تفسير سورة الزخرف [21-32]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف:21]. تقدم أن ناقشنا بالتفصيل معنى قوله تعالى تبارك وتعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)، وبينا أن مسلك المفلسين: إما الاحتجاج بالتقليد، وإما الاحتجاج بالقدر في مصادمة الشرع، ويحسبون أن في الاستناد إلى مشيئة الله العامة -المشيئة الكونية القدرية- حجة لهم، في حين أن الحجة هي لله عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى شاء ذلك كوناً وقدراً، لكنه شاءه أيضاً شرعاً، حيث شاء منهم الهداية والطاعة، فلا ينبغي أن يحتج الإنسان بالقدر إلا في المواضع التي ذكرنا تفصيلها فيما تقدم. وقوله تعالى: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله)) (أم) هي المنقطعة المقدرة بـ(بل والهمزة)، يعني: أنهم ((ما لهم بذلك من علم)) وفي هذا وصفهم بالجهل فيما يتخرصون به، حيث قالوا: ((لو شاء الرحمن ما عبدناهم)). وقوله: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله)) أي: هل عندهم كتاب من الله سبحانه وتعالى أوحي إليهم من قبل هذا القرآن، ((فهم به مستمسكون)) أي: بهذا المنهج، وهو الاحتجاج بالقدر فيما هم عليه من الشرك، وهذا كقوله تعالى في الآيات الأخرى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148] يعني: كتاباً موحىً فيه ذلك. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)): (أم) هنا تتضمن معنى استفهام إنكار، يعني: أن هذا الذي عليه الكفار من عبادتهم الأوثان وجعلهم الملائكة بنات الله لا دليل لهم عليه، ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتاباً يحل فيه ذلك، وأنكر أن يكونوا قد أوتوا هذا الكتاب، وأنكر أن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله، إنكاراً دالاً على النفي للتمسك بالكتاب المذكور مع التوبيخ والتقريع. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله، ولا كتاب أنزله الله بذلك، بينه قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ [فاطر:40]، وهذا دليل عقلي. ثم طالبهم بالدليل النقلي فقال: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ [فاطر:40]. وقال تعالى في سورة الأحقاف: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]. وقال تعالى في سورة الروم : أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم:35]. وقال في سورة الصافات: أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:156-157]، وقال في سورة النمل: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64]. وقال عز وجل في سورة الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8]. وقال تعالى في سورة الأنعام : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام:148].

قال تبارك وتعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]. أي: لا حجة لهم إلا تقليدهم آبائهم الجهلة مثلهم، ولذا قالوا: ((إنا وجدنا آباءنا على أمة)) يعني: على ملة أو على دين. ((وإنا على آثارهم مهتدون)) أي: أنهم يعتزون بتراث الآباء والأجداد وعقائدهم.

قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]. يعني: أن هؤلاء ليسوا أول كفار اتكئوا واستندوا إلى تقليد الآباء والأجداد ومشايعتهم على الكفر، بل هذه سنة الأقوام والأمم من قبلك، أي: كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله. قال القاضي البيضاوي : والقاضي عند الإطلاق في كتب التفسير يقصد به البيضاوي . قال: وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقييد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقلديهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور فيه. وتخصيص المترفين في قوله: ((إلا قال مترفوها)) إشعار بأن النعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد، فالترف له آفات كثيرة جداً، منها أن الترف يصرف الإنسان ويثبط همته بحيث لا يترقى عن مستوى التقليد، والأخذ بقول الغير بدون دليل.

قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:24]. وفي قراءة أخرى: (قُل أولوا جئتكم بأهذى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) أي: جاحدون منكرون، وإن كان أهدى، إقناطاً للمنذرين من أن ينظروا أو يتفكروا فيه، يعني: حتى لو كان ما تأتينا به أهدى مما وجدنا عليه آباءنا ((فإنا بما أرسلتم به كافرون))؛ لأن كلامهم هذا جاء جواباً لقول الرسول: ((أولو جئتكم)) يعني: أتكفرون وتكذبون حتى ولو جئتكم ((بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم))؟ قالوا: نعم، ((إنا بما أرسلتم به كافرون)) ولو كان أهدى؛ لأنهم يقصدون بذلك تيئيس وإقناط الرسل والمنذرين من أن ينظروا أو يتفكروا فيما جاءهم به الرسول.

ثم قال تعالى: فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:25]. كان العذاب فيما مضى يأتي الأمة المكذبة فيستأصلها، وقد رفع هذا العذاب المستأصل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أعني: بذلك أمة الإجابة، وإلا فإن أمة محمد هي كل من على ظهر الأرض منذ أن بعث إلى أن تقوم الساعة، إذ ليس للبشرية نبي سوى محمد عليه الصلاة والسلام، فأمة الدعوة هم المخاطبون برسالته وبالقرآن، والمكلفون بالإيمان به، وهم كل البشر على وجه الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلا تعاقب هذه الأمة بالاستئصال التام، لكن يمكن أن تكون هناك زلازل في بعض الأماكن، إلا أنها لا تكون عقوبة كاملة لأهل الأرض، وهذا مما رحم الله به البشرية ببعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك في التفسير هنا في قوله: ((فانتقمنا منهم)) يعني: بعذاب الاستئصال. وقوله: ((فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)) أي: انظر كيف كان آخر أمرهم مما أصبح مثلاً وعبرة.

قال تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]. (وإذ قال إبراهيم) قال القاضي : أي: اذكر وقت قوله هذا؛ ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، يعني: هم يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] ولو كان هؤلاء الكفار من العرب أو مشركي قريش عقلاء، وكان لابد من تقليد، فليقلدوا أباهم إبراهيم؛ فإن أشرف آبائهم هو إبراهيم عليه السلام. (إنني براء مما تعبدون) أي: بريء من عبادتكم، أو من معبودكم. و(براء) هي القراءة العامة، وهو مصدر كالطلاق والعتاق، أريد به معنى الوصف مبالغة؛ لأن المصدر إذا استعمل في الصفة يكون فيه مبالغة، فإذا قلت: رجل عدل، أي: أنه هو نفس العدل، وقد تقدم بيان هذا مراراً، فلذلك أطلق على الواحد وغيره. وقُرئ بضم الباء: (إنني بُراء) فيكون اسماً مفرداً صفة مبالغة، كطُوال وكُرام بضم الطاء والكاف. وقوله: ((إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)) هذا استثناء منقطع، أو متصل على أن (ما) في قوله: (إنني براء مما) يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو (إلا) بمعنى غير فتكون صفة لـ(ما) أي: إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني أي: خلقني. ((فإنه سيهدين)) أي: للدين الحق واتباع سبيل الرشد، والسين إما للتأكيد، بدليل أن نفس الآية جاءت في نفس القصة جاءت في سورة الشعراء بدون سين: (يهدين) فهي للتأكيد، والمضارع في الموضعين للاستمرار، أي: استمرار هذه الهداية. أو أن السين للتسويف والاستقبال، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولاً، فيتغاير ما في الآيتين من المحكي بناءً على تكرر قصته عليه السلام.

براءة إبراهيم هي كلمة التوحيد

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء، أي: بريء من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله، أي أنه بريء من عبادة كل معبود إلا المعبود الذي خلقه وأوجده وهو وحده معبوده، وضحه قوله تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:75-78]، وكقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79] فبين أيضاً هنا براءته من المشركين، وزاد في سورة الممتحنة بيان براءته من العابدين وعداوته وبغضه لهم في الله عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4]. قوله عز وجل هنا: (( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ))، ذكر نحوه في الشعراء: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، وقوله أيضاً: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، وقال: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]. وقوله: (( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ )) * (( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي )) أي: خلقني، وهذا يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا من خلق؛ ولا خالق إلا الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الأخرى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، فإذا كان هو الذي خلقكم فينبغي أن تعبدوه وحده، وقال عز وجل: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ [الشعراء:184]، وقال: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16]، وقال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17]، وقال أيضاً: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال أيضاً: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]. وقال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، مأخوذ من فعلوت من الطغيان، والطغيان هو مجاوزة الحد، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، فالطاغوت ما جاوز الحد؛ لأن الإنسان إذا رفع المخلوق إلى حد أن يعبده فيكون قد طغى واتخذه طاغوتاً، ورأس الطاغوت: الشيطان؛ لأنه الآمر بكل شرك وكفر وعصيان، ولذلك قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] يعني: بـ(لا إله إلا الله) وهذا هو تحقيق لا إله إلا الله، أي: أن تكفر بكل ما عبد من دون الله، وتؤمن أنه لا يستحق أن يوجه له شيء من العبادة التي لا تنبغي إلا الله، وتثبت أحقية هذه العبادة لله سبحانه وتعالى، ولذلك فمعنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس المعنى: لا إله موجود إلا الله؛ لأن الناس يزعمون أو يصفون بالألوهية مخلوقات من دون الله سبحانه وتعالى ويتخذونها آلهة، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، فكلمة (إله) تطلق على إله الحق وإله الباطل، أما الله فلا يطلق إلا على الإله الحق، ولذلك الإعراب: لا: نافية للجنس، ولا يصح أن يكون التقدير: لا إله موجود، وأنا الحقيقة يلح علي دائماً المثال الذي كان المدرس يقوله لنا ونحن في ابتدائي: لا زعيم إلا جمال ، يعني: لا زعيم موجود. أما لا إله إلا الله فالتقدير: لا إله حق، وليس: لا إله موجود؛ لأنه توجد آلهة تعبد من دون الله، وهي آلهة باطلة، فالشيطان يُعبد، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، وكذلك قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، والمال إله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم).. وهكذا. فإذاً: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، فلا يصح الإيمان بالله إلا مع الكفر بالطاغوت الذي يتجاوز به العبد حده حينما يرفعه إلى مقام الألوهية ويعبده من دون الله، فكل هذا معناه واحد فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) يعني: وحده، (فقد استمسك بالعروة الوثقى) التي هي: لا إله إلا الله، وكذلك قول إبراهيم عليه السلام هنا: (إنني براء مما تعبدون) * (إلا الذي فطرني) يساوي: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله)، وتساوي: لا إله إلا الله، ولذلك قال هنا: (وجعلها كلمة) أي: كلمة التوحيد، (باقية في عقبه لعلهم يرجعون).

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء، أي: بريء من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله، أي أنه بريء من عبادة كل معبود إلا المعبود الذي خلقه وأوجده وهو وحده معبوده، وضحه قوله تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:75-78]، وكقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79] فبين أيضاً هنا براءته من المشركين، وزاد في سورة الممتحنة بيان براءته من العابدين وعداوته وبغضه لهم في الله عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4]. قوله عز وجل هنا: (( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ))، ذكر نحوه في الشعراء: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، وقوله أيضاً: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، وقال: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]. وقوله: (( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ )) * (( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي )) أي: خلقني، وهذا يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا من خلق؛ ولا خالق إلا الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الأخرى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، فإذا كان هو الذي خلقكم فينبغي أن تعبدوه وحده، وقال عز وجل: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ [الشعراء:184]، وقال: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16]، وقال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17]، وقال أيضاً: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال أيضاً: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]. وقال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، مأخوذ من فعلوت من الطغيان، والطغيان هو مجاوزة الحد، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، فالطاغوت ما جاوز الحد؛ لأن الإنسان إذا رفع المخلوق إلى حد أن يعبده فيكون قد طغى واتخذه طاغوتاً، ورأس الطاغوت: الشيطان؛ لأنه الآمر بكل شرك وكفر وعصيان، ولذلك قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] يعني: بـ(لا إله إلا الله) وهذا هو تحقيق لا إله إلا الله، أي: أن تكفر بكل ما عبد من دون الله، وتؤمن أنه لا يستحق أن يوجه له شيء من العبادة التي لا تنبغي إلا الله، وتثبت أحقية هذه العبادة لله سبحانه وتعالى، ولذلك فمعنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس المعنى: لا إله موجود إلا الله؛ لأن الناس يزعمون أو يصفون بالألوهية مخلوقات من دون الله سبحانه وتعالى ويتخذونها آلهة، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، فكلمة (إله) تطلق على إله الحق وإله الباطل، أما الله فلا يطلق إلا على الإله الحق، ولذلك الإعراب: لا: نافية للجنس، ولا يصح أن يكون التقدير: لا إله موجود، وأنا الحقيقة يلح علي دائماً المثال الذي كان المدرس يقوله لنا ونحن في ابتدائي: لا زعيم إلا جمال ، يعني: لا زعيم موجود. أما لا إله إلا الله فالتقدير: لا إله حق، وليس: لا إله موجود؛ لأنه توجد آلهة تعبد من دون الله، وهي آلهة باطلة، فالشيطان يُعبد، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، وكذلك قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، والمال إله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم).. وهكذا. فإذاً: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، فلا يصح الإيمان بالله إلا مع الكفر بالطاغوت الذي يتجاوز به العبد حده حينما يرفعه إلى مقام الألوهية ويعبده من دون الله، فكل هذا معناه واحد فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) يعني: وحده، (فقد استمسك بالعروة الوثقى) التي هي: لا إله إلا الله، وكذلك قول إبراهيم عليه السلام هنا: (إنني براء مما تعبدون) * (إلا الذي فطرني) يساوي: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله)، وتساوي: لا إله إلا الله، ولذلك قال هنا: (وجعلها كلمة) أي: كلمة التوحيد، (باقية في عقبه لعلهم يرجعون).

