أرشيف المقالات

شاعرنا العالمي أبو العتاهية

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
3 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية للأستاذ عبد المتعال الصعيدي ترجمته: كان المسلمون حينما ثاروا ثورتهم على بني مروان ينشدون في بني العباس حكماً يعيد لهم عهد الخلفاء الراشدين، ويكون خليفتهم فيه كأحدهم لا يؤثر نفسه بشيء من أمور الدنيا عليهم، ولا يأخذ لنفسه من أموال الدولة إلا ما يفرضونه له منها، كما فرضوا لأبي بكر وغيره، فلم يحقق لهم بنو العباس كل هذا الرجاء، بل ظهروا بأبهة الملك التي كان يظهر بها بنو مروان، واستأثروا لأنفسهم بأموال الدولة، وجعلوها ملكاً لهم ينفقون منها في مصالح المسلمين ما تجود به أنفسهم، وما يبقى بعد حاجتهم، وحاجات أهل بطانتهم وحاشيتهم، وكذا أهل الملق من الشعراء والندماء ومن إليهم، ولم يحققون للمسلمين من كل ما أملوه فيهم إلا هذين الأمرين المهمين: المساواة بين الشعوب الإسلامية في حكم الدولة، وتحضير الدولة الإسلامية بالثقافة العلمية الواسعة التي أحسنوا البلاء فيها وقد انقسم المسلمون في شأن هذه الدولة بعد قليل من ظهورها إلى قسمين: فتجافاها أهل الورع منهم وأبوا أن يتولوا أعمالها، وسار معها جمهور المسلمين في ذلك السبيل الذي سارت فيه، واستولى عليهم اليأس من ذلك المثل الأعلى في الحكم الذي كان على عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ثم أقبلت الدنيا عليهم فانغمسوا فيها أيما انغماس، وتفننوا في أنواع التلذذ بها أيما تفنن، وكادوا ينسون الآخرة كما نسيها من كان قبلهم، فكانوا في أشد حاجة إلى شاعر ملهم يوقظهم من تلك الغفلة القاتلة، ويؤدي في الشعر رسالته التي يجب أن يؤديها في كل عصر على الوجه الذي يتطلبها، وكان لهم ذلك في شاعرنا أبى العتاهية ولد أبو العتاهية سنة ثلاثين ومائة من الهجرة قبل قيام الدولة العباسية بسنة أو سنتين، ونشأ بالكوفة ولكن أصله من عين التمر، وأبو العتاهية لقبه، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة، وكان خالد بن الوليد قد سباه مع جماعة صبيان من أهل عين التمر، فوجه بهم إلى أبي بكر، وكانوا أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، ففرقهم في أهل البلاد والأمصار، فاعتنقوا الإسلام وأعتقهم مواليهم، فكان لهم أثر صالح في العلم والأدب، ونبغ من أولاًدهم جماعة كانوا من أكابر رجال العلم والسياسة والحرب، مثل موسى بن نصير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن إسحاق.
وكان كيسان جد أبي العتاهية من نصيب عباد بن رفاعة العنزي، لأنه سمعه حين سأله أبو بكر عن نسبه يذكر له أنه من عنزة، وكان يكفله في عين التمر قرابة له منهم، فاستوهبه عباد من أبي بكر ثم أعتقه فتولى عنزة؛ وكان بنوه يزعمون أنهم منها ويكرهون من ينسبهم إلى النبط الذين كانوا يسكنون عين التمر، ولكن الظاهر أن أصلهم منهم، لأنهم كانوا يحترفون بالكوفة من صنعة الجرار ما كانت تأباه فطرتهم لو كانوا عرباً وقد نشأ أبو العتاهية بالكوفة بين أسرته يعمل الجرار معهم، ولم يذكر الرواة أنه اشتغل بالتعليم في صغره، ولكن الظاهر من أمره أنه اشتغل بقدر منه كان له عوناً في الحياة التي آل إليها أخيراً أمره؛ وكان بالكوفة طائفة من خلفاء الشعراء وأهل المجون والمخنثين، وناهيك بشاعرها والبة بن الحباب الأسدي وما بلغ إليه في الخلاعة والعبث، وهو في ذلك أستاذ أبي نؤاس وغيره، فاتصل أبو العتاهية بتلك الفئة اللاهية، وأطلق لنفسه في ذلك عنانها، فوصل فيه إلى غايته، وتخنث وحمل زاملة؛ وأخذ عنهم شعرهم الخليع في التغزل والمجون وما إليهم، فنبغ فيه، واشتهر به أمره، وكان الأحداث والمتأدبون يأتونه وهو جرار فينشدهم أشعاره، فيأخذون ما تكسر من الخزف فيكتبونها فيه ثم قصد بغداد في عهد المهدي ليتصل بأمرائها.
ويستفيد بشعره عندهم، وكان ثالث ثلاثة فتيان شباب أدباء، ولم يكن لهم ببغداد من يقصدونه، فنزلوا غرفة بالقرب من الجسر، وكانوا يبكرون فيجلسون بالمسجد الذي بباب الجسر في كل غداة، فمرت بهم يوماً امرأة راكبة، معها خدم سودان، فقالوا من هذه؟ قالوا خالصة، فقال أحدهم: قد عشقت خالصة، وعمل فيها شعراً فأعانوه عليه، ثم مرت بهم أخرى راكبة، معها خدم بيضان، فقالوا من هذه؟ قالوا عتبة، فقال أبو العتاهية: قد عشقت عتبة؛ ولم يزالوا كذلك إلى أن التأمت لهما أشعار كثيرة فيهما، فدفع صاحب خالصة بشعره إليها، ودفع أبو العتاهية بشعره إلى عتبة، وألحا في ذلك إلحاحاً شديداً، فمرة تقبل أشعارهما، ومرة يطردان، إلى أن صح عزم الجارتين على امتحان عاشقيهما بمال على أن يدعا التعرض لهما، فإن قبلا المال كانا مستأكلين، وإن لم يقبلاه كانا عاشقين، وكان لهما معهم شأن في الحالين.
فلما كان الغد مرت خالصة فعرض لها صاحبها، فقال له الخدم اتبعنا فتبعهم؛ ثم مرت عتبة فعرض لها أبو العتاهية، فقال له الخدم اتبعنا فتبعهم؛ فمضت به إلى منزل خليط لها بزاز، فلما جلست دعت به فقالت له: يا هذا إنك شاب وأرى لك أدباً، وأنا حرمة خليفة، وقد تأنيتك فأن أنت كففت وإلا أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ثم لم آمن عليك.
فقال لها: فافعلي بأبي أنت وأمي، فإنك إن سفكت دمي أرحتني، فأسألك بالله إلا فعلت ذلك إذ لم يكن لي فيك نصيب، فأما الحبس والحياة ولا أراك فأنت في حرج من ذلك.
فقالت: لا تفعل يا هذا وأبق على نفسك، وخذ هذه الخمسمائة الدينار وأخرج عن هذا البلد.
فلما سمع ذكر المال ولى هارباً.
فقالت ردوه، وألحت عليه فيها فقال: جعلت فداك ما أصنع بعرض من الدنيا وأنا لا أراك، وإنك لتبطئين يوماً واحداً من الركوب فتضيق بي الأرض بما رحبت.
فزادت له ذلك إلى ألف دينار، فجاذبها مجاذبة شديدة، وقال لها: لو أعطيتني جميع ما يحويه الخليفة ما كانت لي فيه حاجة، وأنا لا أراك بعد أن أجد السبيل إلى رؤيتك.
ثم خرج فجاء الغرفة التي كانوا ينزلونها فإذا صاحبه مورم الأذنين، وقد أمتحن بمثل محنته، فلما مد يده إلى المال صفعوه، وحلفت خالصة لئن رأته بعد ذلك لتودعنه الحبس، فأستشار أبا العتاهية في المقام فقال له: اخرج وإياك أن تقدر عليك ثم التقتا فأخبرت كل واحدة صاحبتها الخبر وأحمدت عتبة أبا العتاهية، وصح عندها أنه محب محق.
فلما كان بعد أيام دعته إليها وقالت له: بحياتي عليك - إن كنت تعزها - إلا أخذت ما يعطيك الخادم فأصلحت به من شأنك، فقد غمني سوء حالك، فأمتنع أبو العتاهية من ذلك؛ فقالت له: ليس هذا مما تظن، ولكني لا أحب أن أراك في هذا الزي، فقال لها: لو أمكنني أن تريني في زي المهدي لفعلت ذلك، ثم أقسمت عليه فأخذ الصرة فإذا فيها ثلاثمائة دينار، فاكتسى كسوة حسنة، وأشترى حماراً يركبه، وحسن بها حاله وهذه الرواية تعطينا أن أبا العتاهية كان صادقاَ في حب عتبة التي شبب بها في شعره، وتوله بها فيه إلى أن اقلع عن ذلك فيما سيأتي من نسكه، وربما يكون ذلك كله حسن حيلة منه، وهو ما كان يراه فيه ابنه عتاهية، وقد روي عنه أن أباه إنما أقبل إلى بغداد ليمدح المهدي، ويجتهد في الوصول إليه، فلما تطاولت أيامه أحب أن يشهر نفسه بأمر يصل به إليه، فلما بصر بعتبة راكبة في جمع من الخدم، تتصرف في حوائج الخلافة تعرض لها، وأمل أن يكون تولعه بها هو السبب المصل إلى حاجته، وأنهمك في التشبيب والتعرض في كل مكان لها، والتفرد بذكرها، وإظهار شدة عشقها، وكان أول شعر قاله فيها: راعني يا زيد صوتُ الغراب ...
بحذاري للبين من أحبابي يا بلائي ويا تقلقل أحشا ...
ئي وتعْسي لطائر نعَّاب أفصح البينُ بالنعيب وما أف ...
صح لي في نعيبه بالإياب فاستهلت مدامعي جزعاَ من ...
هـ بدمع ينهل بالتسكاب ومُنعتُ الرقادَ حتى كأني ...
أرمدُ العين أو كحلتُ بصاب قلت للقلب إذ طوى وصل سع ...
دي لهواه البعيد بالأنساب أنت مثل الذي يفر من القط ...
ر حذار الندى إلى الميزاب والذي أرجح من ذلك رأى عتاهية، لأنه أدرى بأبيه، ولأن عتبة لم تصدق في حبه حتى يصدق في حبها، وإنما كانت تتخذه للإعلان عنها لتنافس بذلك أترابها من جواري المهدي، وقدهم المهدي يوماَ بعد اتصاله به أن يدفعها إليه فجزعت وقالت: يا أمير المؤمنين: حرمتي وخدمتي! أتدفعني إلى رجل قبيح المنظر، بائع جرار، ومتكسب بالشعر؟ فأعفاها منه.
ولم يكن أبو العتاهية إلا رجلاَ تاجراَ لا يهمه الحب، وهو لم يقصد بغداد إلا من أجل المال كما سنبينه بعد. عبد المتعال الصعيدي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١