خلل في التفكير


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

أحبتي الكرام: سيكون حديثي إليكم بعنوان: (خللٌ في التفكير).

ولعل الذي دعاني إلى طرح هذا الموضوع، هو ما سمعته من كثير من الإخوان والشباب وغيرهم، تعليقاً على الأحوال والأوضاع التي استجدت في أرض أفغانستان المسلمة، ولا شك أننا جميعاً سمعنا تلك الأخبار المزعجة، التي يأتي في طليعتها اغتيال الشيخ جميل الرحمن رحمه الله تعالى فقد اعتدت عليه يدٌ آثمة، في يومٍ مبارك من أيام الله تعالى، في يوم الجمعة، بالغدر والخيانة، وسددت إلى رأسه رصاصاتٍ أردته قتيلاً، وكان ذلك على يد أحد الشباب العرب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

تعريف بالشيخ جميل الرحمن وجماعته

الشيخ جميل الرحمن رحمه الله هو زعيم جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة في أفغانستان، وهي إحدى الجماعات المجاهدة في تلك البلاد، والتي تلتزم بالمنهج السلفي الأصيل، في الأصول والفروع، ولهذه الجماعة نشاطٌ طيب في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وتصحيح مفاهيم الناس، ودعوتهم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن لها جهداً طيباً مبروراً إن شاء الله في مجال المشاركة في الجهاد، ومقارعة الظالمين، وكانت ولاية كونر، إحدى الولايات الأفغانية تحت حكم هذه الجماعة، وقد أبلت فيها بلاءً طيباً، في نشر العقيدة الصحيحة، ومقاومة البدعة والخرافة، وإزالة آثار المنكرات من الخمور والمخدرات، وقطع الطرق وغيرها، واستتباب الأمن.

وإن فقد رجلٍ في منـزلة الشيخ جميل الرحمن، مما يؤسف كل مسلم عرفه وجلس إليه، وعرف قدر الرجل، فنقول تعليقاً على ذلك، بقلوب نرجو الله تعالى أن تكون قلوباً مؤمنةً صابرةً محتسبة، نقول لكل مجروح: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى.

ونقول وفاءً ببعض حق هذا الرجل: اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين.

اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه، اللهم اقبله في الشهداء يا حي يا قيوم، اللهم اخلف للمسلمين خيراً منه، اللهم اجعله في جناتٍ ونهر في مقعد صدقٍ عند ملكٍ مقتدر.

أما ذلك القاتل فإنه باء بشر وخيبة، فإنه بعد أن أجهز على الشيخ هم بالهرب، فحين رأى أنه مأخوذٌُ رجع إلى نفسه فقتلها، نسأل الله حسن الخاتمة، والسلامة والمعافاة من أسباب سخطه وعقابه، وإنه لأمرٌ يؤرق الضمير ويقلق القلب ويحز في النفس، ويثير الأحزان والأشجان والمشاعر، أن يحدث أمرٌ كهذا.

ولستُ بقاتلٍ رجلاً يُصلي     على سلطان آخر من قريشٍ

أأقتل مُسلماً في غير جرمٍ     فليس بنافعي ما عشتُ عيشي

له سلطانه وعليَّ إثمي     معاذ الله من سفهٍ وَطيشِ

إن هذا الحدث يؤكد أنه يأتي في فترة حرجة من تاريخ الجهاد الأفغاني، خاصةً أنه كان هذا الحدث في فترة كاد أن ينفذ فيها صبر الكثيرين، وهم يتطلعون إلى الأخبار في إسقاط كابول، والمدن الكبرى التي لا زالت تحت هيمنة الكفر الشيوعي في أفغانستان.

كما أنه يأتي في ظل صراعٍ عسكريٍ دامي حول ولاية كونر، نقلته وكالات الأنباء والصحافة، شرقيها وغربيها، عربيها وأعجميها، وذهب ضحية ذلك الصراع عشرات وربما مئات النفوس، فإنا لله وإنا إليه راجعوان.

خاتمة حسنة

إنني إذ أبشر محبي الشيخ رحمه الله بهذه الخاتمة الحسنة، وهي أننا نرجو الله تعالى له أن يكون شهيداً في سبيله، وقد مات في يوم الجمعة، وقد جاءت بعض الآثار في فضل الموت في ليلة الجمعة ويومها، في مقابل النهاية اليائسة لذلك القاتل، وقد جاء في الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {كان فيمن كان قبلكم رجلٌ كان به جرحٌ فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فلم يرقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة} وأما لسان حاله، وهو يسدد تلك الضربات إلى رأس الشيخ، فهو كذلك الذي قتل رجلاً من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو محمد بن طلحة، الذي كان يسمى بـالسجاد، فلما ذكره بالله عز وجل، سدد إليه السهم وقتله وهو يقول:

وأشعث قوامٍ بآيات ربه     قليل الأذى فيما يرى الناس مُسلمِ

شككت إليه بالسهام قميصه     فخر صريعاً لليدين وللفم

على غير شيءٍ غير أن ليس تابعاً     فلاناً ومن لا يتبع الحق يندمِ

يذكرني "حم" والرمح شاجرٌ     فهّلا تلا "حم" قبل التقدمِ

إنني مع ذلك كله -أيها الأحبة- ومع هذه الأخبار المؤلمة التي أرقت قلوب المؤمنين، وجعلتهم لا يهنئون بعيشهم إلا أننا -مع ذلك كله- نبقى متفائلين بحمد الله، واثقين بنصره، مدركين حسن العاقبة للمؤمنين المجاهدين، طال الزمن أم قصر، فإننا على يقينٍ من ربنا عز وجل لا شك عندنا فيه.

ومما يؤكد هذا التفاؤل أن وفوداً كثيرةً من الإخوان العرب ومن غيرهم، قد سعت للصلح بين الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، والذي يحاصر كونر ويحتل أكثرها، وبين جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة التي كان يتزعمها الشيخ جميل الرحمن، رحمه الله تعالى.

وهذه الوفود قبل بها كل الأطراف، وبدأت تمارس مهماتها، وانتهت إلى توقف إطلاق النار نهائياً أو بشكل تقريبي، وكذلك اتفقت على حل المشكلات والقضايا المتنازع عليها، عن طريق الحوار والمفاوضة والمجالس المشتركة، وهذا هو الأصل، فإنني أعتقد أنه ليس من مصلحة المسلمين أن يتعاملوا مع من يخالفهم من خلال السلاح والقوة، وليس من المصلحة -في كل حال وفي هذه الظروف بشكلٍ خاص- أن تعود سهام المسلمين إلى صدورهم، كما أنه ليس من الاحترام أن تتعامل مع من تخالفه بالتهم التي تلصقها به، كما نجد الكثيرين ممن يقولون: هؤلاء عملاء لهذه الجهة أو لتلك الجهة، أو أنه بثهم الاستعمار أو بثهم الشرق أو الغرب.

فليس من المصلحة أن نتعامل بأساليب الاتهامات المتبادلة، ولا أن يتم التعامل عن طريق استخدام القوة في حل المشكلات، فأمام المسلمين آفاق واسعة للحوار والأخذ والعطاء، والاتفاق على القضايا المختلف فيها، كما أن أمام المسلمين ميادين واسعة لقتال عدوهم، ويكفي أن المسلمين محاصرون في كل بلادٍ يرفعون فيها راية القتال والجهاد، وأن عدوهم أقوى منهم وأكثر عدداً وعدة، وأنه مدعومٌ من قوى شرقية وغربية، فجديرٌ بالمسلمين أن يتناسوا كل ما يمكن تناسيه من الخلافات، أو يؤجلوا ما يمكن تأجيله، وعلى أقل تقدير -إن لم يكن بينهم تناصرٌ وتعاملٌ- فلا أقل من أن يكون بينهم تنسيقٌ يحقن الدماء، ويوجه أفواه البندقيات والمدافع إلى صدور الأعداء.

الترهيب من قتل المؤمن

إنها مأساة، نسأل الله تعالى أن يكفي المسلم شرها ويطفئها، وإن العدو ليفرح بمثل هذه الأخبار التي ينـزعج لها كل مسلم ومسلمة، وإنني أُحَذِّر نفسي وإخواني في كل مكان، من التهاون بالدماء -دماء المسلمين- فإن الله عز وجل يقول في محكم تنـزيله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93] وهذا وعيدٌ شديد، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء}.

وفي حديث أبي بكرة المتفق عليه -أيضاً- يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {أيها الناس! أي شهرٍ هذا؟

أي يومٍ هذا؟

أي بلدٍ هذا؟

ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن دماءكم، وأعراضكم وأموالكم، عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟

فلا ترجعوا بعدي ضلالاً -وفي رواية: كفاراً- يضرب بعضكم رقاب بعض}.

وفي الصحيح -أيضاً- من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية إلى الحرقات من جهينة، فكان رجلٌ يقتل في المسلمين ويضرب، ولا يدع شاذه ولا فاذة إلا عرض لها، فلما رفع عليه أحد المسلمين السيف لاذ بشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فرفع عليه أسامة السيف فقتله، فلما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخبروه، فدعاه وقال له: {يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!

قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً. خوفاً من السيف، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!

قال: استغفر لي يا رسول الله، قال: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!

فما زال يكررها، يقول أسامة: حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ}.

دم المسلم غالي عند الله عز وجل، وإنها لكارثة كبرى أن يتهاون الناس في دماء المسلمين، على سبيل التأويل، وعلى سبيل التمحل، وعلى سبيل الإغراق في بعض الأفكار وبعض التصورات، ونحن نعلم أن دماء المسلمين استحلت في أماكن كثيرة، وفي بلادٍ كثيرة، وعبر قرون من التاريخ.

استحلت عن طريق التأويل، أي أن يقتله وهو يعتقد أنه بذلك يخدم الإسلام، وأنه يزيل عقبة من طريق الدعوة إلى الله، ومن طريق انتصار المسلمين وتغلبهم على عدوهم، لكن ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه برادع الخوف والوجل من الله عز وجل، أن يوقف بين يدي الله تعالى موقفاً صعباً، فيسأل فيه عن محجمة دم أراقها بغير حق، فلا يكون عنده جوابٌ حينئذٍ.

واجبنا نحو أفغانستان

أحبتي الكرام: أسئلة كثيرة وكثيرة تدور حول قضية أفغانستان، وما موقفنا؟

وماذا نصنع؟

وما الذي جرى؟

وما الذي حدث؟

تساؤلات لا يأتي عليها الحصر، وأصدقكم القول منذ البداية أنه لن يكون موضوع حديثي هو الكلام عن قضية أفغانستان، وإن كانت هذه القضية تحتاج ليس إلى درس أو محاضرة أو جلسة فقط وقد سبق أن أشرت في أكثر من مناسبة، إلى أن قضية أفغانستان قضية كبرى في واقع المسلمين، وإذا عددت القضايا الكبرى التي شغلت المسلمين عبر سنين طويلة، فإن قضية أفغانستان تأتي في مقدمتها، مع مجموعة من القضايا الأخرى، كقضية فلسطين أو غيرها من القضايا المهمة.

ومن حق هذه القضية الكبيرة علينا؛ أن نعطيها بعض وقتنا وبعض جهدنا، وتفكيرنا، وأن تنعقد المؤتمرات والجلسات والندوات لمعالجة هذه القضية، والبحث في كل ما يتعلق بها من قريبٍ أو بعيد، ألا تعتقدون -أيها الأحبة- أن قضية بُذِلَ في سبيلها ما يزيد على مليون وخمسمائة ألف ممن نرجو الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله، ألا تستحق منا أن ندرسها؟!

قضية بذل في سبيلها مليارات الأموال، التي تعادل ميزانيات دول بأكملها! ألا تستحق أن ندرسها، ونستفيد منها العبر والدروس، ونعتبرها معلماً في تاريخ الدعوة وفي تاريخ الجهاد؟

أقل حق لهؤلاء القتلى الذين نرجو الله تعالى أن يكونوا شهداء، ولهذه الأموال الهائلة، الطائلة، ولهذه الجهود والدموع والدماء والعرق والسهر، والزمن الطويل الذي بذلناه، والتشريد والتطريد والهجرة، أقل حق لهذه التضحيات الجسيمة التي بذلناه نحن المسلمين؛ هو أن نعقد جلسات ودروس ومحاضرات، بل ومؤتمرات وحلقات للنقاش؛ لنأخذ الدروس والعبر، ونستفيد ونستلهم من هذه المواقف الكبيرة لحاضرنا ومستقبلنا هذا أقل حقٍ لهذه الجهود الكبيرة علينا، أما إذا تجاهلنا ذلك وتعامينا عنه، فمعناه أننا لم نقدر هذه القضية حق قدرها.

كيفية التعامل مع القضايا الإسلامية

إنني لن أعالج هذا الموضوع في هذه الجلسة أبداً، ولكن الشيء الذي سأعالجه هو: طريقة تعاملنا نحن المسلمين، الذين نعتبر متعاطفين مع القضايا الإسلامية، نعتبر متعاطفين مع قضية أفغانستان، ومع قضية فلسطين، ومع قضية المسلمين في الفلبين، أو قضية المسلمين في أي بلدٍ إسلامي ترفع للإسلام فيه راية، ويقام للإسلام فيه دعوة، ويواجه المسلمون فيه عدواً، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، أو شيوعياً، أو علمانياً، أو أي لونٍ كان.

طريقة معالجتنا نحن المتعاطفين مع قضايا المسلمين، تحتاج إلى معالجة إلى مراجعة، لدينا في الواقع خلل كبير، يتطلب النظر والمراجعة، كيف نستطيع خدمة قضايانا الإسلامية؟

أفغانستان وغير أفغانستان، كيف نستطيع أن نخدمها بالطريقة الصحيحة التي تجعلنا نكسب ثقة الناس الذين نتحدث معهم ونخاطبهم، وتجعلنا نستطيع أن نربط الناس بهذه القضايا الإسلامية ربطاً صحيحاً؟

ليس ربطاً مؤقتاً أو عارضاً أو عاطفياً سرعان ما ينفك وينتهي، من أدنى خبر يمكن أن ينتشر أو ينتقل أو يشاع، وإنما هو ربطٌ صحيح دقيق معتدل منصف، لا تؤثر فيه العوادي والمؤثرات القريبة والبعيدة، ولا يستطيع أحد أن يقسم عرى هذا الترابط.

ولا شك -أيها الأحبة- أنه من السهل على أي إنسان أن يتكلم عن قضية أفغانستان أو عن غير قضية أفغانستان، يتكلم -كما يقال- كثيرٌ من الناس عن قضية أفغانستان من خلال بروج عاجية، ومن وراء مكاتب فخمة -هكذا يحدث- يتكلمون تحت المكيفات، وفي الأجواء الآمنة، والأمر كما كان يقول المتنبي:

وسير الروم خلف ظهرك رومٌ     فانظر على أي جانبيك تميلُ

ما الذي حوله تدار المنايا     فالذي حوله تدار الشمولُ

أمامك عدو وخلفك عدو، وعن يمينك عدو، وعن يسارك عدو، هذا وضع إخواننا المجاهدين، لا أقول في أفغانستان، بل في كل مكان، وسواء كان جهادهم بالسيف والسنان، أو كان جهادهم بالقلم والبيان، أو كان جهادهم بأي وسيلة من وسائل الجهاد، وليس الذي يواجه العدو ويكون في نحره وفي مواجهته في الميدان، كالذي ينام ملء جفنيه، ويكبر الوسادة، ويبدأ ينتقد ويقول: وهذا صواب وهذا خطأ.

وإنني لأعلم ناساً من الناس، وأرجو الله تعالى أن لا نكون منهم، هم على الآرائك متكئون، وللشاي والقهوة يشربون، ولأخطاء إخوانهم المسلمين يتسقطون، وعن زلاتهم يبحثون، ولعيوبهم يتصيدون، فإذا وقعوا عليها فإنهم يسرون بها ويفرحون، ويغدون بها ويروحون، ويشيرون بها ويلوحون، وكأنما عثروا على كنـزٍ ثمين، أو على نصرٍ مبين!!

فهذه مصيبة كبرى، أن ينفصل المسلم القاعد عن المسلم المجاهد، ولكن هذا لا يمنعني أبداً -أيها الإخوة- أن أؤكد على قضية مقابل هذا، وهي أن الإنسان البعيد، متى ما كان معك بعواطفه وقبله وعقله وإخلاصه وصدقه، فهو -في كثير من الأحيان- قد يكون أقدر ممن يواجه المشكلة على النظر الصحيح، والتفكير المعتدل المتزن البعيد عن العواطف، فإن زمام العواطف إذا انفلت -أحياناً- عطل العقل وأبطل مفعوله، فأصبح الإنسان يتحرك بعاطفة وانفعال وجو مشحون متوتر لا يمكنه من التفكير الهادئ، لأنه يخضع لردود فعل وأوضاع وأحوال ومشكلات، ومصائب يواجهها أولاً بأول، لكن الإنسان البعيد الذي لا يوجد هذا التأثر في نفسه، يستطيع أن يستخدم عقله -في كثير من الأحيان- بصورة أصح وأجدر وأجدى.

ولذلك أقول: لا مانع أبداً أن يكون من المسلمين من يقاتل، ومنهم من يفكر لهؤلاء المقاتلين، ولا أقول: يفكر بالنيابة عنهم! لا، ولكنهم يفكرون معاً، بمعنى: أنه إذا لم تستطع أن تكون مقاتلاً بسيفك، أو بقلمك، أو بلسانك، أو بمالك، فلا أقل من أن تكون مقاتلاً بعقلك وفكرك، فترسم الطريق للناس، وتبين الوجهة السليمة، وتبين الصواب، وتحاول أن تصحح، تحاول أن توجه، تبذل ما تستطيع ولو بمشاركتك الذهنية والفكرية، وهذه القضية ليست سهلة، فأعتقد أن الذي يستطيع أن يخطط للمسلمين، لا يقل أهمية عمن يستطيع أن ينفذ، بل إن الذين يستطيعون أن ينفذوا كثيرون جداً، ولكن الذين يستطيعون أن يرسموا الطريق ويرسموا الخطة، هم أقل من القليل.

الشيخ جميل الرحمن رحمه الله هو زعيم جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة في أفغانستان، وهي إحدى الجماعات المجاهدة في تلك البلاد، والتي تلتزم بالمنهج السلفي الأصيل، في الأصول والفروع، ولهذه الجماعة نشاطٌ طيب في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وتصحيح مفاهيم الناس، ودعوتهم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن لها جهداً طيباً مبروراً إن شاء الله في مجال المشاركة في الجهاد، ومقارعة الظالمين، وكانت ولاية كونر، إحدى الولايات الأفغانية تحت حكم هذه الجماعة، وقد أبلت فيها بلاءً طيباً، في نشر العقيدة الصحيحة، ومقاومة البدعة والخرافة، وإزالة آثار المنكرات من الخمور والمخدرات، وقطع الطرق وغيرها، واستتباب الأمن.

وإن فقد رجلٍ في منـزلة الشيخ جميل الرحمن، مما يؤسف كل مسلم عرفه وجلس إليه، وعرف قدر الرجل، فنقول تعليقاً على ذلك، بقلوب نرجو الله تعالى أن تكون قلوباً مؤمنةً صابرةً محتسبة، نقول لكل مجروح: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى.

ونقول وفاءً ببعض حق هذا الرجل: اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين.

اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه، اللهم اقبله في الشهداء يا حي يا قيوم، اللهم اخلف للمسلمين خيراً منه، اللهم اجعله في جناتٍ ونهر في مقعد صدقٍ عند ملكٍ مقتدر.

أما ذلك القاتل فإنه باء بشر وخيبة، فإنه بعد أن أجهز على الشيخ هم بالهرب، فحين رأى أنه مأخوذٌُ رجع إلى نفسه فقتلها، نسأل الله حسن الخاتمة، والسلامة والمعافاة من أسباب سخطه وعقابه، وإنه لأمرٌ يؤرق الضمير ويقلق القلب ويحز في النفس، ويثير الأحزان والأشجان والمشاعر، أن يحدث أمرٌ كهذا.

ولستُ بقاتلٍ رجلاً يُصلي     على سلطان آخر من قريشٍ

أأقتل مُسلماً في غير جرمٍ     فليس بنافعي ما عشتُ عيشي

له سلطانه وعليَّ إثمي     معاذ الله من سفهٍ وَطيشِ

إن هذا الحدث يؤكد أنه يأتي في فترة حرجة من تاريخ الجهاد الأفغاني، خاصةً أنه كان هذا الحدث في فترة كاد أن ينفذ فيها صبر الكثيرين، وهم يتطلعون إلى الأخبار في إسقاط كابول، والمدن الكبرى التي لا زالت تحت هيمنة الكفر الشيوعي في أفغانستان.

كما أنه يأتي في ظل صراعٍ عسكريٍ دامي حول ولاية كونر، نقلته وكالات الأنباء والصحافة، شرقيها وغربيها، عربيها وأعجميها، وذهب ضحية ذلك الصراع عشرات وربما مئات النفوس، فإنا لله وإنا إليه راجعوان.

إنني إذ أبشر محبي الشيخ رحمه الله بهذه الخاتمة الحسنة، وهي أننا نرجو الله تعالى له أن يكون شهيداً في سبيله، وقد مات في يوم الجمعة، وقد جاءت بعض الآثار في فضل الموت في ليلة الجمعة ويومها، في مقابل النهاية اليائسة لذلك القاتل، وقد جاء في الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {كان فيمن كان قبلكم رجلٌ كان به جرحٌ فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فلم يرقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة} وأما لسان حاله، وهو يسدد تلك الضربات إلى رأس الشيخ، فهو كذلك الذي قتل رجلاً من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو محمد بن طلحة، الذي كان يسمى بـالسجاد، فلما ذكره بالله عز وجل، سدد إليه السهم وقتله وهو يقول:

وأشعث قوامٍ بآيات ربه     قليل الأذى فيما يرى الناس مُسلمِ

شككت إليه بالسهام قميصه     فخر صريعاً لليدين وللفم

على غير شيءٍ غير أن ليس تابعاً     فلاناً ومن لا يتبع الحق يندمِ

يذكرني "حم" والرمح شاجرٌ     فهّلا تلا "حم" قبل التقدمِ

إنني مع ذلك كله -أيها الأحبة- ومع هذه الأخبار المؤلمة التي أرقت قلوب المؤمنين، وجعلتهم لا يهنئون بعيشهم إلا أننا -مع ذلك كله- نبقى متفائلين بحمد الله، واثقين بنصره، مدركين حسن العاقبة للمؤمنين المجاهدين، طال الزمن أم قصر، فإننا على يقينٍ من ربنا عز وجل لا شك عندنا فيه.

ومما يؤكد هذا التفاؤل أن وفوداً كثيرةً من الإخوان العرب ومن غيرهم، قد سعت للصلح بين الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، والذي يحاصر كونر ويحتل أكثرها، وبين جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة التي كان يتزعمها الشيخ جميل الرحمن، رحمه الله تعالى.

وهذه الوفود قبل بها كل الأطراف، وبدأت تمارس مهماتها، وانتهت إلى توقف إطلاق النار نهائياً أو بشكل تقريبي، وكذلك اتفقت على حل المشكلات والقضايا المتنازع عليها، عن طريق الحوار والمفاوضة والمجالس المشتركة، وهذا هو الأصل، فإنني أعتقد أنه ليس من مصلحة المسلمين أن يتعاملوا مع من يخالفهم من خلال السلاح والقوة، وليس من المصلحة -في كل حال وفي هذه الظروف بشكلٍ خاص- أن تعود سهام المسلمين إلى صدورهم، كما أنه ليس من الاحترام أن تتعامل مع من تخالفه بالتهم التي تلصقها به، كما نجد الكثيرين ممن يقولون: هؤلاء عملاء لهذه الجهة أو لتلك الجهة، أو أنه بثهم الاستعمار أو بثهم الشرق أو الغرب.

فليس من المصلحة أن نتعامل بأساليب الاتهامات المتبادلة، ولا أن يتم التعامل عن طريق استخدام القوة في حل المشكلات، فأمام المسلمين آفاق واسعة للحوار والأخذ والعطاء، والاتفاق على القضايا المختلف فيها، كما أن أمام المسلمين ميادين واسعة لقتال عدوهم، ويكفي أن المسلمين محاصرون في كل بلادٍ يرفعون فيها راية القتال والجهاد، وأن عدوهم أقوى منهم وأكثر عدداً وعدة، وأنه مدعومٌ من قوى شرقية وغربية، فجديرٌ بالمسلمين أن يتناسوا كل ما يمكن تناسيه من الخلافات، أو يؤجلوا ما يمكن تأجيله، وعلى أقل تقدير -إن لم يكن بينهم تناصرٌ وتعاملٌ- فلا أقل من أن يكون بينهم تنسيقٌ يحقن الدماء، ويوجه أفواه البندقيات والمدافع إلى صدور الأعداء.

إنها مأساة، نسأل الله تعالى أن يكفي المسلم شرها ويطفئها، وإن العدو ليفرح بمثل هذه الأخبار التي ينـزعج لها كل مسلم ومسلمة، وإنني أُحَذِّر نفسي وإخواني في كل مكان، من التهاون بالدماء -دماء المسلمين- فإن الله عز وجل يقول في محكم تنـزيله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93] وهذا وعيدٌ شديد، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء}.

وفي حديث أبي بكرة المتفق عليه -أيضاً- يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {أيها الناس! أي شهرٍ هذا؟

أي يومٍ هذا؟

أي بلدٍ هذا؟

ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن دماءكم، وأعراضكم وأموالكم، عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟

فلا ترجعوا بعدي ضلالاً -وفي رواية: كفاراً- يضرب بعضكم رقاب بعض}.

وفي الصحيح -أيضاً- من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية إلى الحرقات من جهينة، فكان رجلٌ يقتل في المسلمين ويضرب، ولا يدع شاذه ولا فاذة إلا عرض لها، فلما رفع عليه أحد المسلمين السيف لاذ بشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فرفع عليه أسامة السيف فقتله، فلما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخبروه، فدعاه وقال له: {يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!

قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً. خوفاً من السيف، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!

قال: استغفر لي يا رسول الله، قال: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!

فما زال يكررها، يقول أسامة: حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ}.

دم المسلم غالي عند الله عز وجل، وإنها لكارثة كبرى أن يتهاون الناس في دماء المسلمين، على سبيل التأويل، وعلى سبيل التمحل، وعلى سبيل الإغراق في بعض الأفكار وبعض التصورات، ونحن نعلم أن دماء المسلمين استحلت في أماكن كثيرة، وفي بلادٍ كثيرة، وعبر قرون من التاريخ.

استحلت عن طريق التأويل، أي أن يقتله وهو يعتقد أنه بذلك يخدم الإسلام، وأنه يزيل عقبة من طريق الدعوة إلى الله، ومن طريق انتصار المسلمين وتغلبهم على عدوهم، لكن ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه برادع الخوف والوجل من الله عز وجل، أن يوقف بين يدي الله تعالى موقفاً صعباً، فيسأل فيه عن محجمة دم أراقها بغير حق، فلا يكون عنده جوابٌ حينئذٍ.

أحبتي الكرام: أسئلة كثيرة وكثيرة تدور حول قضية أفغانستان، وما موقفنا؟

وماذا نصنع؟

وما الذي جرى؟

وما الذي حدث؟

تساؤلات لا يأتي عليها الحصر، وأصدقكم القول منذ البداية أنه لن يكون موضوع حديثي هو الكلام عن قضية أفغانستان، وإن كانت هذه القضية تحتاج ليس إلى درس أو محاضرة أو جلسة فقط وقد سبق أن أشرت في أكثر من مناسبة، إلى أن قضية أفغانستان قضية كبرى في واقع المسلمين، وإذا عددت القضايا الكبرى التي شغلت المسلمين عبر سنين طويلة، فإن قضية أفغانستان تأتي في مقدمتها، مع مجموعة من القضايا الأخرى، كقضية فلسطين أو غيرها من القضايا المهمة.

ومن حق هذه القضية الكبيرة علينا؛ أن نعطيها بعض وقتنا وبعض جهدنا، وتفكيرنا، وأن تنعقد المؤتمرات والجلسات والندوات لمعالجة هذه القضية، والبحث في كل ما يتعلق بها من قريبٍ أو بعيد، ألا تعتقدون -أيها الأحبة- أن قضية بُذِلَ في سبيلها ما يزيد على مليون وخمسمائة ألف ممن نرجو الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله، ألا تستحق منا أن ندرسها؟!

قضية بذل في سبيلها مليارات الأموال، التي تعادل ميزانيات دول بأكملها! ألا تستحق أن ندرسها، ونستفيد منها العبر والدروس، ونعتبرها معلماً في تاريخ الدعوة وفي تاريخ الجهاد؟

أقل حق لهؤلاء القتلى الذين نرجو الله تعالى أن يكونوا شهداء، ولهذه الأموال الهائلة، الطائلة، ولهذه الجهود والدموع والدماء والعرق والسهر، والزمن الطويل الذي بذلناه، والتشريد والتطريد والهجرة، أقل حق لهذه التضحيات الجسيمة التي بذلناه نحن المسلمين؛ هو أن نعقد جلسات ودروس ومحاضرات، بل ومؤتمرات وحلقات للنقاش؛ لنأخذ الدروس والعبر، ونستفيد ونستلهم من هذه المواقف الكبيرة لحاضرنا ومستقبلنا هذا أقل حقٍ لهذه الجهود الكبيرة علينا، أما إذا تجاهلنا ذلك وتعامينا عنه، فمعناه أننا لم نقدر هذه القضية حق قدرها.

إنني لن أعالج هذا الموضوع في هذه الجلسة أبداً، ولكن الشيء الذي سأعالجه هو: طريقة تعاملنا نحن المسلمين، الذين نعتبر متعاطفين مع القضايا الإسلامية، نعتبر متعاطفين مع قضية أفغانستان، ومع قضية فلسطين، ومع قضية المسلمين في الفلبين، أو قضية المسلمين في أي بلدٍ إسلامي ترفع للإسلام فيه راية، ويقام للإسلام فيه دعوة، ويواجه المسلمون فيه عدواً، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، أو شيوعياً، أو علمانياً، أو أي لونٍ كان.

طريقة معالجتنا نحن المتعاطفين مع قضايا المسلمين، تحتاج إلى معالجة إلى مراجعة، لدينا في الواقع خلل كبير، يتطلب النظر والمراجعة، كيف نستطيع خدمة قضايانا الإسلامية؟

أفغانستان وغير أفغانستان، كيف نستطيع أن نخدمها بالطريقة الصحيحة التي تجعلنا نكسب ثقة الناس الذين نتحدث معهم ونخاطبهم، وتجعلنا نستطيع أن نربط الناس بهذه القضايا الإسلامية ربطاً صحيحاً؟

ليس ربطاً مؤقتاً أو عارضاً أو عاطفياً سرعان ما ينفك وينتهي، من أدنى خبر يمكن أن ينتشر أو ينتقل أو يشاع، وإنما هو ربطٌ صحيح دقيق معتدل منصف، لا تؤثر فيه العوادي والمؤثرات القريبة والبعيدة، ولا يستطيع أحد أن يقسم عرى هذا الترابط.

ولا شك -أيها الأحبة- أنه من السهل على أي إنسان أن يتكلم عن قضية أفغانستان أو عن غير قضية أفغانستان، يتكلم -كما يقال- كثيرٌ من الناس عن قضية أفغانستان من خلال بروج عاجية، ومن وراء مكاتب فخمة -هكذا يحدث- يتكلمون تحت المكيفات، وفي الأجواء الآمنة، والأمر كما كان يقول المتنبي:

وسير الروم خلف ظهرك رومٌ     فانظر على أي جانبيك تميلُ

ما الذي حوله تدار المنايا     فالذي حوله تدار الشمولُ

أمامك عدو وخلفك عدو، وعن يمينك عدو، وعن يسارك عدو، هذا وضع إخواننا المجاهدين، لا أقول في أفغانستان، بل في كل مكان، وسواء كان جهادهم بالسيف والسنان، أو كان جهادهم بالقلم والبيان، أو كان جهادهم بأي وسيلة من وسائل الجهاد، وليس الذي يواجه العدو ويكون في نحره وفي مواجهته في الميدان، كالذي ينام ملء جفنيه، ويكبر الوسادة، ويبدأ ينتقد ويقول: وهذا صواب وهذا خطأ.

وإنني لأعلم ناساً من الناس، وأرجو الله تعالى أن لا نكون منهم، هم على الآرائك متكئون، وللشاي والقهوة يشربون، ولأخطاء إخوانهم المسلمين يتسقطون، وعن زلاتهم يبحثون، ولعيوبهم يتصيدون، فإذا وقعوا عليها فإنهم يسرون بها ويفرحون، ويغدون بها ويروحون، ويشيرون بها ويلوحون، وكأنما عثروا على كنـزٍ ثمين، أو على نصرٍ مبين!!

فهذه مصيبة كبرى، أن ينفصل المسلم القاعد عن المسلم المجاهد، ولكن هذا لا يمنعني أبداً -أيها الإخوة- أن أؤكد على قضية مقابل هذا، وهي أن الإنسان البعيد، متى ما كان معك بعواطفه وقبله وعقله وإخلاصه وصدقه، فهو -في كثير من الأحيان- قد يكون أقدر ممن يواجه المشكلة على النظر الصحيح، والتفكير المعتدل المتزن البعيد عن العواطف، فإن زمام العواطف إذا انفلت -أحياناً- عطل العقل وأبطل مفعوله، فأصبح الإنسان يتحرك بعاطفة وانفعال وجو مشحون متوتر لا يمكنه من التفكير الهادئ، لأنه يخضع لردود فعل وأوضاع وأحوال ومشكلات، ومصائب يواجهها أولاً بأول، لكن الإنسان البعيد الذي لا يوجد هذا التأثر في نفسه، يستطيع أن يستخدم عقله -في كثير من الأحيان- بصورة أصح وأجدر وأجدى.

ولذلك أقول: لا مانع أبداً أن يكون من المسلمين من يقاتل، ومنهم من يفكر لهؤلاء المقاتلين، ولا أقول: يفكر بالنيابة عنهم! لا، ولكنهم يفكرون معاً، بمعنى: أنه إذا لم تستطع أن تكون مقاتلاً بسيفك، أو بقلمك، أو بلسانك، أو بمالك، فلا أقل من أن تكون مقاتلاً بعقلك وفكرك، فترسم الطريق للناس، وتبين الوجهة السليمة، وتبين الصواب، وتحاول أن تصحح، تحاول أن توجه، تبذل ما تستطيع ولو بمشاركتك الذهنية والفكرية، وهذه القضية ليست سهلة، فأعتقد أن الذي يستطيع أن يخطط للمسلمين، لا يقل أهمية عمن يستطيع أن ينفذ، بل إن الذين يستطيعون أن ينفذوا كثيرون جداً، ولكن الذين يستطيعون أن يرسموا الطريق ويرسموا الخطة، هم أقل من القليل.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع