تفسير سورة التوبة [111-120]


الحلقة مفرغة

قال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111] لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان، والأنفس مفتونة بمحبة الأموال والأنفس، استنزلهم لفرط عنايته بهم عن مقام محبة الأموال والأنفس بالتجارة الرابحة المربحة والمعاملة المرغوبة، بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم، فعوض لهم خيراً مما أخذ منهم، فالآية ترغيب في الجهاد لبيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، وهذا التعبير دقيق من القاسمي رحمه الله تعالى، فقوله: إن الآية ترغيب في الجهاد لبيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، ولم يقل: إن الآية ترغيب في الاستشهاد؛ لأن الآية تضمن هذا الوعد العظيم من التضحية في سبيل الله بالروح وبالمال وكذلك بالمشاركة في الجهاد حتى ولو سلم المجاهد؛ لأنه قال: (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) ولم يقل: فيقتلون فحسب، فدل على الترغيب في الجهاد بصفة عامة. قال أبو السعود : ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تبارك وتعالى، وإثابته إياهم لمقابلتها بالجنة، عبر عن هذه المعاملة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يجعل الأمر على العكس. يعني: لم يقل: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم؛ ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها، إيذاناً بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم، ثم إنه لم يقل تبارك وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة، وإنما قال: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)؛ مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم؛ لأنه لو قال: بالجنة وحسب يكون أضعف، لكن البلاغة كلها في قوله: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بأن -توكيد- لهم الجنة، يعني الجنة لهم، ففيها تقرير أو مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم، واختصاصه بهم أيضاً، كأنه قيل: الجنة الثابتة لهم المختصة بهم؛ وذلك لأن الإنسان مهما ضحى فكل تضحية سيوجد ما هو أعلى منها، فإذا ضحى الإنسان بمال وبأعراض الدنيا فإنه سيضحي في سبيل الله بما هو أعلى ألا وهي نفسه التي بين جنبيه، فليس هناك ما هو أعلى من التضحية بالنفس، ولذلك قال الشاعر: الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود يعني: ليس بعد الجود بالنفس مرتبة، ولذلك كافأهم الله سبحانه وتعالى عليها بهذه الصفقة. ويقول جعفر الصادق رحمه الله تعالى: أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تشترى الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن أي: إذا أنفق الإنسان نفسه وروحه في سبيل الدنيا ستضيع الدنيا ويضيع الثمن عليه، لكن إذا خرج في سبيل الله وأذهب روحه في سبيل الله؛ سيبقى له هذا الثواب الجزيل العظيم. ولا ترى ترغيباً في الجهاد بأحسن ولا أبلغ من هذه الآية؛ لأنه أبرزه في صورة عقد عقده وباشر العقد رب العزة سبحانه وتعالى، أما ثمنه فهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل المعقود عليه كونهم فقط شهداء، وإنما إذا كانوا قاتلين لإعلاء كلمته ونصر دينه، وجعل هذا العقد مسجلاً في الكتب السماوية، كما قال عز وجل: (( وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ )) وناهيك به من صك. ووعد الله حق، ولا أحد أوفى من وعده، فنسيئته أقوى من نقد غيره في الحال؛ لأنه وعد الله سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد. وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية، صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء بقوله تبارك وتعالى: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذه إشارة إلى مكان التسليم، كل عقد له أركان: البائع، والمشتري، والمبيع (الصفقة)، وأيضاً المكان، فبعض العقود يشترط فيها تحديد المكان، مثل عقد السلم، فهو من العقود التي لا بد فيها من تحديد مكان التسليم، فالله سبحانه وتعالى في هذا العقد أشار إلى مكان التسليم وهو ساحة الجهاد في سبيل الله حينما قال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وإنفاذ هذه الصفقة في المعركة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري : (الجنة تحت ظلال السيوف). ثم أمضاه عز وجل بقوله: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وفي هذا من البلاغة والنصائح المناسبة للمقام، فهم لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازاً عن الاستبدال، وإن ذكروه في غير هذا الموضع؛ لأن قوله تعالى: (إن الله اشترى) يقتضي أنه شراء وبيع، وقوله هنا: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ) فهذا أيضاً يقتضي أنه شراء وبيع، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل. قوله: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلاً، لكن هو لا بد من حصوله؛ لأنه وعد من الله سبحانه وتعالى، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها بقوله: (فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أيضاً تأكيد له، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار. وفيها: أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين على تحريفهما ما يشير إلى الجهاد والحث عليه، نقله عنهما من رد على الكتابيين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك، ففي بعض نصوص التوراة وبعض نصوص الإنجيل -رغم التحريف الذي طرأ عليهما- إثبات شريعة الجهاد في رسالة موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويمكن أن يرجع إلى ذلك إلى الكتب المتداولة في دحض عقائد النصارى مثل كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي ، ففي هذا الكتاب فصل مستقل في أن الجهاد ليس من خصائص الإسلام.

لقد وصف الله تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم فقال سبحانه وتعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112] قوله: (التائبون) يعني: عن المعاصي، ورفعه على المدح، يعني: هم التائبون، كما دل عليه قراءة التائبين بالياء إلى قوله: ( والحافظين ) نصباً على المدح، أو جراً صفة للمؤمنين المذكورين في قوله: (( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )) فإذا جرت تكون صفة للمؤمنين، أو نصباً على المدح، لكن هنا مرفوعة، فيجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده (التائبون العابدون..) إلى آخره. قوله: (التائبون) أي: من المعاصي حقيقة، الجامعون لهذه الصفات. قوله: (العابدون) أي: الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها. قوله: (الحامدون) أي: الحامدون لله على نعمائه أو على ما نابهم من السراء والضراء. قوله: (السائحون) يعني: الصائمون، أو الضاربون في الأرض تدبراً واعتباراً، وإن شاء الله سنذكر تفاصيل معنى كلمة السائحين. قوله: (الراكعون الساجدون) يعني: المصلون؛ لأن الركوع والسجود من حالات الصلاة، أما ما عدا الركوع والسجود فقد تشتبه بأحوال غير الصلاة، فقد نرى إنساناً قائماً ولا نميز هل هو قائم يصلي أم قائم في غير صلاة، وكذلك القاعد، بخلاف الراكع والساجد فإنه لا يشتبه على من رآه أنه يصلي؛ لأن الركوع والسجود فيها أعلى درجات الخضوع والخشوع لله سبحانه وتعالى. قوله: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) يعني: في تحليله وتحريمه. قوله: (وبشر المؤمنين) الموصوفين بالنعوت المذكورة، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم، يعني: لم يقل: وبشرهم، وإنما قال: (وبشر المؤمنين) للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، ثم حذف المبشر به، فلم يقل: بشر المؤمنين بأن لهم كذا، وإنما قال: (وبشر المؤمنين)؛ لتعظيم المبشر به، أو لكونه معلوماً كما سيأتي في قوله عز وجل في سورة الأحزاب: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [الأحزاب:47].

الأقوال في معنى قوله تعالى: (السائحون)

قوله تبارك وتعالى: (السائحون) فيها أقوال كثيرة، منها ما يلي: (السائحون) يعني: الصائمون، وقد سمي الصائم سائحاً تشبيهاً بالسائح؛ لأن السائح لا زاد معه، والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه: صائم، ويقولون: خيل صائمة وخيل غير صائمة. فالفرس الصائم هو الواقف القائم الذي ليس أمامه علف؛ وذلك لأن الفرس يأكل مرتين: مرة في الغدو، ومرة في العشي، فشبه به الآدمي لتسحره وصيامه، فقيل في الآدمي: صائم أو سائح؛ لأنه يأكل مرتين في حالة الصيام: مرة في الفطور ومرة في السحور، ومنه قوله تبارك وتعالى: عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ [التحريم:5] يعني: صائمات. وقال ابن عيينة : إنما قيل للصائم: سائح؛ لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح. قال أبو طالب : وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل وقال الشاعر أيضاً: براً يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحاً يعني: صائماً، وأصل السياحة: الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة فيما يتركه من الطعام وغيره، فهو بمنزلة السائح. فهذا هو القول الأول في تفسير قوله تعالى: (السائحون) أي: بمعنى الصائمون. وقيل: (السائحون) هم الغزاة والمجاهدون في سبيل الله، ويستدل له بالحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله). القول الثالث: هم: طلاب العلم الذين يسافرون ويسيحون لطلب الحديث والعلم. قول رابع: هم المهاجرون في سبيل الله. القول الخامس: هم الجائلون بأفكارهم في ملكوته سبحانه وتعالى، ويجولون بعقولهم وقلوبهم فيما خلق الله من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه، وفي الحديث: (إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالشاهد هنا قوله: (إن لله ملائكة سياحين) يعني: يتحركون وينتشرون في الطرقات. يقول القاسمي : ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين، قال الزجاج : هو قول أهل التفسير واللغة جميعاً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة فهو الصيام. وعن الحسن : (السائحون) الصائمون شهر رمضان. وقال الشهاب : استعيرت السياحة للصوم؛ لأنه يعوق عن الشهوات، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر. ونقل الرازي عن أبي مسلم : أن السائحين هم السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح -أي: سيح الماء الجاري-، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً. إذاً: المعنى اللغوي للسياحة: هو السير في الأرض، مأخوذ من قوله تعالى في أول هذه السورة: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] أي: انتشروا في الأرض أربعة أشهر، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآيات الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات. وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال: هم المهاجرون. وعن عكرمة : أنهم المنتقلون لطلب العلم. قال ابن كثير : جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهذا حديث حسن. يقول القاسمي : لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية، لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها؛ لأن الجهاد في سبيل الله كما يطلق على قتال المشركين يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى، فمجاهدة النفس تتم أساساً في الجهاد، لكن يطلق أيضاً بصفة أعم على الصوم والهجرة والجهاد. جهاد للنفس في مفارقة الأوطان والأموال والأهلين، وكذلك الصيام فيه مجاهدة للنفس في ترك شهواتها، وكذلك السفر للتفقه في الدين فيه مجاهدة للنفس، وكذلك السفر للاعتبار والنظر في آثار الأمم المهلكة. فهذا كله يتطلب مجاهدة للنفس، هذا إذا أردنا أن نوفق بين هذه الأقوال كلها، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية، فإن أصل الحقيقة اللغوية للسياحة هي: الضرب في الأرض خاصة، وهذا الذي عبر عنه عكرمة بقوله: المنتقلون لطلب العلم. وفي هذه الحالة يكون كافياً لو أخذنا بالأصل اللغوي. إذاً: هناك مسلكان في تفسير (السائحون): الأول: تفسيرها في ضوء قوله: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) بحيث يشمل الجهاد في سبيل الله (القتال) ويشمل كل ما فيه جهاد للنفس، سواء في الصيام أو في طلب العلم، أو في الانتقال لطلب العلم أو في الهجرة، أو بالسير في الأرض للتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، هذا إذا أردنا التوفيق بين ما أثر عن السلف في تفسير (السائحون). الثاني: تفسير كلمة السائحين بالأصل اللغوي لهذه الكلمة، كما تقول: ساح الماء أو السيل، يعني: انتشر ومشى على وجه الأرض، فيراد بها معنى خاصاً وهو السياحة، التي هي الضرب في الأرض، وهذا يشير إلى وصف عظيم وهو الحق في تأويل الآية الكريمة. والقاسمي أورد هنا بحثاً لبعض المحققين كما وصفهم في تأييد هذا القول يقول: الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيراً بأن يضحي بقسم وجزءٍ من حياته في السياحة والتسيار؛ لأجل اكتشاف الآثار؛ والوقوف على أخبار الأمم البائدة؛ ليكون ذلك مثال عظة واعتبار، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد. وذلك في قوله تعالى: (السائحون) في هذه الآية، ولم يقع لفظ (السائحون) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع الفذ، فمع ذلك فقد اختلف في معناه أهل التفسير، فمنهم من قال: هم الصائمون، ومنهم من قال: هم السائرون، مأخوذ من السيح والانتشار وهو الجري على وجه الأرض والذهاب فيها، ويطلق السائح على معنىً يضاد الجامد، فالشيء السائح هو سائل مائع منتشر، بخلاف الجامد الذي لا يتحرك. وألفاظ القرآن يجب حملها على ظواهرها وعلى معانيها الحقيقية ما لم يمنع مانع عقلي، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة، وعليه فيجب حمل لفظ (السائحون) على معناه الظاهر الحقيقي، وهو: السائرون الذاهبون في الديار؛ لأجل الوقوف على الآثار، توصلاً للعظة بها والاعتبار، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ. أما المعنى المجازي فإنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي، في حال أن الأمر هنا بالعكس، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي، وذلك مثل قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ [الأنعام:11]، وهذا أمر بالسياحة في الأرض للاعتبار.

