خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60519"> سلسلة تفسير القرآن الكريم.
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة الزخرف [33-61]
الحلقة مفرغة
قال تبارك وتعالى مشيراً إلى حقارة الدنيا عنده وفي ميزانه: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35]. قوله تعالى: (( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ))، أي: متفقة على الكفر بالله تبارك وتعالى، أي: لولا كراهة أن يصبح الناس أمة واحدة على الكفر. (( لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ )) يعني: هذا الذي يكفر بالرحمن سبحانه وتعالى يعطيه الله المزيد من الدنيا؛ لأنه إذا أتاه المزيد من الدنيا يظن أن الله يريد به خيراً، فيستدرجه، فكلما ازداد كفره بنعم الله ازداد استحقاقه للعذاب بجانب كفره الأصلي، فيزداد عذاباً، وهذا كما قال تبارك وتعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]. وأما إعراب قوله: (( لِبُيُوتِهِمْ )) فهو بدل اشتمال، من كلمة (من)، يعني: لبيوت من يكفر. وقوله: (( لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ )) فيها قراءتان: (سَقْفَاً مِنْ فِضَةْ)، والقراءة الأخرى: (( سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ)). وقوله: (( وَمَعَارِجَ )) يعني: مصاعد من فضة (( عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ )) أي: يرتقون. وقوله: (( وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا )) أي: من فضة (( وَسُرُرًا )) أي: من فضة (( عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ )). وقوله: (( وَزُخْرُفًا )) أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، أي: زينة من ذهب وجواهر أو فضة. ثم أشار تعالى إلى أنه لا دلالة في ذلك على فضيلتهم، يعني: حتى ولو أعطاهم الله سبحانه وتعالى كل ذلك لما دل ذلك على أنهم كمل أو على أفضليتهم عند الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: (( وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) أي: وما كل هذه الأشياء التي ذكرت من السقف الفضية والمعارج والأبواب والسرر والزخرف، إلا متاعاً يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا. وقوله: (( وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ )) أي: وزينة الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين، أي: الذين اتقوا الله فخافوا عقابه، فجدوا في طاعته، وحذروا معاصيه، خاصة دون غيرهم. قال المهايمي : لا خصوصية في ذلك المتاع، بحيث يدل على عدم منصب النبوة، وإنما الذي يدل على عدم النبوة عدم التقوى؛ فالنبوة إنما تكون لمن كمل تقواه، سواء كانت عنده الدنيا أم لا. وإنما كانت الزينة الدنيوية أحق بالكفار لأنها تثير ظلمة الأهوية المانعة من رؤية الحق، بحيث يصير صاحبها أعشى. وسيأتي مزيد بيان في كلام الشنقيطي رحمه الله تعالى حول هذه الآية، لكن نثبت أولاً كلام القاسمي رحمه الله حيث قال: تنبيه: ما قدمنا من أن معنى (( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً )) لولا كراهة ذلك، وأن معنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد وهو الكفر، أي: أن كراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع الكافر بها على الوجه المذكور، هذا هو ما ذكره المفسرون. فورد عليه -يعني: يورد بعض الناس إشكالاً على هذا- أنه حين لم يوسع على الكافرين خشية الفتنة التي كانت تؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر؛ لحبهم الدنيا، وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ فأجيب: بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضاً؛ لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من ديدن المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبر؛ حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء، وغلب الفقر على الغنى. هذا ما قاله الزمخشري . على أي الأحوال هذه الآية تتمة لما قبلها ترد على أولئك الضالين زعمهم أن العظمة الدنيوية تستوجب النبوة، فبين تبارك وتعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى وهي التسخير، وفي الآية الثانية وهي حقارة الدنيا عنده، وأنه لولا التسخير لما آتاها أحط الخلق، وأبعدهم منه؛ مبالغة في الإعلام بضعتها. فالدنيا أحقر عند الله من جناح بعوضة، ولولا كراهة الفتنة أن يصير جميع البشر أمة واحدة متفقة على الكفر لآتى الله سبحانه الكافر كل هذا النعيم، ولذا قال سبحانه: لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ [الزخرف:33-34] ((وَزُخْرُفًا)) أي: ذهباً. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تزن عند الله سبحانه وتعالى جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). والحقيقة أن الحديث لا ينص على أنها تساوي جناح بعوضة، بل يدل على أن الدنيا أحقر من جناح البعوضة؛ لأنها لو كانت تساوي جناح بعوضة لما سقاه شربة ماء، فتأمل شربة الماء بالنسبة إلى كل النعيم الذي يؤتاه الكافر تعرف مدى حقارة الدنيا عند الله سبحانه وتعالى! قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ )). قوله: ((لِبُيُوتِهِمْ)) في الموضعين قرأه ورش وأبو عمرو وحفص عن عاصم بضم الباء على الأصل، وقرأه قالون عن نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم : بكسر الباء؛ لمجانسة الكسرة للياء. وقوله: (( سُقُفًا )) قرأه نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم ((سُقُفاً)) بضمتين على الجمع، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ((سَقْفًا)) بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد، والمراد به: الجمع. قوله تعالى: (( وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ )) قرأه نافع وابن كثير وابن عامر في رواية ابن ذكوان وإحدى الروايتين عن هشام وأبو عمرو والكسائي : ((لَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ)) بتخفيف الميم من (لـمَا)، وقرأه عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين: ((لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ)) بتشديد الميم من (لـمَّا). ومعنى الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى لما بين حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة في قوله: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها، وأنه جعلها مشتركة بين المؤمنين والكافرين؛ وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصاً بالمؤمنين دون الكافرين، وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر في نعيم الدنيا بقوله: (( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ))، أي: لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة متفقة على الكفر لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار، ولعلمنا بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا وحبها لها لو أعطينا ذلك كله للكفار، لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفاراً، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنياً وفقيراً، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا.
اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين
تمتيع الكافر في الدنيا
المقصود بالمعارج والسقف والزخرف
ثم بين جل وعلا اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله: (( وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))، أي: أن متاع الدنيا مشترك بين المؤمنين والكافرين، لكن الآخرة ليست مشتركة: (( وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ))، فالآخرة خاصة بالمتقين، وهذا المعنى جاء موضحاً في غير موضع، كقوله تعالى في سورة الأعراف: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]. فقوله: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: مشتركة في الحياة الدنيا بين المؤمنين والكافرين، ويدل على هذا الاشتراك صدر الآية: (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ))، فهنا امتنان على العباد بهذه النعم التي أطلق أيديهم فيها، وأنعم عليهم بها. ثم هناك أمر مهم جداً، وهو أن في آية الزخرف ما يدل على هذا الاشتراك وهو كلمة (لولا) في قوله: (( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ )). ؛ لأن (لولا) حرف امتناع لوجود، فالله سبحانه وتعالى يقول: (( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))، ثم يأتي العلماء والمفسرون ويقولون: هي مشتركة بين المؤمنين وبين الكفار في الحياة الدنيا، فلابد أن يعرف الإنسان ما الدليل على هذا التفسير، والدليل هو أن كلمة: (( َلَوْلا )) حرف امتناع لوجود، والذي امتنع هو أن يقصر الله الدنيا على الكفار، ويوسع عليهم فيها وحدهم، هذا هو الممتنع. إذاً: هي ليست مقصورة عليهم؛ لأن هذا ممتنع بسبب وجود كراهة أن يصير الناس جميعاً أمة واحدة. وكذلك تفسير هذه الآية هنا في سورة الزخرف: (( وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))، أي: أن متاع الدنيا مشترك بينهم وبين الكفار لكن التمتع في الآخرة خاص بالمؤمنين؛ لأنه قال: (( وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ )). وقال في آية الأعراف: (( خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))، أي: خالصة لهم دون غيرهم، ولا يشاركهم فيها أحد. يقول: فقوله في آية الأعراف هذه: (( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا، وذلك الاشتراك دل عليه حرف الامتناع للوجود الذي هو (لولا) في قوله هنا: (( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً )). أي: امتناع تخصيص الكفار بنعيم الدنيا ومتاعها، فهو ممتنع بهذا الدليل. قال: وخصوص طيبات الآخرة بالمؤمنين منصوص عليه في آية الأعراف بقوله: (( خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))، وهو الذي أوضحه في آية الزخرف بقوله: (( وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ )). وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ (المتقين)؛ لأن كل مؤمن اتقى على الأقل الشرك بالله، فيصدق عليه أنه من المتقين.
