تفسير سورة يوسف [19-35]


الحلقة مفرغة

يقول الله تبارك وتعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [يوسف:19]. ((وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم)) أي: الذي يرد الماء ويستقي لهم. ((فأدلى دلوه)) أي: أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف للخروج، فلما رآه هذا الوارد قال: ((يا بشرى هذا غلام)) وقرئ ((يا بشراي هذا غلام))، بالإضافة والمنادى محذوف، أو نُزِّلت البشرى منزلة من ينادى فقيل: ((يا بشرى)) ويقال: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء. ((هذا غلام)) الغلام الطار الشارب، أي: الذي بدأ ينبت شاربه، أو هو من ولادته إلى أن يشب، والتنوين لكلمة (غلام) لتعظيم شأن هذا الغلام. ((وأسروه بضاعة)) أي: أخفوه متاعاً للتجارة. فتكون (بضاعة) منصوبة على أنها حال. وإذا كان معنى (أسروه) جعلوه فهي مفعول به، أي: جعلوه بضاعة. ويصلح إعرابها مفعولاً لأجله، أي: لأجل أنهم أسروه بضاعةً. والبضاعة من البضع وهو القطع، فهو قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة، لأنه نظر إليه على أنه سوف يجعله عبداً ليحصل به مالاً كثيراً في التجارة ((والله عليم بما يعملون)).

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف:20] الضمير في (أسروه) وفي (وشروه) للسيارة، والمقصود أن أهل هذه القافلة هم الذين أسروه وأخفوه، وقد روي أنهم كانوا تجاراً من بلدة مدين، فلما أصعد واردهم يوسف وضموه إلى بضاعتهم باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهماً، ثم أتوا بيوسف إلى مصر. وإعراب دراهم بدل من (ثمن) مجرور بالفتحة؛ لأنه من صيغ منتهى الجموع فهو ممنوع من الصرف. وقوله: (معدودة) كناية عن القلة؛ لأن الكثير يوزن عندهم، لكن القليل يعد، لذلك قال: ((دراهم معدودة)) أي: قليلة. (وكانوا فيه). أي: في يوسف ((من الزاهدين)) أي: الراغبين عنه ((وكانوا فيه)) دلالة على علو المقام كما في قوله تعالى: فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ [الأحقاف:16].

فوائد من قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس...)

من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب الإنسان ولا يتوقع؛ لأنه قد يرد الفرج من باب الكرب، فها هو يوسف عليه السلام ما حصل له الفرج والتمكين والسيادة في الأرض والخير إلا بعد هذه المحنة التي مر بها، فكأن إخوته ألقوه في الجب ليهلكوه، والله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك، أراد أن يكون إلقاؤه في الجب مفتاحاً لتحقق الرؤيا التي من أجلها حقدوا عليه وحسدوه وتآمروا على قتله أو إبعاده. فهذه المحنة كانت في ظاهرها كربة وهي في الحقيقة سلام وفرج وتمكين في الأرض ليوسف عليه السلام. ومعنى ((شروه)) باعوه، فالشراء والبيع يطلقان على بعضهما، فإذا كانت بمعنى اشتروه، فستكون القافلة الثانية التي من أهل مصر هم الذين اشتروه من تجار مدين، مع أن الرواية التي حكت أن تجار مدين باعوه أتت بصيغة التمريض (وروي)، فالله أعلم بصحة ذلك. إذاً: الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب الإنسان، وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره، وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه، وأن البشرى قد يعقبها الحزن، والعزة قد يعقبها الذلة وبالعكس.

من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب الإنسان ولا يتوقع؛ لأنه قد يرد الفرج من باب الكرب، فها هو يوسف عليه السلام ما حصل له الفرج والتمكين والسيادة في الأرض والخير إلا بعد هذه المحنة التي مر بها، فكأن إخوته ألقوه في الجب ليهلكوه، والله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك، أراد أن يكون إلقاؤه في الجب مفتاحاً لتحقق الرؤيا التي من أجلها حقدوا عليه وحسدوه وتآمروا على قتله أو إبعاده. فهذه المحنة كانت في ظاهرها كربة وهي في الحقيقة سلام وفرج وتمكين في الأرض ليوسف عليه السلام. ومعنى ((شروه)) باعوه، فالشراء والبيع يطلقان على بعضهما، فإذا كانت بمعنى اشتروه، فستكون القافلة الثانية التي من أهل مصر هم الذين اشتروه من تجار مدين، مع أن الرواية التي حكت أن تجار مدين باعوه أتت بصيغة التمريض (وروي)، فالله أعلم بصحة ذلك. إذاً: الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب الإنسان، وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره، وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه، وأن البشرى قد يعقبها الحزن، والعزة قد يعقبها الذلة وبالعكس.

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. يخبر تعالى عن لطفه بيوسف عليه السلام، إذ يسر له من اشتراه في مصر فاعتنى به، وأوصى أهله، وتوسم فيه الخير والصلاح. وهذه من المواضع التي ورد فيها ذكر مصر علماً على البلد في القرآن الكريم. ومعنى: ((أكرمي مثواه)) أي: اجعلي مقامه حسناً مرضياً، والمثوى: هو محل الثواء، وهو الإقامة. وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه؛ لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة واتخاذ الفراش ونحوه فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به. وروي: أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر، فأقام في بيت سيده والعناية الربانية تحفه والنجاح يحوطه، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به يمدحه الله تعالى على يديه، فنال حظوة لديه، لأن قدومه كان مباركاً بالنسبة لهذا الرجل الذي اشتراه من مصر والذي أقام عنده وهو العزيز، فكان يحصل له خير كثير منذ أن قدم يوسف عليه السلام عنده، وأقامه قيماً على كل ما يملكه، وضاعف الله تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته. ثم يقول تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:21] أي: كما جعلنا له مثوىً كريماً في منزل العزيز وقلبه، جعلنا له مكانةً رفيعةً في أرض مصر ووجاهةً في أهلها ومحبةً في قلوبهم؛ ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك، وتفضي بيوسف إلى الرياسة العظمى، فلذلك أعقب الله تبارك وتعالى صدر هذه الآية مباشرة في نفس الآية بقوله عز وجل: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) هذه إشارة إلى أنه بجانب المكانة التي كانت له في قلب العزيز وفي منزله وفي إكرام مثواه بجانب ذلك أعطاه الله سلطاناً؛ لأن العزيز جعل ليوسف الأمر في ماله وأحواله، وجعل له مكانةً رفيعةً في أرض مصر ووجاهةً في أهلها. ((والله غالب على أمره)) إذا كانت الهاء تعود إلى لفظ الجلالة فيكون التفسير أن الله سبحانه وتعالى لا ينازعه أحد فيما يريد. أما إذا قلنا إن الهاء تعود ليوسف عليه السلام فيكون التفسير أن الله سبحانه وتعالى لا يمنع عما يريد من أمر يوسف، فقد أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة، فقد أنجاه الله من كيد إخوانه حينما ألقوه في الجب أرادوا له الهلكة فأراد الله سبحانه وتعالى أن تكون له السيادة والرياسة والتمكين، كذلك هذه كأنها إشارة إلى المحن التي قد يقبل عليها يوسف فيما بعد، وذلك فيما يتعلق بامرأة العزيز، فالله سبحانه وتعالى كان أيضاً غالباً على أمره فمنعه من السوء، وكانت له العاقبة الحميدة، أيضاً بعد ذلك حينما ألقي في السجن وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ومع ذلك ألقي في السجن فكان له بعد ذلك العاقبة المحمودة، فهذا على أساس أن الهاء تعود إلى يوسف. ((والله غالب على أمره)) أي: على أمر يوسف، حيث إن يوسف أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة. ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) أي: لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فيأتون ويذرون زعماً أن لهم شيئاً من الأمر، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا لطفه سبحانه وتعالى.

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [يوسف:22]. هذه الآية كالتي قبلها تخللت نظم القصة وأحداثها لمعنى بديع وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف، وثمرات مجاهداته، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته، إذ طوى له المنح في تلك المحن، فوصل إلى السيادة عن طريق العبودية التي حصلت له لما بيع. ((ولما بلغ أشده)) أي: زمان اشتداد جسمه وقوته، قال أبو عبيدة : العرب تقول: بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان. ((آتيناه حكماً وعلماً)) الحكم إما أنه الحكمة، وهي العلم المؤيد بالعمل التي قال الله فيها: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، أو أنه سلطان يحكم بين الناس به. ((وكذلك نجزي المحسنين)) قال الزمخشري : وفي قوله تعالى: ((وكذلك نجزي المحسنين)) تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاءً على إحسانه، وعن الحسن قال: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23] هذا رجوع إلى شرح ما جرى ليوسف في منزل العزيز، بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، بقوله: وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف:21] ثم حصل تخلل لأحداث القصة بهذا الموضع: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [يوسف:21-22] فعاد السياق ورجع إلى شرح ما جرى ليوسف عليه السلام في منزل العزيز من مراودتها له وإيذائها له عليه السلام. ((وراودته)) أي: طلبت منه أن يواقعها. وتعديته بعن (وراودته عن نفسه) لتضمينه معنى المخادعة، والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز لتقرير المراودة، كان يمكن أن يقول: وراودته امرأة العزيز، لكن سيفوتنا في هذه الحالة بيان هذا المعنى الذي جاء في صيغة الموصول: ((وراودته التي هو في بيتها)) إشارة إلى أن عوامل الفتنة كانت كلها مجتمعة في حق يوسف عليه السلام ومع ذلك ثبت؛ لأنها صاحبة البيت وهي البادئة والمحتالة والمخادعة والحريصة على ذلك، فإيراد الموصول (التي) دون امرأة العزيز جاء لتقرير المراودة حتى نعلم أنه قد وقعت هذه المراودة، فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك. قيل لامرأةٍ: ما حملك على ما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. وفيها إظهار كمال نزاهته عليه السلام كما سيأتي؛ لأن هذه الآية تثبت أنها هي التي فعلت ذلك، وأنه لم يكن من ناحيته شيء، فصيغة الموصول هنا أفادت كل هذه الفوائد. ((وقالت هيت لك)) قرئت (هيت) كجير، وكحيث، وبكسر الهاء، وبهمزة ساكنة بعدها (هئت لك). إذاً فيها خمس قراءات (هَيت لك) (هِيت لك)، (هَيتُ) (هئْت)، (هيئت)، وهي في هذه اللغات كلها اسم فعل بمعنى: تعال، واللام لتبيين المفعول. ونقل عن الفراء : أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها. قال ابن الأبياري : هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ونحوه. ((قال معاذ الله)) منصوب على المصدر أي: أعوذ بالله مما تدعينني إليه، لكونه زناً وخيانة فيما اؤتمنت عليه، وضراً لمن توقع النفع، وإساءة إلى المحسن. ((قال معاذ الله)) قال أبو السعود : وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء، وهذه هي الشفافية والإيمان والإخلاص لله سبحانه وتعالى، كما وصفه الله تعالى بأنه كان من المخلصين، فأداه هذا إلى أن رأى الفحش في صورته الحقيقية القبيحة، التي تبلغ أقصى غايات السوء والقبح والشناعة، فلذلك قال: ((معاذ الله)). فكلمة ((معاذ الله)) تكشف عن أنه رأى القبيح قبيحا،ً وأنه لم يزين في عينه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. والإنسان قد يرى الأشياء على غير ما هي عليه، ولذلك كان من الدعاء المأثور -أعتقد أنه ينسب إلى الصديق رضي الله تعالى عنه-: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأتبع الهوى) أو كما قال رضي الله عنه، إذاً: قد يرى الإنسان الحق باطلاً أو الباطل حقاً، أما من وفقه الله سبحانه وتعالى فإنه يرى الأشياء على ما هي عليه، وهذا هو الذي حصل من يوسف عليه السلام، فإنه رأى القبيح قبيحاً في صورته التي يستحقها من القبح، فلذلك نفر منه وبعد منه غاية البعد ونفر غاية النفور كما هو واضح في السياق، فهو لم يتردد في ذلك على الإطلاق. وهذا خلاف من يخذله الله سبحانه وتعالى فيستحقر القبائح، كم ترى من شخص قد يهنئ الآخر؛ لأنه أحضر جهاز الدش في البيت، ولو فقه وعرف ضرره لعزاه في هذه المصيبة التي ليس بعدها مصيبة. فالله سبحانه وتعالى ينكس قلوب هؤلاء الناس ويرون القبيح حسناً والحسن قبيحاً، كما ترون في كافة وسائل الإعلام من التشنيع على أهل الطاعة، ومن التنفير عن سبيل الله سبحانه وتعالى بالألفاظ المنفرة، والأوصاف المخالفة للحقيقة، وفي نفس الوقت يرون القبيح حسناً. ((قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)) تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية. قوله: ((معاذ الله)) فيه إشارةً إلى التقوى التي في قلبه، فهو يرى هذا الفعل معصية لله سبحانه وتعالى قبيحاً، ولا يعينه على النجاة منها إلا الله، ولذلك تعوذ بالله. ثم إن يوسف عليه السلام ذكر لها بعض الأسباب التي تكون مقنعة لها فتكف عنه شرها فقال: ((إنه ربي أحسن مثواي)) فهنا علل امتناعه بأسباب خارجية مما عسى أن يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره، بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها. والضمير في قوله: (إنه) للشأن، وفائدة تصدير الجملة به إشارة إلى ضخامة مضمون هذه الجملة، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن؛ فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقباً لما يعقبه. هذه فائدة استعمال ضمير الشأن، فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هو أن ربي -أي: سيدي العزيز صاحب هذا البيت- قد أحسن مثواي، وأحسن تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف أقابل إحسانه إلي بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها بطريقة في غاية اللطف إلى رعاية حق العزيز، إذا كان من هو في مقام عبده أو خادمه راعياً حرمته بهذه الطريقة، فأولى بها وهي زوجته أن ترعى حرمته، فكأنه يقول لها: وقد أحسن مثواك أنت أيضا،ً فعليك أن تؤدي حق هذا الزوج ولا تخونيه. وقيل: الضمير لله عز وجل، (إنه ربي) أي: الله عز وجل، فكيف أعصي الله عز وجل بارتكاب تلك الفاحشة؟! على أساس أن ربي خبر إن و(أحسن مثواي) خبر ثان، أو: (أحسن مثواي) هو الخبر و(ربي) بدل من الضمير. وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل، أي: أن الله سبحانه وتعالى أحسن مثواي فكيف أعصيه؟! فأشار لها أيضاً أن تتقي الله ولا تفعل ما يغضبه سبحانه، وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً، فهو لم يواجهها بقوله: ما هذا الذي تطلبينه، أو إن هذا لا يمكن أن يقع، أو إنني أمتنع من هذا. ثم أضاف تعليلاً آخر للامتناع فقال: ((إنه لا يفلح الظالمون)) عقب التعليل الأول. والفلاح هو الظفر، أو البقاء في الخير، ومعنى (أفلح): دخل فيه كأصبح وأخواتها. والمراد بالظالمين كل من ظلم كائناً من كان، فيدخل في ذلك المقابلون للإحسان بالإساءة، والعصاة لأمر الله تعالى كالزناة؛ لأنهم ظالمون لأنفسهم، وظالمون للمزني بأهله.

ثمرات قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها..)

وقال بعض اليمانيين: ثمرات هذه الآية ثلاث: الأولى: أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك ليعصمه منها، كأن يقول إذا دعي إلى أي معصية: معاذ الله، أو أعوذ بالله، أي: ألتجئ وأتحصن بالله سبحانه وتعالى أن يحميني من هذا. ويدخل فيه دعاء الشيطان إلى المعصية الشيطان، وكذلك دعاء شياطين الإنس، أو دعاء هوى النفس الأمارة بالسوء. الثانية: أن السيد والمالك يسمى رباً، لكن لا يطلق عليه الرب مطلقاً؛ لأن إطلاق هذه التسمية لا تكون إلا في حق الله سبحانه وتعالى، أما في حق غيره فتكون مضافة، لذلك أتى بها يوسف عليه السلام مضافةً: (إنه ربي). الثالثة: أنه يجوز ترك القبيح لقبحه، ورعايةً لحق غيره، وأيضاً خشية العار أو الفقر أو الخوف.. أو نحو ذلك، ولا يقال: التشريك غير مفيد في كونه تاركاً للقبيح وأنه لا يثاب، بمعنى: أن الإنسان إذا انتهى من القبيح يمكن أن يشرك في النية بجانب الخوف من الله سبحانه وتعالى، نية الامتناع خشية العار، أو الخوف من مقابلة الإساءة بالإحسان ورعاية حق الغير، أو غير ذلك من ذكر العواقب التي تكون نتيجة هذه الفعلة. وتدل الآية القرآنية أيضاً على لزوم حسن المكافأة بالجميل: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] فكما أحسن هذا الرجل إلى يوسف عليه السلام فعليه أن يقابل إحسانه إليه بإحسان مثله، وأن من قابل الإحسان بالإساءة فإنه يكون ظالماً؛ لقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].

وقال بعض اليمانيين: ثمرات هذه الآية ثلاث: الأولى: أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك ليعصمه منها، كأن يقول إذا دعي إلى أي معصية: معاذ الله، أو أعوذ بالله، أي: ألتجئ وأتحصن بالله سبحانه وتعالى أن يحميني من هذا. ويدخل فيه دعاء الشيطان إلى المعصية الشيطان، وكذلك دعاء شياطين الإنس، أو دعاء هوى النفس الأمارة بالسوء. الثانية: أن السيد والمالك يسمى رباً، لكن لا يطلق عليه الرب مطلقاً؛ لأن إطلاق هذه التسمية لا تكون إلا في حق الله سبحانه وتعالى، أما في حق غيره فتكون مضافة، لذلك أتى بها يوسف عليه السلام مضافةً: (إنه ربي). الثالثة: أنه يجوز ترك القبيح لقبحه، ورعايةً لحق غيره، وأيضاً خشية العار أو الفقر أو الخوف.. أو نحو ذلك، ولا يقال: التشريك غير مفيد في كونه تاركاً للقبيح وأنه لا يثاب، بمعنى: أن الإنسان إذا انتهى من القبيح يمكن أن يشرك في النية بجانب الخوف من الله سبحانه وتعالى، نية الامتناع خشية العار، أو الخوف من مقابلة الإساءة بالإحسان ورعاية حق الغير، أو غير ذلك من ذكر العواقب التي تكون نتيجة هذه الفعلة. وتدل الآية القرآنية أيضاً على لزوم حسن المكافأة بالجميل: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] فكما أحسن هذا الرجل إلى يوسف عليه السلام فعليه أن يقابل إحسانه إليه بإحسان مثله، وأن من قابل الإحسان بالإساءة فإنه يكون ظالماً؛ لقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].

ثم يقول تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]. الهم يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإجماع عليه، وبالعزم القصد إلى إمضائه، فهو -أي: الهم- أول العزيمة، أما أعلاه فهو الهمة. إذاً: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقل ورضاً، مثل: الهم الذي يدفع صاحبه إلى المشي إلى الحانة ليشرب الخمر ووجدها مغلقة، فهذا عنده الهم وعنده العزيمة، وكذلك الذي يهم أن يقاتل أخاه المسلم، كما جاء في الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما ذنب المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالمقتول فشل في المبارزة فقتل قبل أن يقدر على قتل أخيه، وإلا فهو قد هم وحرص على هذه المعصية، فيؤاخذ بهذا الهم. أما الهم الثاني فهو الهم الذي هو خاطر أو حديث نفس يخطر للإنسان ولا يوجد عقبه شيء حسي أو في الأعيان، فروى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل). فمعنى قوله تعالى: ((ولقد همت به)) أي: همت بمخالطته وعزمت عليها عزماً جازماً، ليس كالخاطر العابر، بل هو همٌّ مؤثر وهو العزم والتصميم، لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مبادئه من المراودة وتغليق الأبواب، ودعته إلى الإسراع إليها بقولها: ((هيت لك)) مما اضطره إلى الهرب إلى الباب، هذا الهم منها. ولذلك يحسن الحقيقة الوقف هنا عند قوله: ((ولقد همت به)) ثم البدء بقوله: ((وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) لمعنى سوف نبينه إن شاء الله. أي: لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها كما همت به لتوافر الدواعي، فكل دواعي الفتنة موجودة فقد كان في عنفوان شبابه عزباً مملوكاً، وهي التي ابتدأت وألحت على هذا الشيء، ثم إنها تملك الرغبة والرهبة، فقد هددت بسجنه وغير ذلك. فهذه الآية تنزه يوسف أن يكون قد هم؛ لأن "لولا" حرف امتناع لوجود، فامتنع الهم لوجود برهان ربه، مثل قولك: لولا الماء لعطشنا، فامتنع العطش بسبب وجود الماء، وقولك: لولا الهواء لاختنقت، فامتنع الاختناق نتيجة وجود الهواء، وكذلك يقول الشخص: قاربت الإثم لولا أن الله عصمك، فهل معنى ذلك أنه قارف الإثم ؟ لا؛ فبسبب وجود عصمة الله لم يقارف الإثم. قال أبو حيان : ونظيره: قاربت الإثم لولا أن الله عصمك، ولا نقول: إن جواب "لولا" يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حيث ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله، فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهم أصلاً. وقيل: جواب "لولا": لغشيها ونحوه، فلو قلنا: إن التقدير: ((ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) أي: لغشيها، أو لأجابها، فحينئذ يكون معنى الهم أنه مجرد خطور الشيء بالبال، أو أنه الميل الفطري الطبيعي كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه، وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة وبين النفس والعقل مجاذبة ومنازعة، فداعي الدين هو الذي يمنع من ذلك، فالهم هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة، وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد كانت القوة على لوازم العبودية أكمل. وكذا قال أبو السعود : إن همه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ميلاً جبلّياً، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا ترى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين. فلا شك أن العبارة في الموقف السابق ليوسف عليه السلام وهو الوارد في قوله: ((قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون)) يدل على كمال نفوره واستقباحه لهذا الفعل، هل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه عليه السلام تسجيلاً محكماً؟! وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة، فحصل نوع من المزاوجة مثل قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54] لا لشبه بينها كما قيل، لكنه نوع من المشاكلة للاستصحاب بين اقتران اللفظين معاً في لفظ واحد أو في وقت واحد، لكن أشير إلى تباينهما حيث لم يردا في قالب واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هم بالمخالطة أي: لم يقل سبحانه وتعالى: ولقد (هما) معاً، أو لم يقل: ولقد هم كل منهما بالآخر، ولكن حصلت هذه المباينة إشارة إلى افتراقهما، ولقد همت به هماً كما ذكرنا بالمخالطة، أما هو فهم بها هماً جبلّياً غير اختياري. فجاءت الصيغة بهذه الطريقة إشارةً إلى تباين نوعي الهم، وأنهما ليسا من باب واحد. يقول: وصدر الأول -يعني: ابتدأ بهمها أولاً- بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي ((ولقد همت به)) ليثبت وجود هذا الهم منها، وعقب الثاني بما يعفو أثره وبما يمحو أثره، ((وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) إشارة إلى تباين الهم كما ذكرنا. ((برهان ربه)) أي: حجة ربه الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، إنه نور من ربه سبحانه وتعالى جعله يرى القبيح قبيحاً وينفر منه غاية النفور، والمراد برؤيته له كمال إيقانه به ومشاهدته له مشاهدةً وصلت به إلى مرتبة عين اليقين، وهي أعلى مراتب العلم على الإطلاق، وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنا بموجب ذلك البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته، أقبح ما يكون وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه. وجواب لولا محذوف يدل عليه الكلام، أي لولا مشاهدة برهان ربه بشأن الزنا لجرى على موجب ميله الجبلي، ولكن حيث كان مشاهداً له من قبل، استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة بل لمحض العفة والنزاهة. فاتضح أن لا تشويش في هذه الآية على عصمة يوسف عليه السلام، كنبي من أنبياء الله عليهم السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس وخواطر الشهوة الجبلية، ولكنهم معصومون من طاعتها والانقياد إليها، ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا ملائكة أو عالماً آخر، ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي لكونهم مقهورين على تركها، كالعنين لا يؤجر ولا يثاب على ترك الزنا؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعيةٍ ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية فهو كف النفس عما تتشوق إليه، فهو عمل نفسي، فهو يترك هذا الشيء نتيجة مجاهدة يثاب عليها، بخلاف من تركه وليس عنده داع إليه، فالدعاة بعثوا بتزكية الناس منها؛ لئلا يكونوا قدوةً سيئة مفسدين للأخلاق والآداب، وحجةً للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع، وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري. هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ما تلقفوه من أهل الكتاب من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام في همه، يقول القاسمي : فإني أنزه تأليفي عن نقلها بردها. وقال العلامة أبو السعود : وكلها خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها. وسبقه الزمخشري فأجاد الكلام في ردها، فلينظر فإنه مما يسر الواقف عليه. ((كذلك لنصرف عنه السوء)) أي: المنكر والفجور والمكروه. ((والفحشاء)) هي ما نتاهى قبحه ووصل في القبح إلى أقصى درجاته. يقول أبو السعود في قوله تعالى: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)): آية بينة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يقع منه همٌ بالمعصية ولا توجه إليها قط، وإلا لو كان توجه إليها لقيل: كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء، وإنما توجه إليه ذلك من خارج، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة فتأمل. ((إنه من عبادنا المخلصين)) قرئ بكسر اللام، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله، وقرئ بالفتح كما في قراءة عاصم ، أي: الذين أخلصهم الله لطاعته، فمعنى القراءة الثانية أن الله عصمه وحفظه وأخلصه لطاعته. قال الشهاب : قيل: إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءة يوسف عليه السلام القاطعة، أولاً: شهد الله سبحانه وتعالى له بالبراءة كما في هذه الآية: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)) أي: أنه لم يقترب منه السوء والفحشاء، وهذا في غاية التنزيه له عليه السلام والسبب: ((إنه من عبادنا المخلصين)) أي: الذين أخلصناهم لطاعتنا بأن عصمناهم، أما شهادة يوسف لنفسه فقد شهد بعفته فقال: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:26]، أما هو فلم يقع منه أدنى مراودة عليه السلام. وكذلك امرأة العزيز نفسها شهدت بما ينزه يوسف قالت: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:32] وسيدها أيضاً نزه يوسف وبرأه بقوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29]، وإبليس نفسه شهد ببراءة يوسف عليه السلام حينما قال: َلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40]. فإذاً: لا سبيل لإبليس على عباد الله المخلصين ومنهم يوسف؛ لأن الله قال: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)). ثم يقول الشهاب : فتضمن إخبار إبليس بأنه لم يغوه، ومع هذا لم يبرئه أهل القصص حينما جمعوا ركام المرويات الإسرائيلية والمخترعة والمختلقة، ولقد سماهم القا

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:25-27]. ((واستبقا الباب)) هذا متصل بقوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ [يوسف:24] فقوله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) اعتراف جيء به بين المعطوفين تقريراً لنزاهته، فقوله: (واستبقا الباب) أي: قصد كل منهما سبق الآخر إلى الباب، فيوسف عليه السلام بادر وسابقها إلى الباب ليخرج ويهرب من هذا الموقف، وهي سبقت أيضاً إلى الباب لتمنعه من الخروج ووحد الباب هنا مع جمعه أولاً، بقوله: (وغلقت الأبواب) لأن المراد به الباب الذي يؤدي إلى الخارج، أما الأبواب الأخرى فهي داخلية تؤدي إلى هذا الباب الخارجي. فيوسف عليه السلام لم يكن همه فقط أن يخرج من الباب الداخلي، لكن أن يخرج من الباب الذي يكون منه الخلاص من هذه الفتنة. ((وقدت قميصه من دبر)) أي: اجتذبته من خلفه، فانقد قميصه أي: انشق. ((وألفيا سيدها لدى الباب)) أي صادفا بعلها ثمةً قادماً. ((قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم)) تبرئة لساحتها وإغراءً عليه وتحريضاً. قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [يوسف:26]. لأن قده من قبل أمارة الدفع عن نفسها به، أو تعثره في مقادم قميصه بسبب إقباله عليها. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:27] لأن قده من دبره أمارة إدباره عنها بسبب أنها تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدته، ومن اللطائف ما قيل: إن هذا الشاهد أراد أن يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها. وبدأ بذكر القد من القبل؛ لأنه على علم بأنه لم ينقد من قبل، حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة، مع أنه كان يعلم أنه قد من دبر، لكنه أراد أن يأتي بعلامة يحكم بها في هذه المسألة، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر، إزاحةً للتهمة ووثوقاً بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها، وهذه اللطيفة بعينها هي التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]. فحتى يزيح التهمة عن نفسه، ويظهر أنه مخلص لقومه ويريد بهم الخير؛ تأليفاً لقلوبهم على الإسلام أو على الدين، يقول لهم: (إن يك كاذباً فعليه كذبه) هو أتى بصفة الكذب ولم يأت بصفة الصدق؛ لكون ذلك يعني أقرب إلى هواهم، مع أنه لن يضر موسى عليه السلام أن يوصف بأنه كاذب؛ لأنه مجرد احتمال، وهو صادق قطعاً. هذا نوع من التنزل في الحوار الذي لا يضر في الحق شيئاً، وكما في سورة سبأ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]. ومن هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه الآتي ذكره في قوله: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ [يوسف:76] فإزاحةً للتهمة بدأ بأوعيتهم أولاً قبل وعاء أخيه؛ كي لا يظهر أنه متعمد إخراجه؛ لأنه لو بدأ به، لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه. والقاسمي هنا قد أحسن إحساناً عظيماً في تفسيره حينما تجاهل تماماً الكلام الطويل الذي لا دليل عليه. فمن هو الشاهد في قوله تعالى: (وشهد شاهد من أهلها)؟! إنه ليس غريباً، ولذا تكون شهادته أوقع وأبلغ، حتى إنها جرت مجرى الأمثال، فحينما تأتي مثلاً بعدو من أعداء الإسلام يشهد بشهادة حق فتقول: ((شهد شاهد من أهلها)).

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28] الكيد هو الحيلة والمكر، وإنما استعظم كيدهن لأنه ألصق وأعلق في القلب، وأشد تأثيراً في النفس، ولهن فيه نيقةٌ ورفق، وبذلك يغلبن الرجال: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا أي: مع الضعف الذي في المرأة لكنها تقوى بهذا الكيد وهذا المكر على أن تغلب أقوى الرجال. يحتج بالآية من يرى الحكم بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات، كاللقطة والسرقة والوديعة ومعاقد الحيطان والسقوف وشبهها.