قال تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28]. يقول القاسمي : (وجعلها) أي: شهادة التوحيد، (كلمة باقية في عقبه) أي: موصىً بها موروثة متداولة محفوظة، فإبراهيم عليه السلام قبل أن يموت كان يوصي بنيه بأن يتمسكوا بلا إله إلا الله، وأن يتبرءوا من المشركين، وبنوه كذلك فيما بعد كانوا يوصون أبناءهم، وهكذا كل جيل كان يوصي الآتي من عقب إبراهيم بأن لا إله إلا الله، ولذلك عندما نراجع وصايا العلماء نجد فيها: أن هذه وصية فلان الفلاني؛ أوصي بأني أشهد أن لا إله إلا الله، يعني: كأنها وصية لمن يأتي بعده من ذريته بأن يثبتوا على التوحيد، قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] يعني: وحده بلا شريك، وقال تبارك وتعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]. وقوله: (لعلهم يرجعون) أي: لكي يرجعوا إلى عبادته وإلى توحيده في سائر شئونهم، أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم، وهذا التفسير مجمل، نشير إليه أولاً، ثم نأتي بالتفاصيل من كلام الشنقيطي رحمه الله. وقوله: (وجعلها) يعني: كلمة التوحيد المفهومة من قول إبراهيم الآنف الذكر: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]. وقوله: (كلمة باقية في عقبه) والقاسمي هنا يفهم من تفسيره أنه ليس كل عقب إبراهيم وذريته استقاموا على التوحيد، بل منهم من انحرف عن التوحيد إلى الشرك، لكن بقي الموحدون منهم يوصون عبر الأجيال بكلمة التوحيد، ويتداولونها ويحفظونها، كما قال تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132]، وكذلك أيضاً وصى بنيه: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]. وهذه الآية فصلها العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيلاً وافياً فقال: قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) * (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين) * (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) يقول: الضمير المنصوب في (جعلها) راجعه إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة مذكورة في الآية السابقة بالمعنى، لكنها تساوي في اللفظ معنى: لا إله إلا الله؛ لأن (لا إله إلا الله) نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات، وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله: (إنني براء مما تعبدون)، ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله، كما في قوله: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين).

ذكر خلاف المفسرين في فاعل جعل من قوله: (وجعلها كلمة ...)

الفاعل في قوله: (وجعلها) ضمير مستتر، يرجع إلى إبراهيم، وفي قول آخر: يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. فبعض المفسرين قالوا: هو راجع إلى إبراهيم، وهذا هو ظاهر السياق؛ لأن السياق في شأن إبراهيم عليه السلام. وقال بعضهم: هو راجع إلى الله سبحانه وتعالى، يعني: أن الله هو الذي جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.

معنى جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم عليه السلام

فعلى القول الأول أن إبراهيم جعل كلمة التوحيد كلمة باقية في عقبه، فالمعنى: صير إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه، يعني: في ولده وولد ولده، وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم، لأن إبراهيم عليه السلام تسبب في بقائها فيهم بأمرين: أحدهما: وصيته لأولاده بذلك، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيوصي به السلف منهم الخلف، فهو الذي سن فيهم هذه السنة، يوصيهم بالتوحيد في حياته، ثم اقتدى به أولاده من بعده، فكل واحد منهم يوصي من يأتي بعده بالتمسك بـ(لا إله إلا الله) كما أشار إلى ذلك الله عز وجل بقوله : وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:131-132]. الأمر الثاني: سؤاله ربه تعالى لذريته الإيمان والصلاح، فإنه كان يسأل الله لهم الإيمان والصلاح، كما قال عز وجل: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] يعني: واجعل يا رب من ذريتي أئمة. وقال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وقال أيضاً: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وقال عنه هو وإسماعيل عليهما السلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:128-129]، فأجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور في قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني: استجاب الله هذه الدعوة لإبراهيم عليه السلام، ولذلك تسبب إبراهيم بهذه الدعوة في بعثة محمد عليه السلام؛ لأن من هذه الأسباب الدعاء، وهو قال: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)، وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، ولذلك إذا أطلق على إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فإنما المقصود أبو الأنبياء من بعده، أما الذين قبله فلا يدخلون في ذرية إبراهيم؛ لأنه لم يكن قد خلق، أما إبراهيم عليه السلام فكافأه الله عز وجل بأن جعل كل الأنبياء الذين أتوا من بعده في ذريته، فأول ذلك إسحاق، ثم رزق إسحاق يعقوب، وهو إسرائيل، ثم من نسل يعقوب جاءت أنبياء بني إسرائيل، ولم تخرج عنهم النبوة إلا ببعثة النبي عليه السلام من نسل إسماعيل أخي إسحاق، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]، وقال عنه وعن نوح في سورة الحديد: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26]. أما على القول الثاني في قوله: (وجعلها كلمة) وهو أن الذي جعلها هو الله سبحانه وتعالى، فلا إشكال، ويكون التفسير: وجعلها كلمة باقية في المؤمنين من عقبه. وقوله: (لعلهم) يعني: لعل المشركين من عقبه أو من ذريته (يرجعون) أي: عن الشرك إلى التوحيد.

هل استجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام؟

وقد بين تبارك وتعالى هنا أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته؛ لأن إبراهيم عليه السلام كان دعا لذريته بأن يكونوا على التوحيد فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128] يعني: أن ذريته خرج منهم مؤمنون وخرج منهم كافرون، سواء في بني إسرائيل أو في العرب؛ لأنهم من نسل إسماعيل عليه السلام. فإذاً: بين الله سبحانه وتعالى هنا أنه لم يستجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته، وإنما استجابها في البعض وهم المؤمنون من ذريته؛ لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا صلى الله عليه وسلم من عقبه بإجماع العلماء، وقد كذبوه صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنه ساحر، وكثير منهم مات على ذلك، وذلك في قوله عز وجل: (بل متعت هؤلاء وآباءهم)، يعني: متعت كفار مكة وآباءهم، (حتى جاءهم الحق ورسول مبين) هو محمد صلى الله عليه وسلم، (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) فكفار مكة من نسل إبراهيم من ذرية إسماعيل، ومع ذلك يثبت الله هنا أنهم كفروا ووصفوا النبي عليه السلام بالسحر، فدلت هذه الآية على أن تلك الدعوة لم تستجب في حق كل ذرية إبراهيم، وإنما في المؤمنين منهم. وما دلت عليه آية الزخرف هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة : قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] يعني: واجعل من ذريتي أئمة، قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] أي: الظالمين من ذرية إبراهيم، ففهم من ذلك أن من ذريته ظالمين، وقوله تعالى في الصافات: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:113]، فالمحسن منهم هو الذي كلمة التوحيد باقية فيه، والظالم لنفسه المبين من ليس كذلك. وقال تعالى في النساء: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [النساء:54-55]. وبين عز وجل في سورة الحديد أن غير المهتدين من ذريته كثيرون في قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:26]. وقوله هنا في هذه الآية الكريمة: (لعلهم يرجعون) أي: جعل الكلمة باقية فيهم لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين المهتدين منهم؛ لأن الحق ما دام قائماً في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول، لأن (لعل) تفيد الترجي، والترجي هنا بالنسبة لبني آدم؛ لأن الترجي هو أن يرجو الإنسان حصول شيء وهو لا يجزم بحصوله؛ لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى ومن يصير إلى الضلال، فالترجي هنا هو بالنسبة إلى بني آدم وليس بالنسبة لله سبحانه وتعالى.

ترادف العقب والذرية والبنين

والعلامة الشنقيطي وقف هنا وقفة يسيرة قال فيها: ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على انسحاب معنى العقب والذرية والبنين، يعني: أن كلمات: العقب، والذرية، والبنين معناها واحد؛ لأنه قال في بعض هذه الآيات عن إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وقال في بعض الآيات: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وفي بعضها: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:37]، وقال عز وجل: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ [العنكبوت:27]، وقال: (( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ))، فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد؛ وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن يدل على أن من وقف وقفاً أو تصدق صدقة على بنيه، فقال: هذا وقف على بني أو علي ذريتي أو على عقبي، فحكم ذلك واحد. وقد دلت بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم ذرية الرجل، وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت في اسم الذرية والبنين دل ذلك على دخول أولاد البنين في العقب أيضاً. فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله تبارك وتعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ.. [الأنعام:84] إلى قوله عز وجل: ..وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ [الأنعام:85] الشاهد: (وعيسى)؛ لأن عيسى عليه السلام ابن بنت، لا أب له، فهو ابن بنت من جهة مريم عليها السلام. ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ.. [النساء:23] إلى قوله تعالى: ..وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23]؛ لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة شامل لبنات البنات وبنات بناتهن، وهذا لا نزاع فيه بين المسلمين، وهو نص قرآني صريح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن، فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب هو ظاهر القرآن، ولا ينبغي العدول عنه. أما لفظ الولد فلا يدخل فيه أولاد البنات، والدليل قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، فهذا لا يدخل فيه أولاد البنات، فهو نص صريح على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد.