تفسير سورة البقرة [229-242]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]. قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا) يعني: إلا أن يخاف الزوجان. (أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) يعني: ألا يأتيا بما حده لهما من الحقوق. وفي قراءة (إلا أن يُخافا) بالبناء للمفعول، أي: يخافا من قبل ولاة الأمور. فـ(أن لا يقيما) بدل الاشتمال من الضمير فيه، وقرئ شذوذاً بالفوقانية في الفعلين، أي: (إلا أن تخافا أن لا تقيما) وهذه قراءة شاذة. قوله تعالى: (( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ )) هذه الآية دليل على جواز الخلع، والخلع هو: أن تختلع المرأة من زوجها، وهذا جائز إذا كان بعذر وبسبب، أما المرأة التي تطلب من زوجها الخلع من غير ما سبب فقد ورد فيها وعيد شديد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المختلعات أو المنتزعات هن المنافقات)، فلا يجوز للمرأة أن تطلب من زوجها الطلاق بين الحين والآخر لأتفه الأسباب أو بدون سبب أو بسبب اختلاف، لكن إن كان هناك سبب وجيه وبأس وعذر فلها أن تطلب الطلاق ولا حرج عليها، أما أن تطلبه لغير ذلك فقد ثبت في ذلك هذا الوعيد الشديد. يقول تعالى: (( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ )) لا جناح على الرجل ولا على المرأة فيما افتدت به نفسها من المال ليطلقها، فلا حرج على الزوج في أخذه، فهذا معنى (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أي: ليس على الزوج حرج في أن يأخذ هذا المال الذي تفتدي نفسها به، وليس هناك حرج -أيضاً- على الزوجة أن تبذل هذا المال لتفتدي نفسها به. (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: تلك الأحكام المذكورة حدود الله: (فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

قوله تعالى: (فإن طلقها) هذا مرتبط بما قبله، حيث قال تعالى: (الطلاق) يعني: التطليق (مرتان)، ثم قال: (فإن طلقها) يعني: إن طلقها الزوج بعد الثنتين (فلا تحل له من بعد) يعني: من بعد الطلقة الثالثة لا تحل له (حتى تنكح زوجاً غيره) أي: حتى تتزوج زوجاً غيره ويطأها، للحديث الذي رواه الشيخان، فلا تحل له بعد الطلقة الثالثة حتى تتزوج زوجاً غيره ويطأها؛ لأن كلمة (تنكح) كما هو معلوم لفظ مشترك بين العقد وبين الوطء، فبالتالي نص هنا في التفسير على الوطء كي لا يظن أنه يكفي مجرد العقد؛ لأن الحديث دل على ذلك، ودلت الشريعة على تحريم نكاح المحلل، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، وسماه النبي عليه الصلاة والسلام بالتيس المستعار، فمن الحيل المحرمة نكاح التحليل. فلذلك قال: (حتى تنكح) يعني: تتزوج (زوجاً غيره) ويطأها، ولابد من وطئها؛ لحديث رواه الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي -أي: طلقني الطلاق البتة ثلاثاً- فتزوجني عبد الرحمن بن الزَّبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوبة -أي: هو عنين- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، وهذا كناية عن الوطء. فيجب أن يكون النكاح الثاني مقصوداً لذاته، لا لتحليل المرأة للزوج الأول، فأي نكاح لابد أن يكون الزوج ناوياً فيه التأبيد، لابد أن ينوي التأبيد، وأي عقد زواج يكون مؤقتاً فهو نكاح متعة، وهذا قد نسخ وحرم، فعقد النكاح لمدة معينة لا يجوز عندنا أهل السنة، وإنما يجب أن يكون على التأبيد، والتأبيد أن ينوي أن يعيش معها إلى الأبد ويتزوجها إلى الأبد. فلذلك ينبغي أن يكون هذا النكاح الثاني مقصوداً لذاته لا لمجرد التحليل، فمن وطأها لابد أن ينوي، لا أن ينوي بالوطء أن يحللها لزوجها، لكن ينوي بالعقد أن يتزوجها إلى الأبد. يقول: يجب أن يكون النكاح الثاني مقصوداً لذاته لا لتحليل المرأة للزوج الأول، فإن قصد به التحليل كان الطرفان آثمين بالإجماع مع خلاف في صحة العقد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لعن الله المحلل والمحلل له)رواه النسائي والترمذي . قوله تعالى: (فإن طلقها) الفاعل هنا الزوج الثاني، (فإن طلقها) أي: الزوج الثاني طلقها لأي سبب، فهو نوى التأبيد لكن حصل بينهما نزاع أو أي شيء حتى طلقها لا لقصد التحليل، لكن طلقها لمشاكل عائلية. (فإن طلقها) أي: الزوج الثاني (فلا جناح عليهما) يعني: الزوجة والزوج الأول (أن يتراجعا) يعني: أن يتراجعا إلى النكاح بعد انقضاء العدة، ولابد من هذا الشرط، لابد أن يكون النكاح بعد انقضاء العدة. إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:230] أي: تلك المذكورات حدود الله. (يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: يتدبرون.

قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]. قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: قاربن انقضاء عدتهن فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . وإنما كان معنى (بلغن) قاربن لأنه لو كانت العدة قد انقضت بالفعل فلا يمكنه أن يمسكها، بل تكون قد بانت منه بينونة صغرى، لذلك فسر قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن) بأن معناه: قاربن انقضاء عدتهن. فقوله تعالى: (فأمسكوهن) الإمساك لابد أن يكون في جزء من العدة، وهو الذي يكون عند اقتراب نهاية العدة. قوله تعالى: (فأمسكوهن بمعروف) أي: أمسكوهن بأن تراجعوهن. وقوله تعالى: (بمعروف) أي: من غير إضرار. وقوله تعالى: (أو سرحوهن بمعروف) أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن. وقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) أي: ولا تمسكوهن بالرجعة. (ضراراً) مفعول له. (لتعتدوا) أي: تعتدوا عليهن بالإلجاء إلى الافتداء والتطليق وتطويل العدة، وذلك أن ينوي الرجل بمراجعتها تطويل العدة، فإذا قاربت العدة الانتهاء يراجعها، ويتعسف في استعمال هذا الحق الذي أعطاه الله إياه كي يطيل عليها عدتها، يعني فيراجعها من جديد ثم يطلقها لتطول عليها العدة؛ لأنها إذا طلقت منه ستكون لها الحقوق المادية من المتعة أو المهر، أو مؤخر الصداق، لكن هو يمسكها بنية أن يضايقها ويؤذيها كي تطلب هي الافتداء فتبرئه من حقوقها، فيمسكها بنية الضرار. ولا شك أن هذه الأشياء متفشية إلى الآن، حتى إن بعض الذين يزعمون أنهم متدينون نجد أن الإنسان منهم إذا غلبه الهوى والظلم والتعسف لا يلتفت إلى هذه الأمور الشرعية، وقد رأينا ذلك في أناس كثيرين. إلا أن التقي -كما قال بعض السلف- ملجم، فليس كل ما يقدر عليه يفعله، فالتقوى تلجمه وتكبح هواه وبغيه. وبعض الناس الحلال عنده هو ما قدر عليه، والحرام هو ما عجز عنه، فإن قدر على مال كان عنده حلالاً له، وإن قدر على عرض كان حلالاً له، والحرام هو الذي عجز عنه، وليس الحرام عنده ما حرم الله، وليس الحلال عنده ما أحله الله سبحانه وتعالى! فإذا كنت قادراً على الظلم فتذكر أن الله أقدر عليك منك على المظلوم، حتى ولو كانت المرأة لا يوجد لها من يدافع عنها أو يحميها أو يتولى صيانة حقوقها، وبالتالي يُعدُّ هذا التصرف منه منافياً لما أوصى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم) يعني: أسيرات عندكم. وقوله عليه الصلاة والسلام: (إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة) يعني: أنتم في حرج إذا ضيعتم حق هذين الضعيفين: اليتيم والمرأة. فالشاهد أن الرجل لا يجوز له أن يمسكها ضراراً. تجد الرجل يتزوج مثلاً، ثم يطلق مرتين ويبقي الثالثة، ثم يتزوج امرأة أخرى، ويضعها على ذمته دون أن يراجعها، فتصبح معلقة لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة، ولا شك أن هذا يتنافى مع الأخلاق الإسلامية، ومثل هذه التصرفات لا يأتي بها من يخاف الله سبحانه وتعالى أو يستحيي من الله، فليس كل ما تقدر عليه أو ما يوفره لك القانون أو يحرره لك المحامي يكون حقاً لك، فإذا كنت تتقي الله فينبغي أن تلتزم بشرع الله عز وجل. قال تعالى: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ)) أي: بالرجعة (ضِرَارًا) أي لأجل الضرار لتعتدوا عليهن بالإلجاء إلى الافتداء، فيضيق عليها حتى تفتدي نفسها بالمال، أو تتنازل عن حقوقها عنده. قال تعالى: ((وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)). هنا عدة قراءات، فقد قرئ (هُزواً) بالهمزة مع ضم الزاي (هُزُءًا)، وبالهمزة مع سكون الزاي (هُزْءًا)، وفي قراءة بضم الزاي وإبدال الهمزة واواً، وهي رواية حفص عن عاصم أي: مهزوءاً بها. والمعنى: لا تهزءوا بآيات الله بأن تخالفوها ولا ترفعوا بها رأساً ولا تلقوا لها بالاً. ثم يقول تعالى: ((وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)) يعني: بالإسلام. ((وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ))[البقرة:231] أي: القرآن. (والحكمة) يعني: ما في القرآن من الأحكام. وحيث ما وردت الحكمة مقترنة بالكتاب في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية فالمقصود بها السنة، وهذا لا يتعارض مع تفسير السيوطي للحكمة هنا بما في القرآن من الأحكام، ولكن المعروف أن الحكمة هنا هي السنة كما سبق الاستدلال على ذلك. ((يَعِظُكُمْ بِهِ)) يعني: اذكروا هذه النعمة بأن تشكروها وتعملوا بهذه الأحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى وامتن بها عليكم. ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) أي: لا يخفى عليه شيء.

ثم يقول تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] ليس المقصود ببلوغ الأجل هنا مقاربة انقضاء عدتهن، بل المراد بـ(بلغن أجلهن) هنا انقضاء العدة بالفعل، حيث بانت من زوجها بينونة صغرى. فـ(إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) أي: انقضت عدتهن (فلا تعضلوهن) الخطاب هنا للأولياء، والعضل: هو مضارة المرأة بأن يمنعها من زوجها. أي: أن يأتيها زوج كفء فلا يزوجها، فهذا هو العضل، وهو صورة من صور التعسف أو سوء استعمال السلطة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى الأولياء. وهذه الآية من أوضح الأدلة على أن الولي هو صاحب الحق في تزويج المرأة، فالنهي عن العضل يثبت أن له سلطة، وأن الولي أبا المرأة -مثلاً- أو وليها الشرعي هو الذي يتولى تزويجها؛ لأنه لو كان الأمر إليها لما احتيج إلى النهي عن العضل، فالنهي عن العضل لأن سلطة التزويج من سلطة الولي فقط، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بولي)، والآيات في هذا كثيرة، منها الآية التي أشرنا إليها سابقاً في قوله تبارك وتعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، و(تُنكِح) فعل مضارع، وماضيه (أنكح). وأما (ولا تَنكَحوا المشركات) فهو من (نَكَح) بمعنى: تزوج، أي: فلا تتزوجوا المشركات، أما حينما نزوج نحن بناتنا فيقول تبارك وتعالى: (ولا تُنكحوا) يعني: لا تُزوجوا بناتكم المشركين، فلم يقل: لا يَنكَحن هن المشركين حتى يؤمنوا؛ لأنه لا سلطة للمرأة في التزويج، فالسلطة هي للرجل، ولذلك قال: (ولا تُنكِحوا المشركين) يعني: لا تزوجوهن بناتكم حتى يؤمنوا. وهذا أيضاً دليل على اشتراط الولي في النكاح. وقوله تبارك وتعالى: ((فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن))، والخطاب هنا للأولياء، أي: لا تمنعوهن من أن ينكحن أزواجهن، وليس المراد: أي أزاوج! وإنما أزواجهن المطلقون لهن، وهو الزوج الذي طلقها فيما مضى حتى انقضت عدتها منه وبانت منه بينونة صغرى. يقول السيوطي : (فلا تعضلوهن) خطاب للأولياء، أي: لا تمنعوهن من أن ينكحن أزواجهن المطلقين لهن؛ لأن سبب نزولها أن أخت معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه طلقها زوجها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، وأخته هذه كان يتقدم إليها كثير من أشراف الناس ووجهائهم، فكان يتأبى عليهم، وفضله هو بتزويجها. فلما تزوجها طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فأراد أن يراجعها فمنعه معقل بن يسار وأبى وأخذته الحمية وقال: أكرمتك وزوجتك إياها فطلقتها ثم لم تراجعها حتى انقضت العدة، وبعد ذلك تطلب أن تراجعها! فأصر ألا يعيدها إليه، وهي ترغب أن تعود إلى زوجها، فلما نزلت هذه الآية قال معقل : سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك تعظيماً لأمر الله سبحانه وتعالى. وهكذا الإيمان إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]. ولا شك أن قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) إنما هو إذا تراضوا بينهم بالمعروف؛ لأن المرأة إذا امتنعت عن العودة إلى زوجها الذي بانت منه بينونة صغرى فلا تلزم بالقبول إذا خطبها بعد ذلك. وقد رغب الله في إرجاع المرأة إلى زوجها الأول إذا خطبها بعد انقضاء عدتها؛ لما كان بينهما من العلاقة القائمة والمعاشرة الطويلة، فلا يؤمن أن يقع نوع من العلاقة والمواصلة المحرمة بينهما؛ لما كان بينهما سابقاً من الارتباط والعلاقة، فإذا سد الباب الحلال عليهما قد ينفتح باب الريبة في العلاقة بينهما لقوة العلاقة بينهما فيما مضى، ولذلك كان هذا الحكم سداً لهذا الباب من أبواب الفتنة. قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أي: المطلقين لهن. (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (إذا تراضوا) الواو تعود على الأزواج والنساء. (بينهم بالمعروف) أي: المعروف شرعاً؛ لأن المعروف هو ما عرفه الشرع، والمنكر هو ما أنكره ونهى عنه. (ذلك) أي: ذلك النهي عن العضل (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)؛ لأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويخشى الله سبحانه وتعالى ويتقيه هو الذي ينتفع بهذه الموعظة. (ذلكم) يعني: ترك العضل (أزكى لكم وأطهر) (أزكى) أي: خير لكم وأطهر لكم ولهن، أي: للأزواج والزوجات، فهو أطهر لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة السابقة بينهما. (والله يعلم) أي: ما فيه من مصلحة. (وأنتم لا تعلمون) أي: ذلك، فاتبعوا أمره.

قال تبارك وتعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233]. (يرضعن) الكلام فيها مثل (يتربصن)، فظاهرها الخبر ولكن المقصود الأمر، يعني: ليرضعن. (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) (حولين): يعني عامين (كاملين) هذه صفة مؤكدة. (لمن أراد) يعني: ذلك الحكم لمن أراد (أن يتم الرضاعة)، ولا زيادة عليها، فلا تزيد الرضاعة على سنتين هجريتين. وقوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهم بالمعروف) (وعلى المولود له) أي: الأب (رزقهن) يعني: إطعام الوالدات،فينفق عليها، فـ(رزقهن) أي: الإطعام، (وكسوتهن) يعني: النفقة والكسوة عن الإرضاع إذا كن مطلقات. (بالمعروف) أي: بقدر طاقته. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233] أي: إلا طاقتها. (لا تضار والدة بولدها) الباء هنا سببية، يعني: لا يجوز أن تضار امرأة بسبب ولدها، كأن تكره -مثلاً- على إرضاعه إذا امتنعت، أو تمنع من إرضاعه إذا رغبت، وهذا -أيضاً- من الأخلاق السيئة الموجودة الآن في كثير من الرجال والنساء، تجد البعد عن شرع الله سبحانه وتعالى وضعف اليقين في القلوب، نجد الذي يستطيع أن يفعل فعلاً لا يتورع أبداً، والشيطان يربي هذه الأخلاق السيئة، وقل من تجده يفارق زوجته بالتي هي أحسن؛ لأن ضعيف التقوى إذا قدر فإنه لا يرحم ولا يتورع عن أي نوع من الأذى، تجد المرأة وأسرتها يحاربون على أن يحجبوا الابن عن أبيه، وتجد الرجل -أيضاً- يحاول أن ينكر بقدر استطاعته مصادر دخله، بحيث إذا رفعت القضية إلى القاضي لا يستطيع القاضي أن يفرض عليه مبلغاً كبيراً من المال بسبب قلة دخله. لماذا لا تتراضوا بينكم بالمعروف؟! ولماذا لا تُحكِّموا شرع الله سبحانه وتعالى بصدق، فتعطى المرأة حقها ويعطى الزوج حقه؟! وقوله تعالى: (لا تضار والدة بولدها) يعني: بسبب ولدها بأن تكره -مثلاً- على إرضاعه إذا امتنعت. (ولا مولود له بولده) أي: ولا يضار -أيضاً- الأب بولده أي: بسبب ولده- بأن يكلف فوق طاقته. وإضافة الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف، فأضاف الله سبحانه وتعالى الولد إلى الأم فقال تعالى: (لا تضار والدة بولدها)، وهذه الإضافة المقصود بها الاستعطاف يعني: لتتذكر أن هذا هو ولدها فكيف تجعله سبباً لشقائها وسبباً في تعذيبها؟! كذلك قوله تعالى: (ولا مولود له بولده) ليعلم الطرف الآخر من النساء أن هذا ولده، فهذا نوع من الاستعطاف، فهو ولده فكيف تجعلونه سبباً في شقائه بمضارته؟! وهذا يفيد أن الولد لأبيه؛ لقوله تعالى (ولا مولود له بولده)، أما الأم فقال: (والدة)، وقال: (والوالدات)، وحين ذكر الأب قال: (مولود له)، فالولد مختص بأبيه، فهو له، وهو من كسبه. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) فاختص الأب بهذا. قال تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) الذي يرث الأب إذا مات هو الصبي ابنه، فقوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) يعني: يجب على الوارث -الذي هو الصبي- أن ينفق على الأم التي ترضعه، فيعطيها الكسوة والطعام في أثناء فترة الرضاع مثلما يجب على المولود له المتوفى أيضاً، والذي يرضع -وهو الوارث- لا يتمكن من أن يعطي الأم نفقتها حال رضاعه، فإذاً لابد أن يكون المقصود ولي هذا الصبي؛ لأنه هو الذي يكون متمكناً من المال ويرعاه ويقوم بحاجاته منه. فالمقصود بقوله هنا: (وعلى الوارث) أي: وارث الأب وهو الصبي، أي: على وليه في ماله. و(على) هنا تطلق بمعنى الوجوب، فيجب على الولي أن ينفق من مال الصبي على أمه في الرضاع. (مثل ذلك) يعني: مثل الذي على الأب للوالدة من النفقة والكسوة. قال تعالى: (فإن أرادا) أي: الوالدان (فصالاً) أي: فطاماً له قبل الحولين، (فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور). فانظر كيف الإسلام يراعي مستقبل الأطفال حتى في حال فراق الوالدين، فتصور أن الأب والأم في حالة طلاق، لكن أوجب الله عليهما أن يتشاورا ويتحاورا فيما هو الأصلح لهذا الولد، ما هي مصلحته في الناحية البدنية وغيرها. (فإن أرادا فصالاً عن تراض) من غير أجبار وإكراه (وتشاور) يوجد أخذ ورد وشورى لأجل مصلحة هذا الصبي. (فإن أرادا) أي: الوالدان (فصالاً) أي: فطاماً له قبل الحولين (عن تراض) أي: اتفاق منهما (وتشاور) يعني: بينهما لتظهر مصلحة الصبي فيه. (فلا جناح عليهما) يعني: لا جناح عليهما في ذلك إن رأيا أن المدة إذا قلت يكون في ذلك مصلحة الولد، فلا جناح عليهما ولا يتحرجا من قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)، ما دام في هذا مصلحة لهذا الصبي. قوله تعالى: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) (إن أردتم) هذا خطاب للآباء فقط (أن تسترضعوا أولادكم) يعني: تطلبون لهم مراضع غير الوالدات، فإذا كنت تريد أن ترضع ولدك غير هذه الأم المطلقة (فلا جناح عليكم إذا سلمتم) يعني: لا جناح عليكم في هذا الاسترضاع، وهو طلب المرضع غير الأم. (فلا جناح عليكم) أي: فيه (إذا سلمتم) أي: إليهن (ما آتيتم بالمعروف)، أي: إلى المرضعة غير الأم. أي: إذا سلمتم إلى هذه المرضعة التي تسترضعونها ما آتيتم -أي: أردتم إيتاءه- لهن من الأجرة (بالمعروف) أي: بالذي تطيب به النفس. (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) يعني: لا يخفى عليه شيء مما تعملون.

قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]. قوله تعالى: (والذين يتوفون) يعني: يموتون، والفعل مبني لما لم يسم فاعله (يُتَوفون)، وليس (يَتوفون) بالبناء للفاعل، ولذلك يحكى أن الخليل بن أحمد مشى في جنازة، فسأله سائل فقال: من المُتوفي؟ قال: الله. فغضب، ومن هنا بدأ في تدوين علوم النحو وضبط علوم اللغة، فنذر نفسه لحفظ اللسان العربي وقواعد اللغة العربية وفهم اللغة العربية؛ لأن الرجل قال له: من المتوفي؟ فرد عليه وقال: الله هو الذي يتوفى. فالله يتوفى الأنفس، أما الميت فيسمى "متوفى"، فهذا هو الصحيح، أن تقول: (متوفى) أو: (توفي فلانٌ)، أو تقول: (توفاه الله)، ولا تقول: (تَوَفَّى). يقول: (والذين يتوفون منكم) يعني: يموتون. (ويذرون) يتركون (أزواجاً يتربصن بأنفسهن) (يتربصن) أيضاً هنا ظاهره الخبر والمقصود به الإنشاء وهو الأمر، يعني: ليتربصن بأنفسهن يعني بعدهن عن النكاح، فيحبسن أنفسهن عن الزواج لمدة أربعة أشهر وعشر ليال، فهذه الآية موضوعها مدة إحداد المرأة على زوجها المتوفى. والمدة أربعة أشهر وعشر ليال، لا وعشرة أيام؛ لأنه لو كانت وعشرة أيام لقال: (أربعة أشهر وعشرة). وهذا في غير الحوامل، فالمرأة إما أن تكون حاملاً أو حائلاً، فالمرأة الحامل عدتها أن تضع حملها، ودليله آية الطلاق، وهي قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فلو أنها بعد وفاة الزوج -مثلاً- بيومين أو ثلاثة وضعت حملها فقد انقضت عدتها، فيمكن أن تكون العدة أياماً قليلة، ويمكن أن تقارب تسعة أشهر، فأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن. أما المرأة الحائل فعدتها أربعة أشهر وعشراً، والأمة على النصف من ذلك بالسُنَّة. (فإذا بلغن أجلهن) أي: انقضت عدة تربصهن فانقضت الأربعة الأشهر والعشر الليالي. (فلا جناح عليكم) يعني: أيها الأولياء (فيما فعلن في أنفسهن) أي: فيما فعلن في أنفسهن من التزين والتعرض للخطاب، وقد وردت السنة ببيان جواز هذا كما في حديث سبيعة الأسلمية وقول أبي السنابل بن بعكك لها. (بالمعروف) أي: شرعاً. (والله بما تعملون خبير) أي: عالم بباطنه كظاهره.

قوله تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235] هذا أيضاً من أحكام إحداد المتوفى عنها زوجها، وهو أنه لا يجوز لأحد أن يصرح بطلب زواجها، لكن يعرض. فقوله: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم) المقصود: ما لوحتم به من خطبة النساء، والمراد النساء المتوفى عنهن أزواجهن وهن في العدة، أما إذا انقضت العدة فيجوز التصريح، لكن المقصود هنا في أثناء العدة. (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به) أي: لوحتم. (من خطبة النساء) أي: المتوفى عنهن أزواجهن في العدة، كقول الإنسان مثلاً: إنك لجميلة، ومن يجد مثلك؟ وربَّ راغب فيك، هذا كله تعريض. (أو أكننتم في أنفسكم) فأنتم إما أن تُعرِّضوا، وإما أن تضمروا في أنفسكم قصد نكاحهن، (أو أكننتم) يعني: أضمرتم. (في أنفسكم) أي: من قصد نكاحهن. (علم الله أنكم ستذكرونهن) يعني: بالخطبة فلا تصبرون عنهن، فأباح لكم التعريض، فنفس لكم ووسع لكم في هذا الأمر؛ لأن الله علم أنكم قد لا تمسكون أنفسكم عن الاقتراب من هذا الأمر فأباح لكم التعريض. (ولكن لا تواعدوهن سراً) يعني: نكاحاً. (إلا أن تقولوا قولاً معروفاً) (إلا) هنا بمعنى (لكن)، فهو استثناء منقطع، أي: لكن يباح لكم أن تقولوا قولاً معروفاً والمعروف هو ما عرف شرعاً، والذي عرف شرعاً هنا هو إباحة التعريض. (إلا أن تقولوا) يعني: لكن أن تقولوا قولاً معروفاً. أي: ما عرف شرعاً من التعريض فلكم ذلك. (ولا تعزموا عقدة النكاح) يعني: لا تعزموا على عقد النكاح. (حتى يبلغ الكتاب) يعني المكتوب من العدة (أجله) أن ينتهي. (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) يعني: ما في أنفسكم من العزم وغيره فاحذروه أن يعاقبكم إذا عزمتم، فلا تعزم عقدة النكاح، فإذا عزمت فهذا مخالف لهذا التشريع. (واعلموا أن الله غفور) أي: لمن يحذره (حليم) بتأخير العقوبة عن مستحقها.

قال تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:236]، وفي قراءة (ما لم تُماسُّوهن) بضم التاء، أي: تجامعوهن. أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236] يعني: أو لم تفرضوا لهن فريضة. والفريضة هي المهر؛ لأن أحد أسماء المهر: الفريضة، فهو الأجر أو المهر أو الفريضة. والمقصود: لا تبعة عليكم في الطلاق -عدم المسيس والفرض- بإثم ولا مهر. فقوله تعالى هنا: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، الكلام هنا في النساء اللاتي عقد عليهن، كمن تزوج امرأة فعقد عليها ولم يبن بها (ما لم تمسوهن) يعني: لم تطئوهن. وأيضاً إذا لم يفرض لها مهراً، ومعروف أن العقد لا يكون إلا بمهر، ولا يجوز بحال من الأحوال التعاقد على إسقاط المهر، فلا يجوز أبداً إسقاط المهر قبل العقد، لكن يمكن للمرأة بعد العقد أن تتنازل عن المهر، لكن لا يجوز أبداً أن يتزوج الإنسان ويسقط المهر الذي فرض شرعاً لإظهار خطر المحل، لكن لا يشترط، فيصح العقد إذا لم يسم المهر ولم يحدد مهر معين. ويصح العقد بتقديم جزء من المهر وتأخير الجزء الآخر، لكن لا يجوز أبداً العقد على أن يسقط المهر، بل لابد من مهر وإن لم يعين، ولم تحدد قيمته. والدليل هذه الآية: (( لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً )) يعني: لم تحددوا الفريضة التي هي المهر. فهذه حالة امرأة معقود عليها لم يسم مهرها. فقوله تعالى: (ما لم تمسوهن) أي: تجامعوهن (أو تفرضوا) يعني: أو لم تفرضوا لهن فريضة. أي: مهراً. و(ما) مصدرية ظرفية، أي: لا تبعة عليكم -في الطلاق زمن عدم المسيس وعدم الفرض- بإثم ولا مهر. (ومتعوهن) يعني: أعطوهن ما يتمتعن به. (على الموسع قدره) أي: على الغني الموسر منكم قدره (وعلى المقتر قدره) أي: الضيق الرزق عليه قدره فلا ينظر إلى قدر الزوجة ولكن ينظر إلى استطاعة الزوج؛ لأنه لم ينسب القدر إلى المرأة. (متاعاً بالمعرف) (متاعاً) المقصود به: (تمتيعاً)؛ لأن الفعل (متعوهن) مصدره (تمتيعاً) (بالمعروف) أي: شرعاً. و(بالمعروف) متعلق بـ(متاعاً) أو متعلق بصفة (متاعاً) المقدرة. (حقاً) صفة ثانية أو مصدر مؤكد. (على المحسنين) أي: المطيعين.

