وحدة العمل الإسلامي


الحلقة مفرغة

الحمد لله وحده، فهو صاحب الحمد تبارك وتعالى، فله الحمد، وله الأمر، وله الحكم، لا معقب لأمره، ولا راد لحكمه تبارك وتعالى، سبحانه ما أعظمه وما أحلمه وما أكرمه! خيره إلى العباد نازل، وشرهم إليه صاعد، يتحبب إلى عباده بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي، أنزل إليهم ديناً ليس كمثله دين، وأرسل إليهم رسولاً ليس كمثله رسول، فأضاع العباد دينه وهجروه، وعصوا رسوله واتبعوا من دونه أولياء.

وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد المصطفى المختار الذي جاءنا بهذا النور، وبهذا الخير؛ فأصبحنا خير أمة أخرجت للناس عندما تمسكنا بما جاءنا به، فلما تركناه أذلنا الله.

وأصلي وأسلم على صحبه الأخيار، وآله الأطهار، وعلى من اتبع هديهم، وسار على سبيلهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأشكر كل من حضر لهذا الأسبوع، وأقبل على بيوت الله يطلب زاداً باقياً دائماً لا ينفد ولا يزول: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]، فهذه الساعات التي تقضى في بيوت الله، والتي تقضى مع كتاب الله، والتي تقضى في جلسات العلم، هي الساعات الباقية الدائمة التي يفرح صاحبها عندما يلقى الله تبارك وتعالى، وهي التي يذكر الله أصحابها إذ يجتمعون في الله ولله، فيبتغون ما عند الله ويطلبون رحمة الله تبارك وتعالى، لا يجتمعون لعرض من الدنيا زائل يتقاتلون عليه فتختلف منهم القلوب، ثم تتناثر منهم الأجسام، وإنما يجتمعون على هذا الخير الذي يؤلف القلوب ويجمعها، قال تعالى: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63].

وحدة العمل الإسلامي في الخلافات الإسلامية السابقة

أيها الإخوة! إن وحدة العمل الإسلامي أنشودة يتغنى بها المسلمون، وحلم يراود خيالهم، فعندما يذكر في المجالس والمحافل تهفو إليه القلوب، ونتذكر أيام أن كنا دولة واحدة وأمة واحدة، نتذكر عهد الراشدين، وأيام ما كان المسلمون أمة واحدة متحابة متآخية، نتذكر أيام الدولة الأموية.. أيام الدولة العباسية عندما كان يخاطب الرشيد السحابة التي يراها في السماء قائلاً لها: إمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك، وعندما كان الخليفة المسلم يتكلم بالكلمة فترتج الدنيا من تحت قدميه، وتطير في المشارق والمغارب ويكون لها صدى.

وحدة العمل الإسلامي أمل عندما يذكر تتشقق له القلوب، وتشتاق إليه النفوس؛ ذلك أنه يذكرهم بأمجاد ماضية خالدة كانوا فيها أعزة، وعندما تفرقوا أصبحوا أذلة، وصاروا إلى الحال التي نراها ونشاهدها اليوم من آلام وأحزان وأوجاع ومآسي، وأصبح الأعداء يعبثون بنا كما يعبث اللاعبون بالكرة، ويسوموننا سوء العذاب، فيقتلون رجالنا ويسفكون دماءنا، ويهتكون أعراضنا لا بالآحاد ولا بالعشرات بل بالمئات تحت سمعنا وبصرنا ونحن لا نفعل شيئاً، ولا نحرك ساكناً، أطفال صغار ونساء ورجال ونحن لا نفعل شيئاً، ولا تتحرك بيوت الإسلام ولا ترتفع راية الجهاد، ولا ينادي المنادي: كي ننصر المسلمين ونزيل العار!

فرضية وحدة العمل الإسلامي

إن فرقة المسلمين بلاءٌ كبير، بلاء دونه كل بلاء، ووحدة المسلمين والعمل الإسلامي ليس أمراً مستحباً نأخذه متى ما شئنا، وندعه متى ما أردنا، إنه واجب إسلامي فرضه رب العزة تبارك وتعالى، فنجد في كتاب الله أن الله يتحدث عن هذه القضية مرة، وكأنها حقيقة مسلمة ليس فيها جدال لا في هذه الأمة فحسب، بل كل مؤمن وجد على ظهر هذه البسيطة منذ عهد آدم إلى آخر إنسان كلهم أمة واحدة، عندما تحدث الله عن الأنبياء من قبلنا، وذكر من شأنهم قال: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وفي آية: فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، ومرة يأمر الله بها ويقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ومرة ينهى عن الفرقة والاختلاف كما في الآية السابقة، وكما في قوله تبارك وتعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31]، من الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:32]، ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ليصور حال المسلمين والمؤمنين في اجتماعهم ووحدتهم فيقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، تلك صورة المسلمين، المؤمن في الأمة كالخلية في الجسد، وتلك الخلايا مترابطة فيما بينها، فإذا ما شيك الإنسان بشوكة في أي جزءٍ من جسده أحس الجسد كله بالألم، وفي حديث آخر يصور المؤمنين كالبنيان المرصوص.

إن وحدة المسلمين ووحدة العمل الإسلامي أمر قرره خالق الوجود تبارك وتعالى، الله رب العزة هو الذي قرر أن المسلمين شيء واحد، وأنهم جسد واحد، وقال فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ولا يمكن للمسلمين أن يعزوا إلا إذا اجتمعوا، ولا يمكن لهم أن يعزوا إلا بالإسلام، فقدر الله أن حملهم أمانة الرسالة، فإذا ما حيوا بهذه الرسالة وبلغوها للعالمين فإن الله سبحانه وتعالى سينصرهم ويؤيدهم، وإذا ما اختلفوا فإنهم كما أخبر الحق سيفشلوا، وتذهب ريحهم وقوتهم، ويتغلب عليهم أعداؤهم، وآثار الفرقة في عالمنا اليوم واضحة ماثلة للعيان، فهذه الوحدة التي نادى بها الدين ليست كالوحدة العربية أو الأوربية، والأحلاف في (الكمنولث) البريطاني وغيرها من الوحدات التي يتحدث عنها الناس في الحديث والقديم، فهذه وحدة قائمة على أصول راسخة قوية، أولها: أننا على ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

أهمية الوحدة العقائدية

قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالت العرب: نحن خير منكم، وكل أمة تدعي أنها هي الأفضل، وكل أمة تدعي أنها على طريقة إبراهيم، العرب يقولون: أبونا إبراهيم باني الكعبة، وابنه إسماعيل نحن من سلالته فنحن أفضل الناس، واليهود يقولون: نحن على طريقة إبراهيم، والنصارى يقولون: نحن على طريقة إبراهيم، والله تبارك وتعالى كذَّبهم في ذلك، فقال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم أي: العرب، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، خلاف بين الأمم على قضية من هم المهتدون والأمة الفاضلة؟

فالله قرر الحق بأن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:130-133].

فهذا هو ميراث محمد صلى الله عليه وسلم من أبيه إبراهيم: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68]، فنحن على ملة إبراهيم، وكانت ملته التوحيد وعبادة الله تبارك وتعالى وحده، فهذه الأمة التي استقامت على أمر الله أمة واحدة؛ لأنها تعبد إلهاً واحداً تعرفه وتتوجه إليه، ولا تشرك به شيئاً، لا تقول كما قالت اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، ولا كما قالت النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، ولا كما قالت العرب: الملائكة بنات الله، فاختلفوا في دينهم وافترقوا، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بفرقتهم، اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة فيما بينهم وكفر بعضهم بعضاً، وظلم بعضهم بعضاً، وابتعدوا عن الحق، وورثنا نحن من ربنا تبارك وتعالى بهدي منه الحق وعرفناه، عرفنا ملة إبراهيم أنه دين الحنيفية والتوحيد، فكانت تلك وحدة، فوحدة العقائد والقلوب أهم من وحدة الأجساد، نحن نعرف ربنا، ونعرف صفاته، وكيف نعبده، وكيف نستقيم على أمره، ونعرف رسولنا صلى الله عليه وسلم، ونعرف كتابنا، ونعرف أن الذي جاء بهذا الكتاب من عند الله هم الملائكة، ونعرف اليوم الآخر، وعندنا تصور عن هذا الكون، هذه هي الوحدة الأولى.

الاستقامة على شريعة القرآن أهم أسس وحدة العمل الإسلامي

الوحدة الثانية: أننا مستقيمون على شريعة الله تبارك وتعالى، فالله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، وخصنا بشريعة هي شريعة القرآن، قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا [الجاثية:18]، فميزتنا من بين الأمم، وجعلت لنا منهجاً وسبيلاً، فمن ذلك أنه خصنا بقبلة دون بقية الأمم، قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [البقرة:144-145]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] وخصنا من بين الأمم بشريعة ميزتنا، وأصبحت لنا منهجاً وطريقاً وسبيلاً، وخالفنا بها اليهود في طريقتهم ومنهجهم، وأصبحنا بها أمة متميزة عن بقية الأمم، وكان من أمر هذه الوحدة أن أخبرنا ربنا بأن أصلنا واحد، (كلكم لآدم وآدم من تراب) لا فضل لعجمي على عربي، ولا لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، أنت بلونك لا تفضل أخاك، وبعروبتك لا تفضل غيرك، فهذه المقاييس جعلها الله ليتعارف الناس فيما بينهم، هذا من تميم! وهذا من قريش! وهذا من بني مخزوم! هذه للتعارف فقط، أما حقيقة البشر فهي حقيقة واحدة ليس فيها تصادم، وليس هناك أناس أصلهم ذهب، وأناس أصلهم فضة، وآخرون أصلهم حديد، لا، البشر أصلهم واحد، فلا ينبغي لأحد أن يفخر على أحد إلا بالتقوى والإيمان والعمل الصالح، ورسالة الله هي إلى البشرية كلها، والبشرية كلها يمكن أن تجتمع كمجتمع واحد تظللنا هذه الشريعة، وهذا معنى قولنا: إن الشريعة عالمية، وإن الدين عالمي، أما قوانين البشر ومناهجهم فكل يضع له منهجاً وسبيلاً، وشريعة الله هي للبشرية كلها، وحدة قائمة على أصول وحدت بين الناس فاصطنعت مجتمعاً، فأي مجتمع هذا الذي صنعته؟! صنعت المجتمع الإسلامي الأول في المدينة، فـأبو بكر عربي وعمر وعثمان وعلي كلهم من قريش، ورجال من المدينة من الأوس والخزرج، وأقوام من قبائل مختلفة، وبلال حبشي، وسلمان فارسي ، ودخل أناس في دين الله وأصبحوا يتآخون فيما بينهم، ويتآلفون ويتحابون ويتناصرون ويتراحمون ويجاهدون في سبيل الله.

بداية افتراق الأمة ومراحلها إلى اليوم

ثم لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، أراد الذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم أن يصدعوا هذه الوحدة؛ ليفرقوا جماعة المسلمين، فكانت الردة، ولم يقل المسلمون: نسكت عن هؤلاء ونهادنهم، لا، وإنما قاتلوهم حتى عادوا إلى الحق، والوحدة لا تكون على باطل، وإنما على الحق وعلى دين الله، فهؤلاء الذين امتنعوا من دفع الزكاة والذين تنبئوا هم أصحاب فرقة وشقاق، والجماعة القليلة في المدينة -الصحابة ومن استمر معهم الذين هم أصحاب الوحدة- حاربوهم حتى أعادوهم إلى الإسلام، والتأم شمل المسلمين، لا على قومية ولا على نقصان من الإسلام، وإنما على كلمة الإسلام وعلى دين الله.

واستمرت المسيرة إلى أن سار من وسط المسلمين أناس شقوا صفوف المسلمين، وكانت الفتنة في عهد عثمان التي فرقتهم وجعلتهم معسكرين يتقاتلون فيما بينهم، ولكن الله رحم المسلمين فالتأم شملهم مرة أخرى في عام (41) للهجرة، واجتمعوا مرة أخرى فسمي ذلك العام بعام الجماعة.

ثم بدأ ما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر عهد الصحابة، حيث بدأت الفرق الضالة تطل برءوسها، وقد أخبرنا أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فبدأت الفرق تطل برأسها هنا وهناك، من خوارج، ومعتزلة، وروافض وفرق كثيرة يعرفها من درس تاريخ الإسلام -ولكن الغلبة لأهل الحق- حيث شوشوا على المسلمين وأتعبوهم، ودارت حروب بين المسلمين، ولكن بقيت وحدة المسلمين، وأول انشقاق حدث عندما تحطمت الخلافة الأموية، وجاءت الخلافة العباسية، وأقام عبد الرحمن الداخل خلافة في الأندلس، ولكن كان الشرق ليس بكبير، واستمرت الدولة قوية، وفي منتصف القرن الرابع الهجري تفرقت الدولة العباسية وأصبحت دولاً وأمماً، وبقي الخليفة في بغداد يدعى له على المنابر وتؤخذ له البيعة وليس له من الأمر شيء، وبقية الأمة تتجزأ، ولكنها تحكم بالإسلام، وتنادي بالقرآن، وتعمل بشريعة الله.

ثم جاءت الخلافة العثمانية فقويت شوكة الإسلام، وبقيت إلى أن قضى عليها الصليبيون في أوائل هذا القرن العشرين، حيث أزالوا الخلافة من الوجود، وألغوا شريعة الإسلام، وقسموا بلاد المسلمين إلى دويلات هزيلة، وجعلوا لكل دولة حاكماً، ولكل دولة بيتاً، وقطعوا ما بين المسلمين، وأغروا بينهم العداوة والبغضاء، ونفخوا في كل طائفة منهم، أنتم كويتيون! أنتم عراقيون! أنتم فلسطينيون! أنتم مصريون! وقبل ذلك كنا أمة واحدة، فكلمة هذا مصري وهذا فلسطيني وهذا كويتي وهذا مغربي ما كانت تساوي شيئاً في الماضي، ووقع الخصام والفرقة والعداء بين المسلمين، وزال الحكم بالإسلام من ديار المسلمين، وذهبت الجيوش التي كانت تتوضأ في الصباح الباكر، وتقوم تصلي قبل أن تأخذ تدريباتها، والتي كانت تقرأ القرآن، وتجلس لدروس الوعظ، وتدخل القتال باسم الله، وتهجم وهي تعرف آداب الإسلام وتطلب جنة الله، زال كل ذلك إلا قليلاً من ديار المسلمين، فرقة! دعوات! مرة إلى القومية، فتظهر القومية العربية فيقولون: نحن عرب، والعربي أخو العربي كما في مصر والعراق، والبربر في شمال أفريقيا يقولون: نحن بربر، وقسموا بلاد المسلمين، وأطلت الأفاعي برءوسها هنا وهناك في بلاد المسلمين، وجاءنا البلاء أكثر وأكثر، حتى جاءنا أقوام اقتنعوا بمبادئ ماركس ولينين ، وقالوا: نحن شيوعيون ولا يصلحكم إلا الشيوعية أيها المسلمون! وجاءنا أقوام آخرون بدعوات ما عرفناها وقالوا: نحن بعثيون، والنصارى يرسلون المبشرين إلى ديارنا؛ لينصروا أبناءنا، وتقام في الجزيرة العربية كنائس عليها صلبان، ويتنصر في أندونيسيا في العام الواحد ربع مليون مسلم، وجيوش من الطائرات والسيارات والمبشرين والرهبان في السودان، وفي الجزيرة، وفي بلاد الشام، وفي مصر، وفي أندونيسيا ألوف من أبناء الذين قتلوا في لبنان أخذهم المبشرون النصارى؛ ليجعلوهم نصارى، ونحن غافلون أو ساهون لاهون!

نداء أبناء المسلمين الغيورين

وقام بعض المسلمين الذين احترقت قلوبهم ينادون بالإسلام ويقولون: يا مسلمون! عودوا إلى دينكم! عودوا إلى كتابكم! عودوا إلى ربكم! اعرفوا من أنتم، لقد ضيعتكم المبادئ، وفرقتكم العصبيات والقوميات! وفرقتكم الوطنيات والشيوعية، كل ذلك ضيعهم كثيراً، قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:130-132]، أوصوا أبناءكم كما وصى إبراهيم ويعقوب بنيه: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ .

اصطفى لكم الإسلام، شعاركم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذا شعار الدين، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يعرفها أبناء المسلمين، وأن يربى عليها أبناء المسلمين، قال تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:132-133]، وهو يموت وروحه تنزع يوصي أبناءه! الرسول صلوات الله وسلامه عليه وهو يفارق الحياة يقول للمسلمين: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، حافظوا على الصلاة، آخر ما يترك المسلم من دينه الصلاة، قام في المسلمين من ينادي: يا مسلمون عودوا إلى الله! تخلقوا بأخلاق الإسلام، واعرفوا عقيدة الإسلام، واعرفوا شريعة الإسلام، واهتدوا بهدي الإسلام، ولا يزلنكم الشيطان، وقامت جماعات هنا وهناك تنادي بالعودة إلى الله.

وقدر الله تبارك وتعالى أن تؤتي هذه الدعوات ثمارها، وقد جئت إلى الكويت في سنة ألف وتسعمائة وخمسة وستين هجرية وكنت آسى وأنا أمر على مساجد الكويت فلا أرى إلا كهولاً ليس فيهم شاب، وليس فيهم طفل، والمساجد مهجورة! وكنت أتعجب حتى وقفت مرة في أحد المساجد، وقلت لهم: يا ناس! أليس لكم أولاد؟! قالوا: لنا أولاد، قلت: أين أولادكم؟! لماذا لا يعرفون المسجد؟! لماذا لا يأتون إلى المساجد؟! ومرت السنوات وإذا -بحمد الله- بيوت الله تمتلئ بالناس، فهذا خير كثير، ورحمة من عند الله تبارك وتعالى وبشرى، وهذا ليس في الكويت وحدها، وإنما حيثما سرت في ديار الإسلام وجدت المساجد، ورأيت الناس يقبلون على الله، لقد تكشف للمسلمين الخداع والكذب والزور، هؤلاء الذين جاءونا قالوا لنا: اتركوا الإسلام تعزوا وتصلحوا، كذبوا علينا فاكتشفنا الكذب والخديعة، وعرفنا أننا حطمنا بيوتنا بأيدينا، وذلك عندما حاربنا الإسلام في الماضي، فعلمنا أنهم كذبوا علينا، وجربنا كل الطرق فما وجدنا فيها طريقاً واحداً سليماً، في كل مرة هزيمة، وفي كل مرة خديعة، وفي كل مرة كذب، فأيقن الناس أنه ليس لهم سبيل إلا إذا رجعوا إلى الله، ووجهوا وجههم شطر البيت العتيق، وتركوا وجهتهم نحو موسكو وواشنطن ولندن، وعادوا إلى كتاب الله لا إلى كتب الكفر والضلال، لكن الذي نطمع فيه أن يشد المسلمون الذين فهموا الإسلام بأيدي العاملين للإسلام.

لزوم فهم الإسلام وحقوق المسلمين

فكما قلت في بداية كلمتي: المسلمون أمة واحدة، وجماعة واحدة، وجسد واحد، وبنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، لا ينبغي للمسلم أن يخذل أخاه المسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، ولا يزال في المسلمين والعاملين في الإسلام من لا يفهم هذه الحقيقة: أن للمسلم على المسلم حقوق، وأنه لا يجوز للمسلم أن يغتاب أخاه، أو أن ينم أخاه، أو أن يؤذي أخاه في عرضه، قال صلوات الله وسلامه عليه: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ويحب المرء لا يحبه إلا لله).

أن تحب أخاك في الله، وأن تحب لأخيك الخير، ومن محبة الخير له ألا تغتابه، وألا تطعن في عرضه ولكن تنصحه، فإذا ما رأيته على أمر سيئ فبالتي هي أحسن، وهذا أدب الإسلام وخلقه، فنحن لا نقر بالباطل في أنفسنا، ولا نقره في إخواننا ولا مجتمعاتنا، ولكننا ننصح: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، نسي المسلمون هذه الأخلاق، وأصبح كثير من المسلمين لا يتأدبون بأدب الإسلام.

التعاون على البر والتقوى بين المسلمين خلق من أخلاق الإسلام: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، فمن خلق المسلمين: أن يعين أخاه على الخير إذا ما احتاج إلى معونة جسدية.. إلى معونة فكرية.. إلى معونة مادية وهو يستطيع أن يعين، فعلى المسلم ألا يقصر في هذا السبيل، عليه أن يمد أخاه ويحسن إليه، فذلك من خلق الإسلام.

نرى بعض المسلمين والعاملين في الإسلام لا يحسنوا هذه الأخلاق، ويظن أنه لا ينتصر الإسلام إلا إذا أعمل لسانه في الآخرين، ومنع رفده وإحسانه عن الآخرين، وهذا خطر كبير، ومما يفسد العمل الإسلامي ويشوهه أن بعض المسلمين يتعالمون وهم لا يعلمون.

فينبغي للمسلمين أن يطلبوا العلم الشرعي، فبدون علم لا تكون مسيرة، والجهل لا يربي النفوس، ولا يصلح الأفراد ولا الجماعات، والعلم الشرعي له سبيله وطريقه، وينبغي على المسلمين أن يحسنوا طلب العلم، وأن يحرصوا على ذلك لا أن يعيشوا جهلاء، بعض الذين لم يتقنوا العلم الشرعي والذين يستعجلون يفسدون بجهلهم في فتاويهم ودعاواهم وفي مسيرتهم، هؤلاء الناس -كثير في ديار الإسلام- يستعجلون الأمور قبل أوانها، كان طلبة العلم لا يتصدرون للفتوى والتعليم والتدريس إلا بعد أن يبلغوا مبلغاً حسناً، وبعد أن يشهد لهم من عند الذين يعلمون من العلماء حتى لا يفسد هؤلاء بجهلهم، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

أدعو إلى الإخلاص لله وحده لا إلى غيره تبارك وتعالى، وهذا أساس في العمل، عَلَى بَصِيرَةٍ أي: على نور وعلم، وأعظم النور وأكبر العلم هو هذا الكتاب، كتاب الله تبارك وتعالى، ثم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ما سار عليه العلماء، فهذه هي البصيرة الحقيقية، قال تعالى: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ .

والجهل بدين الله يسبب مشكلات، ما البدع والخرافات التي انتشرت بين المسلمين إلا بسبب الجهل، عندما تصدر أقوام للدعوة إلى دين الله تبارك وتعالى وهم لا يعلمون، ولا يحسنون أن يقودوا الأمة الإسلامية، فنشأت الخرافات، ونشأت البدع، والتصوفات والعقائد الفاسدة بسبب الجهل، وشفاء هذا المرض بالعلم، والجهل يسبب فرقة بين الناس، لكن العلم يجمع الناس على الحق، وعندما يلتقي المسلمون مرة أخرى على هذا الكتاب وعلى هذا الدين فسيكون للمسلمين بإذن الله شأن، ولكن ينبغي أن يعلم المسلمون أنهم قبل أن يتسلموا الراية من جديد -ويأذن الله تبارك وتعالى بعودة الحق إلى نصابه- أنهم سيبتلون ويختبرون.

فالله سبحانه وتعالى لم يسلم الريادة للصحابة إلا بعد أن اختبرهم وابتلاهم، فإذا ما صبر المسلمون على ما ابتلوا به -وقد بدأ ابتلاء المسلمين من وقت ليس بالقصير، فقد سجنوا وعذبوا وأوذوا في كثيرٍ من ديار الإسلام -واستمر ثباتهم، فإن الله تبارك وتعالى ينصرهم ويؤيدهم قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ [الأحزاب:38]، فهو سبحانه لا يعطي هذا الحق، ويعطي مرتبة الصدارة إلا لمن ثبت في المحنة والبلاء، وعلم أنه أهل لأن يتسلم المهمة التي يريد الله تبارك وتعالى أن يسلمه إياها.

في الختام أسأل الله تبارك وتعالى لي ولكم الاجتماع على هذا الحق، وأن يبعث لهذا الدين رجالاً يعيدون له شبابه، وينجزون عنه ما ناله من أوليائه وما ناله من أعدائه، وأن يهيئ للمسلمين رجلاً حكماً رشيداً يعز به الإسلام، ويذل به الشرك.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيكم خير الجزاء، وأن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه.