شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [40]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث الجن، ألا وهو صلة الجن بالإنس، وصلة الإنس بالجن. صلتنا بهم وصلتهم بنا، وقلت: هذا المبحث يقوم على أربعة أمور كما تقدم الكلام على ذلك مراراً:

أولها: في حكم الاستعانة بهم.

وثانيها: في حكم المناكحة بيننا وبينهم.

وثالثها: في مس الجن للإنس.

ورابعها: في تحصن الإنس من الجن.

والمبحث الثالث -إخوتي الكرام- نحن على وشك الانتهاء منه، وهو: مس الجن للإنس، وقد تقدم معنا أنهم يصيبون بني آدم بالصرع، وقد يعتدون عليه بالخطف، وقد يحصل منهم وخز لبني آدم فيتسبب مرض الطاعون الذي يؤدي إلى وفاة الإنسان، فتقدم معنا هذا الأمر، وأن الطاعون هو وخز الجن، وبينت هذا بالأحاديث الصحيحة الكثيرة.

ثم تكلمنا أيضاً وتدارسنا مبحث الطاعون ضمن أربعة أمور:

أولها: في تعريف الطاعون وأعراضه.

وثانيها: في فضل الإصابة بالطاعون.

وثالثها: في أسباب الإصابة بالطاعون.

ورابعها وهو ما تدارسناه في الموعظة الماضية: في أدب نبوي ينبغي أن نحرص عليه عند وجود الطاعون في بلدة، فيما يتعلق بالخروج من تلك البلدة، وفيما يتعلق بالدخول إليها.

وآخر ما تكلمت عليه في هذا الأمر: بيان الحكمة من النهي عن الخروج من البلدة التي ينتشر فيها الطاعون، وبينت سبع حكم في ذلك، وبقي علينا أن نتدارس الحكم من منع الدخول إلى البلد الذي ينتشر فيه الطاعون.

ذكر الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه زاد المعاد في هدي نبينا خير العباد عليه الصلاة والسلام، في الجزء الرابع صفحة أربع وأربعين، ذكر خمس حكم لذلك، أي: في المنع من الدخول إلى البلدة التي ينتشر فيها الطاعون.

أولها: لتجنب الأسباب المؤذية، وقد تقدم معنا أن الطاعون وخز الجن، ويظهر له بعد ذلك أعراض من انتفاخ في بدن الإنسان، وعفونة في الرائحة.. ونحو ذلك، فأنت سلم نفسك من مباشرة هذا، ومن رؤيته، بما أنه لم يقدر عليك وأنت بعيد عنه، فحصن نفسك منه، وتجنب الأسباب المؤذية.

الحكمة الثانية: الأخذ بالعافية، فالعافية هي مادة المعاش في هذه الحياة وبعد الممات، فاطلب العافية لنفسك، واسأل الله جل وعلا السلامة من كل ضر وأذى، إذا كان شيء فيه ضر وأذى ابتعد عنه.

الحكمة الثالثة: أن لا يستنشق الإنسان الهواء الذي فيه عفونة عند ظهور مرض من الأمراض في بلد من البلاد.

الحكمة الرابعة: ألا يجاور المرضى؛ لأنه قد يحصل له من جنس ما يحصل لهم بتقدير الله لا عن طريق العدوى، كما سيأتينا، وسأختم الكلام في أمر العدوى على هذا الأمر إن شاء الله.

وآخر الحِكم: أن يحصن الإنسان نفسه من الطيرة التي نهينا عنها، فقد يدخل البلد التي ينتشر فيها الطاعون فيصاب بتقدير الله بمرض الطاعون، فيقول: لو لم أدخل لما أصبت، وهذا كلام لغو باطل لا حقيقة له، وهو من الطيرة والتشاؤم، ودخل في باب (اللو) التي نهينا عنها، فليحصن الإنسان نفسه من البداية فلا يدخل، يستريح ويريح نفسه، وكفى الله المؤمنين القتال.

هذا إخوتي الكرام فيما يتعلق بهذا الأدب النبوي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

أما الموضوع الذي سنتدارسه في هذا اليوم فهو في أمر العدوى، وقد وردت أحاديث كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام تنفي العدوى، وأنه لا عدوى، ولا يعدي شيء شيئاً، ووردت أحاديث أخرى ظاهرها يفيد إثبات العدوى، هذه القضية لا بد من أن نتدارسها في هذا اليوم لننتقل بعد ذلك إلى الأمر الرابع من المبحث الثالث، ألا وهو تحصن الإنس من الجن بإذن الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! قبل أن أدخل في هذا الموضوع بعض الإخوة قدم سؤالاً، يقول: نرجو بيان الدليل على عدم جواز الخروج عن المذاهب الأربعة لقول مجتهد من المجتهدين من غير أصحاب المذاهب، وهل الحق في المذاهب الأربعة فقط؟

نقول: تقدم معنا مراراً أن الحجة في كتاب الله، وحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، حسبما فهم سلفنا الكرام، هذه الأمور الثلاثة انحصرت في المذاهب الأربعة، لا يوجد قول حق وصحيح خرج عن المذاهب الأربعة حتى نقول: إن الحق لا يوجد في المذاهب الأربعة، لا توجد مسألة من المسائل في المذاهب الأربعة إلا وعليها دليل من الكتاب والسنة وقال بها أحد من سلف الأمة.

نقول: هات مسألة ليست في المذاهب الأربعة، وأنت تقررها بآية وحديث وقول إمام من سلفنا الكرام، فإن وجد هذا الأمر فعلى العين والرأس، وإذا تبين أنك على وهم، فالحق إذاً في هذه المذاهب، وهذه المذاهب ليست أربعة مذاهب لأربعة أئمة، بل هي أربعة مذاهب للأمة، فـأبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه ما أسس هذا المذهب بمفرده، فلا هو ولا غيره يستطيع أن يستنبط هذه الأحكام بمفرده، وهكذا الشافعي ، وهكذا الإمام أحمد ، وهكذا الإمام مالك ، هذه مدرسة كاملة متكاملة على مراحل عدة قرون، يحقق المذهب وينقح من قبل أهل الخبرة والتحقيق والديانة والصلاح والإمامة، فمذهب الإمام الشافعي ليس أقوالاً قررها الإمام الشافعي وانتهى ونكتفي بها، بل جاء بعد الشافعي أئمة كرام في درجة الإمام الشافعي ، يلتزمون بمذهبه وبنهجه ويقررونه، فإذا وجد شيء أحياناً يخالف فيقولون: هذا مرجوح، وإن احتمله الدليل، والراجح كذا، في مسائل كثيرة مقررة عند الأئمة.

شذوذ من يخرج عن المذاهب الأربعة

فإذا كان السائل عنده مسألة في هذا الوقت أو في غيره، فأنا مستعد أن نبحث معه، يأتينا بمسألة خرجت عن المذاهب الأربعة والدليل معها، هذا -إخوتي الكرام- لا بد من وعيه، أن نكون على بينة من الأمر، وتقدم معنا مراراً: أن الذين خرجوا إما أن يوافقوا المذاهب الأربعة في بعض الأقوال ويقولون: نحن لا نلتزم بها، شاءوا أم أبوا، وإما أن يشذوا ويأتوا بأقوال ما أنزل الله بها من سلطان، كشذوذ ابن حزم الذي من الحزم ألا تتبع ابن حزم ، مثلاً: في بحث المفطرات قال قولاً لم يسبق إليه، ما سبقه إليه لا إنس ولا جن في موضوع المفطر، قال: كل معصية تفطر الصائم، فلو نظر إلى حرام فقد أفطر، لكن ما عليه القضاء، أفطر وما عليه القضاء! ثم بعد ذلك قال: لو قدر أن الإنسان أفطر بشيء من المفطرات فلا قضاء عليه إلا إذا أفطر بالجماع، وإلا إذا أفطر بعذر كما لو كان مريضاً أو مسافراً أو ممن رخص لهم، فهؤلاء يقضون، أما من عداهم فلا يقضي وإن أفطر.

وهذا الكلام خارج عن المذاهب الأربعة، لكن هل هو حق أو لا؟ هذا يحتاج إلى بحث، قال أئمتنا باختصار كما ناقشه الإمام ابن رجب الحنبلي فقال له: ما نهي عنه الصائم ينقسم إلى قسمين: ما نهي عنه لخصوص الصوم فيبطل صومه إذا فعله، ما نهي عنه مطلقاً سواء كان صائماً أو غير صائم، من نظر محرم.. من غيبة.. من كذب.. هذا لا يبطل الصوم، وليس معناه أنه مباح له، وإذا كان خارج الصوم منهياً عنه فهو في الصوم أشنع وأشد، وهو عند الله ككلب جائع، لكن ليس معنى ذلك أنه أفطر وما عليه قضاء.

وعند ابن حزم أنه لو زنى لو لاط أفطر وما عليه القضاء ولا الكفارة، قال: لأن هذه معصية، ولو باشر زوجته فعليه كفارة، فهذا فقه هذا الإمام، ومع ذلك من كانت عنده أهلية العلم كالإمام ابن حزم فنلتمس له عذراً، ونرد قوله، ونستغفر له، ونقول: يستحيل أن نأخذ قولك ونترك أقوال أئمتنا، لكن نحن نرد عليك لأنك تتهجم على أئمتنا فقط، أم أنه لك أن تجتهد فحتماً أنت مطالب إذا كنت إماماً أن تفهم على حسب ما يؤديك إليه الدليل، فأنت مثاب عند الله جل وعلا، أو تثاب أكثر من الأئمة، هذا لا يحكم فيه إلا رب العالمين، لكن يستحيل أن نأخذ بقولك ونترك أقوال أئمتنا.

إذاً: المذاهب الأربعة هي كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، حسبما فهم سلفنا، فانحصرت هذه الأمور في مذاهب أئمتنا، ومن كان عنده إشكال في هذا فليأتنا بمسائل لننظر فيها ونتناقش، لا يأتينا بكلام نظري، بل نريد مسألة حتى نقول: هذه موجودة في المذاهب الأربعة أم لا؟ لا تأتينا بكلام: ما الحكم وما الدليل؟ هذا كلام لا ينتهي، وهذه هي المجادلة بالباطل، والمجادلة التي لا توصل إلى نتيجة.