السياحة بين المفهوم الشرعي والمفهوم غير الشرعي

في مثل هذا البحث ينبغي أن ننسى تماماً القاذورات المرتبطة بكلمة السياحة؛ لأن هذه القاذورات المرتبطة بالسياحة طرأت نتيجة الفساد الذي عم وطم وظهر في البر والبحر والجو، لكن نحن الآن نتعامل مع معاني الوحي الشريف، ومعاني اللغة العربية الأصلية، بغض النظر عما صارت ترمز إليه كلمة السياحة الآن من الفساد والعفن. نحن نتكلم عن السياحة التي هي عبادة، وهي الانطلاق في الأرض للتفكر في آيات الله، ومطالعة أيام الله سبحانه وتعالى، وآثار الأمم الغابرة، كما في قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا [الأنعام:11]، وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [الروم:9]، وقوله تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا [يوسف:109]، وقوله: فَسِيرُوا [آل عمران:137]، وقوله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20]، وقول الله عز وجل: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:100] فهذه الآيات قرائن نيرة تدل بأن السيح معناه: السير، فإنها وإن تكن من مادة أخرى إلا أن معناها يلاقي معنى السيح، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة، وذلك كقوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2] أي: انتشروا في الأرض أو سيروا في الأرض، فكلمة: (سيحوا) هنا تفسر (السائحون) في الآية هذه. أما من يقول: إن خير ما فسرت به الآية بالوارد فنقول: إن صرف هذا اللفظ عن ظاهره فيه تكسيل للأمة، وبه يحصل قصور همتها، وضعف نشاطها، ويحول بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة، ورؤية عمران المسكونة، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين. إذاً: كلمة السياحة ومعانيها الآن تحتاج إلى كثير من الاحتراز؛ لأنها لا تطبق بالصورة التي يريدها الشرع؛ لأن هناك من يعتقد أن أنظف سياحة هي ما يسمونه بالسياحة الدينية، والسياحة الدينية لا تقتصر على الحج ولا العمرة، وإن كان بهذا المعنى يصح أن توصف بأنها سياحة؛ لأنها انتشار في الأرض لإقامة فريضة أو عبادة، لكن السياحة الدينية عند هؤلاء المنحرفين هي إلى المقابر أو إلى أضرحة الأولياء ونحو هذه الأشياء! ومن السياحة التي يظن أنها مباحة شد الرحال إلى الأماكن التي نزلت فيها لعنة الله سبحانه وتعالى على القوم المعذبين، فأمثال هذه الأماكن لا ينبغي للإنسان أن يذهب إليها، وإذا مر بها كعابر سبيل فإما أن يبكي وإما أن يسرع ويجري، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمروا بهؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين) فمن السنة أن الإنسان إذا مر في رحلته بشيء من هذه الأماكن كديار ثمود أو آثار الفراعنة المشركين الوثنيين فليسرع؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام علل ذلك بقوله: (لا تمروا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم) فهو أمر بالإسراع خشية أن يصيبنا ما أصابهم؛ لأن هذه الأماكن نزلت فيها لعنة الله، ونزل فيها غضب الله على من ناوأه وحاربه وعصاه وكفر به. ومن علامات موت القلب أن الإنسان يمر بهذه الأماكن دون أن يبكي ودون أن يعتبر، فإذا حصل ذلك ولم يستحضر هذه المعاني ولم يسرع بمغادرة هذه الأماكن ففي هذه الحالة يخشى أن يعاقب بأن تصيبه نفس اللعنة التي أصابت هؤلاء المعذبين، وقد يكون هذا هو السر فيما يسمونه الآن: لعنة الفراعنة، فهي ليست لعنة الفراعنة، وإنما هي لعنة الله سبحانه وتعالى تصيب من يأتي إلى هذه الأماكن المشئومة. فإذاً: الأماكن التي يعرف أنه نزل عذاب الله فيها، ينبغي إذا مر بها الإنسان مجتازاً أن يسرع ويبكي، والأصل ألا يأتي إلى هذه الأماكن أصلاً خشية أن يصيبه ما أصابهم. فهذا هو التفسير الصحيح لما يسمى الآن: لعنة الفراعنة؛ لأن الفراعنة الآن أموات، ولعنة الله تصيب من يجاورهم في مساكنهم وفي ديارهم بشؤمهم لقوله عليه الصلاة والسلام (أن يصيبكم ما أصابهم) والله تعالى أعلم، ولا يبعد أيضاً أن تكون بعض الأماكن التي فيها ظواهر غريبة هي أماكن نزول عذاب، فربما لأجل ذلك يهلك من اقترب منها، مثل مثلث برمودا وغيره، وهذا احتمال قائم والله تعالى أعلم.

الآثار المترتبة على السياحة

قال الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس، لما يلقاه من أنواع من الضر والبؤس. يعني: الإنسان إذا سافر يتمرن وتزيد خبرته بالحياة، فيلقى ضرراً وبؤساً، فلا بد من الصبر عليها، وقد يتعرف على علماء في تخصصات مختلفة فيستفيد من كل ما ليس عند الآخر، وقد يلقى الأكابر من الناس فيحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها، وقد يسهل اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم، فتقوى معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين، لكن يشترط أن تكون هذه السياحة بمعنى السير في الأرض للاعتبار وللعظة وللهجرة وللجهاد ولطلب العلم، وغير ذلك من أنواع الطاعات.

وجه ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة

قال القاضي : إنما جعل الله ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة في قوله تعالى: (الراكعون الساجدون) ولم يقل: المصلين؛ لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبهما يتبين الفرق بين المصلي وغيره، ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع لله تعالى، والركوع وسطها، والسجود غايتها، فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية؛ تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.

وجه ذكر العطف مرتين في الآية

ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوهاً؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف) وعطف بالواو حيث قال: (والناهون عن المنكر) ثم قال: (والحافظون لحدود الله) فما السر في وجود الواو في هذين الموضعين؟ أما قوله تعالى: (والناهون عن المنكر) فقالوا: سر العطف فيه: إما للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن بينهما تلازماً في الذهن والخارج، يعني: قوله عز وجل: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) فيه إشارة إلى أن هاتين الوظيفتين هما صفة واحدة أو فعل واحد، سواء كان في الذهن أو في الخارج؛ لأن الأمر بالمعروف يستلزم النهي عن المنكر، فإذا أمرت بالصلاة فأنت تنهى عن ترك الصلاة، وإذا نهيت عن ترك الصلاة فكأنك تأمر بالصلاة وهكذا، فلما كان بينهما من التلازم سواء كان في الذهن أو في الواقع الخارجي اعتبرا كأنهما خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن فعل الأوامر يتضمن ترك النواهي، فكان بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف بخلاف ما قبلهما. أما الموضع الثاني وهو قوله تعالى: (والحافظون لحدود الله) فقيل: سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبعة؛ لأن العرب إذا وصلت إلى العدد السابع يكون هذا عدداً تاماً عندهم، وحينئذ يبدءون العدد الجديد بالواو، يقولون مثلاً: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة، وثمانية تسعة عشرة وهكذا، فإذا فرغوا من السبعة يقولون: وثمانية، فهذه اسمها واو الثمانية، فهنا في نفس هذه الآية: (( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ )) لأنها جاءت في الصفة الثامنة، ولذلك تسمى: واو الثمانية. ونُظِرَ فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة، لاستعماله في التكثير لا معدودة، وهذا نفس ما قالوه في قوله تبارك وتعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] فقالوا: هذه واو الثمانية، وهذا المبحث فيه نقاش كثير، ومن العلماء من أبطل هذا الاستدلال، فيمكن مراجعته في كتاب (( مغني اللبيب عن كتب الأعاريب )) لـابن هشام . وقيل: سر العطف التنبيه على أن ما قبله في تفصيل الفضائل: التائبون، العابدون، السائحون.. إلى آخره، وهذا مجملها، أجمل كل ما مضى في قوله: ( والحافظون لحدود الله )؛ لأنه شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفاً نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء، فلمغايرته لما قبله بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه. وقيل: المراد بحفظ الحدود ظاهرها يعني: إقامة الحدود كالقصاص على من استحقه، والصفات الأولى إلى قوله: (الآمرون بالمعروف) هي صفات محمودة لازمة للشخص في نفسه، لكن قوله: (والحافظون لحدود الله) هذه باعتبار غيره؛ لأن حفظ حدود الله: هي إقامتها على مستحقيها بالقصاص مثلاً، فلذا تغاير تعبير الصنفين، فترك العاطف في القسم الأول، وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد، ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به.

قوله تبارك وتعالى: (السائحون) فيها أقوال كثيرة، منها ما يلي: (السائحون) يعني: الصائمون، وقد سمي الصائم سائحاً تشبيهاً بالسائح؛ لأن السائح لا زاد معه، والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه: صائم، ويقولون: خيل صائمة وخيل غير صائمة. فالفرس الصائم هو الواقف القائم الذي ليس أمامه علف؛ وذلك لأن الفرس يأكل مرتين: مرة في الغدو، ومرة في العشي، فشبه به الآدمي لتسحره وصيامه، فقيل في الآدمي: صائم أو سائح؛ لأنه يأكل مرتين في حالة الصيام: مرة في الفطور ومرة في السحور، ومنه قوله تبارك وتعالى: عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ [التحريم:5] يعني: صائمات. وقال ابن عيينة : إنما قيل للصائم: سائح؛ لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح. قال أبو طالب : وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل وقال الشاعر أيضاً: براً يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحاً يعني: صائماً، وأصل السياحة: الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة فيما يتركه من الطعام وغيره، فهو بمنزلة السائح. فهذا هو القول الأول في تفسير قوله تعالى: (السائحون) أي: بمعنى الصائمون. وقيل: (السائحون) هم الغزاة والمجاهدون في سبيل الله، ويستدل له بالحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله). القول الثالث: هم: طلاب العلم الذين يسافرون ويسيحون لطلب الحديث والعلم. قول رابع: هم المهاجرون في سبيل الله. القول الخامس: هم الجائلون بأفكارهم في ملكوته سبحانه وتعالى، ويجولون بعقولهم وقلوبهم فيما خلق الله من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه، وفي الحديث: (إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالشاهد هنا قوله: (إن لله ملائكة سياحين) يعني: يتحركون وينتشرون في الطرقات. يقول القاسمي : ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين، قال الزجاج : هو قول أهل التفسير واللغة جميعاً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة فهو الصيام. وعن الحسن : (السائحون) الصائمون شهر رمضان. وقال الشهاب : استعيرت السياحة للصوم؛ لأنه يعوق عن الشهوات، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر. ونقل الرازي عن أبي مسلم : أن السائحين هم السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح -أي: سيح الماء الجاري-، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً. إذاً: المعنى اللغوي للسياحة: هو السير في الأرض، مأخوذ من قوله تعالى في أول هذه السورة: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] أي: انتشروا في الأرض أربعة أشهر، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآيات الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات. وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال: هم المهاجرون. وعن عكرمة : أنهم المنتقلون لطلب العلم. قال ابن كثير : جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهذا حديث حسن. يقول القاسمي : لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية، لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها؛ لأن الجهاد في سبيل الله كما يطلق على قتال المشركين يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى، فمجاهدة النفس تتم أساساً في الجهاد، لكن يطلق أيضاً بصفة أعم على الصوم والهجرة والجهاد. جهاد للنفس في مفارقة الأوطان والأموال والأهلين، وكذلك الصيام فيه مجاهدة للنفس في ترك شهواتها، وكذلك السفر للتفقه في الدين فيه مجاهدة للنفس، وكذلك السفر للاعتبار والنظر في آثار الأمم المهلكة. فهذا كله يتطلب مجاهدة للنفس، هذا إذا أردنا أن نوفق بين هذه الأقوال كلها، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية، فإن أصل الحقيقة اللغوية للسياحة هي: الضرب في الأرض خاصة، وهذا الذي عبر عنه عكرمة بقوله: المنتقلون لطلب العلم. وفي هذه الحالة يكون كافياً لو أخذنا بالأصل اللغوي. إذاً: هناك مسلكان في تفسير (السائحون): الأول: تفسيرها في ضوء قوله: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) بحيث يشمل الجهاد في سبيل الله (القتال) ويشمل كل ما فيه جهاد للنفس، سواء في الصيام أو في طلب العلم، أو في الانتقال لطلب العلم أو في الهجرة، أو بالسير في الأرض للتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، هذا إذا أردنا التوفيق بين ما أثر عن السلف في تفسير (السائحون). الثاني: تفسير كلمة السائحين بالأصل اللغوي لهذه الكلمة، كما تقول: ساح الماء أو السيل، يعني: انتشر ومشى على وجه الأرض، فيراد بها معنى خاصاً وهو السياحة، التي هي الضرب في الأرض، وهذا يشير إلى وصف عظيم وهو الحق في تأويل الآية الكريمة. والقاسمي أورد هنا بحثاً لبعض المحققين كما وصفهم في تأييد هذا القول يقول: الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيراً بأن يضحي بقسم وجزءٍ من حياته في السياحة والتسيار؛ لأجل اكتشاف الآثار؛ والوقوف على أخبار الأمم البائدة؛ ليكون ذلك مثال عظة واعتبار، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد. وذلك في قوله تعالى: (السائحون) في هذه الآية، ولم يقع لفظ (السائحون) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع الفذ، فمع ذلك فقد اختلف في معناه أهل التفسير، فمنهم من قال: هم الصائمون، ومنهم من قال: هم السائرون، مأخوذ من السيح والانتشار وهو الجري على وجه الأرض والذهاب فيها، ويطلق السائح على معنىً يضاد الجامد، فالشيء السائح هو سائل مائع منتشر، بخلاف الجامد الذي لا يتحرك. وألفاظ القرآن يجب حملها على ظواهرها وعلى معانيها الحقيقية ما لم يمنع مانع عقلي، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة، وعليه فيجب حمل لفظ (السائحون) على معناه الظاهر الحقيقي، وهو: السائرون الذاهبون في الديار؛ لأجل الوقوف على الآثار، توصلاً للعظة بها والاعتبار، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ. أما المعنى المجازي فإنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي، في حال أن الأمر هنا بالعكس، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي، وذلك مثل قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ [الأنعام:11]، وهذا أمر بالسياحة في الأرض للاعتبار.