وما دلت عليه هذه الآيات من أنه تعالى يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى، كقوله تعالى: قَاْلَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ [البقرة:126]، وقال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:24]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:23]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69-70]. وقد بين تبارك وتعالى في آيات من كتابه أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه، ولكنه للاستدراج، كقوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45]، وقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45]. وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر،)، فالدنيا جنة الكافر؛ لأن من ضمن حكمة الله سبحانه وتعالى في التوسعة على الكافر في الدنيا أنه يكافئه مقابل ما يعمل من الأعمال الحسنة، كبر الوالدين، وصدق الوعد، والإحسان إلى الفقير واليتيم والمسكين، وغير ذلك مما يسمونه بالأشياء الإنسانية، فإذا عملها وهو يريد بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فقد يجازى بها في الدنيا؛ لأنها لا تنفعه على الإطلاق في الآخرة؛ لأنه لا يسمى عملاً صالحاً؛ لأنه يفتقد شرط الإيمان، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97]، فلابد أن يكون مؤمناً، فالذي بدون الإيمان قد ينفعه في الدنيا فقط، لكن لا يمكن أن ينفعه في الآخرة، ونقول: (قد) لأنه لا ينال ذلك إلا بمشيئة الله، كما قال تعالى في سورة الإسراء: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، فالمنفعة معلقة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فيعطى الكافر في الدنيا مقابل الأعمال الحسنة التي يعملها؛ لأن هذه هي الجنة والفرصة الوحيدة لأن يثاب على هذا العمل، أما في الآخرة فلا يمكن أن ينتفع ويثاب على عمله. ثم قال تعالى أيضاً: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95]. وقال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [مريم:75] على أظهر التفسيرين. وقال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]. وقال تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج:44]. ودعوى الكفار أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه، واستحقاقهم لذلك، وأنه إن كان البعث حقاً أعطاهم خيراً منه في الآخرة، ردها الله عليهم في آيات كثيرة، كقوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ [المؤمنون:55]* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:56]. وقال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ:37]. وقال تعالى: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف:48]. وقال تعالى: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2]. وقال تعالى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:11]. وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
وقوله تعالى: (( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا )). يعني: لصيرنا، وقوله: (( لِبُيُوتِهِمْ ))بدل اشتمال مع إعادة العامل -يعني: حرف الجر- من قوله: (( لِمَنْ يَكْفُرُ )). وعلى قراءة (سُقُفاً) بضمتين فهو جمع سقف، وسقف البيت معروف. وعلى قراءة (سَقْفاً) فهو مفرد أريد به الجمع، وقد قدمنا في أول سورة الحج في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج:5] أن المفرد إذا كان اسم جنس يجوز إطلاقه مراداً به الجمع، وأكثرنا من أمثلة ذلك من القرآن، ومن الشواهد العربية على ذلك. وقوله تعالى: (( وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ )) الظاهر أنه جمع معرج، والمعرج والمعراج بمعنى واحد، وهو: الآلة التي يعرج بها، يعني: يصعد بها إلى العلو. (( وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ )). أي: يصعدون ويرتفعون؛ حتى يصيروا على ظهور البيوت، ومن ذلك المعنى قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97]. والسرر: جمع سرير، والاتكاء معروف، والأبواب: جمع باب، وهو معروف، والزخرف: الذهب. قال الزمخشري : إن المعارج التي هي المصاعد، والأبواب والسرر، كل ذلك من فضة. وكأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك، وعلى هذا المعنى فقوله: (( َزُخْرُفًا )) مفعول عامله محذوف، والتقدير: وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، يعني: ذهباً. وقال بعض العلماء: إن جميع ذلك بعضه من فضة، وبعضه من زخرف، يعني: من ذهب.
قال تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]. أي: ومن يعرض عن ذكر الرحمن فلم يخف سطوته، ولم يخش عقابه (نقيض له شيطاناً فهو له قرين)، أي: نجعل له شيطاناً يغويه، ويضله عن السبيل القويم دائماً؛ لمقارنته له، فإنه يظل مقارناً إياه. قال: القاشاني : قرئ: (( وَمَنْ يَعْشُ عن ))، وقرئ: (( وَمَنْ يَعْشَ عن )) بضم الشين وفتحها، والفرق: أن عشى يستعمل إذا نظر نظرة العشى لعارض أو متعمداً من غير آفة في بصره، وعشي إذا ضعف بصره. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيرها أيضاً: وسنتعرض لهذا التفسير في أثناء تفسير سورة فصلت في قوله تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت:25]. (( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ )) أي: جئناهم بهم، وأتحناهم لهم، أو هيأنا، أو سلطنا، أو بعثنا ووكلنا، أو سببنا، أو قدرنا، وجميع تلك العبارات راجعة إلى شيء واحد، وهو أن الله تبارك وتعالى هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى، ويزينون لهم الكفر والمعاصي. والقرناء: جمع قرين، وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق. (( فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ )) أي: من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة. (( وَمَا خَلْفَهُمْ )) أي: من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به، وإنكار البعث. وبين هنا في سورة الزخرف سبب هذا التقييض، وأنهم مع إضلالهم لهم يحسبون أنهم مهتدون، قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:36-38]. فترتيب قوله: (( نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا )) على قوله: (ومن يعش) يدل على أن سبب تقييضه له هو غفلته عن ذكر الرحمن، ونظير ذلك آية أخرى في القرآن الكريم فيها الربط بين الغفلة عن الذكر وبين تسليط الشياطين، وهي قوله تعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4]، فكلمة (الوسواس الخناس) معناها: أن الإنسان إذا غفل عن ذكر الله وسوس له الشيطان، وإذا ذكر الله انخنس، وفي الحديث أنه إذا سمع الذكر يولي وله ضراط، لشدة نفرته عن ذكر الله سبحانه وتعالى. إذاً: سورة الناس فيها نفس هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4]؛ لأن الوسواس هو كثير الوسوسة؛ ليضل بها الناس، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس، من قولهم: خنس يخنس إذا تأخر وهرب، فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن، خناس عند ذكر الرحمن. إذاً: من أعظم علاج الوسوسة المواظبة على ذكر الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذكر يضعف تأثير الشيطان، ويجعله يفر بعيداً عن الإنسان، كما دلت عليه آية الزخرف المذكورة، وهي قوله تعالى: (( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ )) فعقوبته: (( نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )). ودل على ذلك أيضاً قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100]؛ لأن الذين يتولونه والذين هم به مشركون غافلون عن ذكر الرحمن، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم. ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]. وقال تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128]، أي: استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا. وقال تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]. وقال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ... [يس:60] إلى قوله: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا [يس:62]. وقوله تعالى: (( فَبِئْسَ الْقَرِينُ )) يدل على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية فصلت وآية الزخرف وغيرهما جديرون بالذم الشديد، وقد صرح تعالى في سورة النساء بقوله: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]، وقال هنا: (( فَبِئْسَ الْقَرِينُ ))؛ لأن كلاً من (ساء) و(بئس) فعل جامد لإنشاء الذم.
واعلم أن الله تعالى بين أن الكفار الذين أضلهم قرناؤهم من الشياطين يظنون أنهم على هدى، فهم يحسبون أشد الضلال أحسن الهدى، فقال تعالى عنهم: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:37]. وقال تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]. وبين تعالى أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد أخسر الناس أعمالاً في قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104] وهذا ظاهر وملموس ومحسوس من أحوال الكفار، ونحن نرى شدة اغترارهم بما هم عليه، كما قال كلينتون في حفل تنصيبه للرئاسة: إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وأن عليها التزاماً مقدساً بتحويل العالم إلى صورتها. ونقول: لو تحول العالم إلى هذه الصورة فبئس العصر! أيضاً: أقر مجلس الشيوخ في أمريكا القانون الإرهابي الذي تبنته أمريكا، والذي يبيح للرئيس الأمريكي أن يتدخل في أي دولة في العالم؛ لحماية الحرية، وتسهيل ممارسة الحرية الدينية للطوائف المخالفة للدين. ومصر موضوعة في أوائل هذه الدول التي يطبق عليها هذا الكلام، ومن حقه أن يتدخل بفرض عقوبات على أي دولة تتعرض للحرية الدينية بأي طريقة مخالفة. الشاهد: أن واحداً من هؤلاء الشيوخ -شيوخ الضلال- تكلم وقال: إن هذه البلد تصدر كل شيء للعالم، فينبغي أن تصدر له أيضاً قيمها، وإن من هذه القيم حماية الحريات الدينية، وغير ذلك! وطبعاً كل هذه من أساليب أقنعة الهيمنة والإذلال والقهر للأمم، وهذا كله مما يبين لنا كيف أن هؤلاء على ضلالهم وكفرهم، يحسبون أنهم مهتدون. وقوله تعالى هنا في آية الزخرف: (( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ))، من قولهم: عشا عن الشيء يعشو، إذا ضعف بصره عن إدراكه؛ لأن الكافر أعمى القلب، فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن، بسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين. وقوله تبارك وتعالى: (( وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ )). قال ابن جرير في تفسيرها: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله عن سبيل الحق، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون لهم الإيمان بالله والعمل بطاعته. وقوله: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]، أي: يظن هؤلاء المشركون بالله بتزيين الشياطين لهم ما هم عليه أنهم على الصواب والهدى. وقوله: (( حَتَّى إِذَا جَاءَنَا )) أي: العاشي عن ذكر الله. وقوله: (( قَالَ )) أي: قال لشيطانه. وقوله: (( يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ )) المقصود: بعد المسافة بين المشرق والمغرب، وقال: (المشرقين) من باب التغليب، ونظير ذلك أن تقول: العصران، والمقصود بها: الظهر والعصر، أو العمران، والمقصود بهما: أبو بكر وعمر ، والأبوان: الأب والأم، والأسودان: التمر والماء، والقمران: الشمس والقمر. وقيل: المراد: مشرقا الصيف والشتاء، والتقدير: من المغربين. يقول بعض الشعراء أيضاً في كلمة القمرين هذه: أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع. قوله: (لنا قمراها) يعني: الشمس والقمر. وقوله: (( فَبِئْسَ الْقَرِينُ )). أي: حتى إذا حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله والعذاب المستحق لمذهبه ودينه تمنى غاية البعد بينه وبين شيطانه الذي أضله عن الحق، وزين له ما وقع بسببه في العذاب، واستوحش من قرينه واستذله، لعدم الرابطة الطبيعية، أو انقطاع الأجساد بينهما.
