واجب المسلمين أمام نعم الله


الحلقة مفرغة

بما أن القرآن نزل بلسان عربي، فلا يمكن فهمه بغير هذا اللسان، ومن فسره بغير هذا اللسان فقد جعل نفسه أضحوكة للعقلاء، كقول بيان بن سمعان أنه المقصود بقوه تعالى: (هذا بيان للناس) وغير ذلك مما يترفع الإنسان عن أن يسمعه فضلاً عن أن يقوله.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها الإخوة الكرام: أحمد الله تبارك وتعالى أولاً وهو أهل الحمد والثناء، وأشكره عز وجل وهو لذلك أهل، ثم أشكركم على أن أتحتم لنا هذه الفرصة لنذكر الله تبارك وتعالى، ونتذاكر فيما ينفعنا ويُقربنا إلى مرضاته عز وجل.

وما هذا بغريب عليكم، فهذه البلاد -ولله الحمد- مصدر ومهد للخير والإيمان، خرج منها صحابة كرام، وفاتحون، وعلماء عظام، وما تزال -بإذن الله تبارك وتعالى- منبعاً للخير ومصدراً للهدى، وما يدرينا فلعل في آخر هذه الأمة من يكون كأولها بإذن الله تبارك وتعالى، وما هذا الشباب الذي بدأ يُقبل على حفظ القرآن وتجويده وتلاوته آناء الليل وآناء النهار، وما هؤلاء الذين أخذوا يتخرجون من الجامعات وينشرون الدعوة في هذه المنطقة إلا بواكير الخير وبداياته.

فهذا هو الخير الذي نرجوه، ونحن إن جئنا من بعيد فإنما نأتي لنشارك في الخير والأجر، وإلا ففي هذه البلاد -ولله الحمد- من لديه من العلم والخير والدعوة والجهد الشيء الكثير الذي يفوق ما عندنا، ولكن المحبة في الله توجب التزاور والتذاكر، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين.

تعلمون أن الله تبارك وتعالى قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وكما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) فهو عز وجل كما قال -أيضاً- في نفس الحديث: (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).

فلا نستطيع أن ننفعه أو أن نضره، بل هو غني عن عبادتنا وطاعتنا مهما أطعناه، وكذلك لا تضره معصيتنا مهما عصيناه، فإن عصينا واستكبرنا وعاندنا وأبينا إلا أن نحيد عن أمر الله، فالخسارة والضرر علينا في الدنيا والآخرة، وإن آمنا بالله واتقيناه وأطعناه في كل أمر واجتنبنا ما نهى عنه فالخير لنا في الدنيا والآخرة.

نعمة الخلق

هذه قاعدة عظيمة يجب أن يعلمها عباد الله المتقون -جعلنا الله وإياكم منهم- أنه يجب على كل منا ألا ينسى وأن يتذكر دائماً أن ما أصابه من حسنة وخير فمن ربه، وأن ما أصابه من شر ونكد وشظف عيش وبلاء وأذىً فمن ذنبه، وقد قال ذلك رب العزة والجلال لأفضل خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].

ولو أن العبد تأمل ونظر كما أمره ربه عز وجل أن ينظر فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5]، فَلْيَنْظُرِ الإنسان إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24].

لو نظر في ذلك لعلم حقاً أن هذا ما قُرر وما قيل: إنه ما أصابه من خير فهو من ربه، وما أصابه من شر فهو بسبب ذنبه ومعصيته لله عز وجل.

وإلا فما هو هذا العبد؟ من أنت أيها المخلوق الضعيف إذ كنت صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، أميراً أو حقيراً عند الناس، غنياً أو فقيراً في دنيا الناس، من أنت؟!

أياً كان هذا الإنسان، ماذا لو نظر الإنسان مم خلق؟ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] من نطفة حقيرة قذرة، والآن يقول ويقرر الأطباء: إنه لم يخلق من النطفة كلها بل من جزء منها ضئيلٍ جداً لا يرى إلا بالمجاهر.

سبحان الله! هذا المتكبر على الله، المعرض عن كتاب الله، الذي لا يبالي بقال الله ولا قال رسول الله، ولا يبالي بما ارتكب من محارم الله، خُلِقَ من هذه النطفة الحقيرة.

سبحان الله! ومن الذي خلقه؟ ومن الذي جعله في قرار مكين؟ ومن الذي غذاه في ظلمات ثلاث في بطن أمه؟! وهو عز وجل ييسر له الغذاء وييسر له كل أسباب الحياة.

حتى إذا انقضى الأمر، وبلغ الأجل الذي قدَّره الله تبارك وتعالى، وجاء هذا المولود وخرج إلى هذا الوجود، هيأ الله تبارك وتعالى له أسباب الحياة الدنيا مما لم يكن ميسوراً له وهو في بطن أمه، ومما لم يكن محتاجاً إليه وهو في بطن أمه، والآن ينتقل إلى عالم جديد يحتاج فيه إلى الغذاء والهواء، ويحتاج فيه إلى من يرعاه ويحفظه ويحوطه برعاية مباشرة، يسر الله تبارك وتعالى له ذلك فهداه الله تعالى من الزيف.

يولد الطفل.. من الذي علمه؟ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل:78] علَّمه أن يرضع من هذا الثدي، ولو أن الله لم يُعلِّمه ذلك من يستطيع أن يعلمه من الناس أو من الأطباء؟!

لا يستطيع أحد أن يعلم المولود في يومه الأول، بل في عامه الأول فما بعد، إلا بعد حين أن يُعلَّمه شيئاً من الأمور.

ولكن الله تبارك وتعالى علَّمه وهداه أن يأخذ هذا الثدي وأن يتغذى به، وهذا الثدي قد هيئ فيه درجة حرارة معينة مناسبة، وبغذاء مناسب لمن ولد الآن، بخلاف إذا رضع منه الطفل في عامه الثاني.

فقد هيئ الله له في الحليب المواد التي تكفي وتغذي من قد عاش سنة فأكثر.

فسبحان الله! الذي يحوطه برعايته، ويحوطه بعنايته ويهيئ له في كل حالة وفي كل وقت ما يناسبه وما يلائمه مما يحتاج إليه هذا الإنسان.

من الذي جعل الأم تحوطك برعايتها وعنايتها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلا فبعد أن لقيت ما لقيت من الوحم ومن التعب أثناء الولادة ثم ما بعدها من مشاق عظيمة لألقتك وذهبت بعيداً وتركتك وتخلت عنك.

والمرأة هي من أغلظ الناس قلباً، وأخبثهم طباعاً وجلافةً، فإذا وُلد لها ولدٌ كانت من أحن الناس وأرقهم على هذا الولد، وإذا قيل لأي أم أعطينا هذا الولد لنذبحه، وخذي ما شئت من أموال الدنيا؟

والله لا تجدون أماً ترضى بهذا أبداً، سبحان الله العظيم! كيف نزلت هذه المحبة، من أين هبطت هذه الرحمة والشفقة على ذلك القلب الغليظ الجافي؟

من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكي يحوطك أيها الإنسان، ولكي تتربى وتتغذى في نعمه تبارك وتعالى، سخر لك الأب وسخر لك كل ما يعيشك.

نعمة الهداية

حتى هدايتك جعلها الله تبارك وتعالى ميسورة، ولم يتركنا الله تبارك وتعالى سُدى لا نؤمر ولا نُنهى، بل بعث إلينا رسولاً من أنفسنا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4] فمن رحمة الله تبارك وتعالى أن بعث في كل أمة رسولاً بلسان قومه ليبين لهم، وليعلمهم كيف يهتدون إلى طريق الله، وكيف ينعمون بالحياة المطمئنة الطيبة في الدنيا، ثم يلقون الله تبارك وتعالى فيدخلون دار كرامته حيث النعيم المقيم الأبدي.

فجعل الهداية -أيضاً- ميسورة لكل إنسان بما بعث الله به هؤلاء الرسل الكرام، وأفضلهم وخاتمهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنَّ الله تبارك وتعالى علينا بهذا الدين وبهذا الإيمان، ويسر لنا القرآن وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].

يسر لنا هذا القرآن، فإذا قرأناه أو سمعناه نجد هذه الرقة والعذوبة والمتعة العجيبة للقاريء والسامع، هذا القرآن يسره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وامتنَّ علينا بتعليمه الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4].

وأعظم نعمة هي تعليم القرآن، وبغير هذا القرآن، وبغير هذا الهدى يكون الإنسان كالحيوان.

والحيوان كذلك مهَّد الله له العيش، ويسره له، ورزقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو رب كل دابة، وهو الذي يهيئ لها رزقها وإن كانت في ظلمات الأرض وأينما كانت، لكن الإنسان ما الذي يفرق بينه وبين هذا الحيوان؟

إنه هذا القرآن، وهذا الهدى، وهذه الرسالة.

ومع ذلك فكيف يكون حال العبد وكيف تكون مقابلة هذه النعمة؟

نحن في صلاتنا نقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] هو عز وجل أمرني أن أصلي في اليوم خمس صلوات، وأن أستيقظ لصلاة الفجر ثم أؤدي بقية الفرائض، فهل لي منة، هل لي فضل إذا أديَّت هذه العبادة التي أوجبها الله تبارك وتعالى؟!

وجعلنا الليل لباساً

لو تأملت كيف تستيقظ، من الذي أعطاك العافية؟

الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، من الذي هيأ لك أن تقوم؟ كم من نائم نام تلك الليلة ولم يستيقظ إلا والملكان يسألانه في قبره، وأنت أيقظك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حياً سليماً معافاً، وقد بت ونمت وعندك الأولاد والخير والنعمة والراحة.

والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بأقل من هذا فقال: (من بات وهو آمن في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) سبحان الله! عافية في بدنك تلك الليلة، وأكل على قدر تلك الليلة، وأمن في تلك الليلة تنام وأنت مطمئن لا يهاجمك عدو ولا شيء يضرك، كأنما حيزت لك الدنيا.

ولو أن عبداً ملك الدنيا جميعاً من أولها إلى آخرها من شرقها إلى غربها، لكان غاية وأعظم ما يتنعم به في تلك الليلة هو هذه النعمة، هو أن ينام وهو مطمئن وشبعان وآمن معافى وماذا غير ذلك؟ وهل في الدنيا شيء بعد ذلك يطلب؟ لا شيء.

فالله تعالى أنعم عليك أيها العبد وأنت مغمور بنعم الله ولا تدري، وربما أن النوم يدرك بعضنا -يأتيه النوم في الليل غصباً عنه- وهو يفكر كيف أن فلاناً عنده من الأموال، وفلاناً عنده من النعم، وفلاناً أخذ وأخذ، وفلاناً ربح وتاجر وأنا ليس لديَّ إلا هذا الشيء القليل، نسي تلك النعمة لأنه ينظر إلى غيره، وهذا عكس ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن.

كيف ندرك نعمة الله علينا

والمؤمن التقي الذي يرجو لقاء الله، كيف ينظر في أمر الدنيا وكيف ينظر في أمر الآخرة؟

إذا نظرت في أمر الدنيا وشأنها فانظر إلى من هو دونك، من هو أقل منك مالاً وأولاداً وعافية فذلك أحرى وأجدر وأليق ألاَّ تزدري نعمة الله عليك، وتعلم أنه أنعم عليك بنعم عظيمة فتعرف نعمة الله عليك ومن خلال هذه النعمة، من خلال هذه النظرة إلى من هو دونك.

ولكن إذا نظرت أو تدَّبرت أو تفكَّرت في الآخرة فانظر إلى من هو أعلى منك، فإن كنت تقرأ شيئاً من كتاب الله فانظر إلى من يحفظه ويقرأه كله.

إن كنت تؤدي شيئاً من فرائض الله أو بعضها فانظر إلى من يأتي بالفرائض وبالنوافل وزاد على ذلك من الخير ومن البر.

إن كنت تدعو إلى الله وفتح الله على يديك من الخير فانظر إلى من دعوا إلى الله تبارك وتعالى فأحيا الله بهم أمماً من الضلالة ومن الجهل، فالمقصود أن الإنسان إذا كانت هذه نظرته عرف وعلم نعمة الله تبارك وتعالى عليه.

فهو الذي أعطاك العافية، والصحة، والفراغ، فإذا قمت واستيقظت وعبدت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وصليت الفجر جماعة في المسجد فقل: الحمد لله الذي منَّ عليّ بهذا، فإذا جاء الإنسان إلى هذا المسجد وصلّى وذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يكون قد أحسن؟ إلى نفسه، نال الأجر، والثواب، ونال الخير والبركة في بدنه وفي يومه ذلك بفضل الله تبارك وتعالى.

إذاً: الفضل لله، بنعمته وبهداه وبتقواه ننال الخير في الدنيا والآخرة.

هذه قاعدة عظيمة يجب أن يعلمها عباد الله المتقون -جعلنا الله وإياكم منهم- أنه يجب على كل منا ألا ينسى وأن يتذكر دائماً أن ما أصابه من حسنة وخير فمن ربه، وأن ما أصابه من شر ونكد وشظف عيش وبلاء وأذىً فمن ذنبه، وقد قال ذلك رب العزة والجلال لأفضل خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].

ولو أن العبد تأمل ونظر كما أمره ربه عز وجل أن ينظر فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5]، فَلْيَنْظُرِ الإنسان إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24].

لو نظر في ذلك لعلم حقاً أن هذا ما قُرر وما قيل: إنه ما أصابه من خير فهو من ربه، وما أصابه من شر فهو بسبب ذنبه ومعصيته لله عز وجل.

وإلا فما هو هذا العبد؟ من أنت أيها المخلوق الضعيف إذ كنت صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، أميراً أو حقيراً عند الناس، غنياً أو فقيراً في دنيا الناس، من أنت؟!

أياً كان هذا الإنسان، ماذا لو نظر الإنسان مم خلق؟ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] من نطفة حقيرة قذرة، والآن يقول ويقرر الأطباء: إنه لم يخلق من النطفة كلها بل من جزء منها ضئيلٍ جداً لا يرى إلا بالمجاهر.

سبحان الله! هذا المتكبر على الله، المعرض عن كتاب الله، الذي لا يبالي بقال الله ولا قال رسول الله، ولا يبالي بما ارتكب من محارم الله، خُلِقَ من هذه النطفة الحقيرة.

سبحان الله! ومن الذي خلقه؟ ومن الذي جعله في قرار مكين؟ ومن الذي غذاه في ظلمات ثلاث في بطن أمه؟! وهو عز وجل ييسر له الغذاء وييسر له كل أسباب الحياة.

حتى إذا انقضى الأمر، وبلغ الأجل الذي قدَّره الله تبارك وتعالى، وجاء هذا المولود وخرج إلى هذا الوجود، هيأ الله تبارك وتعالى له أسباب الحياة الدنيا مما لم يكن ميسوراً له وهو في بطن أمه، ومما لم يكن محتاجاً إليه وهو في بطن أمه، والآن ينتقل إلى عالم جديد يحتاج فيه إلى الغذاء والهواء، ويحتاج فيه إلى من يرعاه ويحفظه ويحوطه برعاية مباشرة، يسر الله تبارك وتعالى له ذلك فهداه الله تعالى من الزيف.

يولد الطفل.. من الذي علمه؟ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل:78] علَّمه أن يرضع من هذا الثدي، ولو أن الله لم يُعلِّمه ذلك من يستطيع أن يعلمه من الناس أو من الأطباء؟!

لا يستطيع أحد أن يعلم المولود في يومه الأول، بل في عامه الأول فما بعد، إلا بعد حين أن يُعلَّمه شيئاً من الأمور.

ولكن الله تبارك وتعالى علَّمه وهداه أن يأخذ هذا الثدي وأن يتغذى به، وهذا الثدي قد هيئ فيه درجة حرارة معينة مناسبة، وبغذاء مناسب لمن ولد الآن، بخلاف إذا رضع منه الطفل في عامه الثاني.

فقد هيئ الله له في الحليب المواد التي تكفي وتغذي من قد عاش سنة فأكثر.

فسبحان الله! الذي يحوطه برعايته، ويحوطه بعنايته ويهيئ له في كل حالة وفي كل وقت ما يناسبه وما يلائمه مما يحتاج إليه هذا الإنسان.

من الذي جعل الأم تحوطك برعايتها وعنايتها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلا فبعد أن لقيت ما لقيت من الوحم ومن التعب أثناء الولادة ثم ما بعدها من مشاق عظيمة لألقتك وذهبت بعيداً وتركتك وتخلت عنك.

والمرأة هي من أغلظ الناس قلباً، وأخبثهم طباعاً وجلافةً، فإذا وُلد لها ولدٌ كانت من أحن الناس وأرقهم على هذا الولد، وإذا قيل لأي أم أعطينا هذا الولد لنذبحه، وخذي ما شئت من أموال الدنيا؟

والله لا تجدون أماً ترضى بهذا أبداً، سبحان الله العظيم! كيف نزلت هذه المحبة، من أين هبطت هذه الرحمة والشفقة على ذلك القلب الغليظ الجافي؟

من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكي يحوطك أيها الإنسان، ولكي تتربى وتتغذى في نعمه تبارك وتعالى، سخر لك الأب وسخر لك كل ما يعيشك.

حتى هدايتك جعلها الله تبارك وتعالى ميسورة، ولم يتركنا الله تبارك وتعالى سُدى لا نؤمر ولا نُنهى، بل بعث إلينا رسولاً من أنفسنا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4] فمن رحمة الله تبارك وتعالى أن بعث في كل أمة رسولاً بلسان قومه ليبين لهم، وليعلمهم كيف يهتدون إلى طريق الله، وكيف ينعمون بالحياة المطمئنة الطيبة في الدنيا، ثم يلقون الله تبارك وتعالى فيدخلون دار كرامته حيث النعيم المقيم الأبدي.

فجعل الهداية -أيضاً- ميسورة لكل إنسان بما بعث الله به هؤلاء الرسل الكرام، وأفضلهم وخاتمهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنَّ الله تبارك وتعالى علينا بهذا الدين وبهذا الإيمان، ويسر لنا القرآن وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].

يسر لنا هذا القرآن، فإذا قرأناه أو سمعناه نجد هذه الرقة والعذوبة والمتعة العجيبة للقاريء والسامع، هذا القرآن يسره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وامتنَّ علينا بتعليمه الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4].

وأعظم نعمة هي تعليم القرآن، وبغير هذا القرآن، وبغير هذا الهدى يكون الإنسان كالحيوان.

والحيوان كذلك مهَّد الله له العيش، ويسره له، ورزقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو رب كل دابة، وهو الذي يهيئ لها رزقها وإن كانت في ظلمات الأرض وأينما كانت، لكن الإنسان ما الذي يفرق بينه وبين هذا الحيوان؟

إنه هذا القرآن، وهذا الهدى، وهذه الرسالة.

ومع ذلك فكيف يكون حال العبد وكيف تكون مقابلة هذه النعمة؟

نحن في صلاتنا نقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] هو عز وجل أمرني أن أصلي في اليوم خمس صلوات، وأن أستيقظ لصلاة الفجر ثم أؤدي بقية الفرائض، فهل لي منة، هل لي فضل إذا أديَّت هذه العبادة التي أوجبها الله تبارك وتعالى؟!

لو تأملت كيف تستيقظ، من الذي أعطاك العافية؟

الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، من الذي هيأ لك أن تقوم؟ كم من نائم نام تلك الليلة ولم يستيقظ إلا والملكان يسألانه في قبره، وأنت أيقظك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حياً سليماً معافاً، وقد بت ونمت وعندك الأولاد والخير والنعمة والراحة.

والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بأقل من هذا فقال: (من بات وهو آمن في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) سبحان الله! عافية في بدنك تلك الليلة، وأكل على قدر تلك الليلة، وأمن في تلك الليلة تنام وأنت مطمئن لا يهاجمك عدو ولا شيء يضرك، كأنما حيزت لك الدنيا.

ولو أن عبداً ملك الدنيا جميعاً من أولها إلى آخرها من شرقها إلى غربها، لكان غاية وأعظم ما يتنعم به في تلك الليلة هو هذه النعمة، هو أن ينام وهو مطمئن وشبعان وآمن معافى وماذا غير ذلك؟ وهل في الدنيا شيء بعد ذلك يطلب؟ لا شيء.

فالله تعالى أنعم عليك أيها العبد وأنت مغمور بنعم الله ولا تدري، وربما أن النوم يدرك بعضنا -يأتيه النوم في الليل غصباً عنه- وهو يفكر كيف أن فلاناً عنده من الأموال، وفلاناً عنده من النعم، وفلاناً أخذ وأخذ، وفلاناً ربح وتاجر وأنا ليس لديَّ إلا هذا الشيء القليل، نسي تلك النعمة لأنه ينظر إلى غيره، وهذا عكس ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2595 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2573 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2505 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2458 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2346 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2261 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2254 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2248 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2196 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2164 استماع