في مثل هذا البحث ينبغي أن ننسى تماماً القاذورات المرتبطة بكلمة السياحة؛ لأن هذه القاذورات المرتبطة بالسياحة طرأت نتيجة الفساد الذي عم وطم وظهر في البر والبحر والجو، لكن نحن الآن نتعامل مع معاني الوحي الشريف، ومعاني اللغة العربية الأصلية، بغض النظر عما صارت ترمز إليه كلمة السياحة الآن من الفساد والعفن. نحن نتكلم عن السياحة التي هي عبادة، وهي الانطلاق في الأرض للتفكر في آيات الله، ومطالعة أيام الله سبحانه وتعالى، وآثار الأمم الغابرة، كما في قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا [الأنعام:11]، وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [الروم:9]، وقوله تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا [يوسف:109]، وقوله: فَسِيرُوا [آل عمران:137]، وقوله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20]، وقول الله عز وجل: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:100] فهذه الآيات قرائن نيرة تدل بأن السيح معناه: السير، فإنها وإن تكن من مادة أخرى إلا أن معناها يلاقي معنى السيح، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة، وذلك كقوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2] أي: انتشروا في الأرض أو سيروا في الأرض، فكلمة: (سيحوا) هنا تفسر (السائحون) في الآية هذه. أما من يقول: إن خير ما فسرت به الآية بالوارد فنقول: إن صرف هذا اللفظ عن ظاهره فيه تكسيل للأمة، وبه يحصل قصور همتها، وضعف نشاطها، ويحول بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة، ورؤية عمران المسكونة، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين. إذاً: كلمة السياحة ومعانيها الآن تحتاج إلى كثير من الاحتراز؛ لأنها لا تطبق بالصورة التي يريدها الشرع؛ لأن هناك من يعتقد أن أنظف سياحة هي ما يسمونه بالسياحة الدينية، والسياحة الدينية لا تقتصر على الحج ولا العمرة، وإن كان بهذا المعنى يصح أن توصف بأنها سياحة؛ لأنها انتشار في الأرض لإقامة فريضة أو عبادة، لكن السياحة الدينية عند هؤلاء المنحرفين هي إلى المقابر أو إلى أضرحة الأولياء ونحو هذه الأشياء! ومن السياحة التي يظن أنها مباحة شد الرحال إلى الأماكن التي نزلت فيها لعنة الله سبحانه وتعالى على القوم المعذبين، فأمثال هذه الأماكن لا ينبغي للإنسان أن يذهب إليها، وإذا مر بها كعابر سبيل فإما أن يبكي وإما أن يسرع ويجري، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمروا بهؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين) فمن السنة أن الإنسان إذا مر في رحلته بشيء من هذه الأماكن كديار ثمود أو آثار الفراعنة المشركين الوثنيين فليسرع؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام علل ذلك بقوله: (لا تمروا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم) فهو أمر بالإسراع خشية أن يصيبنا ما أصابهم؛ لأن هذه الأماكن نزلت فيها لعنة الله، ونزل فيها غضب الله على من ناوأه وحاربه وعصاه وكفر به. ومن علامات موت القلب أن الإنسان يمر بهذه الأماكن دون أن يبكي ودون أن يعتبر، فإذا حصل ذلك ولم يستحضر هذه المعاني ولم يسرع بمغادرة هذه الأماكن ففي هذه الحالة يخشى أن يعاقب بأن تصيبه نفس اللعنة التي أصابت هؤلاء المعذبين، وقد يكون هذا هو السر فيما يسمونه الآن: لعنة الفراعنة، فهي ليست لعنة الفراعنة، وإنما هي لعنة الله سبحانه وتعالى تصيب من يأتي إلى هذه الأماكن المشئومة. فإذاً: الأماكن التي يعرف أنه نزل عذاب الله فيها، ينبغي إذا مر بها الإنسان مجتازاً أن يسرع ويبكي، والأصل ألا يأتي إلى هذه الأماكن أصلاً خشية أن يصيبه ما أصابهم. فهذا هو التفسير الصحيح لما يسمى الآن: لعنة الفراعنة؛ لأن الفراعنة الآن أموات، ولعنة الله تصيب من يجاورهم في مساكنهم وفي ديارهم بشؤمهم لقوله عليه الصلاة والسلام (أن يصيبكم ما أصابهم) والله تعالى أعلم، ولا يبعد أيضاً أن تكون بعض الأماكن التي فيها ظواهر غريبة هي أماكن نزول عذاب، فربما لأجل ذلك يهلك من اقترب منها، مثل مثلث برمودا وغيره، وهذا احتمال قائم والله تعالى أعلم.

قال الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس، لما يلقاه من أنواع من الضر والبؤس. يعني: الإنسان إذا سافر يتمرن وتزيد خبرته بالحياة، فيلقى ضرراً وبؤساً، فلا بد من الصبر عليها، وقد يتعرف على علماء في تخصصات مختلفة فيستفيد من كل ما ليس عند الآخر، وقد يلقى الأكابر من الناس فيحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها، وقد يسهل اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم، فتقوى معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين، لكن يشترط أن تكون هذه السياحة بمعنى السير في الأرض للاعتبار وللعظة وللهجرة وللجهاد ولطلب العلم، وغير ذلك من أنواع الطاعات.

قال القاضي : إنما جعل الله ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة في قوله تعالى: (الراكعون الساجدون) ولم يقل: المصلين؛ لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبهما يتبين الفرق بين المصلي وغيره، ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع لله تعالى، والركوع وسطها، والسجود غايتها، فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية؛ تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.

ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوهاً؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف) وعطف بالواو حيث قال: (والناهون عن المنكر) ثم قال: (والحافظون لحدود الله) فما السر في وجود الواو في هذين الموضعين؟ أما قوله تعالى: (والناهون عن المنكر) فقالوا: سر العطف فيه: إما للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن بينهما تلازماً في الذهن والخارج، يعني: قوله عز وجل: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) فيه إشارة إلى أن هاتين الوظيفتين هما صفة واحدة أو فعل واحد، سواء كان في الذهن أو في الخارج؛ لأن الأمر بالمعروف يستلزم النهي عن المنكر، فإذا أمرت بالصلاة فأنت تنهى عن ترك الصلاة، وإذا نهيت عن ترك الصلاة فكأنك تأمر بالصلاة وهكذا، فلما كان بينهما من التلازم سواء كان في الذهن أو في الواقع الخارجي اعتبرا كأنهما خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن فعل الأوامر يتضمن ترك النواهي، فكان بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف بخلاف ما قبلهما. أما الموضع الثاني وهو قوله تعالى: (والحافظون لحدود الله) فقيل: سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبعة؛ لأن العرب إذا وصلت إلى العدد السابع يكون هذا عدداً تاماً عندهم، وحينئذ يبدءون العدد الجديد بالواو، يقولون مثلاً: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة، وثمانية تسعة عشرة وهكذا، فإذا فرغوا من السبعة يقولون: وثمانية، فهذه اسمها واو الثمانية، فهنا في نفس هذه الآية: (( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ )) لأنها جاءت في الصفة الثامنة، ولذلك تسمى: واو الثمانية. ونُظِرَ فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة، لاستعماله في التكثير لا معدودة، وهذا نفس ما قالوه في قوله تبارك وتعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] فقالوا: هذه واو الثمانية، وهذا المبحث فيه نقاش كثير، ومن العلماء من أبطل هذا الاستدلال، فيمكن مراجعته في كتاب (( مغني اللبيب عن كتب الأعاريب )) لـابن هشام . وقيل: سر العطف التنبيه على أن ما قبله في تفصيل الفضائل: التائبون، العابدون، السائحون.. إلى آخره، وهذا مجملها، أجمل كل ما مضى في قوله: ( والحافظون لحدود الله )؛ لأنه شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفاً نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء، فلمغايرته لما قبله بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه. وقيل: المراد بحفظ الحدود ظاهرها يعني: إقامة الحدود كالقصاص على من استحقه، والصفات الأولى إلى قوله: (الآمرون بالمعروف) هي صفات محمودة لازمة للشخص في نفسه، لكن قوله: (والحافظون لحدود الله) هذه باعتبار غيره؛ لأن حفظ حدود الله: هي إقامتها على مستحقيها بالقصاص مثلاً، فلذا تغاير تعبير الصنفين، فترك العاطف في القسم الأول، وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد، ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به.

قال عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:113-114] لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً، حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد أن تبين شركهم وكفرهم؛ لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة حتى مع الأقرباء؛ لأن قرابتهم وإن أفادتهم الشفقة بهم والرحمة بهم، فلا تفيدهم قبول الاستغفار؛ لأن نور الاستغفار لا ينفذ في هذه القلوب المعتمة، فلا يصلح أن يستغفر المؤمنون لهم؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به. فمن ثم لا ينبغي أبداً ولا يتصور أن يقع الاستغفار من (النبي والذين آمنوا للمشركين)؛ لأن الاستغفار هو طلب المغفرة، وكيف يطلب من الله سبحانه وتعالى مغفرة ذنب قد قطع وأخبر أنه لا يغفره أبداً وذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]؟! فإذا كان الشرك ذنباً عظمياً لا يغفر، فليس من الإيمان أن يستغفر المؤمن لقريبه المشرك؛ لأن طلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده، فالله سبحانه وتعالى توعد هؤلاء المشركين أنه لا يغفر لهم أبداً، فمن الأدب أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى لا يدعو بشيء قد فرغ منه القضاء. مثلاً: إذا قلنا بالقول الصحيح في تفسير قوله تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71] ففي هذه الحالة ليس من الأدب في الدعاء أن تدعو بألا ترد على جهنم؛ لأن هذا سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، حيث قد فرغ القضاء وتمت كلمة الله في هذا القسم: (إن منكم إلا واردها) أي: ما منكم من أحد إلا وسيرد النار، كل البشر سيدخلون النار ثم يخرجون منها، يخرج منها المؤمنون كما قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]ولم يقل: ونلقي؛ لأنهم يكونون موجودين، بل قال: ((وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا))[مريم:72] فليس من الأدب أن تدعو الله بشيء قد حكم هو بخلافه، فإذا كان الله سبحانه وتعالى حكم وقضى أنه لا يغفر أن يشرك به، فلا يجوز أن تسأل الله المغفرة لمشرك؛ فلذلك قال هنا: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ))[التوبة:113] فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.

وجه استغفار إبراهيم لأبيه وحكم الاقتداء به في ذلك

ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم منه له، ويكون المعنى: لا تتأسوا بإبراهيم حينما استغفر لأبيه كما في سورة مريم: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:4]، وقال عز وجل في الآية الأخرى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4]، ثم قال: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4] فالشاهد أن قول إبراهيم لأبيه: (لأستغفرن لك) بناء على وعد كان وعده أبوه، وهو أنه سيوحد وسيؤمن؛ فلذلك صدر الاستغفار من إبراهيم عليه السلام، لكن لما تبين له أنه عدو لله مصر على الشرك تبرأ منه، فلا ينبغي لكم أن تتخذوا من استغفار إبراهيم لأبيه المشرك أسوة وقدوة؛ لأن هذا ليس موضع اقتداء؛ لأن أباه كان وعده بالإيمان فمن ثم استغفر له، لا أنه كان يواليه ويدعو الله سبحانه وتعالى بالمغفرة لمن علم أنه مشرك. إذاً: ذكر الله عز وجل أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه لأجل وعد تقدم منه له، لقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47] ، وقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4]، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك. قوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) يعني: أنه مستقر وراض بالشرك ومصر عليه. قوله: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي: تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، وبين تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار لأبيه لما وعده بالإيمان أنه كان فرط ترحمه وصبره، ولذلك ختم الآية بقوله: (إِِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، فالسبب أنه كان حريصاً على أن يستغفر لأبيه لما وعده بالإيمان. قوله: (إن إبراهيم لأواه) أي: كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب. قوله: (حليم) أي صبور على ما يعترضه من الإيذاء؛ ولذلك حلم عن أبيه مع أن أباه توعده بقوله: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46]، واستغفر له بقوله: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]، وذلك قبل التبين، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك. وفي الآية تأكيد لوجوب الاجتناب للاستغفار بعد التبين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ من أبيه بعد التبين، وذلك مع كمال رقة القلب والحلم عند إبراهيم، فلابد أن يكون غيره أكثر منه اجتناباً وتبرؤاً. وقد ساق المفسرون هاهنا روايات عديدة في سبب نزول الآية، ولما رآها بعضهم متنافية حاول الجمع بينها بتعدد نزول الآيات، ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنه -كما نبهنا مراراً- إذا قيل في الآية: نزلت في كذا فقد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع في هذه الحادثة وغيرها، أو يكون حكم الآية لا يشمل إلا هذه الحادثة وحدها لا أنها تعدت سبب نزولها.

حكم الدعاء والاستغفار للعصاة والفساق من المسلمين

قال عطاء بن أبي رباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين، ثم قرأ الآية، وهذا فقه جيد. فقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى) يفهم منها: أنه يستغفر ويصلى على أي إنسان من أهل التوحيد، حتى لو كان فاسقاً عاصياً، لكن هناك تفصيل، فالشخص الذي يقتدى به ينبغي أن يمسك عن الصلاة على العاصي والفاسق في الظاهر، فمثلاً: لا يصلي على قاتل نفسه الذي انتحر أو تارك الصلاة؛ زجراً لغيره، وحتى يتسامع الناس أن الشيخ الفلاني رفض أن يصلي على تارك الصلاة وعلى قاتل نفسه، قال العلماء: ويدعو له بالسر، ففي نفس الوقت يجمع بين مصلحة الدعاء له وبين مصلحة تنفير الآخرين من هذه المعصية، لكن عموم الناس يصلون على الفاسق أو العاصي؛ لأن الله لم يحجب الدعاء والاستغفار إلا عن المشركين فقط.

حكم الاستدلال بالآية على أن التأوه في الصلاة لا يبطلها

قال بعض المفسرين اليمانيين: استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل. أي: من قال: آه في الصلاة لا تبطل الصلاة، وهذا يحكى عن أبي جعفر أنه قال: من قال: آه أو آهِ لم تبطل صلاته؛ لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك. فهل هذا الاستدلال صحيح؟ أين الدليل في هذه الآية على أن ذلك كان يحصل منه أثناء ما كان يصلي؟ لا دليل، بل أئمة الإسلام يبطلون الصلاة بذلك؛ لأن كلمة (آه) مكونة من ثلاثة حروف، وهي كلمة أجنبية ليس فيها ذكر الله عز وجل، فلذلك تبطل الصلاة بأي شيء من كلام الناس، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة.

المعنى اللغوي لكلمة (أواه)

وقيل: (أواه) فعال للمبالغة من التأوه، وقياس فعله أن يكون ثلاثياً؛ لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها من ثلاث، وهو: آه يأوه كقام يقوم، أوهاً، وأوَّهَ تأويهاً هذا اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر أو أتألم. ولها لغات كثيرة أخرى أوصلها في التاج إلى اثنتين وعشرين لغة، منه: آه أو أواه أو أوه إلى غير ذلك، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن، مبنيات على ما لزم آخرها إلا آهاً فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر، كأنه قيل: أتأفف تأففاً. وهي تكون عند شدة الحزن أو التوجع وعند الشكاية، فقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) هذه إشارة إلى رقة قلب إبراهيم عليه السلام. ولا يصح للصوفية أن يستدلوا بالآية على صحة ما يزعمون من أن آهاً اسم من أسماء الله الحسنى، ويستدلون بهذه الآية: (إن إبراهيم لأواه). فهم يزعمون إن إبراهيم عليه السلام كان يتأوه ويقول: آه آه، ولذلك تجدهم في حلقات الغفلة التي يسمونها حلقات الذكر يقولون هذه الكلمة ويكررونها، إلى آخر بدعهم وضلالاتهم، وإن كنت أظن الآن أن الصوفية ليست منتشرة ذلك الانتشار الكبير الذي كان فيما مضى، خاصة في المدن؛ بسبب التوجه العلماني والبعد عن الدين لأهل المدن، لكن لعل في القرى ما يزال هناك آثار للصوفية وبدعها.