تفسير سورة طه [1-43]


الحلقة مفرغة

يقول الله تعالى: طه [طه:1]. نبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية على نكتة تتعلق بالحروف المقطعة في أوائل بعض السور فقال: وانظر إلى السور التي افتتحت بأحـ رفها ترى سراً عظيم الشان لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن إذ كان إخباراً به عنها وفي هذا الشفاء لطالب الإيمان ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها والحق ذو تبيان فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان مع تلوها أيضاً ومع حم مع يس وافهم مقتضى الفرقان والعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يرى أن أظهر الأقوال في هذه الحروف أنها مما تحدى به الله في القرآن الكريم العرب، فهو مكون من نفس لغة العرب التي نزل بها القرآن، ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله! يقول: أظهر الأقوال عندي أن طه [طه:1] من الحروف المقطعة في أوائل السور، مثل حم [غافر:1] والم [البقرة:1] وغيرها، ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها بأنها من الحروف المقطعة، أما الطاء ففي فاتحة الشعراء: طسم [الشعراء:1]، وفاتحة النمل: طس [النمل:1]، وفاتحة القصص، وأما الهاء ففي فاتحة مريم: كهيعص [مريم:1]، فخير ما يفسر به القرآن القرآن. وقال بعض أهل العلم وهو أيضاً قول معتمد عندهم: أن (طه) الطاء مثل الطاء في (طسم)، والهاء مثل الهاء في (كهيعص)، يعني أنها من الحروف المقطعة في أوائل السور، خلافاً لما يزعمه بعض الناس من أنه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويسمون أبناءهم بـ(طه) بناء على هذا، وهذا مما لا يثبت، وإنما هي حروف كأي حروف أخرى مقطعة في أوائل السور. وقال بعض أهل العلم: قوله: (طه) معناها: يا رجل، وهي لغة بني عبس من عدنان، وبني قيس، وبني عكل، قالوا: لو قلت لرجل من بني عكل: يا رجل، لم يفهم أنك تناديه، حتى تقول له: يا طه، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي : دعوت لطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون مزايلاً وقال عبد الله بن عمرو : معنى (طه) بلغة عك: يا حبيبي! ذكره الغزنوي وقال هو بلغة طي، وأنشد يزيد بن المهلهل : إن السفاهة طه في شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين ويروى: إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين وممن نقل عنه: أن معنى (طه) يا رجل: ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى . وغيرهم، نقل ذلك عنهم ابن كثير وغيره. وذكر القاضي عياض عن الربيع بن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله (طه)) يعني: طء الأرض بقدميك يا محمد! وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة يعني: فهو أمر بالوطء على الأرض بقدميه. وفي (طه) أقوال أخر ضعيفة مثل: القول: بأنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. والقول: بأن الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية، كأن الله تعالى يقول: يا طاهراً من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب، وغير ذلك من الأقوال الضعيفة. والصواب -إن شاء الله- في الآية هو ما صدرنا به كلامنا، ودل عليه القرآن في مواضع أخر. إذاً: معنى (طه) مثل (الم)، وليس كبعض الناس إذا سمع (طه) قال: صلى الله عليه وسلم، نعم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر اسمه، لكن (طه) ليست من أسمائه عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2]، يعني: لتسعد بترك تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، والشقاء هنا: بمعنى التعب، ومنه المثل: أشقى من رائض مهر. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:3]، أي: تذكيراً له. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه، ولكن أنزلنا القرآن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار، والقصد: أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، هذا هو واجبك، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، وليس بمسئوليتك قيام القلوب بهذا الحق، لكن عليك بيان هذا الحق والتبليغ. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع من التنزيل: أن ينهاه عن الحزن عليهم، وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف:2]، وقوله: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، وهذا يصور مدى سخط النبي صلى الله عليه وسلم على قومه، فصوره بمن يفارق أحب الناس إليه، ثم هم ينصرفون عنه ويودعوه، وإذا به يظل يلاحقهم ويمشي خلفهم أسفاً على فراقهم وذهابهم عنه، حتى كاد أن يقتل نفسه من الغم والحزن والحسرة والتأسف لفراقهم؛ فلذلك يقول الله تعالى هنا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف:6] يعني: لعلك مهلك نفسك، (على آثارهم) لأنه يحرص على أن يهتدوا، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، كأن الله سبحانه وتعالى يقول له: ترفق بنفسك فإنك تكاد أن تقتل نفسك، وتكاد أن تموت من شدة الشفقة عليهم؛ صلى الله عليه وسلم. ويقول الله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً مثل: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2] أي: هون عليك، ما أنزلنا عليك القرآن حتى تشقى وتتألم وتحزن هذا الحزن لنفورهم من الإيمان، ولكن بلغ وأنذر فقط، وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن العناية به والرأفة ما لا يخفى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيرها: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى): فيها وجهان من التفسير، وكلاهما يشهد له القرآن: الأول: أن معنى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2] أي: لتتعب التعب الشديد بقصد تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة، كقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، وقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، وقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فأنزل الله تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2] أي: لتنهك نفسك بالعبادة؛ وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحاء، وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: إن كان المنطوق إرادة نفي الشقاء بنزول القرآن؛ فالمفهوم إرادة السعادة؛ فلذلك قال الشنقيطي : ويفهم من قوله: (لتشقى)، أنه أنزله عليه ليسعد صلى الله عليه وسلم كما يدلنا على ذلك الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). وقد روى الطبراني ، عن ثعلبة بن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقول للعلماء يوم القيامة: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي)، قال ابن كثير : إسناده جيد. فيكون معنى الآيات على هذا القول الأخير مثل قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20]، حسب الاستطاعة. وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب، ومنه قول أبي الطيب : ذو العقل يبقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة يلعب فالشقاوة هنا بمعنى: العناء والتعب، ومنه قوله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، أريد بذلك العناء والتعب في دار الدنيا. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:3]، (تذكرة) أظهر الأقوال فيه أنه مفعول لأجله، أي: ما أنزلنا عليك القرآن (إلا تذكرة) أي: لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عقابه، والتذكرة: هي الموعظة التي تلين القلوب، فتمتثل أمر الله وتجتنب نهيه، وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم؛ لأن هؤلاء الذين يخشون الله هم الذين ينتفعون بالتذكرة، كقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وقوله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس:11]، وقوله: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:45]، فالتخصيص المذكور بقوله: (لمن يخشى) في الآيات فيمن تنفع فيهم الذكرى، كما قال تبارك وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، وقال: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، فهي تنفع المؤمن، ولذلك قال هنا: (( إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ))؛ لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكرة دون غيرهم. أما ما ذكره تعالى هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة، فقد بينه في غير هذا الموضوع، كما في قوله عز وجل: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:27-28]، وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:90]، إلى غير ذلك من الآيات.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم أشار إلى تضخيم هذا المنزل الكريم بنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:4-6]، فهذا كله تفخيم لشأن القرآن الكريم، وبيان عظم قدر من أنزله، وهو الله سبحانه وتعالى المتفرد بصفاته وأفعاله. وقوله: (الرحمن) قرئ بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصوف، والكلام هنا على وصف الرحمن: (( تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى )) (( الرَّحْمَنُ ))، بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصول، يعني: ممن خلق. قوله: (( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) أي: علا وارتفع، قاله ابن جرير ، وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان، كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلاً. ولا شك أن هذا المسلك الخلفي مسلك مذموم، وهو من التأويل الفاسد الذي يجب رده، والصحيح بل الصواب الذي لا يصح غيره: أن مثل هذه الآيات من آيات الصفات تمر على ظاهرها الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، بلا كيف، وبلا تعطيل، قال ابن كثير : والمسلك في ذلك طريقة السلف من إمرار ما جاء من ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:6]، هذا بيان لشمول قهره وملكه للكل، أي: كلها تحت ملكه وقهره وسلطنته وتدبيره، لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره سبحانه وتعالى.

قال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، بيان لكمال لطفه، أي: علمه نافذ في الكل؛ فيعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] والأخفى من السر: سر السر، فكذلك إن تجهر أو تخفت فيعلمه بجهرٍ وخفتٍ. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8]،أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله سبحانه وتعالى، (( لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى )) أي: الفضلى؛ لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى: (( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )) المراد بقوله في هذه الآية: (وأخفى) أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها القرآن. يقول الشنقيطي : قال بعض أهل العلم: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر) أي: ما قاله العبد سراً، (وأخفى) أي: ويعلم ما هو أخفى من السر، وهو ما توسوس به نفسه. يعني: السر هو ما يقوله العبد في الخفاء، أما ما هو أخفى من السر: فهو ما توسوس به نفسه، يعني مجرد ما يحدث الإنسان نفسه بشيء دون أن ينطق به فإن الله سبحانه وتعالى يعلمه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. قول آخر: (فإنه يعلم السر)، السر: ما توسوس به نفسه، (وأخفى) ما هو أخفى من ذلك، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله، ويعلم ما سيكون في المستقبل من أفعال هذا الإنسان، كما قال تعالى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [المؤمنون:63]، وكما قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، إن الله يعلم ما يسره الإنسان اليوم وما سيسره غداً؛ لأن ما يسره غداً هو أخفى بلا شك من السر، والعبد لا يعلم ما في غد، كما قال زهير في معلقته: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وأخفى) صيغة تفضيل، يعني: يعلم ويعلم ما هو أخفى من السر. وهناك قول ظاهر السقوط، وهو الزعم بأن (أخفى) فعل ماض: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] يعني: أنه يعلم سر الخلق وأخفى عنهم ما يعلهه هو. وهذا قول ظاهر السقوط، وإنما (أخفى) أفعل تفضيل، يعني: ما هو أخفى من السر. فقوله تبارك تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] يعني: فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه، كما قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، وقال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف:205]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، ولكن لابد في الدعاء من النطق وتحريك اللسان، لكن لا يرفع ولا يجهر بذلك.

قال تبارك وتعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:9-10]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى) هذا من عطف القصة أو الاستئناف، والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهت إليه الآية قبله ببيان أنه دعوى كل نبي لاسيما أشهرهم نبأً وهو موسى عليه السلام، فقد خوطب بقوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:14]، وبه ختم نبأه في هذه السورة بقوله: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98]، يعني: لما ذكر قصة موسى عليه السلام بدأها ببيان دعوته إلى لا إله إلا الله وإلى التوحيد، وختمها أيضاً بذلك، ففي مبدأ القصة خاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله: (( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ))، وفي آخر القصة قال: (( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ))، وربما قصد بذلك حمل النبي صلى الله عليه وسلم على التأسي بموسى في الصبر والثبات؛ لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له.

أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام إلى كيفية ابتداء الوحي إليه وتكريمه تعالى إياه؛ وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعدما طالت غيبته عنها ومعه زوجته، فأضل الطريق في صحراء سيناء، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء، فبينما هو كذلك إذ: آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29] يعني: أحس من جانب الطور ناراً، كما خصه تعالى بقوله: إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10]، أي: أبصرتها إبصاراً بيناً لا شبهة فيه، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ [طه:10]، أي: بشعلة مقتبسة تصطلون وتستدفئون بها، أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه:10]، أي: أجد هادياً يدلني على الطريق، لأنه كان قد ضل الطريق. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:11-12]، (فلما أتاها) أي: النار، (نودي يا موسى) (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)، فيجب في مثل هذا الوادي رعاية الأدب بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه له، كما يراعى أدب القيام عند الملوك، (وطوى) اسم للوادي. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ [طه:13] أي: اصطفيتك للنبوة، فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:13] أي: استمع للذي يوحى، ثم بينه بقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] أي: خصني بالعبادة وحدي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركتها دالة على ما في القلب واللسان، وأن تجعل الحركة صورة ظاهرة تعكس ما في القلب واللسان من الخشوع. قال أبو السعود : خصت الصلاة بالذكر، وأفردت في الأمر بالعبادة؛ لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وذلك قوله تعالى: (( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ))، أي: لتذكرني، فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار، أو (لذكري) خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو بإخلاص ذكري وابتغاء وجهي، لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر، أو لتكون ذاكراً لي غير ناس. هذه أقوال في معنى قوله: (( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي )).

ثم أشار عز وجل إلى وجوب إفراده بالعبادة، وإقامة الصلاة لذكره بقوله: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه:15] أي: واقعة لا محالة، أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15] أي: بسعيها عن اختيار منها، والنفس متعلقة بآتية، يعني: إن الساعة آتية لتجزى كل نفس بما تسعى. ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات، وأن الساعة لا يُعلم متى هي، وفي: (كاد) معنى القرب من ذلك، وتأولوا الآية على وجوه: الوجه الأول: إن كاد منه تعالى واجبة، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: أكاد أن أفعل كذا، معناها: أن ذلك واجب أن يقع كما أراد الله سبحانه وتعالى، والمعنى: (أكاد أخفيها) أنا عن الخلق لقوله تعالى: قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51]، فعسى من الله واجبة، بمعنى: هو قريب. الوجه الثاني: قال أبو مسلم : (أكاد) بمعنى: أريد، كقوله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76]. ومن أمثالهم المتداولة: (لا أفعل ذلك ولا أكاد) بمعنى: ولا أريد أن أفعل. قال الشهاب : تفسير (أكاد) بأريد هو أحد معانيها، كما نقله ابن جني في المحتسب عن الأخفش ، واستدلوا عليه بقوله: كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى كادت وكدت، يعني: أرادت وأردت، بدليل أنه قال بعدها: وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى بمعنى: أراد، لقوله: تلك خير إرادة. الوجه الثالث: أن (أكاد) صلة في الكلام، قال زيد الخير : سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس الوجه الرابع: أن معنى (أكاد أخفيها): فلا أذكرها إجمالاً، ولا أقول: هي آتية؛ وذلك لفرض إرادته تعالى: إخفاءها. إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي: اللطف بالمؤمنين، وبحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف وإن اتسع اللفظ لها.

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16]. (فلا يصدنك عنها) أي: فلا يصدنك عن تصديق الساعة، (من لا يؤمن بها واتبع هواه) أي: ما تهواه نفسه من الشهوات، وترك النظر والاستدلال، (فتردى) أي: فتهلك. قال الزمخشري : يعني: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير، إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيراً من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم، ولا عظم سوادهم -لا تغتر بكثرة عددهم-، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه لا البرهان وتدبره، وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله، فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16] أي: فتهلك معهم.

قال تبارك وتعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، هنا شروع في ما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر، وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع. لماذا ينبه الله موسى عليه السلام أنها عصا؟ لأن هذا تمهيد وإيقاظ وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب صنع الله سبحانه وتعالى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18] استوفى الجواب كل أركان التعريف، فإن أي شيء أردت أن تعرفه فإنك تعرف الذات، ثم النسبة فقال: (عصاي)، والياء ياء النسبة، ثم فؤائدها: (أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى). (أتوكأ عليها) أي: أعتمد عليها إذا عييت، أو إذا وقفت على رأس القطيع عند الصخرة. (وأهش بها على غنمي) أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله. (ولي فيها مآرب أخرى)، أي: حاجات أخر. قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:19-21] أي: سنعيدها إلى هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تفعل من قبل، فليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ [طه:22] أي: إلى إبطك، تَخْرُجْ بَيْضَاءَ [طه:22] أي: نيرة، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [طه:22]، أي: من غير قبح وعيب؛ كبياض البرص فإنه مما ينفر عنه؛ لأن البياض المستقبح هو البياض الذي ينشأ عن البرص -المرض المعروف- فلذلك قال: (بيضاء من غير سوء)، حتى لا يتوهم أحد أن هذا بياض منفر كبياض البرص، واعتمد الزمخشري أن قوله تبارك وتعالى: (من غير سوء) كناية عن البرص، كما كنى عن العورة بالسوءة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه لجاجة، فكان جديراً بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا أنصف ولا أجمل للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه، (( تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى )) أي: معجزة أخرى غير العطاء. لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [طه:23]، حق الآيات أن تظهر بعد التحدي والمناظرة، ولكن لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى؛ فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. والمقصود من هاتين المعجزتين وما ينضاف إليهما: إفحام فرعون، وتأييد موسى بهذه المعجزات أمام الكفار عند المناظرة، والله سبحانه وتعالى أراه أولاً هذه المعجزات مع أن حقهما إظهارهما عند التحدي والمناظرة، لكن أراه الله أولاً بعض آياته الكبرى ليقوى قلبه على مناظرة الطغاة، فحينما يقصد ويواجه فرعون يكون قلبه متيقناً أن معجزاته واقعة، فقد رأى العصا انقلبت حية، ورأى ما حصل بيده عليه السلام، وغير ذلك من هذه الآيات.

قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [طه:24] أمره أن يذهب إليه بعد أن طمأن قلبه بهذه المعجزات، وأنه مؤيد من الله سبحانه وتعالى، (اذهب إلى فرعون) هذا هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. إذاً: كل ما مضى تمهيد لهذا المقصود؛ وهو الذهاب إلى فرعون، وفصل عما قبله من الأوامر إيذاناً بأصالته، والأوامر الماضية لما قال له تبارك وتعالى: (ألقها يا موسى)، ثم قال: (خذها ولا تخف)، ثم قال: (واضمم يدك إلى جناحك)، ثم فصل بينهما بقوله تبارك وتعالى: (تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى)، بعد هذا الفصل قال: (اذهب إلى فرعون)، على أنها مهمة مستقلة، أي: اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعوه إلى عبادتي، وحذره من نقمتي. اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24] أي: جاوز الحد في التكبر والعتو حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية، فلابد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية التي صدقتها المعجزة.