تفسير سورة البقرة [253-256]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]. قوله تعالى: (تلك الرسل) تلك: مبتدأ، والرسل: صفة، والخبر: (فضلنا بعضهم على بعض) يعني: بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ )) كموسى، (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ )) أي: محمداً صلى الله عليه وسلم (درجات) يعني: رفعه على غيره درجات، بعموم الدعوة والنبوة، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة، والخصائص العديدة. وهذا فيه إشارة إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة). وليست هذه الخمس فقط هي خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي كثيرة جداً، وقد خصها بعض الأئمة بعلم مستقل من علوم الدين يسمى: الخصائص النبوية، وأشهر ما ألف في ذلك وأقدمه: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض ، والخصائص الكبرى للسيوطي ، وظهر مؤخراً مختصر لأحد العلماء، وقد حقق أحاديثه بعمل جيد، فهذا علم مستقل من علوم الدين وهو معرفة خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تكلمت هذه المصنفات على مئات الخصائص، وأيضاً الغماري له كتاب في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ )) أي: قويناه (( بِرُوحِ الْقُدُسِ )) يعني: الروح المقدسة وهو جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار. (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ )) يعني: لو شاء الله أن يهدي الناس جميعاً (( مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ )) من بعد الرسل من أممهم (( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ))؛ لاختلافهم، وتضليل بعضهم بعضاً، (( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ))؛ لأن الله سبحانه وتعالى شاء ذلك (( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ )) أي: ثبت على إيمانه (( وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ )) دعوى المسيح (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا )) هذا تأكيد، (( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ )) يعني: من توفيق من شاء، وخذلان من شاء.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)

قوله تبارك تعالى: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم، وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وقوله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، فهذه الآيات توضح ما أجمله في قوله: ((فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ))، فبينت آيات أخر أن ممن كلم الله موسى عليه السلام. وقال ابن كثير: (منهم من كلم الله) موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه. قال مقيدة -أي: الشنقيطي - عفا الله عنه: تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبنيه قوله تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] وأمثالها من الآيات، فإنه ظاهر بأنه غير واسطة الملك، وإنما كان تكليماً مباشراً من الله سبحانه وتعالى. ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه، فهو رسول إليها بذلك، يعني: الله سبحانه وتعالى كلم آدم عليه السلام، وآدم بلغ حواء كما قال تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ [البقرة:35]، فالتكليف لآدم. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ))، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي مرسل هو؟ فقال: (نعم، نبيٌّ مكلم)، فهذا يدل على دخول آدم عليه السلام في قوله تعالى: (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ )) يعني: بلا واسطة. قال ابن عطية : وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى عليه السلام. وقال ابن جرير : لأن آدم كان هو النبي أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنياً -وهو الرسول- بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38] أي: رسل. وقد وصف نوح عليه السلام بأنه أول رسول في حديث الشفاعة: (فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)، ويشهد له قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، وهذا يشكل على ما تقدم أن آدم رسول! والظاهر: أنه لا طريق للجمع بين هذه النصوص إلا من وجهين: آن آدم أرسل لزوجه في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدل على هذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة ففيه: (ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) فمفهومه: أن آدم عليه السلام أول رسول من الله إلى زوجه حواء في الجنة، وليس رسولاً إلى أهل الأرض، فلا تعارض، فقوله: (إلى أهل الأرض) لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشواً، لكن المقصود به الاحتراز عن رسالة آدم إلى زوجه في الجنة كما ذكرناه، ويستأنس له بكلام ابن عطية الذي ذكرناه سابقاً عند حديث: (نعم، نبي مكلم)، قال ابن عطية : وقد تأوّل بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا يبقى التكليم خاصية لموسى عليه السلام. أما الوجه الثاني للجمع فهو أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل إلى قوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً [يونس:19] يعني: كانوا على الدين الحنيف حتى كفر قوم نوح، وقوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة:213] إلى آخر الآية. وقوله تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، وقوله: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فبلا شك أن من أعظم خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم عموم رسالته إلى البشر كافة، وهو الرسول الوحيد الذي بعث إلى الناس كافة، أما من قبله فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. وأشار أيضاً في مواضع أخر إلى أن من هؤلاء الذين رفعهم الله درجات إبراهيم عليه السلام كقوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، وإن كانت الخلة ليست خاصة لإبراهيم عليه السلام، فقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، ومن ذلك قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار في موضع آخر إلى أن من هؤلاء الأنبياء الذين فضَّلهم الله، ورفعهم درجات داود عليه السلام في قوله: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]. وأشار أيضاً إلى أن منهم إدريس عليه السلام في قوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57]. وأشار إلى أن منهم عيسى لقوله: (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ )).

حكم التفضيل بين الرسل وذكر أفضلهم

في قوله تعالى: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )) إشكال قوي معروف، وجهه أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروني على موسى، فإن الناس يَصعقون -أو يُصعقون- يوم القيامة فأكون من أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟)، فهنا يخبر في الحديث بقوله: (لا تخيروني على موسى) يعني: لا تقولوا: أنا خيرٌ من موسى عليه السلام، وفي رواية: (لا تفضلوا بين أنبياء الله)، وفي رواية: (لا تخيروني من بين الأنبياء). قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء، ولا تفضلوا بين أنبياء الله) أي: لا تقولوا: فلان خيرٌ من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل. يعني: يحتمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى الصحابة عن التفضيل كما في هذا الحديث، وكما في قوله أيضاً: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) قبل أن يوحى إليه بتفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين كقوله مثلاً: (أنا سيد الناس يوم القيامة، ولا فخر). الثاني: أن هذا قاله من باب هضم النفس فقال: (لا تخيروا بين أنبياء الله). الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاتم يعني: في هذه الحال بالذات ينهى عن وقوع المفاضلة فيها؛ لأن سبب ورود الحديث: أن رجلاً يهودياً قال: والذي اصطفى موسى على العالمين! فغضب المسلم ولطمه منكراً عليه؛ لأن الله اصطفى محمداً عليه الصلاة والسلام على العالمين. الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به. واختار القرطبي أن منع التفضيل إنما هو في خصوص النبوة، يعني: في أصل النبوة لا تفاضل، وإنما يحصل التفاضل في أمور أخر زائدة على النبوة، وجوز القرطبي التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات، فقد قال ما نصه: قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص -التي هي الخصائص- والألطاف والمعجزات المتباينة، أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما يتفاضلوا بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلاً، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، وهذا قول حسن فيه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ. وقد أشار ابن عباس إلى هذا المعنى فقال: إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم -يا ابن عباس- فضله على أهل السماء؟! فقال: إن الله تعالى قال: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]، وهذا في حق الملائكة، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1-2]، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، فأرسله إلى الجن والإنس. وأشار أيضاً القاسمي إلى بعض الفوائد التي تتعلق بهذه الآية: (( تِلْكَ الرُّسُلُ )) فيقول: هذه إشارة إلى من ذكر منهم في سورة البقرة، أو تلك الرسل المعلومة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم: (( فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )) بأن خص بمنقبة ليست لغيره (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ )) هذا تفصيل للتفضيل، أي: منهم من فضَّله الله بأن كلمه من غير واسطة، وهو موسى عليه السلام، (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) يعني: كإبراهيم اتخذه الله خليلاً، وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك. والظاهر أنه أراد بقوله تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المفضل عليهم؛ حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثر المرتقية إلى ألف آية أو أكثر، ولو لم يؤت صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على مرِّ الدهر دون سائر المعجزات، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لقوله: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) فاكتفى بهذا عن أن يقول: إنه محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا فيه زيادة تعظيم وتفخيم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا فيه شهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس بغيره، فمن شدة تميزه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء لم يكن هناك داع للتصريح باسمه؛ بل قال تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ))، على أساس أن هذا معروف فلا يحتاج للتنصيص على اسمه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، كما يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم. ويريد به الذي عرف واشتهر بتلك الأفعال، مثل رجل يستطيع رفع أوزان ثقيلة جداً، وهو معروف في وسط مجموعة من الناس، فتقول: من رفع هذه الأثقال؟ فيقول: أحدهم أو أحدكم أو بعضكم، وهو معروف أنه لا يفعله إلا هذا، فيكون الإيهام وعدم التصريح أفخم من التصريح به، كما سئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث؟ يعني: بذلك نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي. لم يفخم أمره، فلو صرح لكان أضعف من أن يقول: لو شئت لذكرت الثالث، فكأن الثالث هذا معروف، وليس محتاجاً أن يذكر أنه متمكن من الشعر. قالوا: ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم. وقوله: (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ )) كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى (( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ )) وهو جبريل عليه السلام. قوله تعالى: (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ )) يعني: من بعد الرسل؛ لاختلافهم في الدين، وتشعُّب مناهجهم، وتكفير بعضهم بعضاً(( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ )).

قوله تبارك تعالى: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم، وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وقوله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، فهذه الآيات توضح ما أجمله في قوله: ((فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ))، فبينت آيات أخر أن ممن كلم الله موسى عليه السلام. وقال ابن كثير: (منهم من كلم الله) موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه. قال مقيدة -أي: الشنقيطي - عفا الله عنه: تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبنيه قوله تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] وأمثالها من الآيات، فإنه ظاهر بأنه غير واسطة الملك، وإنما كان تكليماً مباشراً من الله سبحانه وتعالى. ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه، فهو رسول إليها بذلك، يعني: الله سبحانه وتعالى كلم آدم عليه السلام، وآدم بلغ حواء كما قال تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ [البقرة:35]، فالتكليف لآدم. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ))، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي مرسل هو؟ فقال: (نعم، نبيٌّ مكلم)، فهذا يدل على دخول آدم عليه السلام في قوله تعالى: (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ )) يعني: بلا واسطة. قال ابن عطية : وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى عليه السلام. وقال ابن جرير : لأن آدم كان هو النبي أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنياً -وهو الرسول- بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38] أي: رسل. وقد وصف نوح عليه السلام بأنه أول رسول في حديث الشفاعة: (فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)، ويشهد له قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، وهذا يشكل على ما تقدم أن آدم رسول! والظاهر: أنه لا طريق للجمع بين هذه النصوص إلا من وجهين: آن آدم أرسل لزوجه في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدل على هذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة ففيه: (ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) فمفهومه: أن آدم عليه السلام أول رسول من الله إلى زوجه حواء في الجنة، وليس رسولاً إلى أهل الأرض، فلا تعارض، فقوله: (إلى أهل الأرض) لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشواً، لكن المقصود به الاحتراز عن رسالة آدم إلى زوجه في الجنة كما ذكرناه، ويستأنس له بكلام ابن عطية الذي ذكرناه سابقاً عند حديث: (نعم، نبي مكلم)، قال ابن عطية : وقد تأوّل بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا يبقى التكليم خاصية لموسى عليه السلام. أما الوجه الثاني للجمع فهو أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل إلى قوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً [يونس:19] يعني: كانوا على الدين الحنيف حتى كفر قوم نوح، وقوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة:213] إلى آخر الآية. وقوله تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، وقوله: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فبلا شك أن من أعظم خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم عموم رسالته إلى البشر كافة، وهو الرسول الوحيد الذي بعث إلى الناس كافة، أما من قبله فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. وأشار أيضاً في مواضع أخر إلى أن من هؤلاء الذين رفعهم الله درجات إبراهيم عليه السلام كقوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، وإن كانت الخلة ليست خاصة لإبراهيم عليه السلام، فقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، ومن ذلك قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار في موضع آخر إلى أن من هؤلاء الأنبياء الذين فضَّلهم الله، ورفعهم درجات داود عليه السلام في قوله: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]. وأشار أيضاً إلى أن منهم إدريس عليه السلام في قوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57]. وأشار إلى أن منهم عيسى لقوله: (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ )).

في قوله تعالى: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )) إشكال قوي معروف، وجهه أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروني على موسى، فإن الناس يَصعقون -أو يُصعقون- يوم القيامة فأكون من أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟)، فهنا يخبر في الحديث بقوله: (لا تخيروني على موسى) يعني: لا تقولوا: أنا خيرٌ من موسى عليه السلام، وفي رواية: (لا تفضلوا بين أنبياء الله)، وفي رواية: (لا تخيروني من بين الأنبياء). قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء، ولا تفضلوا بين أنبياء الله) أي: لا تقولوا: فلان خيرٌ من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل. يعني: يحتمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى الصحابة عن التفضيل كما في هذا الحديث، وكما في قوله أيضاً: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) قبل أن يوحى إليه بتفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين كقوله مثلاً: (أنا سيد الناس يوم القيامة، ولا فخر). الثاني: أن هذا قاله من باب هضم النفس فقال: (لا تخيروا بين أنبياء الله). الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاتم يعني: في هذه الحال بالذات ينهى عن وقوع المفاضلة فيها؛ لأن سبب ورود الحديث: أن رجلاً يهودياً قال: والذي اصطفى موسى على العالمين! فغضب المسلم ولطمه منكراً عليه؛ لأن الله اصطفى محمداً عليه الصلاة والسلام على العالمين. الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به. واختار القرطبي أن منع التفضيل إنما هو في خصوص النبوة، يعني: في أصل النبوة لا تفاضل، وإنما يحصل التفاضل في أمور أخر زائدة على النبوة، وجوز القرطبي التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات، فقد قال ما نصه: قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص -التي هي الخصائص- والألطاف والمعجزات المتباينة، أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما يتفاضلوا بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلاً، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، وهذا قول حسن فيه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ. وقد أشار ابن عباس إلى هذا المعنى فقال: إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم -يا ابن عباس- فضله على أهل السماء؟! فقال: إن الله تعالى قال: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]، وهذا في حق الملائكة، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1-2]، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، فأرسله إلى الجن والإنس. وأشار أيضاً القاسمي إلى بعض الفوائد التي تتعلق بهذه الآية: (( تِلْكَ الرُّسُلُ )) فيقول: هذه إشارة إلى من ذكر منهم في سورة البقرة، أو تلك الرسل المعلومة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم: (( فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )) بأن خص بمنقبة ليست لغيره (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ )) هذا تفصيل للتفضيل، أي: منهم من فضَّله الله بأن كلمه من غير واسطة، وهو موسى عليه السلام، (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) يعني: كإبراهيم اتخذه الله خليلاً، وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك. والظاهر أنه أراد بقوله تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المفضل عليهم؛ حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثر المرتقية إلى ألف آية أو أكثر، ولو لم يؤت صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على مرِّ الدهر دون سائر المعجزات، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لقوله: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) فاكتفى بهذا عن أن يقول: إنه محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا فيه زيادة تعظيم وتفخيم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا فيه شهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس بغيره، فمن شدة تميزه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء لم يكن هناك داع للتصريح باسمه؛ بل قال تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ))، على أساس أن هذا معروف فلا يحتاج للتنصيص على اسمه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، كما يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم. ويريد به الذي عرف واشتهر بتلك الأفعال، مثل رجل يستطيع رفع أوزان ثقيلة جداً، وهو معروف في وسط مجموعة من الناس، فتقول: من رفع هذه الأثقال؟ فيقول: أحدهم أو أحدكم أو بعضكم، وهو معروف أنه لا يفعله إلا هذا، فيكون الإيهام وعدم التصريح أفخم من التصريح به، كما سئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث؟ يعني: بذلك نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي. لم يفخم أمره، فلو صرح لكان أضعف من أن يقول: لو شئت لذكرت الثالث، فكأن الثالث هذا معروف، وليس محتاجاً أن يذكر أنه متمكن من الشعر. قالوا: ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم. وقوله: (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ )) كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى (( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ )) وهو جبريل عليه السلام. قوله تعالى: (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ )) يعني: من بعد الرسل؛ لاختلافهم في الدين، وتشعُّب مناهجهم، وتكفير بعضهم بعضاً(( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ )).

قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ))، هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال، (مما) من هنا: تبعيضية، يعني: من بعض ما رزقناكم، قيل: وهو أمر إيجاب، وإذا كان الأمر هنا على سبيل الإيجاب فالمراد بالنفقة الزكاة، والذي يرجح ويؤكد ويقوي القول بأن المراد هنا: النفقة الواجبة؛ الوعيد الذي عقب الله سبحانه وتعالى أمره بالنفقة هنا فقد قال: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) فوصف مانع هذه النفقة بالكفر والظلم، وهذا الوعيد يدل على أنه أراد النفقة الواجبة، وليس نفقة التطوع. فقوله: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))، عنى بهم مانعوها، فالمقصود بالكافرين هنا: مانعوا الزكاة. وقال الأصم وأبو علي : أراد النفقة في الجهاد. وقال أبو مسلم وابن جريج : أراد الفرض والنفل، وهو المتجه، يعني: أن المقصود بالنفقة الواجبة والنافلة. (( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ )) وهو يوم القيامة (( لا بَيْعٌ فِيهِ )) لأن الإنسان ما دام السوق قائماً يستطيع أن يبيع، فعن طريق هذا البساط التجاري يستطيع أن يحصل مالاً في الدنيا ينفع به نفسه، أما في الآخرة فيقول تعالى: (( لا بَيْعٌ فِيهِ )) يعني: لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب، فالإنسان في الدنيا يبيع ويشتري فيحصل على المال، وهذا المال إما أن ينفقه في سبيل الله وإما أن يفتدي به، أما في الآخرة فلا يستطيع أن يبيع، ولا يستطيع أن ينفق، فإذا قصر في النفقة في الدنيا لا يستطيع أن يفتدي بماله نفسه في الآخرة؛ لأنه لا بيع فيها، (ولا خلة) يعني: لا صداقة تنفع، الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، والمتقون لا يمنعون الزكاة. (( وَلا شَفَاعَةٌ )) فلا تتكلوا على شفعاء إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه:109]، وهذا الاستثناء لا بد منه؛ لأن النفي هنا ليس لمطلق الشفاعة يعني: ليست كل الشفاعات منتفية في الآخرة كما هو معلوم من مقتضى الجمع بين هذه الآية وغيرها من النصوص في القرآن أو في السنة التي تثبت أن هناك شفاعة مشروطة بأن تكون بإذن الله تبارك وتعالى كما سيأتي. (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) الكافرون هنا المراد بهم تاركوا الزكاة، وهذا الأسلوب معروف في القرآن، وله نظير في فريضة الحج قال سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] فعبر عن تارك الحج بالكفر؛ لأن هذا من فعل الكفار، وقال الله في الزكاة أيضاً في سورة فصلت: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:6-7]. إذاً: قوله: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، واستعمال لفظة (الكافرون) بدل (التاركون الزكاة) للتغليظ في هذه المعصية وللتهديد كما في قوله تعالى في آخر آية الحج: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97] ولم يقل: ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين، فآثر لفظة: (من كفر) على من لم يحج، للتغليظ ولبيان أن ترك الزكاة من صفات الكفار، ويحتمل أن يكون المعنى: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) أي: لأنفسهم لوضع الأموال في غير مواضعها، فلا تكونوا -أيها المؤمنون- مثلهم في عدم الإنفاق فتضعون أموالكم في غير مواضعها. وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات قبل فواتها بهجوم ما يمنع منها من مرض أو غيره. يوم القيامة هو يوم الموقف الأكبر، لكن كل إنسان منا له يوم القيامة موقف خاص به، وله ساعة وله يوم آخر نسبي، وهي لحظة موته التي بها يبتدئ رحلته إلى اليوم الآخر، فبمجرد خروج روحك فأنت تنتقل من الدنيا إلى الدار الآخرة؛ فلذلك ينبغي أن ننفق: كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:10-11]، وقال هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قال السيوطي : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ )) زكاته (( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ )) فداء (( فِيهِ وَلا خُلَّةٌ )) يعني: صداقة تنفع (( وَلا شَفَاعَةٌ )) يعني: بغير إذنه وهو يوم القيامة، وفي قراءة بنصب الثلاثة: (من قبل أن يأتي يوم لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ). (( وَالْكَافِرُونَ )) أي: بالله أو بما فرض عليهم، (( هُمُ الظَّالِمُونَ )) لوضعهم أمر الله في غير محله.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2821 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2586 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2573 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2505 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2443 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2413 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2403 استماع