رسالة حادب مودع من مقبرة النسيم
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
رسالةُ حادبٍ مُودِّع من مقبرة النسيمالحمد لله الحي القيوم الذي لا ينام ولا يموت، وبعد:
فلا أصدق من محتضر، ولا أنصح من مودِّع، وبين يديك رسالة محزون راحل، بث فيها شجنه، وكشف سرَّه، وصدق نصحه، وبكى حاله كيما يكون لمن بعده منبِّهًا محذِّرًا موقظًا، وأنْفَسُ الهدايا ما حوته الحنايا.
وإنه لتمرُّ بي ساعات أتذكَّر فيها الراحلين عني للآخرة من معارفي، فيتراءى لي أحيانًا أنَّ معارفي الأموات أكثر من الأحياء؛ لكثرة سوادهم في الذاكرة، وازدحامهم بين حنايا الضلوع، وربما أنه وَهْمٌ أسقطه حنين الذكرى على صفحة القلب الحزين!
وبكل حال، فالدنيا بأسرها ممرٌّ لدار المستقرِّ عند من لا تضيع عنده الودائع، ولا يخيب من علق به صِدق الرجاء، ووسع كل شيء رحمة وعلمًا، تبارك وتعالى.
والمؤمن مُفَتّنٌ توَّاب، ومن عرف قدر الآخرة هانت عليه نفسه، وزالت عن عينة غشاوة فتنة الدنيا، وعمر قلبه بحب الله تعالى، والأُنس به، والشوق إليه والدار الآخرة، ذلك أن محبة الله تعالى والتعلق به إذا استحكمتا في القلب هانت عليه الدنيا وتصاريفها، ولم يعبأ بحلوها ومرِّها؛ لأن قلبه قد استضاء بنور الإيمان، وأشرق بشمس الإحسان، والتذَّ بحلاوة القرآن، ورغب في مزيد من ثمرات الرضوان، أما من لم يتعلق بالله تعالى فهو في أودية العذاب والهوان، يتقلب في حسرات الحرمان، حتى وإن كان في عزِّ سلطته، واستتمام ملكه، وعنفوان صحته، ووفير مالِه، وكثير متاعه فيما يرى المغرورون!
فلقد حدثني أحد من أثق بصدقهم في بثِّ شجونٍ له بعد توبته- وقد توفَّاه الله تعالى إليه من نحو عَقدين، أسأل الله أن يقبل توبته وأن يغفر له ويرحمه ويرضى عني وعنه وعنك وقد أخذتُ المعاني منه وصُغتُها لك- وكان من عُلَالَاتِ شَجَنِه قولُه المُؤثِّرُ الباكي والناصح الحادب:
حدثتك ليعلم من تكتب لهم أنَّ الدنيا سراب بقيعة! وأن لذَّاتِها طيفُ خيال مَرَّ على القلب ولم يلِجْه، وبرقٌ خُلَّبٌ شامَهُ مغرورٌ فخدعه، وأحلامُ منامٍ استيقظ منها مخدوع بها بعد معاينة رُسُلِ الآخرة، ولولا حرصي على استفادة من يقرؤها ما فهتُ لك بها حرفًا؛ لعلمي أنها مجاهرة لك بعصيان، وإن كان قد نما لك بعض أنباء فَعَلَاتي، والأعمال بالنيات، وحسبي أني تبتُ منها لربي، وأرجو أن تكون نصوحًا مُتقبلة، وأحمده على توفيقي لتوبتي قبل رحيلي للقائه، سائله السترَ والغفرانَ لما مضى، والحفظ فيما أستقبل، وحسن الختام، فلعل المطلع على خبري أن يستغفر لي، وأن يعتبر بحالي، وألَّا تغرَّه نفسه بالله الكريم المنان، فالسعيد من وُعِظ بغيره، والشقيُّ من وعظته بعد الفوت نفسُه.
وإنِّي حينما أتذكر ذلك الزمان الموحش أحِسُّ كأنَّني كنت أعيشُ في حلمٍ داخل حلم وأنا مستيقظٌ منتبه، من شدَّة الحيرة التي كانت تعتريني، والفراغ الذي كان يحتويني، والقلق الذي أزرى بما أَمَّلْته من طيب عيشي، كتب الله ضَنْكَ المعيشة على من خالف أمره، مهما استطالت بأوهامه الأماني، واستطارت بأحلامه الآمال، سُنَّة الله!
قال رحمه الله تعالى: لقد منَّ الله تعالى عليَّ بصحةِ بدنٍ، ووفرة مال، وظرافةِ أخدان، وحدَّةِ ذهنٍ، وبسطةِ جسم، ووسامةِ وجهٍ، وجمال قوام، وحُسْنِ صوتٍ، ورِقَّةِ طبع، وعذوبة منطق، ورواءِ كلام، وبشاشة معشر، ومضاءِ عزمٍ، وانبساط أجلٍ..
في نعم لا أُحصيها، فلم أشكر نعمته السالفة فيما مضى لي من سنين، فلقد أقولها لتقرعَ قلب مبتدئ المشوار حتى لا يضيع كضياعي، ويفجأه أجلُه كأصحابي، كيما يحذر آخرته، وينتبه من غفلته، ويستيقظ من رقدته، فلا يبتدئ من حيث ابتدَأوا فينتهي كما انتهوا، فيا خيبة المُغترِّين، ويا طول أمل الغافلين، كأنْ لم يعلموا أن رحيلهم للجبَّار قد أَزِف، وزادهم ليس للآخرة بزادٍ صالح، فيا ويح من لم يُرض ربه في دار العمل!
أقول: لقد سكنت الفارِه من القصور، ومشيت في الغريب العجيب من الديار في أركان الأرض الأربعة، وشاهدت من البلدان من لم يشاهده غيري إلا القليل من الناس، وركبت متن الهواء، وغصت بطن البحار، وقطعت الفيافي والمروج والثلوج والسفوح والوهاد والقفار صيدًا ونزهة واكتشافًا وانتجاعًا، وسبحت في عرض الأنهار والبرك والبحار، وترأَّسْتُ الناس وسُدْتُهم، وصار لي جاه بينهم، واسترسلت مع نفسي في كل ما هويته، فوطئت من النساء بالحلال والحرام ما يزيد على الخمسين ولا أبعدُ إن قلت: المئة! وشربتُ من الخمور فاخرها ونادرها وجديدها ومُعتّقها بأنواعها - وسَمَّى خمورًا- وعببتُ منها عبَّ العطشان بل الشيطان الذي لا يرتوي من آخر شربة! وشربت حتى غبت عن وعيي مرارًا، وتقيأته مرارًا، وفعلت في سُكري ما لا يفعله سوى المجانين، ولا عجب فالسكر جنون باختيار.
ولم أقف عند هذا المجون الخالع؛ إذ لم أجد ما أبحث عنه من هناء وسعادة بقضاء وطر النفس الأمَّارة، فأكلت المخدرات والمفتِّرات وشربتها، من الدخان للهيروين والكوكايين، مرورًا بالحشيش والأفيون والكبتاجون وغيرها، وحشرتُ عقلي في ركنٍ صغيرٍ من دماغي، حتى تجَشَّأَ قلبي لذائذَهُ المُتْرَعة بالجنون، ولَسَعَاتُ عقارب الشيطان لا تبرح عن ذلك القلب المُضْنَى بالخطايا، تحاول إطفاء آخر قَبَسٍ من نور الهُدَى بين أشلاء فؤاده المُعَنَّى في ظلامه، المتشحِّط في بلائه، ثم كان ماذا؟!
لقد عدتُ بالخيبة والتَّباب! فقد رجعت من أقصى حدِّ شهوات العالمين خائبًا حسيرًا، فوَعِزَّةِ ربي لم ألتذَّ بشيء من ذلك لذةً حقيقية، فمع تلبُّس الجسد لتلك الشهوة طلبًا للمتعة؛ إلا أنه كمن يلبس قميصًا ليس له، أو قُلْ سِربالًا من قطران مغليّ! ويأكل طعامًا بلا طعم ولا لون ولا رائحة، أو قُلْ طعامًا بشعًا مسمومًا لا تُسيغه حتى الحشرات! وأقرب ما يكون لتلك اللذة المتوهّمة الأحلام، ولا أدري كيف استزلّني وهْمُ (الدوبامين) الغبي مع علمي بعَظَمة من عصيت! فاللهم رحمةً وغفْرًا.
وهذا كله مع وجود أشياء أُشَبِّهُها بحسَكَةٍ في صدري على الدوام، ودبّوسٍ في قلبي لا يزول، ووتَدٍ في فؤادي لا يحول، ومسمارٍ مُحْمًى في عيني، وشَوْكٍ مشتبك في روحي، فلا أهنأ بليل، ولا أسعد بنهار، فلا ليلي ليل السعداء، ولا نهاري نهارهم، ولا نومي ويقظتي، وظَعنِي وإقامتي، وخُلطتي وانعزالي كسائر أهل السرور والراحة والسكينة، كأنما قُرن بي شيطان يُعذب في جهنَّم، أسمع صراخه اليائس في أُذني، وأنفاسه الحرَّى في وجهي، ورائحة جسده المحترق في أنفي، وروحه البائسة تصيح بي، فكيف الهناء مع هذا الجحيم، عياذًا بالله الرحمن الرحيم؟!
إذا الحياة لغيرِ اللهِ وِجْهَتها
فطُولُها في صميمِ الأمرِ نُقْصَان
فدَربُها ضَيْعَةٌ تُفْضِي لِمَهْلَكَةٍ
وزادُهَا عَلْقَمٌ سُمٌّ لِمَنْ خَانُوا
فَعِشْ إذَا شِئْتَ أو فَلْتَمُتْ كَمَدًا
فَالمَوتُ والعيشُ بعد اليوم سِيّانُ!
وكلَّما صَرَخَت بي نفسي ضيقًا، وصاح بي رُشدي نُصحًا، وصوَّت عقلي بي خوفًا وحَدَبًا وإشفاقًا وحُبًّا؛ ألْويتُ عن ناصحهم الأمين إلى تزيين القرين الرجيم، فبحثتُ لاهثًا عَجِلًا عن لذة جديدة، فألحقت جديد الهوى بالتليد، وداويتها بدائها، وزدتُّ جرعة المعصية كمًّا وكيفًا، والعجب أنه كلما ازددت وُغولًا فيها وانغماسًا في وُحولها ازدادت تعاستي وكآبتي وشقائي وضيق صدري، كالعطشان الذي يشرب البحر فيزداد عطشًا، وكالمستغيث من الرمضاء بالنار، وبين يديه واحة باردة لو كان يعقل!
ولرُبَّما ضحكتُ حينها بملء شِدقي، وقهقهت من أقصى لهاتي حتى أذرف الدمع وأسقط على ظهري، والله يعلم أني أبكي من داخلي بدموع يذرفها الفؤاد المكلوم بخزي الخطيئة! ولِقلبي بين حنايا الأضلاع عويلٌ يبزُّ نواح الثكالى وبكاء الأيتام! فصرتُ كالمهرول عن سروره، والمدبر مسرعًا عن هنائه، والمعرض عن أسباب فلاحه، وكلما هجم بي خاطر التوبة حاصرته الأماني والتسويف والوعود حتى تصرَّم كثير من جيلي، ومات أعزَّاءُ مِن لِدَاتِي، وغزت أمداد المشيب رأسي، فجلّلت بالبياض ناصيتي وَفُودَيَّ، وقد رأيت كثيرَهم صرعى بلا توبة مع تحدُّثِهم بأمنيتهم لها وقت العافية، فأيقنت أن لا مفرَّ من الله إلا إليه، ولا مهرب منه إلا له، وأنه لم يَعِدْني بإمهالٍ دائم، فلربما فَجَأَني الحق من لدنه، وعاجلني هاذم اللذات مِن قِبَله، فسلب روحي قبل التوبة، وزارني ملك الموت قبل الأوبة، فرحلت لربي ثقيل الحوبة! ويا رب هل إلا إليك متابي.
بعدها أيقنت أن اللذة ليست كالسعادة، فالسعادة نعيم القلب، وهناء الروح، وراحة الصدر، ومجمَّة الفؤاد، أما اللَّذة فعارضٌ سريع الزوال، وظلٌّ عجل الأفول، ثم إنَّ مأوى اللذة ومحلها هو ذيَّاك الجسد الفاني لا الروح التي لا قوام لها إلا بالسعادة، فالسعادة فرح وسرور وسكينة روحية عقلية، أما اللذة فشعور جسدي سريع بالنشوة عما قريب يزول، ولربما انقلب بؤسًا وتعاسة، وبخاصة إن كان في غير مرضاة الله تعالى، فلا سعادة إلا مع الإيمان، وواهًا لمن جمعهما! وهل هذا إلا في الجنة على الكمال، ولكن الكريم الرحيم قد لطف بعباده، وتكرَّم على أوليائه، فأورد قلوبهم أشياء من رقائق الآخرة، وألطاف الجنة، وسرور المعاد، كيما يبقوا على العهد ثابتين، وباليقين عن مراقد الغفلات مُبارحين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
لقد أنعم الله عليَّ بطوق نجاتي، وهي التوبة، أسأل الله التواب أن تكون نصوحًا، وأن يوفقني للباقيات الصالحات، وأن يُسبل عليَّ رحمته ومغفرته ورضوانه، ولقد وجدت- والذي نفسي بيده- سعادتي، وانشراح صدري، وهناء عيشي، وقرة عيني، وراحة فؤادي، وأَمْنَ نفسي، وسكينة بالي في طاعة الله تعالى، والبعد عن معصيته.
وإن رُمتَ أجمل لحظة في حياتي فهي أن أرفع يدي لله العليِّ، أو أسجد له وأنا تائب له منكسر مفتقر، متَّكئٌ على مَنْسَأةِ الضراعةِ نادمٌ وبالذنبِ مُقرٌّ، جاثٍ بين يديه، خاشعٌ لجنابه، خاضعٌ لعظمته، منتظرٌ جودَه وكرمَه وإحسانه وعفوه ومغفرته ورحمته وهِبَاتِه، مستندٌ على جدار حسنِ ظني به، فهو عند ظن عبده به، خائف مشفق وَجِلٌ راهبٌ منه، هاربٌ منه إليه، لا أعلم أني في حال سجودي ذلك مصرٌّ على معصية، أو مُتنكِّبٌ عن واجب أطيقه، فلا تسل يا صاحبي عن سعادتي حينها، فوالله لو جمعت لي متع الدنيا ما ساوت بجانب حلاوة الإيمان ولذة الطاعة وراحة الهداية وسعادة الاستقامة قُلامةَ ظفر! فلله الحمد أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وكريم نواله وسابغ نعمائه.
لَهفِي على عمْرٍ تَقَضَّى غافلًا
وتركتُ للنفس السفيهة غارِبي
يا صاحبي إن جُزتَ قبرِيَ هائمًا
فانصحْ لنفسك واعتبر بتجاربي
وبعد:
فأَحْمَدُ الله تعالى إليك- أيها القارئ الكريم- أن مدَّ في أجلك حتى اليوم، ومتَّعك بعُمُرك حتى الساعة، حتى تتأمل حال أولئك ممن كانوا مِلْءَ بصرِ الدنيا وسمعها، فظعنوا عنها للآخرة، كيف حالهم؟!
وتفكر الآن في حال أحدِ من كنت تعرفهم، وتحبهم، وتعاشرهم، ممن رحلوا لربهم، تأمَّل حاله وقد أكل الثرى عظامَه، وقطَّعت الأرض أوصاله، وفرَّق توالي الزمان نظامه، وأذهبت الليالي نضارته وغضاضته وجماله، وأبقى كرُّ الجديدين بين الناس ذكره وأحواله، فسبحان الحي القيوم الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على خير العالمين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.