قال تبارك وتعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]. قال القاشاني : أي: لن ينفعكم التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب إذا ثبت وصح ظلمكم في الدنيا، وتبين عاقبته، وكشف عن حاله؛ لأنكم مشتركون في العذاب لاشتراككم في سببه. أو: ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته؛ لأن كل واحد منكم له الحظ الأوفر من العذاب. قال المبرد : منعوا روح التأسي؛ لأن التأسي يسهل المصيبة. وهذا شيء طبيعي في الإنسان، كما يقول العوام: المصيبة إذا عمت هانت، أو إذا رأى الإنسان بلية غيره هانت عليه بليته. فحتى هذا المعنى النفسي الذي يحصل بسبب الاشتراك في البلاء من التخفيف يحرم منه أهل النار، فالآية تشير إلى أن اشتراكهم في العذاب لن يحدث لهم المساواة التي كانوا يجدونها في الدنيا إذا اشتركوا في بلية، فإنهم في النار اشتركوا في البلية، لكنهم منعوا روح التأسي؛ لأن التأسي يسهل المصيبة، كما قالت الخنساء رضي الله عنها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي وقوله: ((وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)) وهو كقوله تعالى في سورة الصافات: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات:33].
قال تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزخرف:40]. هذا إنكار تعتيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا الله سبحانه وتعالى وحده، فهذه هداية خاصة بالله عز وجل، أما أنت يا محمد فإنك لا تسمع الصم، ولا تهدي العمي؛ لأن هذا النوع من الهداية لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وقد تكرر في التنزيل التعبير عنهم بالصم العمي الضلال؛ لأنه لا أجمع من ذلك لحالهم، ولا أبلغ منه؛ إذ سلبوا استماع حجج الله وهداه، كالأصم، وإبصار آيات الله والاعتبار بها كالأعمى، وقُصد بذلك الضال الحائر.
قال تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:41-42]. ((فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ)) أي: نقبضك قبل أن نظهرك عليهم. ((فإنا منهم منتقمون)) أي: بالعذاب الأخروي. ثم قال تعالى: ((أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)). وهذا كقوله تعالى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر:77] وفي تعبيره بالوعد -وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد- إشارة إلى أنه هو الواقع؛ وهكذا كان؛ إذ لم يفلت أحد من صناديدهم إلا من تحصن بالإيمان.
قال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43]. يعني: دين الله الذي أمر به، وهو الإسلام، فإنه كامل الاستقامة من كل وجه. قال الشهاب : هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، وأمر له بالدوام على التمسك. يعني: هو متمسك، لكن أمره هنا للدوام، وهذا كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ِ [النساء:136] أي: دوموا على ذلك، واثبتوا عليه. فكذلك هنا: (فاستمسك) هو متمسك منذ الوحي نزل، لكن الأمر هنا هذا أمر... وهو الدوام على التمسك بهذا الحق. والفاء واقعة في جواب شرط مقدر، أي: إذا كان أحد هذين واقعاً لا محالة فاستمسك به. وهذه الآية تدل على أن المتمسك بهذا القرآن على هدى من الله سبحانه وتعالى، وهذا معلوم بالضرورة.