تفسير سورة الأنعام [50-58]


الحلقة مفرغة

يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50]. قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) أي: قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات، وأخرى غير ذلك، قل لهم: لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إلي، فأعطيكم منها ما تريدون من تصيير الجبال ذهباً، وغير ذلك مما يقترحون. والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء: إحرازه، بأن يوضع في مكان موثوق بحيث لا تصل إليه الأيدي. قوله: (ولا أعلم الغيب) أي: لا أعلم الغيب من أفعال الله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة، أو عن وقت نزول العذاب أو نحوهما؛ لأن ذلك موكول علمه إلى الله سبحانه وتعالى. قوله: (ولا أقول لكم إني ملك) أي: لا أدعي أني ملك حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه، أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري، فأنا لم أدع أنني ملك حتى تعدوا عدم اتصافي بصفات الملائكة قادحاً في أمري وفي بعثتي وفي رسالتي؛ لأن هذا الزعم أو هذا القول منهم ينبئ عنه قولهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7] أي: كيف يكون رسولاً من البشر يأكل الطعام مثلنا ويمشي في الأسواق؟! ولذا قالوا: لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان:7]. فالمعنى: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة، حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، فكل ما تقترحون عليَّ إنما هو آثار هذه الأشياء الثلاثة، وأنا لم أدع اختصاصي أو اتصافي بهذه الأشياء الثلاثة، فليس عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك. والمقصود أنه يقول: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، وحتى تجعلوا عدم إجابتي لذلك دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيءٍ مما ذكر قطعاً؛ فإن الرسالة من الله سبحانه وتعالى إلى عبد من عباده أو إلى رسول من رسله إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل، والعمل بمقتضى هذا الوحي فقط، ولا تتعدى ذلك، ولا ترتبط على الإطلاق بأن يكون هذا الرسول مالكاً لخزائن الله، أو عالماً للغيب، أو يدعي أنه ملك، فعدم وجود هذه الصفات الثلاث في مقدوره لا يقدح في رسالته؛ إذ لا تعلق له على الإطلاق بصفة الرسالة؛ لأن الرسالة عبارة عن استقبال الوحي من الله سبحانه وتعالى والعمل بمقتضى هذا الوحي، ولا تقتضي الرسالة أن يجيبكم رسول إلى ما تقترحونه من آيات؛ لأن خزائن الله ليست بيده، إن هو إلا عبد وبشر ورسول من الله سبحانه وتعالى، ولذلك لا يعلم الغيب حتى تكلفوه أن يخبركم متى الساعة أو متى ينزل العذاب، وليس هو ملكاً حتى تكلفوه بأن يرقى في السماء، أو تطلبوا منه من الأفعال ما لا يقوى عليه إلا الملائكة. وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ) هذا هو مقتضى الرسالة، فمقتضاها تلقي الوحي واتباع هذا الوحي الذي يوحى من جهة الله تبارك وتعالى، والذي شرفني بذلك وأنعم به عليَّ. فيتصل به الوحي أو روح القدس جبريل عليه السلام، فيخبره بوحي الله تبارك وتعالى. ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله تبارك وتعالى: (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ))، ففي صدر الآية قال: (( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ )). ثم قال عز وجل ثانية: (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ )) فالأعمى والبصير مثل للضال والمهتدي، كما قال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود:24]، فالأعمى والبصير كلاهما مثل للضال وللمهتدي على الإطلاق، والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذُكر من الحقائق مع من يعلمها. وفيه إشعار بأن الذي لا يرى كل هذه الحقائق التي مضت فإنه ضال؛ لأنها في غاية الكمال وفي غاية الوضوح والظهور والبيان، بحيث لا يضل عنها ولا ينكرها إلا من كان أعمى لا يراها مع وضوحها. وفي وصف الضال بالأعمى من التنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء ما لا يخفى؛ لأن وصف الضلال بالعمى ووصف الهدى بالبصر لا شك أن فيه تنفيراً من الضلال، وفيه ترغيباً عظيماً في الاهتداء. وقوله: (أفلا تتفكرون) هذا تقرير وتوبيخ داخل تحت الأمر، أي: أفلا تتفكرون فتهتدوا حتى لا تكونوا ضالين أشباه العميان؟! وبعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) قالوا: إن هاتين الصفتين عبارة عن تبرؤ من دعوى الإلهية. فكأن كلمة (لا أقول عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) تساوي (لست إلهاً)، أو: (لا أقول لكم: إني إله). قالوا: لأن قسمة الأرزاق بين العباد ومعرفة الغيب مخصوصان به تعالى، ولذا كرر في الملكية لفظ: (ولا أقول) يعني: لست أدعي الإلهية، ولست أدعي الملكية، لا أقول: إني إله، ولا أقول: إني ملك. فهذا الفريق من المفسرين الذي ذهب إلى هذا استند إلى أن الصفتين الأوليين عطفتا، ولم يصدر الأمر بـ(قل لا أقول) في كلا الجملتين؛ لأنهما عبارة عن أثرين من آثار الإلهية. أي: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) اللذان هما من شأن الإله، ولذا قال: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب) يعني: لا أقول لكم: إني إله، ثم قال: (ولا أقول لكم إني ملك) فكرر كلمة (ولا أقول لكم إني ملك)؛ لحصول المغايرة بين الملكية وبين الإلهية، فكلاهما يتبرأ منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية الكريمة. وهذا لم يسلم في الحقيقة، بل قال بعض المفسرين: هذا الزعم مما لا وجه له قطعاً.

ثم لما أخبر تعالى أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي، بل كالموتى؛ إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحى إليه، فقال: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) يعني: إذا كان هؤلاء المشركين مع نذارتك، ومع بلاغك المبين، ومع اجتهادك في توضيح الحق لهم ودعوتهم إلى الهدى، يأبون إلا أن يبقوا كالصم البكم العمي، بل كالموتى؛ لأنهم لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، فأنذر الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم. فعند ذلك أمر تبارك وتعالى بتوجيه الإنذار إلى من ينتفعون بهذا الإنذار، وأن يطرح عن نفسه هؤلاء الفجار الذين أعرضوا عن آيات الله تبارك وتعالى، فقال عز وجل: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51]. قوله: (وأنذر به) يعني: أنذر بهذا الوحي، أو بهذا القرآن، أو بالوحي المتقدم ذكره. وقوله: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي: من دون الله تعالى (ولي) أي: ناصر ينصرهم (ولا شفيع) أي: يشفع لهم وينجيهم من العذاب، فليس لهم غير الله ولي ولا شفيع. ومن المعروف والمشهور في آيات القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذير للعالمين، فهو نذير وبشير، فالنذارة لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، فما هي الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى خص الأمر بالنذارة هنا لهؤلاء الذين يخافون الله سبحانه وتعالى ويخافون يوم الحشر؟ الجواب: خصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار، وهم الذين يقودهم الإنذار إلى التقوى، وليس المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضاً. فقد يعترض بعض الناس على ظاهر هذا التفسير فيقول: كيف يكون الإنذار هنا لهؤلاء المتقين الصالحين والنبي صلى الله عليه وسلم واجب عليه أن ينذر الصالحين وينذر الفاسقين؟ فنقول: إن هذا الإيراد غير لازم، ولا يلزمنا؛ لأن الآية لا يُعنى بها الحصر، ولا يقصد من الآية أنه ما عليك إلا أن تنذر المؤمنين أو المتقين أو الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم. لكن الذي يفهم من الآية الكريمة أن الإنذار عام، لكن خص بالذكر هنا هؤلاء لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار ويتعظون به. وقوله تعالى: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51] جملة (ليس لهم) حال من الفعل (يحشروا) والإعراب هنا مهم؛ لأننا نستطيع أن نفسر الآية تفسيراً صحيحاً بالإعراب، يعني: هم يخافون أن يحشروا وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فهذه حالهم إذا حشروا. فجملة (ليس لهم) في موضع نصب على الحال من (يحشروا)، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة، يعني: هم يخافون أن يحشروا على حالة يكونون ليس لهم فيها ولي. ولا يخافون هذه الحالة، وإنما يرجون أن يحشروا ولهم ولي وناصر وهو الله سبحانه وتعالى، وشفيع بإذن الله تبارك وتعالى. والمراد بالولي وبالشفيع في هذه الآية الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين، فلا يصح لأحد من الخوارج أو غيرهم أن يستدل بالآية الكريم على نفي حصول الشفاعة في الآخرة، سواء أكانت الشفاعة الخاصة بالأنبياء -خاصة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم- أم بالمؤمنين والصالحين، أم بالملائكة، فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين؛ لأن شفاعة الرسل لا تتعارض مع أن يكون الله سبحانه وتعالى هو المصدر لهذا الخير؛ لأنه لا شفيع عنده إلا بإذنه، كما قال سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] فالشفاعة هنا ليست مغايرة أو خارجة عن إرادة الله، وليست صادرة عن غير الله، وإنما هي بإذن الله، فلا تدخل شفاعة الأنبياء وشفاعة المرسلين وشفاعة الصالحين في هذه الشفاعة المنفية في قوله تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لهم يتقون).

ثم قال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]. روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال له المشركون: اطرد هؤلاء؛ لا يجترئون علينا)، أي: كيف تجلس في مجالسنا ومعك هؤلاء الضعفاء وهؤلاء الفقراء وهؤلاء المساكين؟ اطردهم حتى لا يجترئ هؤلاء الناس الفقراء والمساكين على مقاماتنا الشريفة والعالية. فقال له المشركون: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: (وكنت أنا - أي: سعد بن أبي وقاص - وابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان لست أسميهما -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه؛ إذ كان يطمع في إيمان القوم، فأنزل الله تعالى: (( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ))) وهذا رواه مسلم كما ذكرنا، وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار ، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟! فنزل عليه القرآن: (( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ))[الأنعام:51].)، أي: أن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين هم الذين ينتفعون بإنذارك، فالزمهم ولا تطردهم عن مجلسك، فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآية السابقة. وروى ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه -أيضاً- قال: (مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب ، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء عن قومك؟! أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟) أي: أهؤلاء الفقراء الضعفاء المساكين يمن الله عليهم بالهداية دوننا ويكونون خيراً منا؟! فاستكبروا واستنكفوا، وقالوا: (ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟! اطردهم؛ فلعلك إن طردتهم نتبعك، فنزلت هذه الآية: (( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )) إلى آخر الآية). إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل، وإنما همَّ بإبعادهم من مجلسه آناء قدوم أولئك ليتألفهم، فيقودهم ذلك إلى الإيمان، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم، أي: كان مجرد هم هم به النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يطردهم بالفعل. وهنا قال الرازي كلاماً زعم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طردهم بالفعل، ثم أخذ يتكلف في الجواب عن هذا الزعم لمنافاته العصمة على زعمه، فهو بنى هذا الزعم على غير أساس، ثم تكلف بعد ذلك في الرد، ومعلوم أن القاعدة أنه لا يتكلف الجواب عن حديث حتى يصح، فالضعيف يكفي في رده كونه ضعيفاً، والباطل يكفي في رده كونه باطلاً، فلا يحتاج إلى أن تسود الصحائف في رده وإبطاله، وهذا هو شأن الرازي في كثير من المواضع، فالقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع عن ثبوته، أي: أن الأصل هو أن تثبت صحته أولاً، كما يقال: ثبت العرش ثم انقشه. والتفسير فرع التصحيح، فالبحث في الأثر فرع ثبوته، فإذا لم يثبت فلا داعي لمناقشة ما فيه، والباطل يكفي في رده كونه باطلاً. والمعنى: لا تُبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، وهذا كقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. ولا شك أن في هذه الآية مدحاً عظيماً لهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأن في هذه الآية -كما في نظائرها من الآيات الكريمات- مدحاً لباطنهم ومدحاً لظاهرهم، فقوله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] أي أن الظاهر أنك تراهم دائماً يدعون الله سبحانه وتعالى، وقوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] مدح لهم بالإخلاص وعدم الرياء، ولذلك نظائر في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح:29] ففي هذا مدح لظاهرهم، ثم مدح باطنهم فقال: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً [الفتح:29]. وكذلك -أيضاً- في سورة الحشر قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]. وقوله تعالى: (يدعون ربهم) أي: يعبدونه ويسألونه. وقوله: (بالغداة والعشي) قال سعيد بن المسيب وغيره: المراد به الصلاة المكتوبة. قوله: (يريدون وجهه) المراد بالوجه هنا ذات الله عز وجل، كما في قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] يعني: إلا الله سبحانه وتعالى. والمراد بإرادة ذات الله هو الإخلاص لله عز وجل، فهذا معنى إرادة وجه الله، أو إرادة الله، أي: الإخلاص لله وحده. وجملة (يريدون وجهه) حال من (يدعون)، يعني أنهم يدعون ربهم مخلصين له في هذا الدعاء، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، فإذا كان هؤلاء مخلصين له فإنهم لا يستحقون أن تطردهم، بل يستحقون أن تقربهم وتتخذهم خلصاءك وأصفياءك. وقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) هو كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء:111-113]، أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليَّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء. قال العلامة أبو السعود : الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى أن يتوهم كونه مسوغاً لطردهم من أقاويل الصاعرين في دينهم، كدأب قوم نوح حيث قالوا: مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27]. أي أنهم يذمون المؤمنين والمستضعفين والفقراء والمساكين من أهل الإيمان بقولهم: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أرذالنا) أي: فقراؤنا وضعفاؤنا ومساكيننا. يقصدون أن يصفوهم بأنهم أناس سذج، وأنهم بمجرد أن سمعوا كلامك انقادوا لك، دون أن يحللوا، ودون أن يتعمقوا في الكلام. والإنسان إذا بدا له الحق فانقاد له بسرعة فهذا مما يمدح به؛ لأنه إذا بان الحق كالشمس في رابعة النهار فإنه لا ينبغي أن يتردد الإنسان في قبوله والانقياد له، فهذا مما يمدح به الإنسان ولا يذم به. فالمقصود: ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك -حسبما هو شأن منصب النبوة- اعتبار ظواهر الأعمال، وإجراء الأحكام على موجبها، وأما بواطن الأمور فحسابها على العليم بذات الصدور، كقوله تعالى: إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي [الشعراء:113]. وقوله تعالى: (ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ذكر الله هذا مع أن الجواب قد تمَّ بما قبله، أي: قوله تبارك وتعالى: (( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )) لكن أضاف عز وجل قوله: ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:52] للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام عليهم، على طريقة قوله تعالى: لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]. وفسر بعض المفسرين الحساب هنا بمعنى الرزق، فقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء) أي: من رزقهم. وهكذا قوله: (وما من حسابك عليهم من شيء). وقدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين تشريفاً له صلى الله عليه وسلم، وكما نلاحظ هنا في الآية الكريمة فإن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما عليك من حسابهم) فذكر ضمير الرسول عليه السلام أولاً تشريفاً له صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وما من حسابك عليهم من شيء)، وفي غير القرآن يمكن أن نقول: ما عليك من حسابهم من شيء، وما عليهم من حسابك من شيء. لكن مراعاة لهذا الأمر -وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم ذكره- قال تعالى في الأولى: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِن

ثم قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53]. قوله: (وكذلك فتنا بعضهم) أي: الشرفاء والسادات، (ببعض) وهم المستضعفون، كما قال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان:20]، أي: نجعل الضعيف أو الفقير فتنة للغني أو القوي. فقوله: (وكذلك فتنا بعضهم) أي: الشرفاء، (ببعض) وهم المستضعفون، بما مننا عليهم بالإيمان، مع كونهم ضعفاء وفقراء ومستضعفين مننا عليهم بالإيمان، فكان في ذلك فتنة لهؤلاء الشرفاء، (ليقولوا) أي: ليقول هؤلاء الشرفاء: (أهؤلاء) أي: المستضعفون، (من الله عليهم من بيننا) أي: هل هؤلاء مع ضعفهم وفقرهم يستحقون أن يمن الله عليهم من بيننا بشرف الإيمان؟! مع أن الشرفاء على زعمهم أولى بكل شرف، فلو كان الإيمان شرفاً لانعكس الأمر، ولكان ذلك من خصائصنا نحن حتى نجمع إلى شرف الدنيا شرف الإيمان. فلذلك كان في إنعام الله عز وجل على المستضعفين بنعمة الإيمان فتنة لهؤلاء الذين ظنوا أنهم أولى بكل شرف، فقولهم: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) هو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير، كقولهم: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11]، وهذا شأنهم دائماً، فإنهم يقولون: لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء المستضعفون، وهذا -بلا شك- عنوان الكبر والبطر وغمط الناس، والخلل في موازينهم. ثم أشار تعالى إلى أنه إنما منَّ عليهم بنعمة الإيمان لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة فيشكرونها حق شكرها، وأما أولئك فلا يعرفون قدرها فلا يشكرونها، ولذلك قال عز وجل: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، أي: أليس الله سبحانه وتعالى بأعلم بالذين إذا أنعم عليهم بنعمة الإيمان والهداية يشكرون له سبحانه وتعالى ويحمدونه حق حمده، ممن يجحدون فضل الله عليهم ولا يشكرون له هذه النعمة؟! إذاً: قول الله تبارك وتعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين) رد على قول المشركين المستكبرين: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)، فلما قالوا: (أهؤلاء من الله من بيننا) أتى الجواب: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، فهو رد لقولهم ذلك، وإبطال له، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام هو معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم سبحانه وتعالى، كما أن فيه إشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن والتوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله، وهذا لا يخفى. قال الحافظ ابن كثير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل. ويتضح هذا في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان الأسئلة المعروفة، فإنه قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. فقال له هرقل: وكذلك الأنبياء يتبعهم ضعفاء الناس. أو كما قال. وكذلك -أيضاً- لما قال قوم نوح لنوح عليه السلام: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27]. وكان مشركوا مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) كقوله تعالى عنهم: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، فهذا قول الكافرين في أهل الإيمان، لكن أهل الحق وأهل السنة والجماعة يقولون في أي شيء لم يفعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهذه قاعدة يتبعها أهل السنة والجماعة في أي قضية من قضايا البدع التي يزعم محدثها أنها تقرب إلى الله سبحانه وتعالى وأن فيها خيراً؛ فإنهم يرفعون هذا الشعار: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)؛ لأنهم أولى بكل فضل، أما الكفار فكانوا يقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، لأنهم يزدرونهم ويحتقرونهم، وهذا كقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73]، فإنهم كانوا يظنون أنه ما دام أنهم أوتوا من الدنيا ومن زينة الدنيا وبهجة المجالس والمظاهر فإنهم -أيضاً- يستحقون أن يفضلهم الله في الدين، وهذا ليس بلازم، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه هي القاعدة، بل ربما يُعطى الكافر من الدنيا أضعاف ما يعطاه المؤمن، وربما زيد في بلاء المؤمن، وهذه سنة مطردة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة -يعني: شدة- زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه)، إلى آخر الحديث المعروف. ولذلك في هذه الآية الكريمة قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، يعني: في حق الذين آمنوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73]، فقال الله عز وجل في جواب ذلك: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم:74]، فكم أهلك الله سبحانه وتعالى من الظالمين ومن الأمم الظالمة ممن كان عندهم من الزينة والأثاث والمظاهر وحسن المظهر أكثر مما أوتي هؤلاء! وهنا لما قالوا: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) قال عز وجل في جوابهم: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)؟! أي: الشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وفي نفس الوقت قال تعالى في المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ).. لكن: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4]، فلا تغتر بالمظهر؛ إنما العبرة بحقائق الإيمان الراسخة في القلوب. وروى ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل وقرضة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب ، فقالوا: يا أبا طالب ! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا -جمع عتيق، أي: أجير- كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له. فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون من قولهم. فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ َ ، إلى قوله: (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )). قال: وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالماً مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد ، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارئ وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو وذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم من الحلفاء، ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53]، فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، إلى آخر الآيات. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أن الواجب في الدعاء الإخلاص فيه؛ لأنه تعالى امتدحهم في دعائهم بأنهم (يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) فاشترط في الدعاء الإخلاص، أي: أن تريد الله سبحانه وتعالى بدعائك، ولا تريد غير الله سبحانه وتعالى، وهكذا جميع الطاعات لا تكون لغرض الدنيا. قال محمد بن الحسن النفس الزكية: إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه وجب عليه أن يسلم الأمر له، فإن لم يفعل ذلك فسق؛ لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا. ودلت الآية على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء، فلذلك خصهما بالذكر، فقال: (يدعون ربهم بالغداة والعشي)، فلا شك في أن تخصيص وقتي الغداة والعشي بهذا الأمر يدل على مزية لوقتي البكور والعشي، وهذا بلا شك ثابت؛ لأن أشرف أوقات الذكر على الإطلاق في الليل والنهار هما هذان الوقتان: وقت الغداة بعد طلوع الشمس أو بعد طلوع الفجر إلى أن تطلع الشمس، أما وقت العشي فهو من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقيل: من بعد الزوال. فالمقصود: أن تخصيص ه

قوله تعالى: (( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )) سببه أن الرسول عليه الصلاة والسلام همَّ أن يطردهم وأن يبعدهم، لعله يكون في ذلك سبب في هداية أولئك القوم، ولم يؤاخذه الله سبحانه وتعالى على هذا الهم، وإنما نزلت الآيات ناهية له عن ذلك. ودلت الآية -أيضاً- على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن، وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؛ نصف يوم)، يعني: نصف يوم من أيام الله في الآخرة. وروي أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف ؛ لكثرة ماله. وروي أن علياً لم يخلف شيئاً بعد وفاته. يقول: القاسمي : الحديث الأول رواه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام). وأما حديث: (آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف)، فلم أجده بهذا اللفظ. وقيل: قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكِّر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره، فبعض العلماء استنبط من هذه الآية الكريمة أنه لا ينبغي أن يُمنع أي إنسان يقوم بتذكير الناس في أي مكان يذكرهم فيه بالله سبحانه وتعالى، وبأمور الآخرة، سواء أكان في مسجد أم في طريق أم في غير ذلك. وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار، ويبتهل بالدعاء، ويردد ذلك إلى الصباح، ويتأذى به الجيران؛ هل يمنع أم لا يمنع؟ واستدل من قال: لا يمنع بهذه الآية: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]. واستدل أيضاً بقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة:114]، إلى آخرها، لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الشيء الذي فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة معينة وفيه ابتداع فإنه -بلا شك- يمنع؛ لأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا الابتهال وغير ذلك خيراً لسبقنا رسول الله وصحابته إليه، فلما لم يفعلوه دل على أنه ليس من الدين؛ لأنهم كانوا أولى بكل فضيلة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، لكن الاجتهاد في الدعوة يصلح له الاستدلال بالآيتين على نفس هذا المعنى، وأن من وقف يذكر الناس -سواء أكان في طريق أم في شارع أم في مسجد أم في أي مكان- ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى يريد وجه الله ويعظ الناس ويذكرهم بأمور الآخرة فلا حرج في ذلك، كما قال مالك بن دينار : (لو كان لي أعوان لأطلقتهم في شوارع البصرة- أو في جوانب الأرض يقولون ويصرخون في الناس: النار النار) أي: يحذرونهم من النار. فلا ينبغي أن يمنع من يذكر الناس بالله سبحانه وتعالى ما دام أنه لا يقول كلاماً مصادماً للشريعة، أو يحتوي على بدع أو أحاديث ضعيفة أو غير ذلك، فما دام أنه يدعو إلى الحق فلا ينبغي أن يمنع، واستدلوا بهذه الآية، وهذا هو الواضح من الآية الكريمة، فعجباً لهذا الزمن الذي أدركناه! حتى إننا نجد أن بعض المساجد تعامل على أنها إقطاعات، وكأن بعض الجماعات قد ورثتها كابراً عن كابر، وكأنها مقاطعات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وكل جماعة تفرض نظاماً معيناً على المسجد، بحيث إذا لم يكن المذكِّر من الجماعة ومن أعضائها ومن المنتمين إليها فإنه يمنع، حتى لو كان يتكلم بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك حرم المسلمون من خير كثير، فنجد في بعض المساجد أنه ممنوع أن يلقي أحد كلاماً إلا بإذن الإمام، وصحيح أننا نحترم الإمام، لكنه إذا استأذن الإمام ففي الغالب أنه يمنع، وإنما هذا مجرد إجراء روتيني لأجل عرقلة الدعوة وإيقافها، فواجب احترام الإمام، وواجب استئذانه، لكن استئذان الإمام صار يقصد به هدف معين، وهو إيقاف الدعوة وعدم تمكين من يعظ الناس، ولو كان الأمر على غير ذلك لأذن، لكنه لا يأذن إلا لأشخاص معينين، فالعبرة يما يقوله الشخص، ولذا لا ينبغي أن يمنع من يريد أن يقف في الناس ليذكرهم بالله سبحانه وتعالى ما دام أنه لا يدعو إلى بدع ولا إلى ضلالة، فما دام أنه يذكر بالله وبالآخرة فلا ينبغي لأحد منعه.

ثم قال تبارك وتعالى: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54]. ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم، فلما أراد المشركون طردهم وإبعادهم قال الله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، ثم أمر تبارك وتعالى أيضاً بأنه إذا جاءوك فرحب بهم وحيهم، فقال: (( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ))، أي: بشرهم بهذه البشريات. فأكرمهم الله تعالى بهذا الإكرام بأن أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الضعفاء وهؤلاء المساكين أن يقربهم، وأن يكرمهم بهذا الإكرام. يقول البيضاوي : وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج، بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة. هذه هي الموازين عند الله سبحانه وتعالى، فإنه وصفهم بالمواظبة على العبادة، والإخلاص فيها، فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، وهذا فيه مواظبة واستمرار، وقال: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، وهذا فيه إخلاص. فمدحهم بالعبادة وبالاستقامة وبالاستمرار على تلك العبادة، ثم وصفهم هنا -أيضاً- بأنهم يؤمنون بآيات الله فقال: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا)، فأي مدح أعظم من أن يصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم يؤمنون بآيات الله عز وجل، وأنهم يتبعون حجج الله عز وجل؟! ثم أمره أن يبدأهم بالتسليم فقال: (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام يبدؤهم ويبادر بالتسليم إكراماً لهم، والمعنى: فابدأهم أنت بالتسليم فقل: سلام عليكم، أو: أبلغهم السلام من ربهم عز وجل، أي: يبلغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرَّب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة. وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً. فما رد عليهم شيئاً، فأنزل الله تعالى: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، ولا يخفى أن الآية تشمل جميع ذلك، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد فتنزل الآية بياناً للكل، وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير في بحث سبب النزول أن قول السلف: (نزلت في كذا)، قد لا يقصدون به المعنى الحرفي لسبب النزول، أي: أنه حصلت واقعة معينة في شخص معين، ثم نزلت الآية في هذا الشخص، فلا يشترط أن يكون الأمر كذلك، فهذا الاصطلاح الذي يستعمل عند السلف بقولهم: نزلت الآية في كذا يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية بنزولها إثرها، وهذا بحث مهم جداً. فالسلف حينما يقولون: (نزلت الآية في كذا)، ولا يكون ذلك هو سبب النزول الذي نزلت فيه فإنهم، يقصدون بذلك أن هذه الواقعة مما يشملها حكم الآية. فقوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة)، يعني: أوجبها على ذاته المقدسة، تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يوجب على نفسه، وليس لأحد عليه حق واجب. وقوله تعالى: (أنه من عمل منكم) هذه الجملة بدل من الرحمة. وقرئ بكسر الهمزة: (كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة) إلى آخر الآية الكريمة، فيكون أيضاً تفسيراً للرحمة، لكن بطريق استئناف جملة جديدة. وقوله: (بجهالة)، الجار والمجرور في موضع الحال، يعني: عمله وهو جاهل. وقوله تبارك وتعالى: (بجهالة)، فيه معنيان: أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر: على أنها قالت عشية زرتها جهلت على عمد ولم تك جاهلا والمعنى الثاني للجهالة: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. والحكيم لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته، فعلى الأول يكون الجهل بمعنى: السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب، وهو الذي نستطيع أن نقول إنه جهل عملي، فهناك جهل من الناحية العلمية ومعناه: أن الجاهل لا يعرف الضرر، ولا يعرف العواقب بل يجهلها، وهناك جهل بمعنى أن يكون الإنسان يعلم أن هذا مضرة ثم يقدم عليه، فيصير بهذا مساوياً للجاهل؛ لأنه سلك سلوك الجاهل الذي لا ينظر ولا يتدبر في عواقب الأمور. وشاهد هذا المعنى من اللغة أي: استعمال الجهل بهذا المعنى، قول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فالمقصود هنا بالجهل: الجهل السلوكي، وليس المقصود الجهل العلمي أي: من حيث المعلومات. ونفس المعنى قد استعمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخروج من البيت: (اللهم! إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)، فهذا تعوذ من الجهالة السلوكية. إذاً: الجهل بالمعنى الأول هو السفه والمخاطرة من غير نظر إلى العواقب، كما في قول الشاعر: فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكانت العرب تتمدح به، فلا حاجة لتقدير مفعول. وعلى المعنى الثاني: يكون المراد الجهالة بمضار ما يفعله، وهذه هي الجهالة الحقيقية، أن لا يعرف مضار ما يفعله، وعواقب ما يسلكه من المسالك. وقوله تبارك وتعالى: (( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ))، فيه أن كل عاصٍ لله فهو جاهل؛ لأن الإنسان لا يقدم على المعصية إلا بجهل، فهو إما أنه أقدم على المعصية وهو لا يعرف ضررها ولا الإثم الذي تستوجبه، ولا العقوبة التي تتبعها، وإما أنه يعلم لكنه أقدم عليها مع علمه بذلك، وهو أيضاً بذلك جاهل؛ لأنه سلك مسلك الجهال بأن اقتحم هذه المخاطر وهذه المهالك. وقوله تعالى: (( ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) فعل (أصلح) متعد، والمفعول مقدر، أي: (أصلح عمله) وذلك كقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70]. وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي). وقد نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال: (دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين)، فعلى الإنسان دائماً أن يعظم المؤمنين ولا يقدم عليهم الكافرين، وهذا عكس ما نحن عليه الآن في هذا الزمان، إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، تجد الناس يلهجون بذكر الكفار ويمتدحون الكفار الذين هم جاهلون بالله سبحانه وتعالى وجاحدون به، وقد فتن البعض بهم فتنة شديدة، حتى نرى منهم من يعلق أعلام أمريكا وبريطانيا في السيارات وحول رقابهم! وهذه الأشياء التي نراها الآن هي فتنة وضلالة لهؤلاء الكفار، والآية تدلنا على أنه ينبغي لنا أن نعظم المؤمنين ولا نقول للذين كفروا: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء:51]، ولا نساويهم أيضاً بالمؤمنين. ودلت الآية أيضاً على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن، فيجتهد المرء في أن يدخل السرور على أخيه المؤمن، وأن يبشره بما يصلحه؛ لأنه أمر بأن يقول لهم: (( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ ))، إلى آخر الآية. وقد أمر الله أن يقول لهم ذلك لتطييب قلوبهم، فعلى الإنسان أن يطيب قلب أخيه، وأن يتجنب ما يسوؤه، فلا تنقل إلى أخيك كلاماً يؤذيه حتى لو كان صحيحاً، وإلا كنت نماماً حمالاً للحطب، ولا تنقل إليه ما يسوؤه وما يؤذيه من القيل والقال، بل ينبغي أن تنقل إليه ما يسره؛ ولهذا استحب بعض العلماء أن تنقل لأخيك ما مدحه به غيره من الناس؛ وذلك لإدخال السرور عليه وتطييب قلبه.

ثم قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]. قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات) يعني: آيات القرآن الكريم في صفة المطيعين والمجرمين، فكل الآيات السابقة في تفصيل وشرح وتوضيح صفات الفريقين: المؤمنين والمجرمين. وقوله تعالى: (ولتستبين سبيل المجرمين) بني لفظ (ولتستبين) على تأنيث الفعل بناءً على تأنيث الفاعل؛ لأن كلمة: (السبيل) تذكر وتؤنث، فتؤنث كما في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي). وقرئ (ولتستبين سبيلَ المجرمين) بنصب (سبيل) والمعنى: لتستبين أنت -يا محمد- ولتستوضح سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم. فهذا على قراءة من قرأ بنصب (سبيل). أما هذه القراءة فهي برفع (سبيل) فقوله: (ولتستبين سبيلُ المجرمين) يعني: لتفتضح وتنكشف سبيل المجرمين، وهذه الآية في الحقيقة تحتاج لكثير من التوضيح، ولكن نريد الاختصار، فإن من مقاصد القرآن الكريم تفصيل وكشف وهتك سبل المجرمين من أعداء الدين، حتى يحذرها المؤمنون فلا يتورطوا فيها، فكشف هذه السبل للمجرمين وفضحها من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية كي لا ينخدع المسلمين بهم وبألاعيبهم.

ثم يقول تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام:56]. قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) قوله: (الذين تدعون) يعني: تعبدونه أو تسمونه آلهةً، ثم كرر الأمر فقال: (قل لا أتبع أهواءكم) وإنما كرر الأمر تأكيداً لقطع أطماعهم، أي: لا تطمعوا أبداً بأي احتمال أن أتبع أهواءكم: (قل لا أتبع أهواءكم) يعني: في عبادة الأصنام أو في طرد من ذُكر من المؤمنين المستضعفين. (قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) أي: إذا فعلت ذلك، قال البيضاوي : (هو إشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم، واستجهالهم وبيان لمبدأ ضلالهم، وأن ما هم عليه هوىً)، وهذا الشعار مما نحتاج أن نتذكره دائماً في ظل غربة الدين التي نعيشها في هذا الزمان، فهذا هو الوصف اللائق بسبيل المجرمين، (قل لا أتبع أهواءكم)، فكل ما عليه أي إنسان ينحرف عن سبيل الله سبحانه وتعالى وعن صراط الله وعن دين الإسلام فليس له مسمىً إلا الهوى، ولا يجوز أن يسمى بأي تسمية فيها نوع من الاحترام له، ولا يجوز أن يسوى الإسلام بالكفر، ولا الحق بالباطل، ولا أن يقف معه على قدم المساواة، كما يتكلمون اليوم عن التعددية الحزبية والتعددية السياسية، بحيث يصبح الإسلام على قدم المساواة مع المفسدين من الشيوعيين والعلمانيين وأمثالهم من أعداء الدين، فكل هؤلاء في محل واحد هو الهوى، وكل هؤلاء أصحاب أهواء على اختلافها وتنوعها، فالباطل لا ينحصر، ولغاته كثيرة، أما النور فواحد لا يتعدد، فلذلك يقول الله تعالى: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) فكل من اتبع هؤلاء في أهواءهم يصير ضالاً ويحرم من نعمة الهداية، فما هم عليه هوى، وما نحن عليه هدى، فالعاقل لا يؤثر الهوى على الهدى، وعلينا أن ننظر بصفتنا مؤمنين باستعلاء وباعتزاز بهذا الدين وبأحكام الله سبحانه وتعالى، ولا نحقق ما يرومه أعداء الدين من محاربتنا وإذلالنا بحيث نتوارى في الطرقات ونختبئ وننكمش ونشعر بالخجل من انتمائنا إلى الدين، بل نعتز بأحكام ديننا وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وننظر إليهم لا بتكبر، ولكن باستعلاء المؤمن الواثق من منهجه، وأن هذا هو منهج الحق، وأن كل ما عداه وكل ما خالفه فهو هوى وليس هدى، وما هو عليه هدى بريء من الهوى. وفي هذه الآية أيضاً تنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) يعني: إن اتبعت أهواءكم أكون قد ضللت لمخالفة الأمر الإلهي والعقل جميعاً (وما أنا من المهتدين) للحق إن اتبعت ما ذكر، ولا شك أن في الآية تعريضاً بأن هؤلاء الكفار كذلك.

ثم قال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]. قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي) يعني: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليَّ، لا يمكن التشكيك فيها، وهذه هي الثقة بالمنهج، والثقة بالله سبحانه وتعالى. والثقة بالمنهج الذي أنت عليه معناه أن تكون على بصيرة، بحيث لا تنقاد، لا كما يحاولون أن يصوروا في التمثيليات والإعلام والكاريكاتير بأن يأتوا بشخص ملتحٍ عيناه مغمضتان وآخر يجره من رقبته! فلسنا نحن الذي نفعل ذلك، فالذين يسيرون بهذه الطريقة ويقادون من أعناقهم كالأنعام يعرفون أنفسهم جيداً، أما نحن المسلمين المعتزين بهدي نبينا فنحن كما علمنا الله تعالى هنا (قل إني على بينة من ربي)، فأنا أعرف أن اللحية مثلاً أمر الله، وأن الصلاة ركن أساسي من الإسلام، وأن تعظيم القرآن وتحسينه قضية لا ريب فيها، فتعرف ملامح منهجك وأدلته، كما قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] يعني: على بصيرة أيضاً وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. يقول بعض السلف: (لو شك الخلق كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي) فإذاً العبرة أن تكون على بينة؛ ولذلك لا مرحباً بمن ينتمي إلى الدعوة مقلداً لمجرد اتباع من يحبه أو من يعجب به، أو ينقاد كما تنقاد العجماوات من رقابها، لا مرحباً به في صفوف الدعوة الإسلامية، لكن الذي ينتمي للدعوة لا بد من أن يكون على بصيرة، فيعرف هدفه ويعرف ملامح هذا الطريق، وما الثمن الذي لا بد من أن يدفعه إذا سلكه، وغير ذلك مما يعكس أنه بالفعل يردد هذه الآية عن بصيرة: (قل إني على بينة من ربي) ليس على بينة من أحد آخر، إنما البينة من الله سبحانه وتعالى، فيعرف الآية، ويعرف الحديث، ويعرف الدليل فيما يذهب إليه من الحق، وطول المعايشة مع القرآن الكريم وتدبر القرآن الكريم يعطي الإنسان مدداً، فإن القلب العضلي كما يتغذى بالأوعية الدموية، فإن خيوط النور التي تنبعث من هذا الكتاب الكريم هي أيضاً غذاء للقلب، وبدونه لا يحيا، وبدونه يضعف الإنسان، وهذا سر الضعف الذي ينتاب كثيراً من الناس حتى يجعلهم ينتكسون عن طريق الحق، وذلك لأنهم مقطوعو الاتصال بالقرآن، ولو أنهم عرفوا مثل هذه الآية: (قل إني على بينة من ربي) لعلموا أن المراد: أنا واثق بمنهجي، وأعرف أين مبتدأه، وأين خبره، وأين مصيري إذا أنا سلكت هذا المنهج، وماذا يكون مصيري إذا حدت عنه، أعرف دليل ما أفعله، وأتبصر بديني، ولا أنقاد لأحد انقياد الأعمى أو المقلد، وإنما أعرف كل شيء ببينة وبصيرة. فقوله: (قل إني على بينة من ربي) أي: على بصيرة من شريعته التي أوحاها إليك، لا يمكن التشكيك فيها. وقوله: (وكذبتم به) هذه الجملة إما أنها استئناف أو حال، وقوله: (به) الضمير هنا عائد على البينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد. فالضمير في الآية يعود على البينة، والبينة مؤنث، فإذاً الضمير هنا يعود على معنى البينة وليس على لفظها، والبينة هي الوحي أو القرآن أو نحوهما. وقوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به) يعني: من العذاب، فأنتم تستعجلون نزول العذاب وأنا لا أملك ذلك، وكما أني (( لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ )) فكذلك ليس عندي العذاب الذي تتعجلونه. فهذا استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بالبينة، حيث اعتبروا أن السبب أو المسول لأن يكذبوا بهذه البينة هو أنهم حينما استعجلوه بالعذاب لم يأتهم بالعذاب، فيعدون ذلك دليلاً على عدم صدقه! فكذبوا بهذا القرآن حين قالوا له: لو كنت رسولاً حقاً فأنزل علينا العذاب. وكذلك قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]. فليس لهذا الأمر تفسير في نظرهم القاصر إلا أنه ليس برسول! ولم يرد على أذهانهم أن هذا لعله رحمة من الله سبحانه وتعالى بهم أنه يمهلهم ويستعتبهم، كما قال تعالى في سورة الأنفال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] يعني: إكراماً لك ما دمت فيهم لا ينزل عليهم العذاب. فهو إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، يعني: وفيهم مؤمنون يستخفون بإيمانهم يستغفرون الله تبارك وتعالى. فهم دائماً كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:48] أي: متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به إن كنت من الصادقين؟! بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم، فالله تعالى سبحانه وتعالى يقول له هنا: (( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ))، أي: إن ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعةً إلى تكذيبه ليس في حكمي وليس في قدرتي، فليس في قدرتي أن أجيء به وأظهر لكم صدقه، أو ليس أمره بمفوض إليَّ. (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )) قوله: (إن الحكم إلا لله) أي: لو كان عندي ذلك لكنت أنا الحاكم، لكن إنما الحكم في ذلك تعجيلاً وتأخيراً لله وحده، وقد حكم بتأخيره لما له من الحكمة العظيمة، لكنه قطعاً محقق الوقوع، فما دام الله سبحانه وتعالى أوعدكم فوعيده محقق الوقوع؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فتربصوا إنا معكم متربصون، فالمسألة هي مسألة وقت، فقد يشاء الله تعجيل العذاب، وقد يشاء تأخيره لحكمة لا يعلمها إلا هو، فهذا حكم يستأثر به الله سبحانه وتعالى، وهو واقع قطعاً حتى وإن تأخر؛ لأنه (يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقوله: (يقص الحق) أي: يبينه بياناً كافياً (وهو خير الفاصلين) أي: القاضين بين عباده تبارك وتعالى.

ثم قال تعالى: قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [الأنعام:58] قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به) أي: لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه، بأن يكون أمره مفوضاً إليَّ من قبله تعالى لقضي الأمر بيني وبينكم بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم. و(قضي) هنا بمعنى: قطع. وقضاؤه كناية عن إهلاكهم، وفي بناء الفعل لما لم يسم فاعله من الإيذان بتعيين الفاعل الذي هو الله تعالى، وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب، ما لا يخفى. قوله تعالى: (والله أعلم بالظالمين) اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الإمتناعية، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب؛ ولذلك لم يفوض الأمر إليَّ، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب، يعني أن الله أعلم بالظالمين أنهم يستحقون تأجيل العذاب؛ لأنهم كلما تمادوا في كفرهم كلما ازداد استحقاقهم للعقاب، كما قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية: قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [الأنعام:58] وبين ما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردته، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -وقرن الثعالب هو قرن المنازل ميقات أهل نجد كما هو معروف- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) وهذا لفظ مسلم، فقد عُرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وأجَّل ذلك، مع أنه مكَّنه أن يهلكهم بملك الجبال، لكنه استأناهم وأعطاهم مهلة وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً، فكيف يكون الجمع بين هذا الحديث وبين هذه الآية: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله عليم بالظالمين)؟! والجواب -والله تعالى أعلم-: أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم، أما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلا مكة يكتنفانها جنوباً وشمالاً، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم صلى الله عليه وسلم، فالآية هذه في مقام محاورة، وقد وصل الحوار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين هؤلاء الكفار إلى أنهم تحدوه بقولهم: لو كنت صادقاً فأنزل علينا العذاب عاجلاً الآن، وفي هذه الحالة جاءت الآية تشير إلى أن الرسول عليه السلام يجيبهم ويقول: (لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) أي: لوقع بكم العذاب فوراً ما دمتم تطلبونه وتسألون تعجيله آية على صدقي. أما الحديث فليس فيه أن الحوار وصل إلى هذا الحد، وإنما هم ردوا قوله ورفضوا الإيمان به، لكن لم يصل الحوار بينه وبينهم إلى أنهم تحدوه بأن ينزل عليهم العذاب، ولأنهم لم يفعلوا ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم سأل الله لهم التأخير والتأجيل رجاء أن يخرج الله سبحانه وتعالى من أصلابهم من يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئاً. وبهذا ينتهي هذا الربع وهو تفسير الربع، الذي يبدأ بقوله: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.