تفسير سورة النساء [24-30]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:24]. قال الله تبارك وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ .. [النساء:23] إلى آخر الآية، ثم أضاف تبارك وتعالى إلى هؤلاء اللائي حرمن ممن ذكر، قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ)) يعني: وحرمت عليكم أيضاً المحصنات من النساء. والمحصنات تأتي بعدة معانٍ في القرآن الكريم، فتأتي بمعنى المتزوجات، كما في هذه الآية، وتأتي بمعنى العفائف، وتأتي بمعنى الحرائر. ومعلوم أن الأصل في الفروج هو التحريم، وليس الإباحة، ولذلك نعجب كثيراً حينما نلاحظ بعض الإخوة يتساءل مثلاً يقول: هل أخو الزوج يعتبر أجنبياً على زوجة أخيه؟ نعم، يعتبر أخو الزوج أجنبياً على زوجة أخيه. كذلك يحرم عليه أن يجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. والعبرة في الحكم على امرأة بالمحرمية، هو أن تحرم عليه على التأبيد، أما التحريم المؤقت فكل النساء حرام على الرجل إلا زوجته وما ملكت يمينه، كما سيأتي. فالأصل في الفروج التحريم، فالمرأة التي تمشي في الشارع هذه محرمة، وزوجة الجار محرمة، وهكذا. يقول تعالى هنا: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: حرمت عليكم أيضاً المحصنات، وهي في غير هذا الموضع تقرأ: المحصِنات أو المحصَنات، أما في هذا الموضع فباتفاق القراء لا تقرأ إلا بالفتح، ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: ذوات الأزواج أو المزوجات، حرائر كن أو إماء، مسلمات أو غير مسلمات. الحكمة من هذا التحريم هو حفظ الأنساب، فإذا لم تراع هذه الحدود فإنه ستختلط الأنساب وتضيع. ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: ذوات الأزواج من النساء، وقد حرم عليكم أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن، يعني: ما دامت هي في عصمة رجل آخر، فكي لا يختلط النسب يحرم عليكم أن تتزوجوهن إلا بعد أن يتوفى زوجها أو بعد أن يفارقها بالطلاق.

معنى قوله تعالى: (إلا ما ملكت أيمانكم)

قوله: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نفهمها فهماً صحيحاً، ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نقول: إلا من النساء اللائي سبين في الحرب ولهن أزواج. فقوله: (إلا ما ملكت أيمانكم) ليست على إطلاقها، وليس المقصود هنا إلا من سبين ولهن أزواج، ولذلك قال السيوطي هنا: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، من الإماء بالسبي، يعني: ملكتموهن بالسبي، فلكم وطؤهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب، لكن بعد الاستبراء، يعني: بعد تبين براءة رحمها من الحمل وذلك بحيضة. والسبب في هذا التقدير الذي ذكرناه أن الآية تتكلم على المحصنات، وهن ذوات الأزواج، فذوات الأزواج كما ذكرنا مسلمات أو غير مسلمات، حرائر أو إماء لا يجوز نكاحهن، فالكلام هنا في ذوات الأزواج من النساء اللائي سبين في الحرب فصرن ملك يمين لكم، فهؤلاء يجوز لكم أن تتزوجوهن، حتى ولو كن ذوات أزواج في دار الحرب. لكن بشرط استبراء الرحم بأن تحيض حيضة فيستبين براءة رحمها من الحمل.

معنى قوله: (كتاب الله عليكم)

قوله: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24]، هنا نصب على المصدر، يعني: كتب الله ذلك عليكم كتاباً، فكتاب الله هو مصدر مؤكد. ( كتاب الله عليكم ) يعني: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتاباً وفرضه فرضاً فالزموه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وأحل لكم قراءتان: إما بالبناء للفاعل أو بالبناء للمفعول، يعني: (وأُحل لكم) والقراءة الأخرى: (وأَحَلَّ لكم ما رواء ذلكم) يعني: وأحل لكم الله سبحانه وتعالى ما وراء ذلكم سوى ما حرم عليكم من النساء المحرمات المعدودات في هذه الآية.

معنى قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وما يستثنى من ذلك

قوله: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: أحل لكم سوى من ذكرنا من النساء غير الأم والبنت والأخت وهكذا، إلى هذه الآية: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، ما سوى هؤلاء المذكورات في الآيتين فهن حلال لكم. ولا شك أن (ما) في هذه الآية تفيد العموم، لكن هذا العموم مخصوص بما استثناه الشرع، كالجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، كما صح ذلك في السنة. أما الجمع بين الأختين فقد ورد التحريم لذلك في القرآن كما في قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، هذه في القرآن. إذاً: عموم قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)) مخصوص بمحرمات أُخر دلت عليها دلائل أخر، فمن ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وإن كان بعض المفسرين ذهب إلى أن العمة والخالة داخلة في قوله تبارك وتعالى: (( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ )). لكن على كل حال فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وبين عمتها، ولا بين المرأة وبين خالتها، وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن كافة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك. ومن هذا التخصيص لهذا العموم: نكاح المعتدة، هذه المرأة التي تكون في العدة يحرم نكاحها أثناء العدة. كذلك أيضاً: القادر على الحرة لا يجوز له أن يتزوج الأمة كما سيأتي إن شاء الله، فالقادر على التزوج من حرة لا يجوز له أن يتزوج أمة. من ذلك أيضاً: الرجل الذي عنده أربع زوجات لا يحل له الخامسة وذلك بالإجماع، فهذا أيضاً تخصيص لهذا العموم. من ذلك أيضاً: الملاعنة، ونوع تحريم الملاعنة مؤبد، يعني: الرجل إذا لاعن امرأته وحصلت الملاعنة من الطرفين كما في سورة النور، في هذه الحالة بمجرد وقوع الملاعنة تحرم عليه إلى الأبد. والدليل على ذلك هو من السنة، لكن هل هناك دليل من القرآن الكريم؟ نعم، بل جملة من الأدلة من القرآن الكريم التي تدل على حجية سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التشريع. هذا فيما يتعلق بالعموم في قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: من النساء المحرمات المعدودات، وهذا عموم خصصته السنة كما بيناه.

معنى قوله: (أن تبتغوا بأموالكم)

قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا))أي: أن تطلبوا النساء. ((بِأَمْوَالِكُمْ))، أي: بصداق أو ثمن، ((مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)). قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا))، (أن) بدل من (ما). وهذا قول من الأقوال الصحيحة. هناك قول آخر: أنه مفعول لأجله، (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا) يعني: أحل لكم إرادة أن تبتغوا، أي: تطلبوا النساء. قوله تعالى: (بِأَمْوَالِكُمْ) يعني: أن تطلبوا ما رواء هؤلاء المحرمات من النساء تزوجهن ببذل الأموال وبصرفها في مهورهن بالصداق.

معنى الإحصان والمسافحة

قوله: (مُحْصِنِينَ) يعني: متزوجين. إعراب (محصنين) حال من فاعل (تبتغوا) يعني: حال كونكم محصنين. والإحصان: هو العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم. قوله: ((غَيْرَ مُسَافِحِينَ))، المقصود: غير زانين. والسفاح: هو الزنا والفجور، وهو مشتق من السفح وهو الصب؛ لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة، وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإن أراد الزنا قال: سافحيني، والمسافحة: أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.

حكم تعجيل المهر وتأجيله والإسقاط منه قبل فرضه وبعده

((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ))، يعني: فما تمتعتم به منهن ممن تزوجتم بالوطء. ((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: مهورهن التي فرضتم لهن. ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم أنتم وهن به من بعد الفريضة، يعني: من الحط منه إذا حصل بعدما أثبتم المهر، حصل أن رجلاً أعسر أو المرأة أرادت أن تسامحه في المهر كله، برضا نفس لا بأس، أو بأن تحط عنه بعضه فلا بأس، أو بالزيادة عليه فلا بأس. لكن هل يجوز ابتداءً الاتفاق على إسقاط المهر؟ لا يجوز بحال أن يتم زواج بدون مهر، لكن يمكن بعدما يستقر المهر في ذمته أن تحط عنه كله أو بعضه برضاها. قد يحصل أن يتزوج بدون أن يحدد مهراً، وهو جائز، لكن يجب عليه المهر بعد العقد، لكن هناك فرق بين من يتزوج ولا يحدد المهر، وبين من يتزوج ويتفق على إسقاط المهر قبل الزواج، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال باتفاق العلماء، لكن يمكن أن يتزوج ويبقى المهر إما مؤجلاً، أو معجلاً بعضه ومؤجلاً بعضه إلى آخره، فإن فرضتم المهر ورضيت المرأة وطابت عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً كما جاء في الآيات الأخرى مثل قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، كذلك هو مثل قوله تبارك وتعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:24]، ( عليماً ) أي: بخلقه، ( حكيماً ) أي: فيما دبره لهم. وقبل أن نتجاوز قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، قلنا: إنها تقرأ أحياناً بالفتح، وأحياناً بالكسر، لكن هنا في هذه الآية بالذات لا تقرأ إلا بالفتح باتفاق القراء، فإذا قرئت بالفتح فتكون هذه مشتقة من أحصَن، ومحصن مشتقة من أحصن، يعني: من الفعل المبني للمعلوم يشتق اسم الفاعل، أحصَن فهو محصن يعني: أحصن نفسه، أو محصَن فهو أحصن، يعني: أحصنه غيره. أما القراءة بالكسر : (وَالْمُحْصْنَاتُ) فتكون مشتقة من أحصنَّ، يعني: أحصن فروجهن أو أحصن أزواجهن، واشتقاق الكلمة من الإحصان الذي هو المنع.

حكم نكاح المتعة ووجه الاستدلال بالآية

قبل أن أتجاوز هذه الآية فيها كلام مفصل وكلام كثير يتعلق بكلام بعض المفسرين حيث فسر قوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) بأنها نزلت في نكاح المتعة. فقوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) أي: من اللائي تزوجتموهن. ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) معنى ذلك: أن المهر يلزم الرجل ويتأكد في حقه بدخوله بالزوجة. فقوله: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) قالوا: إن هذه إشارة إلى نكاح المتعة. ((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: الأجر الذي يبذله لها. ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، يعني: إن انتهى أجل هذا النكاح؛ لأن نكاح المتعة يكون مؤجلاً، فإذا انتهى ذلك الأجل فإنها في حل، وإذا مات هو لا ترثه، وإذا ماتت هي لا يرثها ... إلى آخره. ونكاح المتعة: هو الزواج إلى أجل معلوم بلفظ المتعة كمتعتك، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى نكاح المتعة، ثم نسخت هذه الآية بما روى ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بين الركن والباب وهو يقول: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع -يعني: في نكاح المتعة- ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها -أي: من كان عنده امرأة ممن نكحها نكاح المتعة فليخل سبيلها- ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) . وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خطب وقال: (ما بال رجال ينكحون هذه المتعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته). وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأنسية -يعني: الحمير الأهلية-). اختلف العلماء في بيان متى تم تحريم نكاح المتعة على أقوال: فمن قائل: يوم خيبر، استدلالاً بهذه الرواية المتفق عليها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومنهم من قال: إنه تم تحريم المتعة في عام فتح مكة. ومنهم من قال: بل هو عام حنين، وهذا القول الثالث هو بنفسه الثاني؛ لأن معركة حنين وفتح مكة متصلتان. القول الرابع: أن نكاح المتعة حرم عام حجة الوادع، وهو وجه من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوادع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة كثيراً ما يعرض للحفاظ، يعني: هذه الحالة تعرف عند علماء الحديث بسفر الوهم، وهو أن الراوي يسافر بوهمه وبخياله من موقع إلى موقع، فيبدل الأسماء أو الأماكن أو الوقائع. والعلماء لهم طرائف في الترجيح عند هذه الحالات، ومنها: هذا الذي نحن بصدده، والصحيح أن المتعة حرمت عام فتح مكة كما في صحيح مسلم ، ولو كان التحريم زمن خيبر للزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد لمثله في الشريعة ألبتة، ولا يقع مثله في هذه الشريعة. كما أن خيبر لم يكن فيها مسلمات، بل كان فيها يهوديات، ولم تكن قد نزلت آية المائدة التي فيها إباحة نكاح الكتابيات، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5]، لأن آية المائدة نزلت في حجة الوداع يوم النحر، وهي في سياق قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فلو كان التحريم في خيبر فمعنى ذلك أن النسخ حصل مرتين، وهذا لا يقع في الشريعة. أما ما جاء في رواية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية أو الأنسية) فهذا الحديث ثبت بلفظين: أحدهما: هذا اللفظ الذي الذي سبق. وهناك لفظ آخر: وهو الاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. يعني: اللفظ الآخر: (أنه نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية يوم خيبر). فإذاً يكون يوم خيبر فيه بيان تحريم أكل لحوم الحمر الأنسية، وليس فيه بيان تحريم نكاح المتعة. فإذاً هذا الجواب على من يستدل بأن تحريم المتعة حصل في خيبر. والصحيح أنه حصل في فتح مكة، وهذا الحديث كما ذكرنا ثبت في الصحيحين بهذا اللفظ، وثبت أيضاً في رواية أخرى بالاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فكلمة (يوم خيبر) ليست لبيان تحريم المتعة، وإنما لتحريم لحوم الحمر الأهلية، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ربط بين تحريم الاثنين معاً. ليس هذا فحسب، بل بعض الرواة اقتصر على رواية الحديث: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر)، فقصرها على هذه المرتبة الثانية من الخطأ الذي وقع ومن الغلط البين. فإن قيل: فما سر جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا الحديث بين الأمرين؟ يعني: علي جمع في الحديث بين النهي عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية. فنقول: سر ذلك أنه كان يناظر ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ لأن ابن عباس كان يبيحهما، فناظره في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر وأطلق تحريم المتعة، وقال له: (إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر). إذاً: كلمة يوم خيبر جاء في تحريم لحوم الحمر الأهلية وليست في تحريم نكاح المتعة كما قاله سفيان بن عيينة وعليه أكثر الناس. فروى علي رضي الله عنه الأمرين محتجاً عليه بهما لا مقيداً لهما بيوم خيبر. لكن هل تحريم نكاح المتعة هو من باب تحريم الفواحش، أم أنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر؟ هي حرمت كتحريم الفواحش تماماً، والفواحش لا تباح بحال. أما القول بأنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها فقط في حالة الاضطرار، فهذا القدر هو الذي نظر فيه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـ ابن عباس لم يبحها بإطلاق كما يزعم الشيعة، والشيعة إلى الآن يتمادون في موضوع نكاح المتعة كما هو معلوم عنهم، وهو من خبائثهم. إذاً ابن عباس نظر إلى أنها لم تحرم تحريماً مطلقاً كتحريم الفواحش، والفواحش لا تباح بحال، وإنما ذهب إلى أنها تحرم عند الاستغناء عنها وتباح للمضطر، فهذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة أمسك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الإفتاء بحلها ورجع عنه، وكان ابن مسعود يرى مثل قوله، أو قريباً منه. وقد روي أن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال لـابن عباس رضي عنهما: (أتدري ما صنعت بفتواك -فتواه التي هي إباحة نكاح المتعة-؟ فقد سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر، وكان من الشعر الذي قيل: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال ابن عباس : إنا لله وإنا إليه راجعون ما بهذا أفتيت، ولا أحللت إلا مثلما أحل الله الميتة والدم). إذاً معنى هذا الكلام: أن هذا هو القدر الذي اجتهد فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكما ذكرنا: فالإجماع منعقد على خلاف ذلك، يعني: الإجماع على تحريم نكاح المتعة.

قوله: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نفهمها فهماً صحيحاً، ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نقول: إلا من النساء اللائي سبين في الحرب ولهن أزواج. فقوله: (إلا ما ملكت أيمانكم) ليست على إطلاقها، وليس المقصود هنا إلا من سبين ولهن أزواج، ولذلك قال السيوطي هنا: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، من الإماء بالسبي، يعني: ملكتموهن بالسبي، فلكم وطؤهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب، لكن بعد الاستبراء، يعني: بعد تبين براءة رحمها من الحمل وذلك بحيضة. والسبب في هذا التقدير الذي ذكرناه أن الآية تتكلم على المحصنات، وهن ذوات الأزواج، فذوات الأزواج كما ذكرنا مسلمات أو غير مسلمات، حرائر أو إماء لا يجوز نكاحهن، فالكلام هنا في ذوات الأزواج من النساء اللائي سبين في الحرب فصرن ملك يمين لكم، فهؤلاء يجوز لكم أن تتزوجوهن، حتى ولو كن ذوات أزواج في دار الحرب. لكن بشرط استبراء الرحم بأن تحيض حيضة فيستبين براءة رحمها من الحمل.

قوله: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24]، هنا نصب على المصدر، يعني: كتب الله ذلك عليكم كتاباً، فكتاب الله هو مصدر مؤكد. ( كتاب الله عليكم ) يعني: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتاباً وفرضه فرضاً فالزموه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وأحل لكم قراءتان: إما بالبناء للفاعل أو بالبناء للمفعول، يعني: (وأُحل لكم) والقراءة الأخرى: (وأَحَلَّ لكم ما رواء ذلكم) يعني: وأحل لكم الله سبحانه وتعالى ما وراء ذلكم سوى ما حرم عليكم من النساء المحرمات المعدودات في هذه الآية.

قوله: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: أحل لكم سوى من ذكرنا من النساء غير الأم والبنت والأخت وهكذا، إلى هذه الآية: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، ما سوى هؤلاء المذكورات في الآيتين فهن حلال لكم. ولا شك أن (ما) في هذه الآية تفيد العموم، لكن هذا العموم مخصوص بما استثناه الشرع، كالجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، كما صح ذلك في السنة. أما الجمع بين الأختين فقد ورد التحريم لذلك في القرآن كما في قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، هذه في القرآن. إذاً: عموم قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)) مخصوص بمحرمات أُخر دلت عليها دلائل أخر، فمن ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وإن كان بعض المفسرين ذهب إلى أن العمة والخالة داخلة في قوله تبارك وتعالى: (( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ )). لكن على كل حال فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وبين عمتها، ولا بين المرأة وبين خالتها، وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن كافة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك. ومن هذا التخصيص لهذا العموم: نكاح المعتدة، هذه المرأة التي تكون في العدة يحرم نكاحها أثناء العدة. كذلك أيضاً: القادر على الحرة لا يجوز له أن يتزوج الأمة كما سيأتي إن شاء الله، فالقادر على التزوج من حرة لا يجوز له أن يتزوج أمة. من ذلك أيضاً: الرجل الذي عنده أربع زوجات لا يحل له الخامسة وذلك بالإجماع، فهذا أيضاً تخصيص لهذا العموم. من ذلك أيضاً: الملاعنة، ونوع تحريم الملاعنة مؤبد، يعني: الرجل إذا لاعن امرأته وحصلت الملاعنة من الطرفين كما في سورة النور، في هذه الحالة بمجرد وقوع الملاعنة تحرم عليه إلى الأبد. والدليل على ذلك هو من السنة، لكن هل هناك دليل من القرآن الكريم؟ نعم، بل جملة من الأدلة من القرآن الكريم التي تدل على حجية سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التشريع. هذا فيما يتعلق بالعموم في قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: من النساء المحرمات المعدودات، وهذا عموم خصصته السنة كما بيناه.

قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا))أي: أن تطلبوا النساء. ((بِأَمْوَالِكُمْ))، أي: بصداق أو ثمن، ((مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)). قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا))، (أن) بدل من (ما). وهذا قول من الأقوال الصحيحة. هناك قول آخر: أنه مفعول لأجله، (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا) يعني: أحل لكم إرادة أن تبتغوا، أي: تطلبوا النساء. قوله تعالى: (بِأَمْوَالِكُمْ) يعني: أن تطلبوا ما رواء هؤلاء المحرمات من النساء تزوجهن ببذل الأموال وبصرفها في مهورهن بالصداق.

قوله: (مُحْصِنِينَ) يعني: متزوجين. إعراب (محصنين) حال من فاعل (تبتغوا) يعني: حال كونكم محصنين. والإحصان: هو العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم. قوله: ((غَيْرَ مُسَافِحِينَ))، المقصود: غير زانين. والسفاح: هو الزنا والفجور، وهو مشتق من السفح وهو الصب؛ لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة، وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإن أراد الزنا قال: سافحيني، والمسافحة: أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.