قال تعالى مبيناً حالة أخرى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237] هذه حالة أخرى، وهي حالة معقود عليها لم يمسها زوجها -أي: لم يطأها- لكنه فرض لها فريضة المهر، فحدد قدره بالضبط، والفريضة من الفرض، وهو القطع، أي: محددة. (فإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) أي: قبل أن تطئوهن. (وقد فرضتم لهن فريضة) أي: المهر (فنصف ما فرضتم) يعني يجب لهن، ويرجع لكم النصف، وهذا في المعقود عليها التي لم يدخل بها ومهرها محدد معلوم، فأنتم لكم النصف وهي تعطى النصف أو يجب لهن النصف، فنصف ما فرضتم يجب لهن، ويرجع لكم النصف. (إلا أن يعفون) (إلا) بمعنى لكن (أن يعفون) أي: الزوجات فيتركنه، فإذا عفت عنك وسامحتك في هذا النصف؛ فلا حرج في ذلك. (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) وهو الزوج، إما أن تعفو الزوجة وإما أن يعفو الزوج فيترك لها الكل. وعن ابن عباس قال: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يعني: الولي، فإذا كانت محجورة فلا حرج في ذلك، يعني أنه إذا كانت المرأة محجوراً عليها ولا تملك التصرف فلا حرج أن يعفوا الذي بيده عقدة النكاح الذي هو وليها، فله أيضاً أن يفعل ذلك. (وأن تعفوا أقرب للتقوى) (أن تعفو) مبتدأ، فهو مصدر مؤول في محل رفع مبتدأ، و(أقرب) خبره. (ولا تنسوا الفضل بينكم) أي: أن يتفضل بعضكم على بعض. (إن الله بما تعملون بصير) يعني سيجازيكم به.

قال تبارك وتعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]. (حافظوا على الصلوات) أي: الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها. (والصلاة الوسطى) وهي العصر أو الصبح أو الظهر أو غير ذلك، وأقواها الأول، فأقوى الأقوال أن الصلاة الوسطى هي العصر، وأفردها بالذكر لفضلها (حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى) فبعد أن عمم خصص. (وقوموا لله قانتين) (قوموا لله) يعني: في الصلاة، وهذه الآية دليل على فرضية القيام في صلاة الفريضة (وقوموا لله قانتين) قيل: مطيعين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل قنوت في القرآن فهو طاعة) أخرجه الطبراني في الأوسط. وقيل: (قانتين) أي: ساكتين؛ لحديث زيد بن أرقم : (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: (وقوموا لله قانتين)، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) رواه الشيخان. (فإن خفتم) يعني: خفتم من عدو أو من سبع (فرجالاً) الرجال: جمع راجل. أي: صلوا مشاة (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً)، وهذا اللفظ مثل قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] أي: يأتون مشاة وراكبين على الجمال الهزيلة التي هزلت من طول السفر، فكذلك هنا (رجالاً) جمع راجل، أي: مشاة، والمقصود: صلوا رجالاً. يعني: وأنتم واقفون على أرجلكم. (أو ركباناً) جمع راكب، أي: صلوا وأنتم راكبين مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، ويومأ بالركوع والسجود، (فإن خفتم فرجالاً) يعني: فصلوا رجالاً أو ركباناً. (فإذا أمنتم) يعني: من الخوف الذي ذكرنا أمثلة منه، كخوف من عدو أو من سبع أو السيل. (فإذا أمنتم فاذكروا الله) يعني: صلوا. فـ(اذكروا الله) هنا بمعنى: صلوا. (كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) يعني: كما علمكم ما لم تعلموه قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها، والكاف بمعنى مثل، و(ما) مصدرية أو موصولة.