قصة نوح عليه السلام وما فيها من المواعظ والعبر (4)
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
قصة نوح عليه السلام وما فيها من المواعظ والعبر (4)ما زِلنا أمامَ مشهد سفينة نوح عليه السلام، وقد علا الماءُ حتى غطَّى قِمَم الجبال الشَّاهقة، وإذا كان المطرُ مَظهرًا من مظاهر رَحمة الله بعباده، إلاَّ أنَّ قوم نوح لمَّا أصرُّوا على الشِّرك بالله والكفرِ برسوله ووقَفوا منه موقف العِناد، لم يكونوا أهلاً لرحمة الله، فحوَّل الله سبحانه المطرَ ليكون مصدَر عذابٍ ونِقمة، قال تعالى: ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [القمر: 11، 12]، فنزل ماءُ العذاب المستأصِل للأمَّة على غير ما أَلِف النَّاسُ، ولم يكن لنوحٍ عليه السلام ولا لمخلوقٍ يد في تصريف هذا الماء الذي نزلَ من السماء ولا الذي نَبع من الأرض، ولا يملك أحدٌ ردَّه.
وبعد أن قضى ربُّك على هؤلاء الكافرين، ونجَّى عبدَه ورسوله نوحًا ومَن آمن معه في تِلك السفينة المتواضعة، التي جاء وصفُ القرآن لها في سورة العنكبوت آية 15: ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 15]، وفي سورة الحاقة 11، 12: ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 11، 12]، نعم هي آيةٌ؛ إذ هي على بدائيَّتها قد تغلَّبَت على أَعتى الأمواج، ألا يدلُّ ذلك على كمال صفات ربِّ العالمين وقوَّته وقَهْره؟
وبعد هذا كله أبرز القرآنُ جانبًا من القصَّة يرشد إلى ما يتمُّ به نقاء العقيدة وصَفاء الإيمان وقوَّة اليقين؛ وذلك في شأن ولَد نوح الذي كفَر بنبوَّة أبيه، فحينما اشتدَّ نزول مَطَر العذاب على القوم وبدأ الماءُ يعلو على وجه الأرض، رأى نوحٌ عليه السلام ولدَه مع الكافرين، فعرض عليه الدعوةَ مرَّة أخرى بقوله: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42].
وهذا بدوره يدلُّ على أنَّ الإيمان بالله ورسوله شرط في ركوب السَّفينة، فأجاب الولدُ الكافِر العاقُّ لأبيه: ﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ﴾ [هود: 43]، قال الوالِد الرسولُ: ﴿ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ﴾ [هود: 43]، فقد كان ظنُّ الولد أنَّه لا يعدو أن يكون طُوفانًا كغيره ممَّا سبَق أو ربَّما زاد شيئًا عن ذي قبل، ويمكن أن يصعد أحدَ الجبال فينجو عليه؛ لأنَّه - في ظنِّه - مهما علا الماءُ فلن يبلغ قِمَم هذه الجبال، وكان الوالد الرسول يعلم أنَّه مطر عذاب الاستئصال، وأنَّه الأول مِن نوعه، ولن ينجو منه إلاَّ ركَّاب السَّفينة، وهم من المؤمنين بالله ورسوله، ولا رحمة يومئذٍ للكافرين، فعرض على ولده أن يُؤمن ويركبَ السَّفينة، فلم يَقبل، حتى حالَ بينهما الموجُ العاتي، فكان الولدُ من المغرقين.
بعدها يَصدر الأمرُ الإلهيُّ إلى الأرض أن تَبتلِع ما عليها مِن الماء، وإلى السَّماء أن تُقلِع عن إمداد الأرض بالماء، فامتثلَت كلٌّ من الأرض والسماء لأمرِ ربِّها، ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ ﴾؛ أي: نقص، ﴿ وَاسْتَوَتْ ﴾ السفينة ﴿ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾ [هود: 44] قيل: هو جبل بالموصل أو بالشام، ثمَّ نزل نبيُّ الله نوحٌ عليه السلام ومعه المؤمنون؛ حيث لم يَبْق على وجه الأرض يومئذٍ غيرهم.
وتحرَّكَت في قلب نوح عاطفةُ الأبوَّة، فتوجَّه إلى الله العزيز الرَّحيم حيث تذكَّر قولَه سبحانه: ﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ [هود: 40]، توجَّه نوح إلى الله بقوله: ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾؛ يعني: الذين وعدتني بنجاتهم، ﴿ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [هود: 45]، وهذا الأسلوب يدلُّ على غاية الأدَب في مخاطبتِه ربَّ العباد، فأجاب الله الذي لا مبدِّل لكلماته ولا رادَّ لحكمِه، موضحًا أنَّه ليس مِن أهله الذين وعدَ بنجاتهم، وقد كان يمكن أخذ العبرة من قوله سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ [هود: 40]، فليست المسألةُ مسألةَ أبناء وكفى، ﴿ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46]، وهنا استشعر نوحٌ عليه السلام عِظَم المسألة وخطرَها على دَعوته، فرجع إلى ربِّه سبحانه: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]؛ ذلك أنَّ نوحًا علِم من ربِّه أنَّه لا رِباط بين المسلمين والكافرين ولو كانوا ذَوِي قُربى، عندئذٍ رجع على الفور واعتبر دعاءه لولده ذنبًا استغفَر منه وتابَ إلى الله.
ومثل هذا حدث من غيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فهذا إبراهيم عليه السلام، وقد عَلِم كفرَ أبيه سأل ربَّه أن يغفِر لأبيه، كما قال تعالى في سورة الشعراء آية 86 حيث جاء قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء: 86].
ولمَّا حضرَت الوفاةُ أبا طالب عمَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم - ذهب إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حيث قال له: ((يا عم، قل لي في الإسلام كلمة أحاجُّ لك بها عِند الله تعالى))، فقال أبو جهل: يا أبا طالب، أترغَب عن مِلَّة عبدالمطلب؟ فكانت آخرَ كلمة قالها أبو طالب: إنَّه على ملَّة عبدالمطلب، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا واللهِ لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك))، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [القصص: 56]، كما قال تعالى في سورة التوبة آية 113: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113].
ومع وضوح هذه المسألة، فإنَّك تجد كثيرًا من النَّاس يعتقدون أنَّ التوسُّل إلى الله عن طريق آل البيت رضي الله عنهم جائزٌ، على الرغم من الأحاديث القاضِية ببطلان هذا، وقد جاء في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ألا إنَّ بَنِي فلان ليسوا لي بأولياء؛ إنَّما وليِّي الله وصالِح المؤمنين))، وينادي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنتَه فاطِمة رضي الله عنها التي قال عنها: ((إنَّ فاطمة بضعَة منِّي؛ يؤذِيني ما آذاها، ويريبني ما أرابها))، قال لها: ((يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئتِ لا أُغني عنكِ من الله شيئًا، يا عبَّاس عم محمد، اعمل فإنِّي لا أُغني عنك من الله شيئًا))، وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا وإنَّ وليَّ محمد مَن أطاع اللهَ وإن بعُدت لُحْمَتُه، ألا وإنَّ عدوَّ محمد من عصى اللهَ وأن قَرُبَت لُحْمته".
فلو كانت المسألة مسألة قَرابة، لغفر الله لولَد نوح ولعمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولأبي إبراهيم، ولكن يَأْبي عَدْل الله إلاَّ أن يكون كلُّ إنسان موقوفًا على عمله، قال تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39].