تفسير سورة البقرة [203-217]


الحلقة مفرغة

معنى التشريق

التشريق في اللغة: هو تقديد اللحم، فاللحم يقطع قطعاً صغيرة ويجفف في الشمس، فهذا اللحم يسمى القديد، وتقديد اللحم اسمه عند العرب: التشريق، ومنه قيل: أيام التشريق، فبعض الحجاج يأتون باللحم -لحوم الهدي- فيقطعونها قطعاً صغيرة وينشرونها من أجل أن تجف حتى يأخذوها معهم إذا رجعوا من الحج ويأكلوها، فهذا هو التشريق. وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر، ويوم التروية هو يوم الثامن من ذي الحجة؛ لأنهم كانوا يحملون الماء في القرب حتى يرويهم، يليه يوم التاسع الذي هو يوم عرفة، ويلي يوم عرفة يوم العاشر وهو يوم النحر، أما اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر فهذه أيام التشريق. واليوم الأول من أيام التشريق يسمى: يوم القر -من القرار-، واليوم الثاني يسمى: يوم النفر الأول؛ لأنه يجوز لمن أراد أن يتعجل أن ينفر من منى ثاني يوم، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، واليوم الثالث من أيام التشريق يسمى: يوم النفر الثاني. إذاً: التشريق هو تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحوم الأضاحي تشرّق فيها أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.

معنى قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه..)

قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]. قوله: (من تعجل) أي: بالنفر من منى بعد رمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث، واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام فلا يأثم بهذا التعجيل. فيرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، كل جمرة يرميها بسبع حصيات، ثم من رمى اليوم الثاني، وأراد أن يدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمي يومها فهذا سائغ له، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، أي: إذا رمى الجمرات ونوى أن يتعجل لكنه قبل أن يخرج من منى ويغادرها غربت الشمس عليه، فيجب عليه في هذه الحالة أن يبيت، فمن أراد التعجل يجب عليه أن يخرج من منى قبل غروب الشمس. (ومن تأخر) يعني: من أخر الرمي أو بقي في منى حتى رمى في اليوم الثالث (فلا إثم عليه)، أي: في تأخره، والسُّنة هي التأخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة. ولا يقال هذا اللفظ -أي: (فلا إثم عليه)- في حق من أتى بتمام العمل، والأصل أن كلمة (فلا إثم عليه) تقال في حق المقصر، ولا تقال أصلاً في حق من كمّل العمل وأتى بكماله، فقوله: (ومن تأخر فلا إثم عليه) هي مجرد مشاكلة للفظ الأول في قوله: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)، وإلا فإن الذي يأتي بالعبادة على أكمل وجوهها لا يقال في حقه: (فلا إثم عليه)، ولكن هذا من باب المشاكلة، ولها نظائر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، هل السيئة التي تعاقب أنت فيها بالمثل تسمى سيئة؟ لا، فمثلاً: القصاص أو العقوبة بالمثل هي عدل، وسميت سيئة فقط لمجرد المشاكلة؛ لاشتمالهما في لفظ واحد مشاكلة للفظ الثاني. كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، (عوقبتم به) هذه يراد بها الإيذاء الذي بدئ به، فهل هذا الابتداء للإيذاء يسمى عقوبة؟ كلا! لا يسمى عقوبة، لكن هذا من باب المشاكلة. كذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، هل مقابلة المعتدي بمثل عدوانه يسمى عدواناً؟ في الحقيقة ليس عدواناً، لكنه عدل، لكن تسميته بالاعتداء من باب المشاكلة اللفظية، ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا عدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى؛ لأن المقصود نفي الاسم عنه، يعني: أنه من حيث المعنى صحيح، فمن تأخر فلا إثم عليه. وقيل: رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة، أي: المقصود: فلا إثم في الحالتين، بمعنى: إباحة التعجل وإباحة التأخر. وقيل: رفع الإثم أنه حق ظهورهما بإقامتهما الحج، فعجل أو تأخر، (فلا إثم عليه) يعني: ستغفر له ذنوبه، أو ستحط عنه آثامه بسبب أنه أدى الحج بشرطه. (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى سيغفر له ذنوبه وآثامه. كذلك: (ومن تأخر فلا إثم عليه) أيضاً له نفس هذا الثواب، وعلى ذلك دل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والشرط في ذلك هو التقوى، لذلك قال: لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، فما دام الأول اتقى الله، والثاني اتقى الله، فحج ولم يرفث ولم يفسق كان جزاءه رفع الآثام عنه وتطهيره منها. (لمن اتقى) أي: أن الذي ذكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر أو من الأحكام إنما هو لمن اتقى؛ لأنه هو الذي ينتفع بهذا الحج، فالذي ينتفع بالحج هو الذي يتقي الله تبارك وتعالى، كما في قوله تبارك وتعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:38]، وكذلك قوله تعالى: (هدى للمتقين)، فكذلك هنا قوله: (فلا إثم عليه) إنما يكون هذا (لمن اتقى). (واتقوا الله) أي: في جميع أموركم. (واعلموا أنكم إليه تحشرون) أي: للجزاء على أعمالكم، وهذا تأكيد للأمر بالتقوى، وحث على التشديد في أمرها؛ لأن من تصور أنه لابد له من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى تقوى الله عز وجل. والحشر: اسم لما يقع من أحداث ابتداء من خروج الموتى من الأجداث -من القبور- للبعث والنشور إلى انتهاء موقف الحساب ودخول الناس الجنة أو النار، هذا هو ما يطلق عليه اسم: الحشر. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (واذكروا الله): بالتكبير عند رمي الجمرات. (في أيام معدودات): وهي أيام التشريق الثلاثة. (فمن تعجل) أي: استعجل بالنفر من منى. (في يومين) أي: في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار، و(تعجل) أي: بأن يرمي الجمار ثم ينفر. (فلا إثم عليه): لا إثم عليه في التعجيل. (ومن تأخر) أي: بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره، (فلا إثم عليه) يعني: بذلك. والمقصود: أنهم مخيرون في ذلك، ونفي الإثم في قوله: (فلا إثم عليه لمن اتقى) أي: اتقى الله في حجه. (واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) يعني: في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