وهذا كما هو حال الألباني في مقدمة كتاب صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: الأئمة كانوا ينهون أتباعهم عن تقليدهم، فـأبو حنيفة يقول: يا يعقوب -وهو أبو يوسف - لا تأخذ بقولي، فإنني أقول القول اليوم وأرجع عنه غداً، قلت: والله هذا المثال ينطبق على الألباني مائة بالمائة، فإنه يصحح الحديث اليوم ويرجع عنه غداً، ويضعف الحديث اليوم ويرجع عنه غداً، فإذا كان ذاك إمام وأخطأ في اجتهاده على تعبيرك، فأنت جئت وجعلت حديث خير العباد عليه الصلاة والسلام تبعاً لمادة بحث تبحثها وما تلقيت علماً عن أئمة، ولا التزمت بأقوال الأئمة، وجئت اليوم تقول: إن هذا ليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، ويوم آخر تقول: هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، حيرتنا! هذا ما قاله أبو حنيفة عليه رحمة الله، قال: هذا اجتهاد قد أرجع عنه، وأما أنت فتقول: هذا حديث صحيح، هذا حديث حسن، وبعد فترة تقول: لا، هذا حديث منكر.

أنت الآن حالك أشنع من ذلك الذي تقول عنه: لا يجوز أن نتبع أئمتنا فيه، يعني إذاً نتبعك ولا نتبع أئمتنا! كم من حديث صححه ثم حكم عليه بالنكارة والضعف! وكم من حديث ضعفه ثم قال: استبان لي أنه صحيح! وهو لو عرف قدره وقدر أئمتنا لكانت المسألة سهلة، هذا حال البشر، لكن كأنه يريد أن يقول: إن كلامي حق وصدق ومن عداي يخطئون ويصيبون، فيا عبد الله! أنت تخطئ وتصيب وتخلط أكثر مما يخلطون، وإذا كان لهم أحياناً استنباط قد يكون مرجوحاً، فأنت تأتي بشيئين متناقضين وتثبتهما، فأنت الآن في منتهى البعد عن الصواب، فهذا لا بد من وعيه إخوتي الكرام.

الخروج عن المذاهب الأربعة فتح باب التلاعب بالدين

وكل دعوة للخروج عن المذاهب الأربعة مؤداها التلاعب بدين الله جل وعلا، ليقول من شاء ما شاء، وانظر الآن للمجتهدين الذين لا يحصون، فقد وجد مفتي مصري في مصر، وقد توفي من فترة وقد أفضى إلى ما قدم، فقد أفتى بجواز صلاة المرأة بالمايوه على شاطئ البحر! ولها الحق أن تقصر وتجمع، تذهب لتسبح في البحر، وهي مشتغلة بالزنا والعربدة داخل البحر، ما عندها وقت لتصلي الصلاة في وقتها، فلها حق أن تجمع وتقصر، وتصلي بهذه الملابس! لماذا؟ قال: لأنه لا يوجد دليل على ستر جسم المرأة، هذا هو اجتهاده، خذ من مثل هذا ما لا حصر له.

نقل لي بعض الشيوخ هنا، أنه يوجد شريط تسجيل في مكتبة التسجيل في موضوع عروض التجارة هل فيها زكاة أم لا؟ وقال: إنه لا زكاة فيها، الذي يقول هذا أريد أن أعرف هل عنده عقل؟ إذا كنت تتاجر عندك عروض تجارة بالملابس بالأقمشة بالسكر بالرز بالتين بالتمر، وفلوسك كلها في هذه الأشياء، في العقارات، يقول: هذه ليس فيها زكاة، وعليه فيقول لأهل دول الخليج: تسع وتسعون بالمائة منهم ليس عليهم زكاة؛ لأنهم تجار، أموالهم في التجارة، من الذي عنده زروع الثمار في هذه الأيام، أو مواشي، أو أموال مدخرة؟ كلها في التجارات، قد يكون مع الواحد ما قيمته مئات الملايين من البضائع، هذه يقول: ليس عليها زكاة، هذا هو الفقه في هذه الأيام!

يقول: هذه المسألة قال بها الألباني ، وسبقه إليها ابن حزم ، وتبناها الألباني في هذا الوقت، والله لو علم بها الأغنياء لطاروا فرحاً، فهم في الأصل أكثرهم لا يزكي، والذي يزكي يتلاعب في الزكاة، والذي يزكي قلبه ينخلع ألماً وحزناً، أما لو علم بالفتوى هذه فسيقول: هذه فتوى رسمية ليس علينا زكاة في عروض التجارة.

بل وجد في هذا الوقت من يقول ما هو أشنع من ذلك، قال: هذه الفلوس من أولها إلى آخرها لا ربا فيها، لأنها ليست من النقدين، لا ذهب ولا فضة، فلا زكاة عليها، هذه ورقة مثل ورق الجرائد، هذه ليست ذهباً، إنما الزكاة في الذهب والفضة! وخذ من هذا الفقه الذي لا حصر له في هذه الأيام! هذا لما تركنا فهم أئمتنا وفقه أئمتنا صرنا نتعثر بظلنا.

فلابد أن تتقيد بقول مذهب ولا تخرج عن المذاهب الأربعة، فمثلاً: مسألة الهلال فيها ثلاثة أقوال، وكل قول مأخوذ من دليل ومقارنة، فإذا أخذت بما قاله أبو حنيفة ، أو الإمام مالك ، أو الشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، فلهم أدلة معتبرة، وأنت مخير بينها، طالب العلم -كما تقدم معنا مراراً- ينظر، يقول: هذا الذي يبدو لي أنه أقوى من حيث الدليل، وأحوط، هذا موضوع آخر، لكن ضمن دائرة الهدى.

المذاهب الأربعة عمدتها الكتاب والسنة والإجماع والقياس

وكما أقول دائماً: المذاهب الأربعة بركة عذبة، وما خرج عنها عذاب، إذا أردنا أن نعذب أنفسنا في الدنيا والآخرة فلنخرج، ولما خرج الناس ابتلوا، فالأخ السائل أنا لا أدعوه لاتباع أبي حنيفة ، ولا لاتباع الشافعي ، ولا لاتباع الإمام أحمد ، ولا لاتباع مالك ، مع أنهم أحق بأن يتبعوا من غيرهم، إنما أدعوه لفهم مقرر بكتاب وسنة حسبما فهم سلفنا الكرام الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولا يوجد مذهب من المذاهب الأربعة إلا وعمدتهم وأدلتهم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وإجماع، وقياس صحيح سوي، إذا كان عندك إشكال بعد ذلك يخالف هذا، فهات مسألة وقل: هذه في المذاهب الأربعة، وليس عليها دليل، لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قياس، وأنا عندي مسألة عليها دليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، حتى نجعلك إمام هذا الزمان ونترك أئمتنا الكرام، هذا الكلام نظري هذا لا ينتهي.

والأمة الإسلامية في هذه الأيام في عمى، ما واحد منا قرأ مختصراً من كتب الفقه فضلاً عن المطولات، والناس أعداء لما جهلوا، يريد أن يتعلم حديثين في العبادات ويصبح بعد ذلك مفتي الثقلين، ويكتب ويؤلف.

يا معشر المظلومين! متى صار الفقه الذي يعالج أمور الحياة من أولها لآخرها في رسالة أو رسالتين صغيرتين؟ هل البحث في قضيتين يشكل فقهاً؟ لكن عندما تبحث في فقه أئمتنا على أي مذهب تريد تبدأ من الطهارة والعبادات والمعاملات والأنكحة والحدود والجنايات.. وهكذا انتهت أمور الحياة من أولها إلى آخرها مرصوصة مرتبة بأحكام مأخوذة من أدلة شرعية، أما الآن فيأتي من ينشر إصدارين أو ثلاثة ويريد أن يجمع فقهاً للأمة الإسلامية! يا عبد الله هذه مضيعة، أتريد أن تضيع الأمة بذلك؟ دعهم يأخذوا صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام من كتب السنة ومن كتب أئمتنا، لا تأتي وتشغلهم بهذا وتقول: هذا هو الفقه، ثم تقول بعد ذلك: أبو حنيفة نهى عن تقليده والشافعي نهى عن تقليده، يعني أمرونا بتقليدك؟! أنا أريد أن أعلم عندما نهانا الشافعي عن تقليده هل قال: قلدوا الألباني أو قلدوا غيره؟

إخوتي الكرام! لا بد من وعي هذه القضية في هذا الزمان، يأتي شباب طيب ضائع فيغرر به ويقال له: يجب اتباع الكتاب والسنة! نعم يجب اتباع الكتاب والسنة، ولعنة الله على من يخرج عنهما، وعلى من لم يحتكم إليهما، لكن -يا أخي- لا يعني ذلك أن الكتاب والسنة مع هؤلاء وليست مع أئمتنا، إن أولى الناس بالكتاب والسنة هم أئمة الإسلام، سلف الأمة هم الذين انحصرت مفاهيمهم في هذه القضية.

إخوتي الكرام! آخر مبحث الآن معنا في توريث الغرقى والهدم بعضهم من بعض، المذاهب الأربعة عندما انقسموا على قولين في هذه المسألة، هل رأيتم قولاً من هذين القولين خرج عن أقوال سلف الأمة بدءاً من الصحابة إلى التابعين إلى أن استقرت الأقوال عندهم؟ هذا يقول: عمدتي من حيث الأدلة العامة كذا، الأصل أن الغرقى والهدم على قول الإمام أحمد الثاني رضي الله عنه وأرضاه أنهم أحياء فنورث بعضهم من بعض، وهذا لأصل ما نتركه لشك، ثم عندنا أدلة أخرى منقولة وآثار، والجمهور يقولون: عندنا هنا الشك في سبب استحقاق الغرقى والهدم ومن يموتون في موت جماعى، شك في حياتهم ولا توريث مع الشك، هذه قضية مستنبطة من أدلة شرعية، وعندنا آثار عن الصحابة الأبرار رضي الله عنهم أجمعين، هذه هي المسألة، هات لنا قولاً ثالثاً في المسألة، ماذا ستقول؟ وهذا الأمر في كل مسألة، لذلك لا يأتي إنسان ويدلس علينا ويقول: هذا صفة وضوء النبي عليه الصلاة والسلام.

يا أخي! ما يتكون الفقه وقضايا المسلمين لا بوضوء ولا بطهارة ولا بصلاة، عندنا فقه متكامل لجميع شئون الحياة، وهذا يعجز أن يقوم به فرد، أمة متكاملة تنقح وتحقق وتهذب وتستبين وتقرر حتى آل الأمر إلينا، وقلت مراراً: من أعظم معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الأمة فقه الفقهاء، هذه التي هي من أكبر معجزات خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، نكفر بها في هذه الأيام تحت ستار الاجتهاد وتقليد فلان وفلان من العباد!

فإخوتي الكرام! لا داعي لمثل هذا، ينبغي أن نعي هذا، وألا نقول: ما الدليل على ذلك؟ الدليل بالاستقراء، والاستقراء أعظم الأدلة برهاناً، لا توجد مسألة إلا ولها في المذاهب الأربعة حكم، ومستنبطة من الكتاب والسنة، عندك شيء يخرج عن هذا فهاته لنبحث معك. فلابد أن نكون على بينة من أمرنا، لأن التلبيس بالباطل في هذه الأيام قد صار شعاراً.

يذكر الإمام ابن الجوزي في كتابه الأذكياء: أنه جاء بعض السفهاء من حمقى اليهود الأمة الغضبية الذين لعنهم رب البرية، جاء على زعمه يريد أن يفتن المسلمين بتلبيس من الكلام، يأتي للعامة ويقول: أتؤمنون بني الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه؟ فيقولون: نعم، هذا نبي الله وكليمه، أتؤمنون بالتوراة وأنها حق؟ فيقولون: نؤمن، أنزلها الله على نبيه موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فيقول: إذن أجمع المسلمون واليهود على الإيمان بموسى والإيمان بالتوراة، لكن نحن معشر اليهود نكفر بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام، فدعونا على ما أجمعنا عليه واتركونا مما اختلفنا فيه.

هذا قد ينطلي على الناس السذج يخدع العامة بذلك، فكيف سنناظره؟! فقام شاب عمره خمس عشرة سنة ما نبت في وجهه لحية، فقال: أنا أناظرك فيما تقول، قال: أنت ستناظرني؟! هؤلاء رجال كبار ما أحد يرد علي من العامة، فاستخف قومه فأطاعوه، قال: أنت ستناظرني؟! قال: أنا أناظرك الآن، وإذا غلبتني فأنا أكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن، وإذا غلبتك فآمن بمحمد وبالقرآن، وأنه نبي الله حقاً وصدقاً كما آمنا نحن بموسى وبالتوراة، فقال اليهودي: أسألك أو تسألني؟ قال: اسأل أنت، ابدأ أنت، سل ماذا تريد؟ قال: أتؤمن بنبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟ قال: عن أي موسى تسأل؟ عن موسى بن عمران الذي بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، وأخبر عنه نبينا عليه الصلاة والسلام، فأنا أومن به، هذا رسول الله حقاً وصدقاً، وإذا كان سؤالك عن موسى الذي لم يبشر بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأمر باتباعه إذا ظهر، فهذا شيطان مريد أنا لا أؤمن به، فتمعر وجه اليهودي، لكن لعله يجد له مخرجاً، فذهب لقضية ثانية، وقال: أتؤمن بالتوراة؟ قال: عن أي توراة تسألني؟ عن التوراة التي أنزلها الله، وفيها البشارة بمحمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأنا أؤمن بها، فهي كلام الله، وأما إذا كان سؤالك عن التوراة التي ليس فيها البشارة بخير المخلوقات عليه الصلاة والسلام، فأنا كافر بها، هي من وساوس الشياطين، إذاً: هل اجتمعنا أم اختلفنا؟

فقال له اليهودي: أريد أن أكلمك فيما بيننا، فدخل معه إلى الحجرة فبدأ يسبه بأمه وأم من علمه باللفظ الصريح لا يكني، فيك كذا وكذا، في أمك كذا وكذا، لكن الشاب عنده عقل، فضبط نفسه، وقال: دعك من هذه السفاهة، هل عندك شيء آخر؟ قال: نخرج إلى الناس، فقال لهم هذا الشاب الحذر: أترون أنني غلبته وكسرته؟ قالوا: نعم أنت على الحق، وهو الآن مجادل بالباطل، قال: أتدرون ماذا قال لي هذا الخبيث؟ أدخلني إلى الحجرة وسبني وسب أمي وأم من علمني باللفظ الصريح لا يكني، يريد مني أن أضربه من أجل أن يضيع الحق وسط الضجيج، فدونكم هذا الخبيث، فافعلوا به ما تريدون، فقاموا عليه بالنعال وهو يهرب منهم. هذا حقيقة هو الحق.

فلا بد إخوتي الكرام! من أن نضع الأمر في موضعه السوي السديد الرشيد، أما التلبيس التلبيس فما أكثره، ونسأل الله أن يحسن ختامنا بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

تعليق على بعض أخطاء الألباني رحمه الله

ما كان في نيتي يعلم الله أن أثير هذا ولا أتكلم عنه، ويأتي عليه كلام إن شاء الله، وأضع الحق في نصابه حول حديث معجم الطبراني الأوسط، وكما تقدم معنا رواه أبو نعيم في الحلية من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين ) الألباني حسنه -كما تقدم معنا- في صحيح الجامع وقال: الحديث حسن، وأحاله على الأحاديث الصحيحة، وقلت لبعض الإخوة: أحضرها لي لأنها ليست عندي، فلما أحضر لي المجلد الخامس نظرت فيه وإذا به يقول: حديث حسن، وكتب حوله صفحة، ثم رجع بعد ذلك وقال: هذا حديث منكر، وأحضر لي بعض الإخوة بخط يده ثمان صفحات: أن هذا حديث منكر، وقال: أنا كنت أخطأت فيما قلته سابقاً، لكن فلان -ويقصدني- يقول: أخطأ عندما قال: إن الحديث صحيح.. وأنا عندما قلت: إن الحديث صحيح، ما صححت ولا ضعفت، أنا نقلت كلام الإمام الهيثمي ، وكلام أئمتنا في تصحيح الحديث، ورجال الحديث -كما سيأتينا- رجال الصحيح، فقد أحلت.

وكلامه الذي ذكره في ثمان صفحات نقف عنده إن شاء الله بعض الوقفات فيما يأتي، وأذكر لهذا نظائر من كلامه لنقف على بينة من الأمر، ولنرى الضجيج حول أئمتنا الذين يتهمونهم بأنهم يقولون القول ويرجعون عنه، من الذي يقول القول ويرجع عنه؟ من الذي كان يقول: إن الصلح مع اليهود لا يجوز؟ دعاة السلفية أم نحن؟ ولا أقصد -إخوتي الكرام- من السلفية السلف الصالح، أقصد من لهم حزب في هذه الأيام يسمون أنفسهم سلفية، حزب لكن اسمه سلفية، كانوا يقولون: لا يجوز، وأصدروا الفتيا تلو الفتيا، والاستنكار تلو الاستنكار لما حصل من بعض علماء مصر في إقرار الصلح، وآخر ما نطالعه في هذه الأيام أن الصلح مع إليهود جائز، وجائز جوازاً مطلقاً بغير قيد ولا شرط، وأي صلح يا إخوتي الكرام؟!

يا إخوتي الكرام! إن واضع صلح اليهود مع المسلمين، والمسلمين مع إليهود، لا يدخل تحت الموازين الشرعية، ولا باعتبار المناسبة، الصلح أن نضع الحرب بيننا وبينهم إذا كان هناك دولة إسلامية من أجل أن نتقوى لنوقفهم عند حدهم، هذا هو الصلح، أما أن تفتح سفارات، ودبلوماسيات ومعاونات ومساعدات، وبعد ذلك تطبيع علاقات على تعبيرهم، واليهودي يكرم كما يكرم النصراني، هذه لا بد من وعيها في بلدان المسلمين أكثر من المسلمين، واذهب الآن لأي بلد وانظر عندما يأتي أمريكي، أنت تقف في طرف الطابور، وذاك الأمريكي تضرب له التحية، وأبواب يدخلها من غير أن يوصد أمامه باب! هذا موجود إخوتي الكرام! هذا في بلاد المسلمين، أمريكي بريطاني، المقصود يحمل الجنسية النصرانية الملعونة، هذا مفتوح له كل باب، لكن يأتي مسلم يضرب هنا وهناك، واليهودي عما قريب ستجدونه هكذا في بلاد المسلمين، أنت صاحب اللحية ستوقف في المطار ويحقق معك، وقد يبصق على لحيتك، وذاك تضرب له التحيات، هذا صلح يقره دعاة سلفية! أنا أريد أن أعلم هل عندهم عقول عندما يبحثون في الواقع أم لا؟ في القضايا الشرعية؟

الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في مجموع الفتاوى في الجزء الثامن والعشرين في مجلد الجهاد، لعله في حدود صفحة خمسمائة وستين، يبحث من أراد أن يهادن أعداء الله، على تعبيرهم يجعل العلاقات بيننا وبينهم دون قيد وشرط، نتناسى بعد ذلك ما بيننا من جراحات، يقول: هذا بين ثلاثة أقسام: إما أنه كافر خبيث مثلهم يتظاهر بالإسلام، وإما أنه قال ما قال بواسطة ترغيب وترهيب، كما لو برطلوه أو رغبوه أو حذروه، فيه شيء وراء هذا، وإما أنه يجهل واقع المسلمين، يجهل ما يقول، أحد أمور ثلاثة، أما إنسان يأتي ويقول: العداوة انتهت وسفارات تفتح ونذهب نأخذ تأشيرات منهم، هذا ما يقول عن اليهود فقط عن الكل.

إخوتي الكرام! هذا كله ضلال والحياة تعيش في جاهلية، ونشكو أمرنا إلى رب البرية، أما أن تأتي تصدر فتوى شرعية في هذه أو في تلك، هذه ما فعلها أبو حنيفة ولا الشافعي ولا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه ضرب مائة سوط في عشرة أيام على أن يلي القضاء فما وليه، هذه ديانة أبي حنيفة ، وهذا ورعه، وهذه إمامته، وأما نحن فنسارع في هوى من يريد أن يجعل ديننا مطية لدنياه، وأشقى الناس من باع دينه بدنيا غيره.

ثم بعد ذلك ليتنا عرفنا حالنا وقلنا: إلى الله نشكو ضعفنا، بل نقول: المذاهب الأربعة هذه وثن طاغوت احذروها! يا عبد الله! قل هذا الكلام لو قلته في زمن هارون الرشيد أو في زمن السلطان عبد الحميد ، في دولة إسلامية يقال: لا بأس، يريد منا أن نرجع، لكن تقول هذا في أي وقت؟ في وقت خسرنا فيه الدنيا والآخرة، ضيعنا الدين والدنيا، وجئت أنت وما بقي عندك سلاح إلا وتتهجم به على أئمتنا فقط! المذاهب في الأصل مغيبة عن واقع الناس، فحتى الآن تريد أن تجهز عليها حتى من أذهان المسلمين، لأنه ما بقي لها عمل في الواقع.

إخوتي الكرام! هذا ما يتعلق بهذه المسألة، ولو وعينا ما نقول لما كررنا مثل هذا السؤال، ونسأل الله أن يلطف بأحوالنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

فإذا كان السائل عنده مسألة في هذا الوقت أو في غيره، فأنا مستعد أن نبحث معه، يأتينا بمسألة خرجت عن المذاهب الأربعة والدليل معها، هذا -إخوتي الكرام- لا بد من وعيه، أن نكون على بينة من الأمر، وتقدم معنا مراراً: أن الذين خرجوا إما أن يوافقوا المذاهب الأربعة في بعض الأقوال ويقولون: نحن لا نلتزم بها، شاءوا أم أبوا، وإما أن يشذوا ويأتوا بأقوال ما أنزل الله بها من سلطان، كشذوذ ابن حزم الذي من الحزم ألا تتبع ابن حزم ، مثلاً: في بحث المفطرات قال قولاً لم يسبق إليه، ما سبقه إليه لا إنس ولا جن في موضوع المفطر، قال: كل معصية تفطر الصائم، فلو نظر إلى حرام فقد أفطر، لكن ما عليه القضاء، أفطر وما عليه القضاء! ثم بعد ذلك قال: لو قدر أن الإنسان أفطر بشيء من المفطرات فلا قضاء عليه إلا إذا أفطر بالجماع، وإلا إذا أفطر بعذر كما لو كان مريضاً أو مسافراً أو ممن رخص لهم، فهؤلاء يقضون، أما من عداهم فلا يقضي وإن أفطر.

وهذا الكلام خارج عن المذاهب الأربعة، لكن هل هو حق أو لا؟ هذا يحتاج إلى بحث، قال أئمتنا باختصار كما ناقشه الإمام ابن رجب الحنبلي فقال له: ما نهي عنه الصائم ينقسم إلى قسمين: ما نهي عنه لخصوص الصوم فيبطل صومه إذا فعله، ما نهي عنه مطلقاً سواء كان صائماً أو غير صائم، من نظر محرم.. من غيبة.. من كذب.. هذا لا يبطل الصوم، وليس معناه أنه مباح له، وإذا كان خارج الصوم منهياً عنه فهو في الصوم أشنع وأشد، وهو عند الله ككلب جائع، لكن ليس معنى ذلك أنه أفطر وما عليه قضاء.

وعند ابن حزم أنه لو زنى لو لاط أفطر وما عليه القضاء ولا الكفارة، قال: لأن هذه معصية، ولو باشر زوجته فعليه كفارة، فهذا فقه هذا الإمام، ومع ذلك من كانت عنده أهلية العلم كالإمام ابن حزم فنلتمس له عذراً، ونرد قوله، ونستغفر له، ونقول: يستحيل أن نأخذ قولك ونترك أقوال أئمتنا، لكن نحن نرد عليك لأنك تتهجم على أئمتنا فقط، أم أنه لك أن تجتهد فحتماً أنت مطالب إذا كنت إماماً أن تفهم على حسب ما يؤديك إليه الدليل، فأنت مثاب عند الله جل وعلا، أو تثاب أكثر من الأئمة، هذا لا يحكم فيه إلا رب العالمين، لكن يستحيل أن نأخذ بقولك ونترك أقوال أئمتنا.

إذاً: المذاهب الأربعة هي كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، حسبما فهم سلفنا، فانحصرت هذه الأمور في مذاهب أئمتنا، ومن كان عنده إشكال في هذا فليأتنا بمسائل لننظر فيها ونتناقش، لا يأتينا بكلام نظري، بل نريد مسألة حتى نقول: هذه موجودة في المذاهب الأربعة أم لا؟ لا تأتينا بكلام: ما الحكم وما الدليل؟ هذا كلام لا ينتهي، وهذه هي المجادلة بالباطل، والمجادلة التي لا توصل إلى نتيجة.

وهذا كما هو حال الألباني في مقدمة كتاب صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: الأئمة كانوا ينهون أتباعهم عن تقليدهم، فـأبو حنيفة يقول: يا يعقوب -وهو أبو يوسف - لا تأخذ بقولي، فإنني أقول القول اليوم وأرجع عنه غداً، قلت: والله هذا المثال ينطبق على الألباني مائة بالمائة، فإنه يصحح الحديث اليوم ويرجع عنه غداً، ويضعف الحديث اليوم ويرجع عنه غداً، فإذا كان ذاك إمام وأخطأ في اجتهاده على تعبيرك، فأنت جئت وجعلت حديث خير العباد عليه الصلاة والسلام تبعاً لمادة بحث تبحثها وما تلقيت علماً عن أئمة، ولا التزمت بأقوال الأئمة، وجئت اليوم تقول: إن هذا ليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، ويوم آخر تقول: هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، حيرتنا! هذا ما قاله أبو حنيفة عليه رحمة الله، قال: هذا اجتهاد قد أرجع عنه، وأما أنت فتقول: هذا حديث صحيح، هذا حديث حسن، وبعد فترة تقول: لا، هذا حديث منكر.

أنت الآن حالك أشنع من ذلك الذي تقول عنه: لا يجوز أن نتبع أئمتنا فيه، يعني إذاً نتبعك ولا نتبع أئمتنا! كم من حديث صححه ثم حكم عليه بالنكارة والضعف! وكم من حديث ضعفه ثم قال: استبان لي أنه صحيح! وهو لو عرف قدره وقدر أئمتنا لكانت المسألة سهلة، هذا حال البشر، لكن كأنه يريد أن يقول: إن كلامي حق وصدق ومن عداي يخطئون ويصيبون، فيا عبد الله! أنت تخطئ وتصيب وتخلط أكثر مما يخلطون، وإذا كان لهم أحياناً استنباط قد يكون مرجوحاً، فأنت تأتي بشيئين متناقضين وتثبتهما، فأنت الآن في منتهى البعد عن الصواب، فهذا لا بد من وعيه إخوتي الكرام.

وكل دعوة للخروج عن المذاهب الأربعة مؤداها التلاعب بدين الله جل وعلا، ليقول من شاء ما شاء، وانظر الآن للمجتهدين الذين لا يحصون، فقد وجد مفتي مصري في مصر، وقد توفي من فترة وقد أفضى إلى ما قدم، فقد أفتى بجواز صلاة المرأة بالمايوه على شاطئ البحر! ولها الحق أن تقصر وتجمع، تذهب لتسبح في البحر، وهي مشتغلة بالزنا والعربدة داخل البحر، ما عندها وقت لتصلي الصلاة في وقتها، فلها حق أن تجمع وتقصر، وتصلي بهذه الملابس! لماذا؟ قال: لأنه لا يوجد دليل على ستر جسم المرأة، هذا هو اجتهاده، خذ من مثل هذا ما لا حصر له.

نقل لي بعض الشيوخ هنا، أنه يوجد شريط تسجيل في مكتبة التسجيل في موضوع عروض التجارة هل فيها زكاة أم لا؟ وقال: إنه لا زكاة فيها، الذي يقول هذا أريد أن أعرف هل عنده عقل؟ إذا كنت تتاجر عندك عروض تجارة بالملابس بالأقمشة بالسكر بالرز بالتين بالتمر، وفلوسك كلها في هذه الأشياء، في العقارات، يقول: هذه ليس فيها زكاة، وعليه فيقول لأهل دول الخليج: تسع وتسعون بالمائة منهم ليس عليهم زكاة؛ لأنهم تجار، أموالهم في التجارة، من الذي عنده زروع الثمار في هذه الأيام، أو مواشي، أو أموال مدخرة؟ كلها في التجارات، قد يكون مع الواحد ما قيمته مئات الملايين من البضائع، هذه يقول: ليس عليها زكاة، هذا هو الفقه في هذه الأيام!

يقول: هذه المسألة قال بها الألباني ، وسبقه إليها ابن حزم ، وتبناها الألباني في هذا الوقت، والله لو علم بها الأغنياء لطاروا فرحاً، فهم في الأصل أكثرهم لا يزكي، والذي يزكي يتلاعب في الزكاة، والذي يزكي قلبه ينخلع ألماً وحزناً، أما لو علم بالفتوى هذه فسيقول: هذه فتوى رسمية ليس علينا زكاة في عروض التجارة.

بل وجد في هذا الوقت من يقول ما هو أشنع من ذلك، قال: هذه الفلوس من أولها إلى آخرها لا ربا فيها، لأنها ليست من النقدين، لا ذهب ولا فضة، فلا زكاة عليها، هذه ورقة مثل ورق الجرائد، هذه ليست ذهباً، إنما الزكاة في الذهب والفضة! وخذ من هذا الفقه الذي لا حصر له في هذه الأيام! هذا لما تركنا فهم أئمتنا وفقه أئمتنا صرنا نتعثر بظلنا.

فلابد أن تتقيد بقول مذهب ولا تخرج عن المذاهب الأربعة، فمثلاً: مسألة الهلال فيها ثلاثة أقوال، وكل قول مأخوذ من دليل ومقارنة، فإذا أخذت بما قاله أبو حنيفة ، أو الإمام مالك ، أو الشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، فلهم أدلة معتبرة، وأنت مخير بينها، طالب العلم -كما تقدم معنا مراراً- ينظر، يقول: هذا الذي يبدو لي أنه أقوى من حيث الدليل، وأحوط، هذا موضوع آخر، لكن ضمن دائرة الهدى.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3903 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3783 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3783 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3412 استماع