خطب ومحاضرات
اعرف الحق تعرف أهله
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالله سبحانه وتعالى قد أكرم الإنسان وعلمه, وهداه الله جل وعلا النجدين, والله سبحانه وتعالى ما خلق الخليقة إلا على نظام تسير عليه, وهدى الله سبحانه وتعالى السائلين إلى معرفة الحق من الباطل والصواب من الخطأ, وذلك بتمييز ذوات الناظرين بالعقل, وتمييز تلك الذوات المنظور إليها بعلامات يهتدى بها إلى معرفة الخير من الشر, وتمييز أحدهما عن الآخر, وذلك أن الله جل وعلا ما جعل مكلفاً في الأرض إلا وكان لتكليفه سبب يسير عليه الإنسان, وهذه المسيرة وهذا الطريق ثمة علامات متنوعة عن يمين الإنسان وعن شماله يهتدي بها الإنسان, ويعرف طريق الرشاد والهداية والسداد من طريق الغواية والضلال والعثرات التي يجدها الإنسان في أثناء طريقه, لهذا كان الإنسان بقدر وضوح الحق لديه بقدر ما تكون العقوبة عليه, وذلك أن الحجة كلما كانت ظاهرة على الإنسان كان العقاب عليه أشد, وإذا كانت الحجة ضعيفة في عقله وإدراكه كان العقاب أقل, وإذا انعدمت الحجة والبيان لم يكن ثمة عقاب, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
والله جل وعلا خلق الخليقة وجعل لها طريقاً ومنهجاً تسير عليه, والنبي صلى الله عليه وسلم جعل للناس من يسوسهم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم, كلما ذهب نبي خلفه نبي آخر ), والمراد بذلك أن هداية الناس ودلالتهم لا بد أن تكون عن طريق الوحي من الله جل وعلا, وهذا الوحي لا بد أن يتركب على شيء وعلى إناء يحتويه, وهذا الإناء الذي يحتويه هو العقل, فالإنسان له مدارك وله عقل, ويعي به الخير من الشر والصواب من الخطأ, وهذا التمييز لا يمكن أن يكون إلا بدلالات يراها الإنسان ثم يميز الخبيث من الطيب.
وثمة أمر ينبغي أن يُدرك؛ وهو أن الله جل وعلا كما أنه أوجد الذوات وهذه المخلوقات من عدم, فكذلك الله جل وعلا أوجد كثيراً من المعلومات للإنسان من عدم, وكثير من الناس يظن أنه إذا أَلَّف بين معلومات ينطق بها ويتكلم بها فإنه يظن أنه قد جاء بشيء من المعلومات من عدم, وذلك من الخطأ المحض, فلا يمكن للإنسان أن يوجد معلوماً أو يوجد فكرة في عقله لم يسبق إليها, وإنما ذلك مؤلف من مجموعة أجزاء منثورة كما يؤلف الإنسان مواد الطبيعة, فيؤلف بينها على أشكال جديدة ويسميها ابتكاراً واختراعاً, وهذا الابتكار والاختراع هو من مادة أصلها موجود, لا يمكن أن يوجد أصل المادة من عدم, كذلك من جهة المعاني والأفكار فإنها لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى، لكن يؤلف الإنسان بينها حتى يشكل كثيراً من المعاني والمعلومات والمدركات التي لم يسبق إليها على هذا التركيب, وأما من جهة أجزائها فإنه قد سبقه إليها الكثير, ولهذا من المحال أن الإنسان يوجد معلومة من عدم محض, فإن هذا لا يكون من أحد إلا لله جل وعلا, فالمعاني تخلق كما تخلق الذوات من الماديات وغيرها, إذا أدرك الإنسان ذلك فإنه يعلم مهمة العقل من جهة استيعاب الحقائق وإدراكها, ويعلم أيضاً أن عقله ما هو إلا إناء, وهذا الإناء هو الذي يستوعب تلك المواد في أي مادة وضعت فيه، يحكمه ما وهبه الله جل وعلا فيه من تمييز, ويحكمه ما غرسه الله جل وعلا فيه من فطرة, لهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ), فالله جل وعلا جعل الفطرة هي التي توجه الإنسان وتأطره على الحق, ولكن إذا قلبت الفطرة احتاج الإنسان إلى أن يُرجع إلى أصلها حتى يتميز ذلك الملقى إليه حقاً أو كان باطلاً, ولهذا قال الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30], وهذه الفطرة تخضع إلى نوع من التدليس والتلبيس, ويكون هذا التدليس والتلبيس إما بذات المعلومة، أو بفعل الفاعل لها من جهة ذاته لو كان فرداً كأن يكون رمزاً، أو كذلك بكثرة الفاعلين لها ولو لم يكونوا رموزاً, فالنفوس ميالة إلى الكثرة من جهة العدد, وتحب أن تنغمس مع الكثرة، ولا تحب في ذلك القلة, وأعظم الخصومات التي واجهت أنبياء الله سبحانه وتعالى في أقوامهم هي مخالفتهم للكثرة, وذلك أن المخالفين لهم قالوا: إنهم يتهمون الأنبياء بالقلة والندرة, وأن من خالفهم هم الأكثر والسواد الأعظم, وهذا لا قيمة له من جهة الحقائق والتأصيل.
والله سبحانه وتعالى جعل الحقائق في ذوات المعاني لا في ذوات حامليها, وهذا ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار, فالله جل وعلا جعل الحق بالكلمات والألفاظ والمعاني، وما جعل الحق في ذوات حامليها, وإذا فهمنا هذا التأصيل عرفنا أن الذين يحملون الحق والباطل إنما هم أوعية جعلها الله جل وعلا حملة للحق والباطل, وأما ما يحملونه من معانٍ فهي التي يتميز بها الناس إلى الحق أو إلى الباطل, ولهذا الله جل وعلا جعل إحقاق الحق بالكلمات, وما جعل إحقاق الحق بالذوات, قال تعالى: يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال:7], لا بفلان وفلان, فهذه الكلمات التي أمر الله جل وعلا بلزومها هي المعاني التي أمر الله سبحانه وتعالى بإنزالها على أنبيائه, وقد أمر الله جل وعلا باتباع البينات وعدم اتباع الأولياء من دونه: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3], فهؤلاء الأولياء هم الذين يتعصب عندهم الجهلة بالالتفاف حولهم ومحاولة التكاثر، حتى يجعلوا للقول الضعيف قوة وشوكة, فيغتر به الناس لقوتهم وشوكتهم, وكذلك نفوذ رأيهم وامتزاج ذلك بكثير من حضور المادة ومطامع الدنيا, فتنكسر كثير من القلوب عن إدراك ذلك الحق بذاته لهيبة حامله.
قرب الإنسان وبعده من جهة المعاني والمعلومات
والإنسان -كما لا يخفى- من جهة إدراكه للمعاني, وكذلك من جهة إدراكه للمعلومات على سبيل العموم, فإنه كلما كان بعيداً عن الحقيقة صغرت لديه, وإذا دنا منها كبرت لديه, إلا شيئاً واحداً، وهذا هو الكذب والخديعة والبهتان, فإنه يكون عظيماً إذا كان بعيداً, فإذا دنا الإنسان منه وجده سراباً, لا شيء, ولهذا ينبغي للإنسان أن يقترب من الأشياء حتى تتميز لديه, وهذا القرب هو القرب من الذوات, وهذه الذوات هي التي عليها مدار الإدراك.
وإذا قلنا: إن الحقائق التي أمر الله جل وعلا باتباعها هي المعاني والكلمات حينئذٍ وجب على الإنسان أن يقرب من المعاني والكلمات لا أن يقرب من الذوات, والله جل وعلا ما جعل الحق والعصمة لأنبيائه عليهم الصلاة والسلام إلا ليبلغوا الحق للناس فيعتصب الحق مع الذات, وذلك أن كثيراً من الناس ينخدعون بالذوات أكثر من الألفاظ والمعاني, وجعل الله جل وعلا العصمة لأنبيائه من جهة القول والفعل إكمالاً للحق, ولهذا يضطرب كثير من الناس في اتباع الحق بالتمييز بين الذات والمعنى الذي تحمله.
أثر التعلق بذات النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من هديه وسنته
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة, وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28], أرسله الله جل وعلا إلى الناس كافة, منهم من شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دنا منه فرق بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق الذي يحمله, ومنهم من كان بعيداً، فحمل ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر الذوات من أن التعظيم الذي لحق تلك الذات إنما هو لعظمتها في ذاتها, فكأن المعاني والألفاظ كانت تابعة للذات لا أن الذات تابعة للمعاني.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب, ولماذا كان ربط الارتداد بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم مجرداً، مع أن الأحكام والمعاني كانت موجودة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده؟
ثم أيضاً لماذا كان الارتداد في الخارجين النائين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان في القريبين؟ لأن الأبعدين إنما تعلقوا بهيبة الذات أكثر من التعلق بهيبة المعاني, وكذلك فإن المنافقين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم ممن كان في أطراف المدينة أكثر ممن كان مخالطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحابة عليهم رضوان الله تعالى حرصوا على تصحيح الباطن أكثر من الظاهر، وذلك ليوافق من كان حول المدينة من كان داخلاً فيها، كما جاء عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى, لما دفعوا الزكاة لـأبي بكر الصديق وخضع من خضع، قال: (والله لا نكف عن قتالهم حتى يؤمنوا أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار), والمراد بذلك أن ثمة إشارة إلى أن إيمانهم السابق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متعلقاً بذاته, وخشية وهيبة, وذلك أن الله جل وعلا قد نصر نبيه عليه الصلاة والسلام بالرعب مسيرة شهر كامل, وهذا الرعب والانكسار الذي كان في قلوب كثير من الناس حمل القلوب على الإيمان والركون, وكذلك الانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ضعف إيمان, كثير من الناس لديه شائبة في اتباع الذوات, ولا يخلو أحد من ذلك إلا النزر اليسير, ولهذا وجد عند خيرة الخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأنبياء شيء من ذلك, ولهذا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الخلاف اليسير, ووقع فيهم شيء من الفزع, فأنزر الله جل وعلا شيئاً يتعلق بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم وفصلاً بين الذات والمعاني التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144], الانقلاب على العقب إشارة إلى أن الإنسان كان متبعاً في السابق, فهو يسير في طريقه خلف من؟ إما أن يكون منساقاً خلف ذات أو منساقاً خلف معنى, والمعنى موجود والذات قد زالت, فإذا كان الله قد أخذ نبيه عليه الصلاة والسلام واختاره إليه، فمن نكص على عقبيه ممن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو متعلق بذاته, ومن بقي ثابتاً فهو متعلق بالمعنى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته, وهذا الأمر زلزل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من العلية, وكان هذا الزلزال الذي وقع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع على الأمة جمعاء بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مغيراً من طريقهم، ولكن هو نوع من الذهول, ولهذا وقع في هذا الأمر بعض الخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنهم لم يدعوا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم, الصفوة كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى هو الذي قام في هذا الأمر، وثبت على ما هو عليه، وبين لمن حوله هذا الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءنا بالمعاني ما جاء بذاته عليه الصلاة والسلام, فذاته عليه الصلاة والسلام أوجدها الله جل وعلا، ويأخذها الله سبحانه وتعالى متى شاء أن يأخذها, ولا عذر لأحد بالانصراف عن ذلك المعنى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يرفع الله جل وعلا العلم, فإذا رفع الله تلك المعاني التي أحق الحق بها؛ كما في قوله بما تعالى: يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال:7], لا بذات فلان وفلان, فإذا رفعت تلك المعاني والألفاظ والكلمات عذر الإنسان حينئذ عن اتباع الحق, ولهذا جاء في سنن ابن ماجه وعند الحاكم أيضاً من حديث حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)، والمراد بذلك هو اندفان الثوب بالرمال إذا سفت عليه الريح ونحو ذلك، (حتى لا يُدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك إلا أقوام يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقيل له: ما تغنيهم تلك؟ فقال: تنجيهم من النار، لا أبا لك! ), وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى لا يُدرى), إشارة إلى أن المعنى غاب عن الناس, بخلاف حامليه, ولكن لما كان الأصل أن المعاني لا تقوم إلا بالذاوات صعب على كثير من الناس أن يعلق ذهنه في حال الاتباع للمعنى بعيداً عن الذات, وذلك أن الفصل بينهما لا يكون إلا لمن وفقه الله جل وعلا, وذلك أن الإنسان يتابع المعلم له في حركاته وسكناته ونحو ذلك, فإذا زل الإنسان أو انصرف أو أنحرف عن طريق الحق لم يستطع الإنسان حينئذ أن يفصل بين المعاني التي يحملها وبين تلك الذات إذا انحرفت عن طريق الحق, فإذا كانت الذات في ذاتها تزول زوالاً تاماً؛ وذلك بوفاتها وموتها وفنائها ولا تغير من الحق شيئاً وهو باقٍ بتمامه كذلك، فإن انحراف الإنسان ببعض أجزائه يلحق به وفاة الإنسان بالكلية, فإذا زال الإنسان ببعضه فإنه لا يزيل الحق بكامله, فكيف إذا زال الإنسان بكله وانتكس عن طريق الحق.
والإنسان -كما لا يخفى- من جهة إدراكه للمعاني, وكذلك من جهة إدراكه للمعلومات على سبيل العموم, فإنه كلما كان بعيداً عن الحقيقة صغرت لديه, وإذا دنا منها كبرت لديه, إلا شيئاً واحداً، وهذا هو الكذب والخديعة والبهتان, فإنه يكون عظيماً إذا كان بعيداً, فإذا دنا الإنسان منه وجده سراباً, لا شيء, ولهذا ينبغي للإنسان أن يقترب من الأشياء حتى تتميز لديه, وهذا القرب هو القرب من الذوات, وهذه الذوات هي التي عليها مدار الإدراك.
وإذا قلنا: إن الحقائق التي أمر الله جل وعلا باتباعها هي المعاني والكلمات حينئذٍ وجب على الإنسان أن يقرب من المعاني والكلمات لا أن يقرب من الذوات, والله جل وعلا ما جعل الحق والعصمة لأنبيائه عليهم الصلاة والسلام إلا ليبلغوا الحق للناس فيعتصب الحق مع الذات, وذلك أن كثيراً من الناس ينخدعون بالذوات أكثر من الألفاظ والمعاني, وجعل الله جل وعلا العصمة لأنبيائه من جهة القول والفعل إكمالاً للحق, ولهذا يضطرب كثير من الناس في اتباع الحق بالتمييز بين الذات والمعنى الذي تحمله.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة, وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28], أرسله الله جل وعلا إلى الناس كافة, منهم من شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دنا منه فرق بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق الذي يحمله, ومنهم من كان بعيداً، فحمل ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر الذوات من أن التعظيم الذي لحق تلك الذات إنما هو لعظمتها في ذاتها, فكأن المعاني والألفاظ كانت تابعة للذات لا أن الذات تابعة للمعاني.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب, ولماذا كان ربط الارتداد بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم مجرداً، مع أن الأحكام والمعاني كانت موجودة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده؟
ثم أيضاً لماذا كان الارتداد في الخارجين النائين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان في القريبين؟ لأن الأبعدين إنما تعلقوا بهيبة الذات أكثر من التعلق بهيبة المعاني, وكذلك فإن المنافقين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم ممن كان في أطراف المدينة أكثر ممن كان مخالطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحابة عليهم رضوان الله تعالى حرصوا على تصحيح الباطن أكثر من الظاهر، وذلك ليوافق من كان حول المدينة من كان داخلاً فيها، كما جاء عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى, لما دفعوا الزكاة لـأبي بكر الصديق وخضع من خضع، قال: (والله لا نكف عن قتالهم حتى يؤمنوا أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار), والمراد بذلك أن ثمة إشارة إلى أن إيمانهم السابق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متعلقاً بذاته, وخشية وهيبة, وذلك أن الله جل وعلا قد نصر نبيه عليه الصلاة والسلام بالرعب مسيرة شهر كامل, وهذا الرعب والانكسار الذي كان في قلوب كثير من الناس حمل القلوب على الإيمان والركون, وكذلك الانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ضعف إيمان, كثير من الناس لديه شائبة في اتباع الذوات, ولا يخلو أحد من ذلك إلا النزر اليسير, ولهذا وجد عند خيرة الخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأنبياء شيء من ذلك, ولهذا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الخلاف اليسير, ووقع فيهم شيء من الفزع, فأنزر الله جل وعلا شيئاً يتعلق بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم وفصلاً بين الذات والمعاني التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144], الانقلاب على العقب إشارة إلى أن الإنسان كان متبعاً في السابق, فهو يسير في طريقه خلف من؟ إما أن يكون منساقاً خلف ذات أو منساقاً خلف معنى, والمعنى موجود والذات قد زالت, فإذا كان الله قد أخذ نبيه عليه الصلاة والسلام واختاره إليه، فمن نكص على عقبيه ممن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو متعلق بذاته, ومن بقي ثابتاً فهو متعلق بالمعنى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته, وهذا الأمر زلزل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من العلية, وكان هذا الزلزال الذي وقع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع على الأمة جمعاء بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مغيراً من طريقهم، ولكن هو نوع من الذهول, ولهذا وقع في هذا الأمر بعض الخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنهم لم يدعوا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم, الصفوة كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى هو الذي قام في هذا الأمر، وثبت على ما هو عليه، وبين لمن حوله هذا الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءنا بالمعاني ما جاء بذاته عليه الصلاة والسلام, فذاته عليه الصلاة والسلام أوجدها الله جل وعلا، ويأخذها الله سبحانه وتعالى متى شاء أن يأخذها, ولا عذر لأحد بالانصراف عن ذلك المعنى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يرفع الله جل وعلا العلم, فإذا رفع الله تلك المعاني التي أحق الحق بها؛ كما في قوله بما تعالى: يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال:7], لا بذات فلان وفلان, فإذا رفعت تلك المعاني والألفاظ والكلمات عذر الإنسان حينئذ عن اتباع الحق, ولهذا جاء في سنن ابن ماجه وعند الحاكم أيضاً من حديث حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)، والمراد بذلك هو اندفان الثوب بالرمال إذا سفت عليه الريح ونحو ذلك، (حتى لا يُدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك إلا أقوام يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقيل له: ما تغنيهم تلك؟ فقال: تنجيهم من النار، لا أبا لك! ), وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى لا يُدرى), إشارة إلى أن المعنى غاب عن الناس, بخلاف حامليه, ولكن لما كان الأصل أن المعاني لا تقوم إلا بالذاوات صعب على كثير من الناس أن يعلق ذهنه في حال الاتباع للمعنى بعيداً عن الذات, وذلك أن الفصل بينهما لا يكون إلا لمن وفقه الله جل وعلا, وذلك أن الإنسان يتابع المعلم له في حركاته وسكناته ونحو ذلك, فإذا زل الإنسان أو انصرف أو أنحرف عن طريق الحق لم يستطع الإنسان حينئذ أن يفصل بين المعاني التي يحملها وبين تلك الذات إذا انحرفت عن طريق الحق, فإذا كانت الذات في ذاتها تزول زوالاً تاماً؛ وذلك بوفاتها وموتها وفنائها ولا تغير من الحق شيئاً وهو باقٍ بتمامه كذلك، فإن انحراف الإنسان ببعض أجزائه يلحق به وفاة الإنسان بالكلية, فإذا زال الإنسان ببعضه فإنه لا يزيل الحق بكامله, فكيف إذا زال الإنسان بكله وانتكس عن طريق الحق.
وينبغي للإنسان أن يعلم أن أصل التكليف إنما جاء بالمعاني وجاء بكلمات الله سبحانه وتعالى, فالله جل وعلا قد أنزل كتابه العظيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جل وعلا بالاعتصام بكتابه سبحانه وتعالى, لهذا قال الله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103], جاء عن غير واحد من المفسرين أن حبل الله هو القرآن, جاء ذلك عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر و عكرمة وغيرهم, وجاء أن المراد بذلك هو لا إله إلا الله محمداً رسول الله, فينبغي للإنسان أن يعلم أن الله جل وعلا جعل تلك الحقائق بين الناس والتكليف باق وقائم, ولكن لرحمة الله سبحانه وتعالى ولطفه لضعف الحملة في آخر الزمان، وكثير من الناس لا يملك السيطرة على الحقائق التي تصل إلى ذهنه واستيعاب التفريق بين المعاني، ولذلك كان من يأتي في آخر الزمان أعظم من جهة الأجر في تضعيف العبادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحابة عليهم رضوان الله تعالى أعظم, فمن يأتي بعدهم هم من جهة التضعيف أكثر, والصحابة عليهم رضوان الله تعالى من جهة التعظيم أكبر وأوفر؛ وذلك أن من جاء بعدهم في آخر الزمان إنما يؤمنون بصحف يقرئونها, يعني: أنها حقائق مجردة عن العامل بها أو ضعف الذي يعمل بها، فضعف الأخذ واستراب الإنسان من الأخذ بها؛ فعظم عند الله جل وعلا الأجر.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث على صلاح الذات لهذا الأصل؛ لأن كثيراً من العامة لا يستطيع الفصل بين حامل الحق والحق الذي يحمله, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تصحيح الذوات, وذلك مهم عند العلماء لكونهم قدوة يراهم القريب والبعيد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالأقربين إليه عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لكون الأقربين هم أقرب هدياً للنبي عليه الصلاة والسلام من حملة الحق؛ كما جاء في حديث العرباض بن سارية كما في السنن وغيرها, قال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ), في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة إشارة إلى الاقتداء بالمعاني, وهذه المعاني لها حملة, وهؤلاء الحملة أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعده عليه الصلاة والسلام أصحابه عليهم رضوان الله تعالى, وخص النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدين؛ لأنهم أقرب الناس إليه وأقل الناس مخالفة لقوله, مع ورود المخالفة؛ وذلك أننا في حال نفينا للمخالفة يلزم من ذلك تبعاً ورود العصمة التامة, وهذا فيه مشابهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا منتفٍ, ولكن بمجموع الاقتداء فهم مقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم خير الخلق بعد أنبياء الله جل وعلا.
ويأتي بعد ذلك مرتبة من حملة الحق من كان قريباً من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كالصحابة عليهم رضوان الله تعالى على سبيل الإجمال؛ كما جاء في مسلم من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد, وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون, وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ), إشارة إلى أن حملة الحق فيهم أمان للذات ما استقاموا مع الحق الذي حملوه, فإذا استقاموا مع الحق الذي حملوا واحتاطوا لذلك القول اتبعهم الناس, والخطاب في كلامنا هنا يتوجه إلى العلماء وطلاب العلم وحملة الحق والرموز، ويتوجه أيضاً إلى العامة, وذلك أن العامي ينبغي عليه أن يربي نفسه وأن يأطر نفسه, وأنه كلما تأخر الزمن كثرت التقلبات في الذات.
والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيرية والأفضلية كلما دنت من زمن النبي صلى الله عليه وسلم تعلقت الأفضلية بذوات أهل القرن بمجموعهم, لهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث عمران بن حصين قال: ( خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم ), فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون ثم أمسك, وذلك أن الخيرية بعد ذلك تنتقل من ذات إلى ذات ومن بلد إلى بلد, لا تلتزم بزمن على سبيل التسلسل، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك, وفي هذا إشارة إلى قضية مهمة، وهي تتعلق بحملة الحق الذين يكونون في آخر الزمان، وهي أن التقلب يطرأ عليهم أكثر من غيرهم, كذلك المهمة عند حملة الحق, ينبغي أن يفصلوا بين ذواتهم وبين الحق الذي يحملوه, وكثير من الناس يحاول أن يجعل الحق متعلق بذاته.
اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالفصل بين هديه العظيم وصفته البشرية
ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مدرسة مع كونه معصوماً عليه الصلاة والسلام, كان مدرسة في الفصل بين تعظيم هديه وذاته؛ حتى لا يؤخذ بذاته عليه الصلاة والسلام ويجعل نفسه كسائر الناس من جهة التعامل, فلا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك, ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خارج عن نطاق البشرية, وإنما هو بشر عليه الصلاة والسلام, ولهذا كفار قريش لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم استنكروا عليه أموراً؛ من هذه الأمور: أن النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الأسواق, ويأكل الطعام, وذلك أنه قد انغرس في نفوسهم أن القدوة ينبغي ألا يكون من البشر, وله خصائص تنفرد عنه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع كفار قريش كما يتعاملون مع بعضهم, يمشي في الأسواق، ويأكل الطعام، ويفعل ما يفعلون، ويدع ما يدعون، ما كان موافقاً لأمر الله جل وعلا وترخيصه, وهذا فيه إشارة إلى أن نفوس الناس في قبولهم الحق تتعلق بالذات أكثر من الحق ذاته؛ كما كان كفار قريش, امتنع كفار قريش عن الحق فكانوا مترددين بين الحق الذي بين أيديهم من المعاني وبين حامل الحق, حامل الحق هو بشر, ولكن الحق الذي بين يديهم حق, فمنعهم من اتباع الحق نزول صاحبه عن الصفة الفوقية, إلى صفة البشر, فكان مساوياً لهم من جهة بشريتهم، فرفضوا الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم, لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج عن تعظيم نفسه كتعظيم القادة, ولا يحجب نفسه عن الناس ونحو ذلك؛ لماذا؟ حتى يؤخذ الحق منه لذات الحق لا لذاته, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه وهو في وسطهم كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، وكثير ممن يأتي إليه ولم يره يظن أنه ملَك, والقادم إلى العالم أو إلى القدوة ونحو ذلك ينظر إلى ذاته من جهة التعظيم, فإذا كان على أُبَّهة وتعظيم وكبر وكذلك عدم تبسط مع الناس فإنه يتعلق التعظيم بذاته, فإذا انكسر انكسرت شوكة ما يحمله, فضعف في قلوب الناس فانهزموا, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على بيان مستوى البشرية للناس ولو كانوا أبعدين, والبساطة, ولهذا كان الذي يستمسك بالحق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام، ويعلم أن الذي بين يديه إنما هو بشر, وقد جاء عند ابن سعد في كتابه الطبقات وعند أبي نعيم في كتابه الحلية: ( أن عدي بن حاتم عليه رضوان الله تعالى لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال قبل ذلك: والله ما من أحد سمعت به أكره عندي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعت به ), وذلك أنهم ينقلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوالاً، وإن كانت قد اندثرت عند المتأخرين، فكانوا ينشدون في النبي صلى الله عليه وسلم أشعاراً؛ وذلك أن الأشعار هي التي تحفظ, ولكن الله جل وعلا لم يبق من هذه الأشعار في أفواه الناس شيئاً, فشوهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي الحق الذي يحمله, ( قال: فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده فلما صلى أتيته فقلت: إني أتيت إليك من جبال طي, قال: من أنت؟ قال: قلت: أنا عدي بن حاتم الطائي , قال: فقام بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره فاكتنفته امرأة, قال: فوقف معها طويلاً ), النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاءه سيد من أسياد العرب, وهذا السيد من أسياد العرب عليه رضوان الله تعالى سيد في قومه, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أنه يحمل رسالة, وهذه الرسالة لهذا السيد وكذلك لتلك المرأة الضعيفة, ( قال: فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً ), يريد أن يشير أنه تركني وأنا السيد، ( قال: فقلت والله ما هذه بسيرة ملِك ), يعني: أن هذا ليس من ملوك الأرض, هذا صاحب رسالة, ملوك الأرض: الذين يهتمون بذاتهم أكثر من المعاني التي يرسلونها, فهم يصنعون أمجاداً للذات.
والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكسر هذه الأمور يبين أنه يحمل معاني لا يحمل شيئاً لذاته, ( قال: فدخلت إلى داره, فعمد إلى وسادة محشوة من الليف, فرمى بها إلي فقال: اجلس عليها, فجلس على الأرض, قلا: فقلت: لتجلسن عليها, قال: فأبى, فجلست عليها, قال: فكان أحب الناس إلي ), هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, يريد أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لا يحمل شيئاً لذاته، حتى لا يمتزج بين الحق الذي معه وذاته وحظه عليه الصلاة والسلام, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين صفة البشرية.
وهذا أيضاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( إني لا أنسى ولكني أُنسَّى لأسن ), يعني: لأسن للناس الشرائع والسنن, وبين النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كما جاء في الصحيح من حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فزيد فيها أو نُقص, فقلنا: يا رسول الله, إنك صليت بنا كذا وكذا, فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وتوجه فركع ركعتين ثم انفتل إلينا فقال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ), والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن الله عصمه من المخالفة لأمره الظاهر إلا أن الله جل وعلا جعل فيه بياناً للبشرية بورود النسيان عليه, وكذلك ما يطرأ على الإنسان من العوارض البشرية؛ وذلك حتى لا يمتزج بينه وما يحمله عليه الصلاة والسلام.
ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مدرسة مع كونه معصوماً عليه الصلاة والسلام, كان مدرسة في الفصل بين تعظيم هديه وذاته؛ حتى لا يؤخذ بذاته عليه الصلاة والسلام ويجعل نفسه كسائر الناس من جهة التعامل, فلا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك, ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خارج عن نطاق البشرية, وإنما هو بشر عليه الصلاة والسلام, ولهذا كفار قريش لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم استنكروا عليه أموراً؛ من هذه الأمور: أن النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الأسواق, ويأكل الطعام, وذلك أنه قد انغرس في نفوسهم أن القدوة ينبغي ألا يكون من البشر, وله خصائص تنفرد عنه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع كفار قريش كما يتعاملون مع بعضهم, يمشي في الأسواق، ويأكل الطعام، ويفعل ما يفعلون، ويدع ما يدعون، ما كان موافقاً لأمر الله جل وعلا وترخيصه, وهذا فيه إشارة إلى أن نفوس الناس في قبولهم الحق تتعلق بالذات أكثر من الحق ذاته؛ كما كان كفار قريش, امتنع كفار قريش عن الحق فكانوا مترددين بين الحق الذي بين أيديهم من المعاني وبين حامل الحق, حامل الحق هو بشر, ولكن الحق الذي بين يديهم حق, فمنعهم من اتباع الحق نزول صاحبه عن الصفة الفوقية, إلى صفة البشر, فكان مساوياً لهم من جهة بشريتهم، فرفضوا الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم, لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج عن تعظيم نفسه كتعظيم القادة, ولا يحجب نفسه عن الناس ونحو ذلك؛ لماذا؟ حتى يؤخذ الحق منه لذات الحق لا لذاته, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه وهو في وسطهم كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، وكثير ممن يأتي إليه ولم يره يظن أنه ملَك, والقادم إلى العالم أو إلى القدوة ونحو ذلك ينظر إلى ذاته من جهة التعظيم, فإذا كان على أُبَّهة وتعظيم وكبر وكذلك عدم تبسط مع الناس فإنه يتعلق التعظيم بذاته, فإذا انكسر انكسرت شوكة ما يحمله, فضعف في قلوب الناس فانهزموا, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على بيان مستوى البشرية للناس ولو كانوا أبعدين, والبساطة, ولهذا كان الذي يستمسك بالحق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام، ويعلم أن الذي بين يديه إنما هو بشر, وقد جاء عند ابن سعد في كتابه الطبقات وعند أبي نعيم في كتابه الحلية: ( أن عدي بن حاتم عليه رضوان الله تعالى لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال قبل ذلك: والله ما من أحد سمعت به أكره عندي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعت به ), وذلك أنهم ينقلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوالاً، وإن كانت قد اندثرت عند المتأخرين، فكانوا ينشدون في النبي صلى الله عليه وسلم أشعاراً؛ وذلك أن الأشعار هي التي تحفظ, ولكن الله جل وعلا لم يبق من هذه الأشعار في أفواه الناس شيئاً, فشوهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي الحق الذي يحمله, ( قال: فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده فلما صلى أتيته فقلت: إني أتيت إليك من جبال طي, قال: من أنت؟ قال: قلت: أنا عدي بن حاتم الطائي , قال: فقام بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره فاكتنفته امرأة, قال: فوقف معها طويلاً ), النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاءه سيد من أسياد العرب, وهذا السيد من أسياد العرب عليه رضوان الله تعالى سيد في قومه, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أنه يحمل رسالة, وهذه الرسالة لهذا السيد وكذلك لتلك المرأة الضعيفة, ( قال: فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً ), يريد أن يشير أنه تركني وأنا السيد، ( قال: فقلت والله ما هذه بسيرة ملِك ), يعني: أن هذا ليس من ملوك الأرض, هذا صاحب رسالة, ملوك الأرض: الذين يهتمون بذاتهم أكثر من المعاني التي يرسلونها, فهم يصنعون أمجاداً للذات.
والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكسر هذه الأمور يبين أنه يحمل معاني لا يحمل شيئاً لذاته, ( قال: فدخلت إلى داره, فعمد إلى وسادة محشوة من الليف, فرمى بها إلي فقال: اجلس عليها, فجلس على الأرض, قلا: فقلت: لتجلسن عليها, قال: فأبى, فجلست عليها, قال: فكان أحب الناس إلي ), هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, يريد أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لا يحمل شيئاً لذاته، حتى لا يمتزج بين الحق الذي معه وذاته وحظه عليه الصلاة والسلام, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين صفة البشرية.
وهذا أيضاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( إني لا أنسى ولكني أُنسَّى لأسن ), يعني: لأسن للناس الشرائع والسنن, وبين النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كما جاء في الصحيح من حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فزيد فيها أو نُقص, فقلنا: يا رسول الله, إنك صليت بنا كذا وكذا, فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وتوجه فركع ركعتين ثم انفتل إلينا فقال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ), والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن الله عصمه من المخالفة لأمره الظاهر إلا أن الله جل وعلا جعل فيه بياناً للبشرية بورود النسيان عليه, وكذلك ما يطرأ على الإنسان من العوارض البشرية؛ وذلك حتى لا يمتزج بينه وما يحمله عليه الصلاة والسلام.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] | 2709 استماع |
إنما يخشى الله من عباده العلماء | 2473 استماع |
إن خير من استأجرت القوي الأمين | 2314 استماع |
العالِم والعالَم | 2307 استماع |
الذريعة بين السد والفتح [1] | 2296 استماع |
الإسلام وأهل الكتاب | 2129 استماع |
الذريعة بين السد والفتح [2] | 2101 استماع |
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] | 2100 استماع |
الردة .. مسائل وأحكام | 2075 استماع |
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] | 2044 استماع |