: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15] هنا معنيان: أحدهما: أنه تعالى يقول: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، وكقوله جلت عظمته: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]. المعنى الثاني: أن يكون المراد بقوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً) أي: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من كشف العذاب عنهم أن يكون العذاب قد نزل بهم بالفعل، وإنما يكون العذاب قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم ثم كشفه الله عنهم وإن لم ينزل بهم، وذلك مثل قوله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، فقوم يونس لم ينزل بهم العذاب ثم كشفه الله عنهم، وإنما كانوا قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى استثناهم من سنته، وإلا فأي أمة استحقت العذاب فلا بد أن يصيبها العذاب. إذاً: قوم يونس لما آمنوا حينما استحقوا العذاب عوملوا معاملة استثنائية، (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، فلم يكن العذاب قد اتصل بهم، وهذا هو الشاهد على أن قوله: (( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ )) لا يستلزم أن يكون العذاب قد باشرهم واتصل بهم، وإنما قد يكون المعنى: أن العذاب قد انعقدت أسبابه بعد أن استحقوه. يقول القاسمي رحمه الله: ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ ي

الوجه الثالث في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)

قال القاسمي : وأما الوجه الثالث في الآية: فروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الرحمن الأعرج في قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال: كان يوم فتح مكة. أي: أن هذا الدخان المبين كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير : وهذا القول غريب جداً، بل منكر. ومثل هذا القول لم يرو مرفوعاً ولا موقوفاً على ابن عباس ترجمان القرآن أو غيره من الصحب، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له وصدقها عليه، لاسيما وأن قوله تعالى في آخر السورة: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] يفهم منه أن هذا وعد بظهوره عليه الصلاة والسلام على هؤلاء الكفار، وكان ذلك بالفعل يوم الفتح، وحينئذ فمعنى قوله تعالى: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ [الدخان:15] أي: ما ينزل بهم يومئذ برفع القتل والأسر عنهم. قوله: (إنكم عائدون) أي: إلى لقاء الله ومجازاته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب عليهم الرضوان اهتماماً في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها، حتى كان ابن مسعود مصراً على وجه، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية، وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار، وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم وإيثاره من الألفاظ أرقها وأوجزها.

قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، يعني السبع العجاف التي قاد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام الحركة الاقتصادية في مصر وأخرجهم من الأزمة، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام أن يعاقبوا بسنين جدب وقحط كسني يوسف عليه السلام، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام على قريش فأخذوا بالمجاعة. ما علاقة ذلك الجدب بالدخان؟ قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان. كأن هذا عرض نفسي، كما يعبر في الأمراض النفسية بالهلوسة البصرية، وهو خلل في إدراك الأشياء، فيرى شيئاً معيناً نتيجة خلل أو اضطراب، وبعض الأدوية قد تحصل بها تلك الهلوسة للإنسان إذا استيقظ من النوم. روى ابن جرير عن مسروق قال: (كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن ! إن قاصاً عند أبواب كندة يقص، ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بنفوس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله! فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؟ فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ))[ص:86] إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من قريش إدباراً عن دعوته ورفضاً، قال: اللهم سبعاً كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حطت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، قال الله عز وجل: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ )) * (( يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) * (( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ )) * (( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ )) * (( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ )) * (( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ))[الدخان:10-15] قال: فكشف عنهم). والحقيقة أن هذه الآية من الآيات التي اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها اختلافاً مشهوراً، ولذلك يهتم بها علماء التفسير اهتماماً خاصاً، فيفصلون الكلام فيها ويطيلون النفس، فهذا ابن مسعود يجزم بأن آية الدخان قد مضت في هذه المناسبة التي ذكرنا، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. إذاً: ابن مسعود كان يقطع بأن آية الدخان قد مضت، وهي الدخان الذي كان يراه أحدهم من شدة الجوع كأنه في السماء. قال ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما. ثم قال: وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى جماعة من السلف كـمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود : (ثم عادوا) وفي الآية: (إنكم عائدون). يعني: حينما يستجيب الله لدعاء نبيه فيكشف عنكم هذا العذاب سوف تعودون إلى الكفر من جديد، ولا توفون بما وعدتم به من الإيمان والطاعة. يقول: ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب حاضراً ذلك، فلذلك قال أبو طالب : وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت في المدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل جداً، والله المستعان. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: أحدهما: أن في سنة القحط يعظم اليبس بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان، ولذلك يقال لسنة المجاعة: الغبراء. ثانيهما: أن العرب يسمون الشر الغالب الكثير بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، يعني: حصل بسببه شر كثير أو شر غالب، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. وقال الشهاب : الظاهر أن هذه التسمية استعارة؛ لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذ يشبهه أو على ما يلزمه الدخان؛ ولـذا قـيل: تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان لا بد أن تكون هناك صفات غير مرغوبة في الإنسان، كالعود لا يفوح منه الريح الطيب إلا مع خروج الدخان فيه. يعني: أنه لا يوجد إنسان معصوم يسلم من الشر قط إلا الأنبياء. إذاً: هذا ما يتعلق بالوجه الأول في تفسير الآية على ما قاله وانتصر له وجزم به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو: أن الدخان آية حصلت ومضت وانقضت.