التشريق في اللغة: هو تقديد اللحم، فاللحم يقطع قطعاً صغيرة ويجفف في الشمس، فهذا اللحم يسمى القديد، وتقديد اللحم اسمه عند العرب: التشريق، ومنه قيل: أيام التشريق، فبعض الحجاج يأتون باللحم -لحوم الهدي- فيقطعونها قطعاً صغيرة وينشرونها من أجل أن تجف حتى يأخذوها معهم إذا رجعوا من الحج ويأكلوها، فهذا هو التشريق. وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر، ويوم التروية هو يوم الثامن من ذي الحجة؛ لأنهم كانوا يحملون الماء في القرب حتى يرويهم، يليه يوم التاسع الذي هو يوم عرفة، ويلي يوم عرفة يوم العاشر وهو يوم النحر، أما اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر فهذه أيام التشريق. واليوم الأول من أيام التشريق يسمى: يوم القر -من القرار-، واليوم الثاني يسمى: يوم النفر الأول؛ لأنه يجوز لمن أراد أن يتعجل أن ينفر من منى ثاني يوم، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، واليوم الثالث من أيام التشريق يسمى: يوم النفر الثاني. إذاً: التشريق هو تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحوم الأضاحي تشرّق فيها أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.

قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]. قوله: (من تعجل) أي: بالنفر من منى بعد رمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث، واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام فلا يأثم بهذا التعجيل. فيرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، كل جمرة يرميها بسبع حصيات، ثم من رمى اليوم الثاني، وأراد أن يدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمي يومها فهذا سائغ له، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، أي: إذا رمى الجمرات ونوى أن يتعجل لكنه قبل أن يخرج من منى ويغادرها غربت الشمس عليه، فيجب عليه في هذه الحالة أن يبيت، فمن أراد التعجل يجب عليه أن يخرج من منى قبل غروب الشمس. (ومن تأخر) يعني: من أخر الرمي أو بقي في منى حتى رمى في اليوم الثالث (فلا إثم عليه)، أي: في تأخره، والسُّنة هي التأخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة. ولا يقال هذا اللفظ -أي: (فلا إثم عليه)- في حق من أتى بتمام العمل، والأصل أن كلمة (فلا إثم عليه) تقال في حق المقصر، ولا تقال أصلاً في حق من كمّل العمل وأتى بكماله، فقوله: (ومن تأخر فلا إثم عليه) هي مجرد مشاكلة للفظ الأول في قوله: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)، وإلا فإن الذي يأتي بالعبادة على أكمل وجوهها لا يقال في حقه: (فلا إثم عليه)، ولكن هذا من باب المشاكلة، ولها نظائر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، هل السيئة التي تعاقب أنت فيها بالمثل تسمى سيئة؟ لا، فمثلاً: القصاص أو العقوبة بالمثل هي عدل، وسميت سيئة فقط لمجرد المشاكلة؛ لاشتمالهما في لفظ واحد مشاكلة للفظ الثاني. كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، (عوقبتم به) هذه يراد بها الإيذاء الذي بدئ به، فهل هذا الابتداء للإيذاء يسمى عقوبة؟ كلا! لا يسمى عقوبة، لكن هذا من باب المشاكلة. كذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، هل مقابلة المعتدي بمثل عدوانه يسمى عدواناً؟ في الحقيقة ليس عدواناً، لكنه عدل، لكن تسميته بالاعتداء من باب المشاكلة اللفظية، ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا عدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى؛ لأن المقصود نفي الاسم عنه، يعني: أنه من حيث المعنى صحيح، فمن تأخر فلا إثم عليه. وقيل: رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة، أي: المقصود: فلا إثم في الحالتين، بمعنى: إباحة التعجل وإباحة التأخر. وقيل: رفع الإثم أنه حق ظهورهما بإقامتهما الحج، فعجل أو تأخر، (فلا إثم عليه) يعني: ستغفر له ذنوبه، أو ستحط عنه آثامه بسبب أنه أدى الحج بشرطه. (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى سيغفر له ذنوبه وآثامه. كذلك: (ومن تأخر فلا إثم عليه) أيضاً له نفس هذا الثواب، وعلى ذلك دل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والشرط في ذلك هو التقوى، لذلك قال: لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، فما دام الأول اتقى الله، والثاني اتقى الله، فحج ولم يرفث ولم يفسق كان جزاءه رفع الآثام عنه وتطهيره منها. (لمن اتقى) أي: أن الذي ذكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر أو من الأحكام إنما هو لمن اتقى؛ لأنه هو الذي ينتفع بهذا الحج، فالذي ينتفع بالحج هو الذي يتقي الله تبارك وتعالى، كما في قوله تبارك وتعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:38]، وكذلك قوله تعالى: (هدى للمتقين)، فكذلك هنا قوله: (فلا إثم عليه) إنما يكون هذا (لمن اتقى). (واتقوا الله) أي: في جميع أموركم. (واعلموا أنكم إليه تحشرون) أي: للجزاء على أعمالكم، وهذا تأكيد للأمر بالتقوى، وحث على التشديد في أمرها؛ لأن من تصور أنه لابد له من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى تقوى الله عز وجل. والحشر: اسم لما يقع من أحداث ابتداء من خروج الموتى من الأجداث -من القبور- للبعث والنشور إلى انتهاء موقف الحساب ودخول الناس الجنة أو النار، هذا هو ما يطلق عليه اسم: الحشر. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (واذكروا الله): بالتكبير عند رمي الجمرات. (في أيام معدودات): وهي أيام التشريق الثلاثة. (فمن تعجل) أي: استعجل بالنفر من منى. (في يومين) أي: في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار، و(تعجل) أي: بأن يرمي الجمار ثم ينفر. (فلا إثم عليه): لا إثم عليه في التعجيل. (ومن تأخر) أي: بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره، (فلا إثم عليه) يعني: بذلك. والمقصود: أنهم مخيرون في ذلك، ونفي الإثم في قوله: (فلا إثم عليه لمن اتقى) أي: اتقى الله في حجه. (واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) يعني: في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204-205]. قوله تعالى: (يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي: يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه. (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يحلف بالله على الإيمان به، يقول: الله يشهد أن في قلبي الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، الله يشهد أنني صادق في ذلك، الله يشهد أنني مؤمن بالقرآن! فهو يحلف بالله على الإيمان به والمحبة له، وأن الذي في قلبه موافق للسانه؛ لئلا يُتفرس فيه الكفر والعداوة. أو أن معنى: (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، وهذا معنى دقيق ينبغي التنبه له. فحظك أنت منه الكلام المعذور والإقرار بالإيمان والتصديق، فهو يخبئ في قلبه ما الله مطلع عليه، وحظ الله منه أنه مطلع على ما في قلبه، فيجعل الله يرى في قلبه النفاق، وحظك أنت التصديق باللسان! يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يحلف بالله على الإيمان به والمحبة له، وأن الذي في قلبه موافق للسانه؛ لئلا يُتفرس فيهم الكفر والعداوة. أو معناه: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، على نحو ما وصف به أهل النفاق، كما وصف الله أهل النفاق بقوله حاكياً عنهم حين قالوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، كقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:108]. وقوله عز وجل: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] أي: شديد الخصومة والجدل بالباطل. ثم يقول تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]. (وإذا تولى) أي: إذا انصرف عمن خدعه بكلامه، سواء الرسول عليه السلام أو غيره، وانصرف من أمام هذا الذي قال له هذا الكلام المعقول، وأشهده على ما في قلبه من الإيمان والتصديق كاذباً. (سعى) أي: مشى. (سعى في الأرض ليفسد فيها): ليدخل الشُّبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمى: فساداً، وهو إثارة الشبهات والتشويش على الناس بإيمانهم. كذلك أيضاً: استخراج الحيل والأساليب التي بها يقوي الكفار على المسلمين فهذا فساد، كقول الله عز وجل حاكياً عن الملأ من قوم فرعون قولهم: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [الأعراف:127] أي: يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم عقيدتهم. إذا حصل هذا التشويش والتشكيك بإثارة الشبهات في الدين وفي العقيدة وفي غير ذلك من أمور الدين، فيحصل بذلك أن الناس ينقسمون ويختلفون، وبالتالي تتفرق كلمتهم، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام، وتسفك الدماء، وبيان هذا كثير في القرآن المجيد. (ويهلك الحرث) أي: الزرع، (والنسل) أي: النواسل الناتجة. قال بعض المحققين: إن إهلاك الحرث والنسل كناية عن الإيذاء الشديد، والتعبير به عن ذلك صار من قبيل المثل. أي: إذا أردت أن تعبر عن شخص تمادى في الإفساد فإنك تذكر أن هذا قد أدى إلى إهلاك الحرث والنسل. (والله لا يحب الفساد) أي: لا يرضى فعله. فكل فساد يبغضه الله سبحانه وتعالى ولا يرضى عنه، ولذلك نقول: إنه لا ينبغي أن يسمح بوجود الفساد حتى في الكفار، وبعض الناس يقول: عندي جهاز خبيث مثلاً كالدش أو هذه الأجهزة المعروفة بالفجور، فهل أعطيها لرجل نصراني؛ لأني أريد أن أتوب، فلو أعطيتها لمسلم فسيفسد أهله وأولاده؟! فالجواب: إن الله سبحانه وتعالى لا يحب الفساد سواء أتى من مسلم أو أتى من كافر، وتقليل الفساد ما أمكن هو أمر يحبه الله عز وجل، سواء كان المفسد مسلماً أو كافراً. وأنت تلاحظ في أوائل الآيات في سورة البقرة حينما حكى الله سبحانه وتعالى صفات هؤلاء المنافقين، بدأ أولاً بنهيهم عن الفساد، ثم ثنى بأمرهم بالإيمان، فدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على التفصيل الذي نذكره في مناسبات أخرى، فالله سبحانه وتعالى قبل أن يأمرهم بالإيمان قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12]، ثم قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13]. إذاً: (والله لا يحب الفساد) عامة، فكل فساد لا يحبه الله سبحانه وتعالى، سواء كان الذي قام به مسلماً أم مشركاً.

يقول تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206]. (إذا قيل له) أي: تذكيراً وموعظة له، (اتق الله) يعني: في النفاق، واحذر سوء عاقبته، أو (إذا قيل له اتق الله) أي: في هذا الإفساد الذي تفسده في الأرض، وهذا الإهلاك، وهذا الجدال بالباطل. (أخذته العزة بالإثم) أي: حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم وهو: التكبر. فيقول مثلاً: نحن في حضارة منذ سبعة آلاف سنة، ولا يمكن أن يعقب طارئ يغيرنا عن عقيدتنا! فقوله تبارك وتعالى: (أخذته العزة) أي: يتكبر عن الانقياد للحق، تحمله الأنفة وحمية الجاهلية، يحمى ويحمر أنفه، أي: بحمية الجاهلية على الفعل بالإثم، وتدفعه هذه الحمية إلى إثم التكبر وعدم الانقياد للحق. أو المعنى، (أخذته العزة بالإثم) أي: أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول الناصح. (فحسبه جهنم) أي: فتكفيه جهنم إذا صار إليها واستقر فيها جزاءً وفاقاً. (ولبئس المهاد) أي: الفراش الذي يستقر عليه بدل فراش عزته، والمهاد والمهد معروف، وكل شيء وطيء يطلق عليه: ممهد، كطريق ممهد، والمهاد يجعل تارة جمعاً وتارة يجعل الآلة، (مهاد) جمع مهد، أو (مهاد) الآلة التي هي الفراش. وجعل جهنم مهاد الظالم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله تبارك وتعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، فكلمة التبشير أو البشارة أو البشرى مأخوذ من البشرة؛ لأن الإنسان إذا سمع الخبر الحسن الطيب يظهر على بشرته السرور والانشراح، فلذلك سميت البشرى لأثرها على البشرة وعلى الجلد والملامح. كذلك في هذه الآية فإن الله سبحانه وتعالى يتهكم بهم ويقول: (فبشرهم) وهم إذا سمعوا كلمة تبشرهم ينشرحون، فإذا صدموا بكلمة: (بعذاب أليم) يكون أمعن وأوغل في معاقبتهم وتوبيخهم والتنكيل بهم. فكذلك هنا قال تبارك وتعالى: (ولبئس المهاد)، والمهاد: هو المكان الذي ينام عليه الإنسان أو يستريح أو يفترشه، فمهادهم هو جهنم، فهذا من نفس الباب. وقال الحاكم عبارة ينبغي حفظها والاهتمام بها جداً وهي قوله: هذه الآية تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله فيقول: عليك نفسك. وهذا حال أغلب الناس، وبعضهم إذا قلت له: اتق الله، يقول لك: أنا أتقي الله أحسن منك! أو يقول: عليك بنفسك، أو: هذا لا يخصك. إلى غير ذلك من العبارات الغليظة. فمن صور أخذ العزة بالإثم عند المنصوح أنه إذا قيل له: اتق الله، يقول: عليك نفسك. فالإنسان إذا قيل له: اتق الله. عليه أن يحمر وجهه ويصفر وتنتابه الرعدة والخوف والوجل والخشية من هذا التحذير، لا أن يتكبر على من يقول له: اتق الله، فقد قيلت لأشرف خلق الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1]، بل جعلها الله وصية لجميع الأمم الأولين والآخرين، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية من الأعمال الصالحة. قال الزمخشري : ومنه: رد قول الواعظ. فهو يدخل في هذا الإثم العظيم. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج:72]. ولما أتم تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضال أتبعه بقسيمه المهتدي، ليبعث العباد على تجنب صفات الفريق الأول والتخلق بنعوت الثاني، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى في الآية السابقة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] أي: ولا يعجبك في الآخرة لمخالفته لاعتقاده. إذا تكلم في الدنيا فيحسن الكلام ويعجبك كلامه جداً في الدنيا، كما يتكلم كثير من الناس في السياسة.. في الرياضة.. في الفن.. في أسماء الممثلين أو أسماء اللاعبين، تجده موسوعة في هذه الأمور الدنيوية، وإذا سمعت له في الآلات والأجهزة وكافة عروض الدنيا فتسمع منه ما يعجبك فقط في الدنيا ولو كانت حراماً، بخلاف الآخرة، فإذا أتى أمر الآخرة فكالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لا يفقهون شيئاً ولا يعرفون شيئاً من أمور الآخرة مع أنها خير وأبقى، وهذا هو مفهوم هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204]، إذا تكلم في الآخرة لا يعجبك، إما لأنه معرض عن الآخرة، وإما لفساد اعتقاده في الآخرة، كأن يكون عابداً للمسيح، أو يكون عابداً للأوثان.. أو غير ذلك من العقائد الفاسدة في الآخرة. (وهو ألد الخصام) أي: شديد الخصومة لك ولأتباعك بعداوته لك، وهو الأخنس بن شريق كان منافقاً حلو الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم، يحلف أنه مؤمن به ومحب له، فيدنو من مجلسه، فأكذبه الله في ذلك، ومر بزرع وحمر -أي: حمير لبعض المسلمين- فأحرقه وعقرها ليلاً، كما قال تعالى: (وإذا تولى) أي: إذا انصرف عنك، (سعى) أي: مشى، (في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) وهذا من جملة الفساد. (والله لا يحب الفساد) أي: لا يرضى به. (وإذا قيل له اتق الله) أي: في فعله. (أخذته العزة) أي: حملته الأنفة والحمية على العمل بالإثم الذي أمر باتقائه. (فحسبه جهنم) أي: كافيه جهنم. (ولبئس المهاد) أي: لبئس الفراش هي.

يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]. قوله: (يشري) أي: يبيع نفسه بأن يبذلها في طاعة الله عز وجل. (ابتغاء مرضاة الله) أي: طلب رضا الله عز وجل. (والله رءوف بالعباد) حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة مع كفرهم به وتقصيرهم في أمره، وهذا يتعلق برحمة العباد في الدنيا وهي عامة للمؤمن والكافر. تنبيه مهم: قال بعض العلماء: كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح، مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في جنانه. فالآية: (ومن الناس من يشري نفسه...) تتضمن عكس الصفات السابقة كلها، وإن لم تنص عليها صراحة، فإن من يبيع نفسه لله، ويجود بها، فهذا يدل على أقصى غاية الجود، فالجود بالنفس يدل على أقصى وأعلى درجات الإيمان واليقين التي تستلزم ما عداها وما دونها من صفات الإيمان، فإن من يبيع نفسه لله لا يريد ثمناً لها غير مرضاته، فلا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق والإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا، وهذا هو المؤمن الذي يعتز بالقرآن وبإيمانه. فهذه تتضمن الصفات المقابلة لصفات الفريق الأول، إلى أن يأتي في الدلالة على اتصاف المؤمن بهذه الصفات قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)، إذ بلغ اجتهاده في إرضاء الله إلى حد أنه حمل روحه على كفيه وجاد بها إرضاء لله، فهل مثل هذا يكون ذا وجهين؟! وهل مثل هذا يتكلم بلسانين؟! وهل مثل هذا يرتضي عرض الدنيا بدلاً عن الآخرة؟! إذاً: هذا الوصف يتضمن كل الصفات المقابلة لصفات الفريق الأول. وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وأخرج ما في كنانته - أي: أخرج السهام من الكنانة- ثم قال: يا معشر قريش! لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وايم الله! لا تصلون إلي حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم -ثم بعد هذا الإرهاب لهم يقول-: وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فالباطل أمام المال يسيل لعابه، نسوا أنهم خرجوا يطاردون هذا المهاجر إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله، فبعدما أرهبهم بهذه الطريقة أغراهم بالمال فخضعوا أمام المال وسال لعابهم، فنسوا ما عندهم من العقائد الباطلة التي خرجوا يقاتلونه من أجلها، فلما قال لهم: وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!) ونزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] . وهناك قول لبعض العلماء وهو: أن هذه الآية نزلت في قصة قريش، فإذا صحت فلا يعني ذلك أنها بالفعل نزلت في هذا الحديث بالذات، وإنما يعني أنها تصدق على هذه الواقعة، فإن من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في وجودها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع في أسباب النزول التي يدخلها قدر من الاجتهاد، لكن لا يعول في أسباب النزول إلا على ما صح منه، وارتفع عن درجة الضعف. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه) أي: يبيع نفسه. والبيع قد يطلق على الشراء، والشراء يطلق على البيع، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، (البيعان) يعني: البائع والمشتري، فهو يطلق على البائع والمشتري. (ومن الناس من يشري) أي: يبيع نفسه ويبذلها في طاعة الله. (ابتغاء) أي: طلب. (مرضاة الله) أي: رضاه، وهو صهيب لما آذاه المشركون هاجر إلى المدينة وترك لهم ماله. (والله رءوف بالعباد): حيث أرشدهم لما فيه رضاه.

يقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]. (السلم): بكسر السين وفتحها -إما السِّلم أو السَّلم- وكلاهما قراءة متواترة في السبع، والمقصود به الإسلام. قال امرؤ القيس بن عابس : فلست مبدلاً بالله رباً ولا مستبدلاً بالسلم دينا يعني: بالإسلام، ومنه قول أخي كندة: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا يعني: للإسلام. قال الرازي : أصل هذه الكلمة من الانقياد، قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] أي: انقدت وخضعت، والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى؛ لأن معنى الإسلام يعني: الخضوع والانقياد لأمر الله تبارك وتعالى. وغلب اسم السَّلم على الصلح وترك الحرب، كما في قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال:61]، وهذا -أيضاً- راجع إلى هذا المعنى؛ لأن المتخاصمين إذا رضوا بالصلح فكل طرف ينقاد للطرف الثاني ولا ينازعه، فهي من نفس هذا المعنى. ومعنى الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] أي: ادخلوا في الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا لله وأطيعوه، ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه كافة. فهذا أمر بالالتزام بكل أحكام الإسلام، وكل شريعة نزل بها القرآن أو جاء بها المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ يجب عليكم أن تطيعوها وتنقادوا لها، وتستسلموا لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون أن تقولوا: هذا ظاهر وهذا باطن، وهذا قشر وهذا لب، وهذه أمور مهمة وهذه سفاسف، كما يقول بعض الجهلة، فإنه لا يجوز أبداً أن يطلق هذا على شيء تناوله النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أو بنهي ودخل من العادة إلى العبادة بهذا الأمر أو النهي، لا يمكن أن يكون هذا من السفاسف، والسفاسف هي أمور الدنيا، أما شيء من أمور الدين فلا يجوز أبداً أن يطلق عليه سفاسف، صحيح هناك أصول وهناك فروع، وهناك مهم وهناك ما هو أهم منه، لكن لا يوصف أبداً أي حكم شرعي ثابت بالقرآن أو بالسنة بأنه سفاسف كما يقول بعض الجهلة من أفراخ هذا الزمان، ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها)، وسفاسف الأمور: هي أمور الدنيا لحقارتها، أما أمور الدين فكلها معالي. نعم؛ هناك مراتب وهناك أصول وهناك فروع، وهناك ما هو أهم، وهناك ما هو مهم، فيراعى فعلاً مراتب الأعمال بالذات عند تناقضها أو اصطدامها، ويرجح الأهم، لكن لا يوصف شيء من أمر الدين أبداً بأنه قشور، وأننا ينبغي أن نهتم باللب؛ لأن الذي تراه أنت لباً يراه غيرك قشراً، فتصبح الأمور فوضى، فهذه الآية من أعظم ما يستدل به على إبطال هذه البدعة والضلالة، وهي تقسيم الدين إلى قشور ولباب، أو إلى مظاهر وجواهر. ثم يتبع ذلك التقسيم المناداة بإهمال هذه القشور، والتمسك باللباب والروح! فبعضهم يقول لك: كن مع روح النص! فكأنه يقول: علينا أن نستمسك بروح النصوص لا بحرفيتها! وهم يريدون أن يهلكوا روح النصوص لا أن يتبعوا أرواح النصوص. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] أي: التزموا بجميع شرائع الإسلام، وأنت -أيها المسلم- ادفع بهذه الآية في نحر كل من يعاندك أو يعارضك، إذا نصحته بقول الله أو بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورددت على قوله بأن هذه سفاسف أو أنها أمور تافهة، أو أنها قشور، فقل له: يقول الله عز وجل: (ادخلوا في السلم كافة) يعني: التزموا بكل وجميع شرائع الإسلام دون استثناء. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] أي: طرقه التي يأمركم بها. وقد جاء التعبير بخطوات الشيطان؛ لأن الشيطان خبير في استدراج الإنسان إلى المحرمات، فلا يأمره مباشرة أن يرتكب الفاحشة، لكن يسهل الأمر، يسهل له النظر في البداية، وربما زين له هذا بقوله: تأمل في خلق الله وإبداع الله في خلقه، كما يزيغ بذلك بعض زنادقة العصر فيقول: إن غض البصر لابد أن نفهمه فهماً عصرياً، أنت تنظر للمحرمات مثلاً من النساء المتبرجات أو غير ذلك وقلبك سليم، بنية التأمل في إبداع خلق الله وغير ذلك من الكلام! فهذا من خطوات الشيطان حيث يستدرج الإنسان خطوة خطوة. كذلك أيضاً: الفسق والفجور يسمونه فناً، وأن الموضوع بعيد جداً عن هذا التفكير الحيواني الذي تتهموننا به يا معشر المتدينين!! وهم أشد الناس فساداً وغرقاً فيما حرم الله سبحانه وتعالى. إذاً: الشيطان يضل الإنسان عن طريق خطوات يتم فيها استدراج الإنسان خطوة خطوة، فلو أتى بك من أعلى السلم وقال لك: ارمِ نفسك! فستقول: لا، سأهلك! لكنه يأخذك خطوة خطوة، درجة درجة، وهذه حيلته: نظرة فابتسامة فكلام فسلام فموعد فلقاء! والله أعلم ما يكون من البلاء بعد ذلك! فهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى أنه يقول: (خطوات الشيطان)، عندما يستدرجك إلى الحرام. وضمّ الطاء من (خُطُوات) وإسكانها لغة، أي: في اللغة يمكن أن تكون: (خُطُوات) أو (خُطْوات)، وقد قرئ بهما في القراءات السبع. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] أي: ظاهر العداوة أو مظهر لها. كما أخبرناكم عن قصته مع أبيكم آدم عليه السلام وغيره مما شواهده ظاهرة. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )) (السلم) بفتح السين وكسرها يعني: الإسلام. (كافة) حال من السلم أي: في جميع شرائعه. (ولا تتبعوا خطوات) أي: طرق (الشيطان) أي: تزيينه بالتفريق بين أمور الدين. (إنه لكم عدو مبين) أي: بيّن العداوة.

يقول تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209]. (إن زللتم) يعني: عن الدخول في السلم. (من بعد ما جاءتكم البينات) أي: الآيات الظاهرة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق (فاعلموا أن الله عزيز حكيم). يقول السيوطي : (فإن زللتم) أي: مِلْتم عن الدخول في جميعه. (من بعد ما جاءتكم البينات) أي: الحجج الظاهرة على أنه حق. (فاعلموا أن الله عزيز) لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم. (حكيم) أي: في صنعه.

يقول تبارك وتعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210]. (هل ينظرون) يعني: هل ينتظرون، وكلمة: (نظر) تماماً ككلمة: (انتظر) يقال: نظرت وانتظرت إذا ارتقبت حضوره، وهذا استفهام إنكاري في معنى النفي، (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) يعني: لا ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة بعد طول الحلم عنهم (إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام). ظلل: جمع ظلة، كقُلل جمع قلة، أي: في ظلة داخل ظلة، وهي ما يستر من الشمس، كما يقال: الشمسية لكل ما يسترك من الشمس، فهي عبارة عن طبقات بعضها داخل بعض، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة؛ لما لها من الكثافة التي تحجب على الرائي ما فيها، وتجعله لا يرى ما فيها من شدة كثافتها. هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] عطف على لفظ الجلالة أي: ويأتي جند الله من الملائكة الذي لا يعلم كثرتهم إلا هو، وهذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة أبي جعفر بالخفض يعني: (والملائكة) فهو عطف على ظلل أو الغمام. (وقضي الأمر) أي: أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه. قال الراغب : نبه به على أنه لا يمكن في الآخرة تلاقي ما فرط منهم في الدنيا. (وإلى الله ترجع الأمور) أي: فمن كانوا نافذي الملك والتصرف في الدنيا فإن ملكهم وتصرفهم مسترد منهم يوم القيامة، وراجع إليه تعالى؛ لأن الله مالك يوم الدين، يقول يوم القيامة: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]، فلا يجيبه أحد سبحانه وتعالى، فيجيب نفسه عز وجل قائلاً: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، فكذلك هؤلاء الذين كانوا نافذي الملك، وكان لهم قدرة على التصرف والرياسة والملك والحكم والتحكم في الناس؛ فكل هذا راجع إلى الله تعالى يوم القيامة. (وإلى الله ترجع الأمور) يقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي: استرد ما كان فوضه إليهم، فلو أن ملكاً مثلاً خرج من بلاده واستناب مثلاً ولي العهد، فبعد أن يقضي الزيارة ويرجع يقال: رجع الأمر إلى الأمير أو رجع الأمر إلى الملك، بمعنى أنه أخذ ما كان قد وكله فيه، أو فوضه فيه، فبنفس هذا المعنى يكون قوله: (وإلى الله ترجع الأمور) ولله المثل الأعلى سبحانه. وقيل: (الأمور) هي الأرواح والأنفس دون الأجسام، وهذا تفسير آخر، وسماها أموراً من حيث أنها إبداعات مشار إليها بقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فكأن معنى (الأمور) على التفسير الثاني: الأرواح كما قال تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]. وقد قرئ في السبع: (تُرجعُ الأمور) بمعنى: تُرد، وبفتحها: (تَرجِعُ الأمور) بمعنى: تصير، كقوله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53]، والمعنى في القراءتين متقارب؛ لأنها ترجع إليه تعالى، وهو سبحانه يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة.

بيان خطأ السيوطي في تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله...)

يقول السيوطي رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: (هل ينظرون) أي: ما ينتظر التاركون الدخول فيه، (إلا أن يأتيهم الله) يعني: إلا أن يأتيهم أمر الله، كقوله: أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النحل:33] أي: عذابه. اهـ. وفي مثل هذه المواضع في التفسير لا يجوز الاعتماد على كلام الجلالين، أي: في مواضع التأويل المخالف لمنهج السلف، وهذا من المواضع التي خالف فيها السيوطي منهج السلف، ولابد من الاعتماد في مثل هذه المواضع على منهج السلف، فلا نقول مثلاً: (والله يحب المتقين) أي: يثيبهم! أو وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، أي: يثيبهم! بل هذه صفة من صفات الله لا يجوز تأويلها وتعطيلها. كذلك قوله هنا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210] هذه الآية لها أسباب تدل على أن هذا الوعيد أخروي، ولذلك قال ابن كثير في معنى هذه الآية: يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] يعني: يوم القيامة؛ لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. ولهذا قال تعالى: (وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور) كما قال تعالى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:21-23]، وقال عز وجل: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، فوصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات أخر، ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه أو صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم. والقول في الصفات كالقول في الذات، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فمن قال: كيف يجيء الله سبحانه وتعالى؟ فيقال له: كيف ذاته؟ فسيقول: لا أعلم كيفية ذاته، فيقال له: وكذلك لا نعلم كيفية صفاته؛ فالكلام على الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلأنك تثبت ذاتاً لا كذوات المخلوقين، كذلك تثبت صفات لا كصفات المخلوقين، فالسلف يقولون: نحن نجري هذه الصفات على ظاهرها، ويعنون أن ظاهرها هو ما يليق بالله سبحانه وتعالى، والظاهر لائق بالله سبحانه وتعالى، يعني: إذا سمعت صفة من صفات الله كقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، أو: يَدُ اللَّهِ [المائدة:64] أو غير ذلك من الصفات، مثل: أن الله يحب أو يفرح أو يعجب، أو غير ذلك من الصفات، فظاهرها هو كما يليق به سبحانه وتعالى، وليس ظاهرها مشابهة المخلوقين، فمن قال كما قال السلف: ظاهرها على ما يليق بالله، فبالتالي لن يحتاج لها إلى تأويل ولا إلى تعطيل، ولا إلى غير ذلك من المسالك الضالة. ومن العلماء من فهم أن ظاهرها هو مشابهة المخلوقين، فاحتاج إلى أن ينفي الصفة ليحترز من ذلك فقال: الظاهر غير مراد، ومعنى القول بأن الظاهر غير مراد، أي: إذا قال: (استوى على العرش) يكون ظاهر الكلام غير مقصود؛ لأن ظاهره يقتضي التشبيه، وهو مشابهة المخلوقين كما يزعمون. وهذا المسلك يترتب عليه كثير من المخاطر، وأول شيء أنه لما سمع صفات الله لم يقل: هي كما يليق بالله سبحانه وتعالى، وإنما قال: كالمخلوقين، فانصرف ذهنه إلى التشبيه، فأراد الهروب من هذا التشبيه فوقع في حفرة أخرى وهي حفرة التعطيل، فعطل الصفة وأنكرها، فبالتالي يكون قد حرف الكلام؛ لأنه نفى عن الله ما وصف به نفسه. أما منهج السلف ففيه السلامة من هذا؛ لأنك لا تقع في التشبيه، بل أنت تقول: ظاهرها هو كما يليق بالله سبحانه وتعالى، وتؤكد ذلك بقولك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فكما أننا لا نعلم كيفية ذات الله، كذلك لا نعلم كيفية صفاته، وقد مر الكلام في هذا مرات كثيرة. ومجيء الملائكة في ظلل من الغمام أمر مألوف، فقد جاء في الصحيح عن البراء رضي الله عنه قال: (كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بخطمين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن). وعن أسيد بن حضير قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس -يعني: هاجت وتحركت ومالت- فسكت عن القراءة فسكنت، فقرأ فجالت، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى لا يراها حتى اختفت، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: اقرأ يا ابن حضير -المقصود: يا ليتك لم تتوقف عن القراءة- قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً، فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم). يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (هل ينظرون) يعني: ما ينتظر التاركون الدخول فيه (إلا أن يأتيهم الله): أمره، كقوله: (أو يأتي أمر ربك) أي: عذابه. واللفظ أنه يأتي الله، فكيف يصح هذا التأويل وفيه نفي لصفة الإتيان؟! أما المنهج السلفي فسيثبت ما وصف الله به نفسه كما يليق به سبحانه. (في ظلل): جمع ظلة (من الغمام) أي: السحاب (والملائكة وقضي الأمر) يعني: تم أمر هلاكهم (وإلى الله تُرجَع الأمور) وفي قراءة أخرى: (تَرجِع الأمور ) يعني: سيجازي كلاً بعمله في الآخرة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2823 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2623 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2588 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2583 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2506 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2443 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2414 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2403 استماع