التغريب الأهداف والأساليب


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد بيّن لهذه الأمة الطريق الحق، وطريق الرشاد والهداية، وميز بينه وبين طريق الباطل، والشر والغواية، وجعل الناس على محجة واضحة بيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

أهمية معرفة الخير والشر

كما لا يخفى فإن الحقائق لا يمكن أن تتبين للإنسان إلا بمعرفة شيئين:

الأول: معرفة ذوات المعلومات. والثاني: معرفة ما يخالفها. ولهذا يقال: وبضدها تتبين الأشياء.

وأعلى ما يصل إليه الإنسان من فهم الشيء هو أن يفهمه بذاته، وأن يفهمه بضده، فإذا فهمه على هذا النحو مع التدقيق والتأمل بمعرفة الحال ومعرفة المآل أدرك الإنسان تلك الحقائق والمدركات على بينة وتمام من غير قصور، فلا يقع غالباً في زلل وخطأ بهذه الأشياء أو هذه المعلومات.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه وأمته الطريقين: طريق الخير, وطريق الشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه وأمته تلك الطرق بتفاصيلها ودقائقها، وكذلك دعاتها الذين يدعون إليها، وهذا نهج نبوي دقيق، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل الإجمال والتفصيل، فجعل الله جل وعلا آياته مفصلة، وجعل الحكمة من ذلك والعلة: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً، وقال: هذا الصراط المستقيم، وخط عن يمينه خطوطاً وعن شماله خطوطاً، فقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم تلا قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ).

أنواع الطرق المخالفة للصراط المستقيم

بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطرق التي تخالف الهدي والصراط المستقيم على نوعين:

النوع الأول: الشهوات.

النوع الثاني: الشبهات.

ولهذا قال الله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

بيّن أن ثمة سبلاً متعددة، وأن الصراط من جهة الأصل واحد، وأن السبل المتنوعة في مخالفة الحق متعددة، وقد جاء عن غير واحد من السلف من المفسرين أن المراد بالسبل هي: البدع والشبهات، وجاء في قول: أنها البدع والشهوات، والمراد بذلك ما كان دخيلاً في أصل الدين لتغييره وتبديله، أو ما كان لترويضه لكي يتوافق مع الشهوات، فحينئذٍ تتداخل الشهوة والشبهة في آن واحد، وأخطر ما تكون الأفكار إذا اجتمعت الشهوات والشبهات في مذهب واحد، وعلى طريقة ونهج واحد، فحينئذٍ يكون هذا النهج هو أخطر المناهج على الإطلاق، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا يمكن أن تحمى إلا بإدراك حقيقتها وحقيقة عدوها.

وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة تخلط كثيراً في أبواب المفاهيم والمعارف والمدركات، وذلك أنها لا تميز غالباً، وكذلك في معرفة العقائد والأفكار بين الوسائل الموصلة إلى حقيقة الإدراك، بينما يوصل الإنسان إلى فهم المادة والعلم وفهم العقائد، وهذه كلها من جهة الأصل تمتزج بين طرق توصل الإنسان إلى حقائق على سبيل الاجتماع، وبين سبل توصل الإنسان إلى معلومات على سبيل الانفراد، لا يمكن أن يمتزج معها غيرها، وهذا أمر معلوم لدى أهل العقل، وكذلك من نظر في نصوص كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك ذلك بيناً ظاهراً.

المفاصلة والمفارقة بين أهل الحق وأهل الباطل

من الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء في شريعته بيان المفاصلة والمفارقة بين أهل الحق والباطل، وأنه ينبغي للمؤمن أن يفاصل أهل الزيغ والضلال بجميع أنواع المفاصلة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، واغتفر الشارع جملة من الأحوال والصور التي لا يمكن أن تتحقق المصلحة التامة إلا بشيء ونوع من الممازجة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقامة المؤمن بين ظهراني المشركين، كما جاء في حديث عمران، وكذلك التشبه بالأقوال والأعمال كما جاء في حديث عبد الله بن عمر ، كما رواه الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، وذلك أن التشبه في الظاهر يلزم منه تشبه في الباطن، وكذلك فإن الإنسان إذا تشبه بالناس بأفكارهم وأقوالهم، فإن ذلك يفضي إلى تشبه الظاهر، والأصل في ذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يتشبه في ظاهره إلا وقد وجدت بذرة من التشبه في الباطن، وذلك أن الظاهر هو غرس للباطن كغرس الشجر إذا ظهر فيه ثمر ورق، وهذا أمر معلوم.

والنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن الأمة تقتدي وتأتسي بحال غيرها، ولو كان بدخول جحر الضب، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم، ولو كان شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن القوم إلا هم )، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما بيّن أولئك وبيّن حال من قبلنا، أن الأمة تتشوف إلى النظر إلى الغير، وذلك أن الإنسان إذا وجد في حاله أو في قوله أو في فعله ضعفاً؛ فإنه ينظر إلى غيره لعله يجد قوة، فإذا وجد قوة في غيره أخذ بالأسباب التي أوصلت غيره إلى القوة، فيأخذ بها من غير نظر إلى أسبابه وأحواله، ويظن أن الوصول إلى القوة والضعف أنه على نهج واحد وتتحد فيه الذوات، وتتحد فيه السبل، وهذا من أنواع الخلط التي ينبغي أن يحذر منها الإنسان.

الخلط بين الماديات والعقائد وخطورة ذلك

ولهذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعظم أسباب اللبس عند كثير من الناس أنهم يخلطون بين الماديات، ويخلطون بين أبواب العقائد، فإن أبواب العقائد ومعرفة الأحكام ووحي الله جل وعلا لا يمكن أن يربط بأمور محسوسات، فقد يكون للإنسان من القدرة على إدراك شيء محسوس والنظر في المادة ما لا يتحقق عند غيره، فإذا وجد عنده فإن هذا لا يعني صواباً في أبواب الاعتقاد، فإننا نجد من كان دون البشرية من جهة الحضوة والمنزلة من العقل أن الله جل وعلا خصهم بجملة من الخصائص التي هي بالنسبة للبشر من أبواب الإعجاز، فنحن نرى النجوم والكواكب في أماكن عالية، ونرى من الطيور وغيرها ما سخر الله جل وعلا لها من الخصائص ما تفوق البشر وما لم يصل إليه البشر، وهم بالإجماع دون البشر من جهة المزية والفضل والمنقبة، وذلك أن تلك الخصائص ليست مزية بمعرفة ذات الحق، وكذلك بضعف العقل وعدمه، وإنما هي أسباب يهيؤها الله جل وعلا للإنسان فيصل بها إلى غاية أرادها الله سبحانه وتعالى.

ولهذا بيّن الله جل وعلا أن الذي يمنعه من أن يجعل للكفار لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليه يظهرون، هو ألا يكون الناس أمة واحدة، كما جاء في قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالأمة الواحدة هي على الكفر أو النفاق أو الزندقة والإلحاد، وذلك أنهم ينظرون إلى حال الكفار، ومن يكفر بالرحمن أن الله جل وعلا جعل لهم بيوتاً وسقفاً من فضة، وجعل لهم معارج، فخلطوا بين النظرة المادية، وبين الصواب من جهة العقل والإدراك والنظر في صواب الشريعة من عدمها، فخلطوا في أبواب منفصلة ومنفكة، وذلك أن الأسباب الموصلة إلى إدراك الحكم والغايات الإلهية التي أمر الله جل وعلا بالتزامها في أبواب التعبد منفكة ومنفصلة عن المدركات المادية التي يدرك الإنسان ذواتها ولكنه لا يدرك ذوات غيرها من حكم الله سبحانه وتعالى في أمور الغيب وحكم العبادة وغيرها.

أما الأمور المادية والذوات المادية فقد بيّن الله جل وعلا أسباب الوصول إليها، والقياس فيها، بخلاف العلل الشرعية فإن الله جل وعلا منع من القياس إلا ما كان قياساً جلياً أو كان قياس الأولى ونحو ذلك، وذلك أن الشريعة الأصل فيها الحياطة، والعبادة لا تتناسخ، بل التناسخ في ذلك من البدعة، وأما بالنسبة للمادة فإن التناسخ فيها موجود؛ مما يدل على انشقاق مبدأ النظرة، وأن النظرة من جهة الأصل في أبواب الشريعة والتعبد مردها إلى الله سبحانه وتعالى والوحي، وأنه لا يجوز للإنسان أن يقيس شيئاً بعقله، فيتعبد لله جل وعلا من تلقاء نفسه وأن ذلك مردود إليه.

وأن من قاس في أمر دنياه فإن ذلك أمر يدخل في أبواب المدركات، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وجاء في ظاهر هذا في قول الله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فالله جل وعلا قد رضي للأمة: الإسلام ديناً، وهذا الرضا مقترن بالتمام، فلما كان التمام أعقبه الرضا؛ دل على أن الزيادة على ذلك لا مجال للرضا فيها، وأنها من سخط الله جل وعلا وعقابه، فلما كان كذلك دل على أن رضا الله جل وعلا لا يمكن أن يدركه الإنسان بالعقل، فعلم أن أصل المدركات هو العقل، وإذا قلنا: إن إدراك الشريعة لا يمكن أن يتحقق بالعقل من جهة الأصل حينئذٍ لا يمكن أن يقيس الإنسان عليه غيره، وأما بالنسبة للمادة فإن الإنسان يدرك غيرها بقياس العقل، فيتناسخ ذلك الأمر، فيدرك حقائق كثيرة مما هي في صالحه أو في غير صالحه.

ولهذا بيّن الله جل وعلا أن الفساد يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، فهم يظنون أنهم قد وصلوا إلى الصواب وهم ما وصلوا إليه.

كما لا يخفى فإن الحقائق لا يمكن أن تتبين للإنسان إلا بمعرفة شيئين:

الأول: معرفة ذوات المعلومات. والثاني: معرفة ما يخالفها. ولهذا يقال: وبضدها تتبين الأشياء.

وأعلى ما يصل إليه الإنسان من فهم الشيء هو أن يفهمه بذاته، وأن يفهمه بضده، فإذا فهمه على هذا النحو مع التدقيق والتأمل بمعرفة الحال ومعرفة المآل أدرك الإنسان تلك الحقائق والمدركات على بينة وتمام من غير قصور، فلا يقع غالباً في زلل وخطأ بهذه الأشياء أو هذه المعلومات.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه وأمته الطريقين: طريق الخير, وطريق الشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه وأمته تلك الطرق بتفاصيلها ودقائقها، وكذلك دعاتها الذين يدعون إليها، وهذا نهج نبوي دقيق، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل الإجمال والتفصيل، فجعل الله جل وعلا آياته مفصلة، وجعل الحكمة من ذلك والعلة: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً، وقال: هذا الصراط المستقيم، وخط عن يمينه خطوطاً وعن شماله خطوطاً، فقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم تلا قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ).

بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطرق التي تخالف الهدي والصراط المستقيم على نوعين:

النوع الأول: الشهوات.

النوع الثاني: الشبهات.

ولهذا قال الله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

بيّن أن ثمة سبلاً متعددة، وأن الصراط من جهة الأصل واحد، وأن السبل المتنوعة في مخالفة الحق متعددة، وقد جاء عن غير واحد من السلف من المفسرين أن المراد بالسبل هي: البدع والشبهات، وجاء في قول: أنها البدع والشهوات، والمراد بذلك ما كان دخيلاً في أصل الدين لتغييره وتبديله، أو ما كان لترويضه لكي يتوافق مع الشهوات، فحينئذٍ تتداخل الشهوة والشبهة في آن واحد، وأخطر ما تكون الأفكار إذا اجتمعت الشهوات والشبهات في مذهب واحد، وعلى طريقة ونهج واحد، فحينئذٍ يكون هذا النهج هو أخطر المناهج على الإطلاق، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا يمكن أن تحمى إلا بإدراك حقيقتها وحقيقة عدوها.

وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة تخلط كثيراً في أبواب المفاهيم والمعارف والمدركات، وذلك أنها لا تميز غالباً، وكذلك في معرفة العقائد والأفكار بين الوسائل الموصلة إلى حقيقة الإدراك، بينما يوصل الإنسان إلى فهم المادة والعلم وفهم العقائد، وهذه كلها من جهة الأصل تمتزج بين طرق توصل الإنسان إلى حقائق على سبيل الاجتماع، وبين سبل توصل الإنسان إلى معلومات على سبيل الانفراد، لا يمكن أن يمتزج معها غيرها، وهذا أمر معلوم لدى أهل العقل، وكذلك من نظر في نصوص كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك ذلك بيناً ظاهراً.

من الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء في شريعته بيان المفاصلة والمفارقة بين أهل الحق والباطل، وأنه ينبغي للمؤمن أن يفاصل أهل الزيغ والضلال بجميع أنواع المفاصلة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، واغتفر الشارع جملة من الأحوال والصور التي لا يمكن أن تتحقق المصلحة التامة إلا بشيء ونوع من الممازجة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقامة المؤمن بين ظهراني المشركين، كما جاء في حديث عمران، وكذلك التشبه بالأقوال والأعمال كما جاء في حديث عبد الله بن عمر ، كما رواه الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، وذلك أن التشبه في الظاهر يلزم منه تشبه في الباطن، وكذلك فإن الإنسان إذا تشبه بالناس بأفكارهم وأقوالهم، فإن ذلك يفضي إلى تشبه الظاهر، والأصل في ذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يتشبه في ظاهره إلا وقد وجدت بذرة من التشبه في الباطن، وذلك أن الظاهر هو غرس للباطن كغرس الشجر إذا ظهر فيه ثمر ورق، وهذا أمر معلوم.

والنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن الأمة تقتدي وتأتسي بحال غيرها، ولو كان بدخول جحر الضب، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم، ولو كان شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن القوم إلا هم )، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما بيّن أولئك وبيّن حال من قبلنا، أن الأمة تتشوف إلى النظر إلى الغير، وذلك أن الإنسان إذا وجد في حاله أو في قوله أو في فعله ضعفاً؛ فإنه ينظر إلى غيره لعله يجد قوة، فإذا وجد قوة في غيره أخذ بالأسباب التي أوصلت غيره إلى القوة، فيأخذ بها من غير نظر إلى أسبابه وأحواله، ويظن أن الوصول إلى القوة والضعف أنه على نهج واحد وتتحد فيه الذوات، وتتحد فيه السبل، وهذا من أنواع الخلط التي ينبغي أن يحذر منها الإنسان.

ولهذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعظم أسباب اللبس عند كثير من الناس أنهم يخلطون بين الماديات، ويخلطون بين أبواب العقائد، فإن أبواب العقائد ومعرفة الأحكام ووحي الله جل وعلا لا يمكن أن يربط بأمور محسوسات، فقد يكون للإنسان من القدرة على إدراك شيء محسوس والنظر في المادة ما لا يتحقق عند غيره، فإذا وجد عنده فإن هذا لا يعني صواباً في أبواب الاعتقاد، فإننا نجد من كان دون البشرية من جهة الحضوة والمنزلة من العقل أن الله جل وعلا خصهم بجملة من الخصائص التي هي بالنسبة للبشر من أبواب الإعجاز، فنحن نرى النجوم والكواكب في أماكن عالية، ونرى من الطيور وغيرها ما سخر الله جل وعلا لها من الخصائص ما تفوق البشر وما لم يصل إليه البشر، وهم بالإجماع دون البشر من جهة المزية والفضل والمنقبة، وذلك أن تلك الخصائص ليست مزية بمعرفة ذات الحق، وكذلك بضعف العقل وعدمه، وإنما هي أسباب يهيؤها الله جل وعلا للإنسان فيصل بها إلى غاية أرادها الله سبحانه وتعالى.

ولهذا بيّن الله جل وعلا أن الذي يمنعه من أن يجعل للكفار لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليه يظهرون، هو ألا يكون الناس أمة واحدة، كما جاء في قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالأمة الواحدة هي على الكفر أو النفاق أو الزندقة والإلحاد، وذلك أنهم ينظرون إلى حال الكفار، ومن يكفر بالرحمن أن الله جل وعلا جعل لهم بيوتاً وسقفاً من فضة، وجعل لهم معارج، فخلطوا بين النظرة المادية، وبين الصواب من جهة العقل والإدراك والنظر في صواب الشريعة من عدمها، فخلطوا في أبواب منفصلة ومنفكة، وذلك أن الأسباب الموصلة إلى إدراك الحكم والغايات الإلهية التي أمر الله جل وعلا بالتزامها في أبواب التعبد منفكة ومنفصلة عن المدركات المادية التي يدرك الإنسان ذواتها ولكنه لا يدرك ذوات غيرها من حكم الله سبحانه وتعالى في أمور الغيب وحكم العبادة وغيرها.

أما الأمور المادية والذوات المادية فقد بيّن الله جل وعلا أسباب الوصول إليها، والقياس فيها، بخلاف العلل الشرعية فإن الله جل وعلا منع من القياس إلا ما كان قياساً جلياً أو كان قياس الأولى ونحو ذلك، وذلك أن الشريعة الأصل فيها الحياطة، والعبادة لا تتناسخ، بل التناسخ في ذلك من البدعة، وأما بالنسبة للمادة فإن التناسخ فيها موجود؛ مما يدل على انشقاق مبدأ النظرة، وأن النظرة من جهة الأصل في أبواب الشريعة والتعبد مردها إلى الله سبحانه وتعالى والوحي، وأنه لا يجوز للإنسان أن يقيس شيئاً بعقله، فيتعبد لله جل وعلا من تلقاء نفسه وأن ذلك مردود إليه.

وأن من قاس في أمر دنياه فإن ذلك أمر يدخل في أبواب المدركات، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وجاء في ظاهر هذا في قول الله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فالله جل وعلا قد رضي للأمة: الإسلام ديناً، وهذا الرضا مقترن بالتمام، فلما كان التمام أعقبه الرضا؛ دل على أن الزيادة على ذلك لا مجال للرضا فيها، وأنها من سخط الله جل وعلا وعقابه، فلما كان كذلك دل على أن رضا الله جل وعلا لا يمكن أن يدركه الإنسان بالعقل، فعلم أن أصل المدركات هو العقل، وإذا قلنا: إن إدراك الشريعة لا يمكن أن يتحقق بالعقل من جهة الأصل حينئذٍ لا يمكن أن يقيس الإنسان عليه غيره، وأما بالنسبة للمادة فإن الإنسان يدرك غيرها بقياس العقل، فيتناسخ ذلك الأمر، فيدرك حقائق كثيرة مما هي في صالحه أو في غير صالحه.

ولهذا بيّن الله جل وعلا أن الفساد يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، فهم يظنون أنهم قد وصلوا إلى الصواب وهم ما وصلوا إليه.

وفي مجلسنا هذا نتكلم عن التغريب، والتغريب كما هو ظاهر في هذا المصطلح مشتق من جهة الغرب، والغرب المراد به هي الملة الغربية، وليس المراد بذلك غرب الأرض على الإطلاق، والملة الغربية هي الملة النصرانية، والتغريب له مصطلح مضاد له، ولكنه في غايته واحد، والمصطلح المضاد له هو مصطلح الاستشراق، والمراد بذلك أن ثمة أناساً من الغرب يأتون إلى بلدان المسلمين وينغمسون فيها، وينظرون في أحوالهم حتى يكون ذلك آلة للوصول إلى أحوالهم، والتغلغل في دينهم، وعاداتهم وتقاليدهم وأقوالهم، فيخاطبون على ذلك النحو، وذلك من المدارك الصحيحة من جهة الأصل، أن الإنسان لا يمكن أن يخاطب قوماً إلا وقد عرف أحوالهم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عباس: (لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ).

وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) إشارة إلى معرفة دينهم، وأنه ينبغي للإنسان ألا يخاطب القوم وسائر الناس بخطاب واحد لا ينفك باختلاف أنواعهم من جهة المدارك العقلية، من جهة السن والجنس، وكذلك من جهة الدين، وكذلك العرق واللغة، فينبغي للإنسان أن يدرك أحوالهم، فبيّن النبي عليه الصلاة والسلام حال تلك الأمة وأنهم يختلفون عن بيئة أهل الإسلام كما في المدينة المشتركة بالوثنية والدين الكتابي، وأن الخطاب في ذلك ينفك عن غيرهم، فجاء ما يسمى بالاستشراق، وهو الدخول إلى بلدان المسلمين والنظر في أحوالهم وعقائدهم ودينهم، ثم لما كانوا من أهل الخبرة في ذلك خاطبوا المسلمين بما يريدون، وجاء في ذلك ما يسمى بالتغريب، وهو مصاحب وقوي بعد التشريق جاء بعده وظهرت آثاره في مجتمعات المسلمين، وهو من جهة الأصل التغريب، إنما نشأ بقوة بعد انقلاب الغرب على دينه وظهور علم المادة والعقل.