عرض كتاب الإتقان (78) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فقد وقفنا في كتاب الإتقان عند القاعدة السادسة فيما فيه القراءتان فكتب على إحداهما.

ذكر ما كتب موافقاً لقراءة شاذة

ثم ذكر المؤلف بعد ذلك مسائل متعلقة بعضها بالرسم وبعضها بآداب الكتابة, ومما ذكره مما يتعلق بالرسم قال: [ فرع: فيما كتب موافقاً لقراءة شاذة ], وذكر أمثلة لذلك، مثل: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70], فذكر في هذه الآية أن لفظة: (تشابه) كتبت بهذا الاسم وهي توافق قراءة شاذة.

والسؤال الذي يرد في هذا المثال وغيره في كل هذا الفرع الذي ذكره: هل كان هذا مقصداً للصحابة رضي الله عنهم أن يكتبوا لفظة: (تشابه) أو لفظة: (الربا) أو لفظة: (طائرهم) أو (طائره) أو (سامراً) أو (فصاله) وغيرها من القراءات الذي ذكرها أو قصد الرسم الذي ذكره.

والجواب: لا, لم يكن هذا مقصداً؛ لأن الصحابة عنوا في جمع عثمان بإثبات الخلاف الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم برسم يحتمل هذا الثابت, أو ينص عليه كما سيأتي بعد قليل الإشارة إلى أنواع الخلاف في الرسم مع القراءات؛ لكن المقصد: أن هذا الفرع لا فائدة فيه من جهة الرسم؛ لأنه ليس مقصداً من مقاصد الصحابة, وكون القراءة الشاذة التي قُرئ بها لا تخالف رسم المصحف ليس هذا دليلاً على أن الصحابة أرادوا هذه القراءة؛ لأنه كما قلت سابقاً وأعيده مرة أخرى: أن الأصل في القراءة المحفوظ وليس المرسوم, ونحن لا ننطلق من المرسوم وإنما ننطلق من المحفوظ.

وإذا كان كذلك فما ذكره السيوطي رحمه الله تعالى في هذا الفرع الذي ذكره لا فائدة فيه من هذه الجهة.

القراءات المختلفة بزيادة لا يحتملها الرسم

ثم ذكر القراءات وهي الفرع الثاني، فالقراءات المختلفة المشهورة بزيادة لا يحتملها الرسم, نحو (ووصى) (وأوصى) ونحو (تجري تحتها) و (تجري من تحتها) ونحو: (سيقولون الله) (سيقولون لله) (وما عملت أيديهم) (وما عملته أيديهم)، نجد أن الصحابة كتبوا في مجموعة من المصاحف وجهاً، وفي غيرها كتبوا الوجه الآخر, ولو نظرنا إلى قوله: (تجري من تحتها) و(تجري تحتها) وكان الرسم الموجود عندنا (تجري تحتها), فلا يصح أن يقرأ قارئ (تجري من تحتها) والرسم لا توجد فيه (من)؛ لأنه مخالفة للرسم.

وقبل قليل قلنا: نحن لا ننطلق من الرسم, والآن ننطلق من الرسم, والإشكال في هذه المسألة هي قضية الزيادة والنقص غير مسألة الاحتمال أن هذه فيها زيادة, ولا يثبت الزائد إلا بدليل، فلو قرأنا في مصحف ليس فيه لفظة: (من)، ونحن نقرأ بلفظة: (من) فنثبتها؛ لأن الأصل عندنا المحفوظ, لكن لو كنت أقرأ بقراءة هذا المصحف أي: على الرواية الموافقة للمصحف، فلا يصح أن أقول: (تجري من تحتها).

فاعتماد المصحف الزيادة والنقص في هذا صار اعتماد أوجه وطرق, لكن من حيث الأصل (فتحتها)، (ومن تحتها) ثابت عندنا وليس فيه إشكال, وكذلك: (وصى) (وأوصى) ثابت عندنا ليس فيه إشكال, ولا يكون هناك تناقض بين ما ذكرته وهذه المسألة.

وننظر الآن في القاعدة السادسة قال: [ فيما فيه قراءتان فكتب على إحداهما ], وهنا قال: [وأما القراءات المختلفة المشهورة بزيادة لا يحتملها الرسم ونحوها], واضح أنه يقول: إنهم كتبوها في مصحف بوجه وفي مصحف آخر بوجه آخر.

فلو أردنا أن ننظر إلى جميع الاختلافات الواردة في القراءات بمعنى: أن هذه اللفظة أو هذه الكلمة فيها خلاف فإن كان يحتملها الرسم فتكتب كما يحتملها الرسم وهذا كثير, مثل قوله تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70], فلفظة: (تشابه), والقراءات التي فيها يحتملها الرسم.

والثانية: يحتملها الرسم، ولكنهم كتبوها على وجه واحد, بمعنى: أنه يمكن أن يكتبوها على أكثر من وجه، لكن كتبوها على وجه واحد, وهذا الذي ذكره في القاعدة السادسة.

والثالثة: إذا كانت من باب الزيادة والنقص, فإنهم وزعوها في المصاحف, فهذا فيه رسم واحد ويحتمل القراءات المذكورة, يعني: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [المؤمنون:67], (تُهجِرِون), من هَجَر وأهجَر, فاللفظة تحتمل هذا وهذا؛ لأنه مجرد خلاف في الضبط، والضبط سيأتي فيما بعد, لكن المقصد أن الكلمة واحدة في الوجهين, فما تحتاج إلى أن يغير فيها شيء.

وأحياناً يكون أكثر من وجه ولكنهم يكتبونها بأحد الأوجه المقروءة فقط مثل: (الصراط) كتبت بالصاد في جميع المصاحف, مع أنها قرأت بالسين وقرأت بإشمام الصاد زاياً, فهذا وجه آخر من كتابة الصحابة.

توزيع القراءات على المصاحف

الوجه الثالث: توزيع القراءات على المصاحف, وهذا مختص بالذي يكون فيه زيادة أو نقص؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع الحرفان في مكان واحد, يعني: (تجري تحتها) (ومن تحتها) لا يمكن أن تكون في مصحف واحد, وضعوه في مصحف كذا ومصحف كذا, فهذا العمل عند الصحابة الآن يجعلنا نحتاج إلى أن ننظر خصوصاً في القاعدة السادسة, والتي ذكرها صاحب المقنع في مرسوم مصاحف أهل الأمصار أبو عمر الداني في صفحة (82) أشار إلى هذه المسألة, وهذا كتاب نفيس والاطلاع عليه مهم, قال: باب ذكر ما اتفقت على رسمه مصاحف أهل الأمصار من أول القرآن إلى آخره, ثم أورد بسنده وذكر ما اتفقت عليه المصاحف.

فبعض الألفاظ يكون فيها أكثر من قراءة ومع ذلك اتفقت المصاحف على رسمه على وجه واحد، مثل: لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19], في جميع المصاحف (باللام والألف), وفي قراءة ورش وعن أبي عمرو أيضاً: (ليهب لكِ) بالياء, وكذلك (بضنين) في جميع المصاحف بالضاد أخت الصاد, وقرأت بالظاء (بظنين), فإذاً عندنا مجموعة من القراءات المختلفة في النطق، ولكن كتبت برسم واحد, وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: واستمر العمل عليه أن توافق رسم المصحف ولو احتمالاً، يعني: أدخل الوضع في الاحتمال, وباب الاحتمال واسع, ولهذا قد يحصل أحياناً تكلف في إيراد هذا الاحتمال من حيث الكيفية ووجه الاحتمال في ذلك، مثل: (لأهبَ) و (ليهب)؛ لأن الألف لا يمكن أن تكون ياء احتمالاً؛ لكن أياً كان فالمقصود من ذلك: أن هذا يدلنا على أن كتابة الصحابة على وجه من أوجه القراءات, وقراءتهم بأكثر من وجه في هذه اللفظة تنبيه منهم على أن الأصل عندهم هو المحفوظ, والقضية الثانية: أنه لا توجد علل منضبطة فيما يتعلق بالرسم.

وكوننا نقول: لا توجد علل منضبطة لا يعني أنه لا توجد إطلاقاً, لكن المقصود لا توجد علل مطردة, ولهذا كل من أراد أن يبحث عن علل الرسم باطراد، فلا بد أن يقع في الاستثناء.

فما من مسألة من مسائل الرسم إلا وتجد فيها استثناءات.

المقطوع والموصول

وهنا قضية أخرى مرتبطة بهذا الموضوع وهي: قضية المقطوع والموصول, والمقطوع والموصول تعامل معه الصحابة على هذه الأوجه التي ذكرها، يعني: مرةً يكتبونه في جميع المصاحف باتفاق موصولاً أو في جميع المصاحف باتفاق مقطوعاً, وأحياناً يقع خلاف فيكتبونه في بعض المصاحف موصولاً، وفي بعض المصاحف مقطوعاً, ثم ينشأ خلاف القراء بناءً على ذلك, لكن ليس منطلقهم فقط هو الرسم, وإنما منطلقهم في الأصل هي القراءة، فوافقوا في القراءة ما عندهم من الرسم, وجل باب المقطوع والموصول مما لا يصلح الوقف عليه, مثل: (إن ما) تكتب مفصولة أو (إنما) موصولة, وهذه ليست محل وقف, أو (أن لا) مفصولة, (ألا) موصولة, وهذه ليست محل وقف, وقس على ذلك أيضا ًمن مسائل المقطوع والموصول.

هذه إشارة إلى ما يتعلق بقضية الرسم وأنا أرى أنها مهمة وتحتاج إلى أن يكون فيها بحث لكي نسلم من التكلفات التي ترد في التعليل لرسم الصحابة, مع أنه كان باجتهادهم بدلالة أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: فإذا اختلفتم أنتم وزيد ما قال: فاكتبوه كما أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم, إنما قال: فاكتبوه بلسان قريش فإنه بلسانها نزل, فإذاً دل هذا الأثر وهو في صحيح البخاري على أن العمل في الرسم باجتهاد بلا ريب, وواضح جداً من كلام عثمان رضي الله عنه.

ومع ذلك تجد -مع الأسف- من يذكر هذا الحديث ثم يقول: بأن الرسم توقيفي ويبحث عن علل مطردة ويتكلف ويتعسف في إيراد هذه العلل.

فالحروف المقطعة كتبت هكذا مقطعة, واختلفت في طريقة الاطراد, يعني: تدخل فيما كتب على وجه واحد وأشار عليها, أنها كتبت على صورة الحرف نفسه, لكن كيف قُرِئت تختلف.

فطريقة كتابتها متفقة في جميع المصاحف, لكن قد تختلف هل هي آية أو ليست بآية؟ وهذه قضية أخرى ليس لها علاقة, يعني: في عد الآي, يعني: هل (ألم) آية أو ليست بآية؟ على اختلاف العد, لكن كلامنا عن الرسم ثابت.

ثم ذكر المؤلف بعد ذلك مسائل متعلقة بعضها بالرسم وبعضها بآداب الكتابة, ومما ذكره مما يتعلق بالرسم قال: [ فرع: فيما كتب موافقاً لقراءة شاذة ], وذكر أمثلة لذلك، مثل: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70], فذكر في هذه الآية أن لفظة: (تشابه) كتبت بهذا الاسم وهي توافق قراءة شاذة.

والسؤال الذي يرد في هذا المثال وغيره في كل هذا الفرع الذي ذكره: هل كان هذا مقصداً للصحابة رضي الله عنهم أن يكتبوا لفظة: (تشابه) أو لفظة: (الربا) أو لفظة: (طائرهم) أو (طائره) أو (سامراً) أو (فصاله) وغيرها من القراءات الذي ذكرها أو قصد الرسم الذي ذكره.

والجواب: لا, لم يكن هذا مقصداً؛ لأن الصحابة عنوا في جمع عثمان بإثبات الخلاف الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم برسم يحتمل هذا الثابت, أو ينص عليه كما سيأتي بعد قليل الإشارة إلى أنواع الخلاف في الرسم مع القراءات؛ لكن المقصد: أن هذا الفرع لا فائدة فيه من جهة الرسم؛ لأنه ليس مقصداً من مقاصد الصحابة, وكون القراءة الشاذة التي قُرئ بها لا تخالف رسم المصحف ليس هذا دليلاً على أن الصحابة أرادوا هذه القراءة؛ لأنه كما قلت سابقاً وأعيده مرة أخرى: أن الأصل في القراءة المحفوظ وليس المرسوم, ونحن لا ننطلق من المرسوم وإنما ننطلق من المحفوظ.

وإذا كان كذلك فما ذكره السيوطي رحمه الله تعالى في هذا الفرع الذي ذكره لا فائدة فيه من هذه الجهة.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
عرض كتاب الإتقان (45) - النوع الخامس والأربعون في عامه وخاصه 3931 استماع
عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1] 3814 استماع
عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه 3593 استماع
عرض كتاب الإتقان (79) - النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه 3585 استماع
عرض كتاب الإتقان (69) - النوع السابع والستون في أقسام القرآن 3541 استماع
عرض كتاب الإتقان (49) - النوع التاسع والأربعون في مطلقه ومقيده 3537 استماع
عرض كتاب الإتقان (74) - النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله 3481 استماع
عرض كتاب الإتقان (34) - النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه [1] 3477 استماع
عرض كتاب الإتقان (7) - النوع الرابع - النوع الخامس - النوع السادس 3442 استماع
عرض كتاب الإتقان (53) - النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته 3418 استماع