الوجه الثاني في الآية: أن هذا الدخان المذكور في قوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد وهو آت، وهذا قول حذيفة رضي الله تعالى عنه، ويروى عن علي وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي : واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الوجه الأول: أن قوله: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ )) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، فقوله: (يوم تأتي السماء بدخان) نص واضح وصريح على أن السماء نفسها سوف تأتي بدخان، ولا شك أن الأصل حمل الآية على الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة تصرفه عنها. إذاً: لفظ هذه الآية: (( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ )) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة للعين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء، فهذا الشيء الذي يراه الجائع من شدة الجوع من ظلمة أو غبراء لا يطلق عليه دخان، ولا ينطبق عليه قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين). (يَغْشَى النَّاسَ) فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل يرجح هذا التأويل، وهذا لا يجوز. الوجه الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً يقول عز وجل: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك؛ لأنها حالة عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً. الوجه الثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس، قال تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز، وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل. الوجه الرابع: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عده الدخان من الآيات المنتظرة، فقد ثبت في الأحاديث أن الدخان من الآيات المنتظرة ومن أشراط الساعة. والقول الأول لا شك أنه يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً. فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى قص عنهم أنهم يقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام الأمر؛ فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى ذلك عنهم رجعوا إلى شركهم؛ ولأننا إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ. نقول: هذا كلام أيضاً فيه نظر، ويجاب عنه: ما المستغرب أنها تكون آية من آيات القيامة ومن أشراط الساعة، وأنهم إذا نزلت بهم يقولون: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) فيقول الله لهم بعدما يصيبهم هذا العذاب أو هذا الدخان: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15] أي: رغم كشفنا عنكم هذا العذاب، فهل هذا فيه أي إشكال؟! ليس فيه أي إشكال، إلا في حالة واحدة وهي لو كانت هذه العلامة مثل: علامة طلوع الشمس من مغربها حيث يغلق باب التوبة ولا يستجاب لهم في مثل ذلك، لكن لم يأت دليل على أن آية الدخان مثل هذه العلامة، فلا إشكال في كون العذاب يقع عليهم كما أخبر الله ويدعون الله قائلين: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) ويقول الله لهم: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون). ثم يقول: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فإن عامة علامات القيامة لا توجب انقطاع التكليف، فخروج المهدي مثلاً لا يوجب انقطاع التكليف على النفس، ونزول المسيح عليه الصلاة والسلام لا يوجب انقطاع التكليف، وغير ذلك من أشراط الساعة التي لا توجب انقطاع التكليف، بل الناس يخافون جداً فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه، والله تعالى أعلم. وقد رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرها التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة. فـابن عباس يخالف قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في مجموعة أخرى من الصحابة والتابعين. إذاً: قول ابن عباس لا شك أنه ظاهر القرآن، وهو أن قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ من علامات الساعة، أي: دخان بين واضح يراه كل أحد، أما على تفسير ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فليس بدخان بيّن حقيقي وإنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، لكن قوله تعالى: يَغْشَى النَّاسَ يعني: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: (يغشى الناس) أي: عامة الناس، أما ما حصل لأهل مكة فكان في الكافرين. قوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: (هذا عذاب أليم)، كقوله عز وجل: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:13-14] أي: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون)، أو يقول بعضهم لبعض: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون). وقوله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12] أي يقول الكافرون ذلك إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، وكذا أيضاً قوله تعالى: وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم:44]، وهكذا هنا حين قالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12] قال لهم الله سبحانه وتعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ [الدخان:13] أي: كيف لهم في التذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان:14] أي: ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون، كقوله جلت عظمته: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23]، وكقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51] إلى آخر سورة سبأ. ثم قال تعالى: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15] هنا معنيان: أحدهما: أنه تعالى يقول: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، وكقوله جلت عظمته: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]. المعنى الثاني: أن يكون المراد بقوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً) أي: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من كشف العذاب عنهم أن يكون العذاب قد نزل بهم بالفعل، وإنما يكون العذاب قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم ثم كشفه الله عنهم وإن لم ينزل بهم، وذلك مثل قوله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، فقوم يونس لم ينزل بهم العذاب ثم كشفه الله عنهم، وإنما كانوا قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى استثناهم من سنته، وإلا فأي أمة استحقت العذاب فلا بد أن يصيبها العذاب. إذاً: قوم يونس لما آمنوا حينما استحقوا العذاب عوملوا معاملة استثنائية، (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، فلم يكن العذاب قد اتصل بهم، وهذا هو الشاهد على أن قوله: (( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ )) لا يستلزم أن يكون العذاب قد باشرهم واتصل بهم، وإنما قد يكون المعنى: أن العذاب قد انعقدت أسبابه بعد أن استحقوه. يقول القاسمي رحمه الله: ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ ي

قال القاسمي : وأما الوجه الثالث في الآية: فروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الرحمن الأعرج في قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال: كان يوم فتح مكة. أي: أن هذا الدخان المبين كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير : وهذا القول غريب جداً، بل منكر. ومثل هذا القول لم يرو مرفوعاً ولا موقوفاً على ابن عباس ترجمان القرآن أو غيره من الصحب، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له وصدقها عليه، لاسيما وأن قوله تعالى في آخر السورة: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] يفهم منه أن هذا وعد بظهوره عليه الصلاة والسلام على هؤلاء الكفار، وكان ذلك بالفعل يوم الفتح، وحينئذ فمعنى قوله تعالى: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ [الدخان:15] أي: ما ينزل بهم يومئذ برفع القتل والأسر عنهم. قوله: (إنكم عائدون) أي: إلى لقاء الله ومجازاته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب عليهم الرضوان اهتماماً في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها، حتى كان ابن مسعود مصراً على وجه، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية، وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار، وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم وإيثاره من الألفاظ أرقها وأوجزها.

قال الله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]. قوله: (يوم نبطش البطشة الكبرى) فسرها ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول من وافق ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه من رواية العوفي عنه، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه، وهو محتمل. يقول القاسمي : والظاهر أن ذلك يكون يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال: حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله تعالى أعلم.

قال الله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الدخان:17]. (ولقد فتنا) أي: ابتلينا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وذلك بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان. قوله: (وجاءهم رسول كريم) أي: كريم على الله وكريم على المؤمنين، أو كريم في نفسه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله تعالى: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان:18] أي: قال موسى عليه السلام مخاطباً فرعون وقومه: أرسلوا معي بني إسرائيل. قوله: (عباد الله) يحتمل في إعرابها أن قوله: (عباد الله) منادى حذفت أداة ندائه، أي: يا عباد الله، لكن الأرجح أن قوله: (عباد الله) مفعول به، أي: أرسلوا أو ابذلوا إلي عباد الله، بدليل آية طه: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه:47] فهي تفسر قوله: (أن أدوا إلي عباد الله)، كذلك قوله في الآية الأخرى: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:17]، فهذه تفسر قوله: (أن أدوا إلي عباد الله) أنها مفعول به منصوب، ولفظ الجلالة مضاف إليه. قوله: (أن أدوا إلي عباد الله) أي: أرسلوا معي بني إسرائيل؛ لأسير بهم إلى بلادنا الأولى، وأطلقوهم من أسركم وحبسكم، فإنهم قوم أحرار، وأنتم أذللتموهم واستعبدتموهم، فهم رفضوا هذه الديار وكرهوا هذا الضيم وهذا الذل، فأطلقوهم من هذا الحبس وهذا الظلم. قوله: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي: على وحيه ورسالته التي حملنيها إليكم؛ لأنذركم بأسه إن عصيتم. قوله تعالى: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ [الدخان:19] أي: لا تعلوا على الله بإنكار ربوبيته، ودعوى الربوبية لأنفسكم وتكذيب رسوله. قوله: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: حجة واضحة على ربوبية الله ونبذ ربوبيتكم، وعلى رسالتي، وعلى أن بني إسرائيل عباده. قوله تعالى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان:20] أي: اعتصمت به من رجمكم -يعني: القتل-، فعصمني فلا ينالني منكم مكروه. وهكذا قوة التوكل على الله سبحانه وتعالى، كما في مواقف أخرى لموسى عليه السلام حينما أتى مع قومه البحر وطاردتهم جيوش فرعون، قال قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62] منتهى الثقة والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وهكذا هنا قال: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) أي: اعتصمت به من أن ترجموني أو تقتلوني، فعصمني فلا ينالني منكم مكروه، وقصد بهذا الكلام إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطرب فيه الأفئدة، وتزل الأقدام خوفاً ورعباً، وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله سبحانه وتعالى وتأييده. قوله تعالى: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان:21] أي: فكونوا بمعزل عني فلست بموال منكم أحداً.

قال الله تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ [الدخان:22] أي: لما امتنعوا عن إجابة موسى عليه السلام دعا ربه (أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي: مشركون مفسدون. قوله تعالى: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا [الدخان:23] أي: فأجاب الله سبحانه دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلاً. ( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) أي: أن فرعون وقومه من القبط متبعوكم إذا خرجتم عن بلدهم وأرضهم ليرجعوكم. قوله تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ [الدخان:24] قوله: (رهواً) أي: إذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكناً على حاله التي كان عليها حين دخلته ولا تضربه بعصاك؛ ليدخله القبط فيغرقون.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع