شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين.

قال رحمه الله تعالى:

[ والأمر قصد الفعل ممن دونه وإفعلٌ من لفظه يعنونه

وعندنا قد يقتضي الفورية لا للتراخي بل نرى الحينية ]

تقدم معنا الإشارة إلى الأمر، وأن الأمر هو: استدعاء الفعل ممن دونه، واستدعاء الفعل ممن دونه إذا قلنا أن الأصل فيه الوجوب فينبغي أن نقول: استدعاء الأمر ممن دونه على وجه الوجوب؛ لأننا نقول بأن الأصل في الأمر الوجوب، وإنما ذكرنا أن يكون لمن دونه؛ لأن طلبه ممن فوقه يكون دعاء، وإذا كان ممن كان مساوياً له فإنه يكون التماس، فالإنسان يقول لله جل وعلا: اللهم اغفر لي، فهذا طلب وهو أمر، ولكنه يكون دعاء؛ لأنه ممن دونه لمن فوقه، وأما إذا كان ممن يختص بخصائص البشر فإنه يتوجه إليه الخطاب بالالتماس، فتطلب من فلان غرضاً أو حاجة التماساً أن يحقق ذلك المطلوب.

ولهذا نقول: إن ألفاظ الأمر، أو أفعال الأمر ينبغي أن ينظر إليها من جهات: الجهة الأولى إلى الآمر، والثانية إلى المأمور، والثالثة إلى صيغة الأمر، والرابعة إلى القرينة المحتفة به، وهذه الأربع هي التي تعطي الإنسان بياناً لمعرفة وجه الأمر، وآكد ذلك أن ينظر الإنسان إلى الآمر والمأمور، وأن ينظر إلى صيغة الأمر، وأن ينظر إلى السياق، وقد يضاف إليها خامساً أن ينظر إلى المأمور به، هذه الخمسة تعطي الإنسان معرفة بطبيعة الأمر.

وهل هو على سبيل الإلزام، أو على سبيل الدعاء، أو على سبيل التهديد، أو على سبيل التسخير، أو التصبير، أو الإهانة، أو التعجيز أو غير ذلك؟ فقد تطلب من إنسان طلباً وتتوجه إليه بالأمر ولا تريد النفاذ؛ لأنك تريد منه تعجيزاً وإهانة، وذلك كقول الله سبحانه وتعالى: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا [الإسراء:50] فالله جل وعلا أمرهم بأن يكونوا حجارة ولا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، وقد تطلب طلباً وتريد به الإهانة، أو تريد به التخويف، أو التهديد، أو التسوية بين الفعلين وغير ذلك مما يشير إليه المصنف فيما يأتي بإذن الله.

والأمر يكون بصيغة افعل، ويكون أيضاً من غير فعل الأمر، ويأتي على صور متعددة من جهة تحقق الأمر بالصيغة، وذلك بالفعل المضارع المجزوم باللام، كقول الله سبحانه وتعالى: فَلْيَحْذَرِ [النور:63]، وَلْيَطَّوَّفُوا [الحج:29]، فالله سبحانه وتعالى أمر بالطواف بهذا الفعل المضارع المجزوم باللام، وكذلك أيضاً ما كان باسم فعل، وذلك كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )، فهذا دليل على الأمر، و "على" من صيغ الأمر، وكذلك المصدر النائب عن فعله، فإنه يدل على الوجوب، وذلك كقول الله جل وعلا: فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4] يعني: اضربوا رقاب هؤلاء، وظاهره أنه يفيد الخبر، ولكنه يتضمن الأمر؛ لأنه مصدر نائب عن فعله، كذلك أيضاً المشتق من فعل الأمر، وذلك كقولنا مثلاً: يأمركم، وينهاكم، وذلك لتضمنه فعل الأمر أو النهي، وأصل الأمر هو بصيغة افعل، ويعرف تحديده بالنظر إلى ما تقدم من الخمسة، النظر إلى الآمر، النظر إلى المأمور، النظر إلى الصيغة، النظر إلى المأمور به، النظر إلى السياق، وهذا يعطي الناظر في الأمر تحديده هل هو للوجوب أو للاستحباب أو لغيره؟

دلالة الأمر على الفورية أو التراخي

قال رحمه الله تعالى:

(وعندنا قد يقتضي الفورية لا للتراخي بل نرى الحينية )

بالنسبة للأمر هل يقتضي الفورية والمبادرة به؟ أولاً ينبغي أن نعلم أن النهي يقتضي الفورية، وهذا محل اتفاق عند العلماء، وإنما الخلاف في الأمر، فإذا نهى الله عز وجل عبداً من العباد عن فعل شيء، فمقتضى ذلك أنه ينتهي على الفور، فإذا قال الله عز وجل لا تسرقوا، فينبغي أن تبادر، ولا تقل: إن النهي هو من الغد أو من بعد الغد ونحو ذلك.

كذلك أيضاً فإن النهي يقتضي التكرار، وهذا محل اتفاق عند العلماء، لا تسرق اليوم، ولا تسرق غداً، ولا تسرق مرة، ولا تسرق مرتين، وهذا على سبيل الدوام.

أما بالنسبة للأمر فهل الأمر يفيد الفورية أو يفيد التراخي؟ اختلف العلماء، وهل يفيد التكرار أم يكتفي بمرة واحدة؟ أولاً لا بد من النظر إلى صيغة الأمر، وكذلك النظر إلى المأمور به، فإذا كان مقيداً بقيد خارج عن ذات الفعل فإنه يقتضي التكرار بذلك القيد، وذلك إذا أمر الله جل وعلا بعبادة في زمن معين، كإقامة الصلاة لدلوك الشمس، فإنه يجب على الإنسان أن يأتي بالصلاة عند دلوك كل شمس، فهذا مقيد؛ لأن الله جل وعلا أمر بالفعل وقيده بشيء من التقييدات، فيقيد به التكرار لهذا التقييد.

واختلف العلماء في الأمر المجرد هل يقتضي الفورية، وهل يقتضي التكرار؟ بالنسبة للفورية هذا محل خلاف عند العلماء، فمن العلماء من قال: إنه يقتضي الفورية، ومن العلماء من قال: إنه يقتضي التراخي، وذهب جمهور العلماء إلى أنه يقتضي التراخي إذا كان متجرداً عن أي قرينة، وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يقتضي الفورية، وأنَّ هذا هو الأصل فيه، وإذا قيد بقيد فإنه يقيد بذلك القيد ولا يتوسع فيه حتى لا يقع الإنسان في أمر الابتداع، والذي يظهر والله أعلم في أمر الفورية والتراخي أن ذلك بحسب السياق، وبحسب المأمور به، فإذا كان المأمور به من الأمور المتأكدة اللازمة التي يجب على الإنسان أن يأتي به بعينه من غير حد معين فالأصل في ذلك الفورية والتكرار، وأما إذا كان الأمر من غير تأكيد وإلزام بنوع من أنواع الإلزام، ولم يأت فيه تهديد في حال الترك فالأصل في ذلك أنه على التراخي، ولا يفيد تكراره.

دلالة الأمر على التكرار

قال رحمه الله تعالى:

[ كذاك أيضاً يقتضي التكرارا فافهم مقالي، لا تكن مهذارا ]

مسألة التكرار محل خلاف عند العلماء، هل الأمر يقتضي التكرار أم فعله مرة واحدة يجزئ؟ من نظر إلى الأوامر الشرعية في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن الأوامر التي تقتضي التكرار دل الدليل على مقتضى تكرارها، سواء كان ذلك في الصلوات، أو كان ذلك في الزكاة، أو كان ذلك في الصيام، ونحو ذلك، فقد دلت الأدلة على أمر خارج عن ذات صيغة الأمر، فأخذنا مسألة التكرار من أمر خارج عنه، وأخذنا ذلك أيضاً من النهي عن ضده، فالله سبحانه وتعالى أمر بصلة الرحم، هل هذا يقتضي التكرار أم يجزئ مرة واحدة؟ نقول: لو كان مجرداً لكان مرة واحدة كافية، ولكن لما نهى الشارع عن ضده دل على أنه على التكرار؛ لأنه لا يمكن أن يمتنع الإنسان عن ضده إلا بتكرار ذلك الفعل؛ لهذا نقول: إن الفعل المجرد من غير نهي عن ضده يفيد الفعل مرة واحدة ولا يفيد التكرار، فإذا كان ثمة قرينة، وهذه القرائن: أولها التأكيد والإلزام، وثانيها النهي عن الضد؛ لأن النهي عن الضد يلزم معه تكرار الفعل، كالنهي عن ترك الصلاة، فالنهي عن ترك الصلاة يلزم منه تكرار هذه العبادة، والنهي عن ترك الزكاة يلزم منه الإتيان بها، وما جاء في الشريعة الأمر به مرة واحدة ونهي عن ضده فقد جاء النص بتقييده مرة واحدة، كما في الحج، جاء الأمر به مرة واحدة، وجاء النهي عن ضده، وذلك في قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، بين الله سبحانه وتعالى أن الأمر متوجه عموماً، ثم نهى عن ضده، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في العمر مرة، وهذا أخرج مسألة الحج من مسألتنا؛ لهذا نقول: إن الأمر إذا كان مجرداً من النهي عن ضده، ومن التأكيد به بأي نوع من أنواع التأكيد، وذلك بالتشديد وكثرة النص على الفعل فإن ذلك لا يقتضي التكرار، وإذا وجد معه أحد هذه القرائن فإن ذلك يجعله يقتضي التكرار.

والفقهاء والأصوليون يتكلمون عن هذه المسألة في مسألة التكرار، ويذكرون فيها الخلاف ويسوقونه، ولكن لا يشيرون في كثير من الأحيان إلى مسألة القرائن والنهي عن الضد، والنهي عن الضد هو أمارة على معرفة التكرار من عدمه، ولها أثر عليه، ولهذا نجد أن الشارع يأمر بكثير من الأوامر، ولا ينهى عن ضدها، فهذا يقتضي أن الفعل مرة واحدة من العبد يجزئ عنه، وإذا جاء النهي عن الضد في ذلك فإن المرة الواحدة لا تجزئ عن هذا، وهذا ظاهر، كمسألة الزكاة، ومسألة صيام رمضان؛ لأنه جاء النهي عن الضد في الإفطار لمن أفطر يوماً من رمضان متعمداً وغير ذلك، سواء في رمضان هذا أو الذي يليه، فهذا أعطانا قرينة على ضبط هذه المسألة.

الأمر بالشيء نهي عن ضده

قال رحمه الله تعالى:

[ أمر بشيء نهيك عن ضده كذاك نهي مثله في حكمه ]

يقول هنا: (أمر بشيء نهيك عن ضده) الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن الضد؟ الذي يظهر والله أعلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده؛ لأن الشيء قد يكون له ضد واحد، وينتفي بورود أحد أضداده، وقد يوجد له أضداد مجموعها يخالف ذلك الأمر أو ذلك المضدود؛ ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى حينما أمر بالصلاة قائماً، لزم من ذلك النهي عن القعود وعن الاضطجاع وعن الاتكاء والاعتماد، فهذه أضداد، وأما الذي يقابل القيام فهو القعود، إذاً هل الأمر نهي عن ضده أو عن أضداده؟ نقول: نهي عن أضداده، فكل ضد ينتفي معه وصف الأمر فإنه منهي عنه، وهذا عام؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بالصلاة وأمر الله جل وعلا بها كذلك، فأمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإتيان بالصلاة في أحاديث كثيرة، والصلاة لها أضداد، فمن هذه الأضداد الترك بالكلية، أو قصرها إذا كانت تامة من غير موجب، أو الإتيان بها على غير وجهها، كأن يأتي مثلاً بركوع من غير سجود، أو يأتي بركعة وسجدة ونحو ذلك، فهذه أضداد عن ذلك الوصف الذي أمر الشارع به، فذلك النهي هو نهي عن أضداده، فإن أمرنا بأمر فذلك يقتضي النهي عن أضداده، ونعرف قيمة الأمر والنهي باجتماعهما على فعل واحد، فالأمر من جهة الفعل، والنهي من جهة الترك، والإنسان إذا أمره الله عز وجل بفعل شيء ثم نهاه عن ضده دل على تأكيده وإلزامه، والقاعدة أن كل ما أمر الشارع به ونهى عن ضده فهو واجب لا مدخل للاستحباب إليه، وهذا يطرأ في مسألة النسخ أو مسألة تخصيص العام، وتقييد المطلق، وأما ما جاء الأمر به من غير نهي عن ضده فهذا في الغالب أنه لا يكون واجباً، وإذا نهى الشارع عن شيء ولم يأمر بضده فإن الغالب أن النهي لا يكون على التحريم، ولهذا من فقه الرجل إذا أراد أن ينظر في المأمورات أن يلتمس المنهيات عن ترك ذلك العمل حتى يقيمه.

وثمة قاعدة وهي: أن الأمر يقتضي الوجوب، ويذكر العلماء الخلاف في ذلك هل الأمر يقتضي الوجوب أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: قالوا: إن الأمر يقتضي الوجوب، وهذا قول جماهير العلماء.

القول الثاني: قالوا: إن الأمر يقتضي الاستحباب إلا لقرينة، فإذا جاءت قرينة صارفة عن الاستحباب والندب إلى الوجوب فهذا يدفعه عن مرتبة الاستحباب إلى مرتبة العلو وهو الوجوب، الأمر الثاني: قالوا: لا ينضبط هذا وإنما ينظر فيه إلى القرائن، ولا أصل في هذا، ونحن نقول: إن الأمر إذا كان مقترناً بنهي عن ضد فإنه يقتضي الوجوب، وإذا كان نهياً من غير أمر بضده أو كان أمراً من غير نهي عن ضده فإن ذلك لا يقتضي التأكيد والإلزام؛ ولهذا نجد أن الشارع أمر بأفعال كالسواك، وما نهى عن ضده، ونهى عن المشي بنعل واحدة، والمشي بخف واحدة، وما أمر بضده بالمشي بنعلين أو المشي بخفين؛ فنعلم بذلك أن النهي هنا على الكراهة، والأمر في مسألة السواك إنما هو على الاستحباب، ومن فقه الرجل الذي ينظر في المأمورات أن ينظر في المنهيات في بابها حتى يقدرها على تقدير الشارع لها.

وفي قوله رحمه الله:

( أمر بشيء نهيك عن ضده كذاك نهي مثله في حكمه )

يعني: أن النهي عن الشيء هو أمر بضده، وهذا ليس على الاطراد كما تقدم الإشارة إليه، كذلك أيضاً قد ينهى الشارع عن شيء ولا يأمر بضده على سبيل الإلزام، وقد يكون مسألة الضد في ذلك لا تتطابق كما في النهي عن الزنا، فإن هذا ليس أمراً على سبيل الإيجاب بالزواج، فقد ينتهي الإنسان عن الزنا ولكن لا يؤمر بالزواج، وقد ينتهي الإنسان عن فعل وهو ترك الصلاة، لكن يجب عليه أن يأتي بالصلاة؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق ترك الصلاة إلا بالإتيان بها، كذلك نهي الشارع عن ترك الزكاة لا يمكن أن يتحقق إلا بالإتيان بها فيكون النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا على ضوابطه السابقة.

وهذه القاعدة التي يذكرها العلماء في أن الأمر بالشيء هو نهي عن الضد، أو النهي عن الشيء هو أمر بضده يذكرونها في أبواب المقابلة من جهة الإيجاب والتحريم، ولا يذكرونها من جهة إفادتها الإيجاب بنوعيها، ووجود الشيء منفكاً عن أحد وجهيه لا يعني المقابلة، فنعلم أن الواجب يأتي بالأمر، وإذا جاء الأمر أفاد الوجوب، فهل يلزم من ذلك أنَّ ما يقابله محرم؟ نقول: من جهة الأصل هذا هو الغالب ولكنه لا يطرد، وينبغي أن نأخذ من ذلك القاعدة السابقة أنَّ اجتماع الشيئين دليل على التأكيد والوجوب، وانفراد أحدهما عن الآخر دليل على عدم التأكيد وهو الاستحباب أو الكراهة.

قال رحمه الله تعالى:

(وعندنا قد يقتضي الفورية لا للتراخي بل نرى الحينية )

بالنسبة للأمر هل يقتضي الفورية والمبادرة به؟ أولاً ينبغي أن نعلم أن النهي يقتضي الفورية، وهذا محل اتفاق عند العلماء، وإنما الخلاف في الأمر، فإذا نهى الله عز وجل عبداً من العباد عن فعل شيء، فمقتضى ذلك أنه ينتهي على الفور، فإذا قال الله عز وجل لا تسرقوا، فينبغي أن تبادر، ولا تقل: إن النهي هو من الغد أو من بعد الغد ونحو ذلك.

كذلك أيضاً فإن النهي يقتضي التكرار، وهذا محل اتفاق عند العلماء، لا تسرق اليوم، ولا تسرق غداً، ولا تسرق مرة، ولا تسرق مرتين، وهذا على سبيل الدوام.

أما بالنسبة للأمر فهل الأمر يفيد الفورية أو يفيد التراخي؟ اختلف العلماء، وهل يفيد التكرار أم يكتفي بمرة واحدة؟ أولاً لا بد من النظر إلى صيغة الأمر، وكذلك النظر إلى المأمور به، فإذا كان مقيداً بقيد خارج عن ذات الفعل فإنه يقتضي التكرار بذلك القيد، وذلك إذا أمر الله جل وعلا بعبادة في زمن معين، كإقامة الصلاة لدلوك الشمس، فإنه يجب على الإنسان أن يأتي بالصلاة عند دلوك كل شمس، فهذا مقيد؛ لأن الله جل وعلا أمر بالفعل وقيده بشيء من التقييدات، فيقيد به التكرار لهذا التقييد.

واختلف العلماء في الأمر المجرد هل يقتضي الفورية، وهل يقتضي التكرار؟ بالنسبة للفورية هذا محل خلاف عند العلماء، فمن العلماء من قال: إنه يقتضي الفورية، ومن العلماء من قال: إنه يقتضي التراخي، وذهب جمهور العلماء إلى أنه يقتضي التراخي إذا كان متجرداً عن أي قرينة، وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يقتضي الفورية، وأنَّ هذا هو الأصل فيه، وإذا قيد بقيد فإنه يقيد بذلك القيد ولا يتوسع فيه حتى لا يقع الإنسان في أمر الابتداع، والذي يظهر والله أعلم في أمر الفورية والتراخي أن ذلك بحسب السياق، وبحسب المأمور به، فإذا كان المأمور به من الأمور المتأكدة اللازمة التي يجب على الإنسان أن يأتي به بعينه من غير حد معين فالأصل في ذلك الفورية والتكرار، وأما إذا كان الأمر من غير تأكيد وإلزام بنوع من أنواع الإلزام، ولم يأت فيه تهديد في حال الترك فالأصل في ذلك أنه على التراخي، ولا يفيد تكراره.

قال رحمه الله تعالى:

[ كذاك أيضاً يقتضي التكرارا فافهم مقالي، لا تكن مهذارا ]

مسألة التكرار محل خلاف عند العلماء، هل الأمر يقتضي التكرار أم فعله مرة واحدة يجزئ؟ من نظر إلى الأوامر الشرعية في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن الأوامر التي تقتضي التكرار دل الدليل على مقتضى تكرارها، سواء كان ذلك في الصلوات، أو كان ذلك في الزكاة، أو كان ذلك في الصيام، ونحو ذلك، فقد دلت الأدلة على أمر خارج عن ذات صيغة الأمر، فأخذنا مسألة التكرار من أمر خارج عنه، وأخذنا ذلك أيضاً من النهي عن ضده، فالله سبحانه وتعالى أمر بصلة الرحم، هل هذا يقتضي التكرار أم يجزئ مرة واحدة؟ نقول: لو كان مجرداً لكان مرة واحدة كافية، ولكن لما نهى الشارع عن ضده دل على أنه على التكرار؛ لأنه لا يمكن أن يمتنع الإنسان عن ضده إلا بتكرار ذلك الفعل؛ لهذا نقول: إن الفعل المجرد من غير نهي عن ضده يفيد الفعل مرة واحدة ولا يفيد التكرار، فإذا كان ثمة قرينة، وهذه القرائن: أولها التأكيد والإلزام، وثانيها النهي عن الضد؛ لأن النهي عن الضد يلزم معه تكرار الفعل، كالنهي عن ترك الصلاة، فالنهي عن ترك الصلاة يلزم منه تكرار هذه العبادة، والنهي عن ترك الزكاة يلزم منه الإتيان بها، وما جاء في الشريعة الأمر به مرة واحدة ونهي عن ضده فقد جاء النص بتقييده مرة واحدة، كما في الحج، جاء الأمر به مرة واحدة، وجاء النهي عن ضده، وذلك في قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، بين الله سبحانه وتعالى أن الأمر متوجه عموماً، ثم نهى عن ضده، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في العمر مرة، وهذا أخرج مسألة الحج من مسألتنا؛ لهذا نقول: إن الأمر إذا كان مجرداً من النهي عن ضده، ومن التأكيد به بأي نوع من أنواع التأكيد، وذلك بالتشديد وكثرة النص على الفعل فإن ذلك لا يقتضي التكرار، وإذا وجد معه أحد هذه القرائن فإن ذلك يجعله يقتضي التكرار.

والفقهاء والأصوليون يتكلمون عن هذه المسألة في مسألة التكرار، ويذكرون فيها الخلاف ويسوقونه، ولكن لا يشيرون في كثير من الأحيان إلى مسألة القرائن والنهي عن الضد، والنهي عن الضد هو أمارة على معرفة التكرار من عدمه، ولها أثر عليه، ولهذا نجد أن الشارع يأمر بكثير من الأوامر، ولا ينهى عن ضدها، فهذا يقتضي أن الفعل مرة واحدة من العبد يجزئ عنه، وإذا جاء النهي عن الضد في ذلك فإن المرة الواحدة لا تجزئ عن هذا، وهذا ظاهر، كمسألة الزكاة، ومسألة صيام رمضان؛ لأنه جاء النهي عن الضد في الإفطار لمن أفطر يوماً من رمضان متعمداً وغير ذلك، سواء في رمضان هذا أو الذي يليه، فهذا أعطانا قرينة على ضبط هذه المسألة.

قال رحمه الله تعالى:

[ أمر بشيء نهيك عن ضده كذاك نهي مثله في حكمه ]

يقول هنا: (أمر بشيء نهيك عن ضده) الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن الضد؟ الذي يظهر والله أعلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده؛ لأن الشيء قد يكون له ضد واحد، وينتفي بورود أحد أضداده، وقد يوجد له أضداد مجموعها يخالف ذلك الأمر أو ذلك المضدود؛ ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى حينما أمر بالصلاة قائماً، لزم من ذلك النهي عن القعود وعن الاضطجاع وعن الاتكاء والاعتماد، فهذه أضداد، وأما الذي يقابل القيام فهو القعود، إذاً هل الأمر نهي عن ضده أو عن أضداده؟ نقول: نهي عن أضداده، فكل ضد ينتفي معه وصف الأمر فإنه منهي عنه، وهذا عام؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بالصلاة وأمر الله جل وعلا بها كذلك، فأمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإتيان بالصلاة في أحاديث كثيرة، والصلاة لها أضداد، فمن هذه الأضداد الترك بالكلية، أو قصرها إذا كانت تامة من غير موجب، أو الإتيان بها على غير وجهها، كأن يأتي مثلاً بركوع من غير سجود، أو يأتي بركعة وسجدة ونحو ذلك، فهذه أضداد عن ذلك الوصف الذي أمر الشارع به، فذلك النهي هو نهي عن أضداده، فإن أمرنا بأمر فذلك يقتضي النهي عن أضداده، ونعرف قيمة الأمر والنهي باجتماعهما على فعل واحد، فالأمر من جهة الفعل، والنهي من جهة الترك، والإنسان إذا أمره الله عز وجل بفعل شيء ثم نهاه عن ضده دل على تأكيده وإلزامه، والقاعدة أن كل ما أمر الشارع به ونهى عن ضده فهو واجب لا مدخل للاستحباب إليه، وهذا يطرأ في مسألة النسخ أو مسألة تخصيص العام، وتقييد المطلق، وأما ما جاء الأمر به من غير نهي عن ضده فهذا في الغالب أنه لا يكون واجباً، وإذا نهى الشارع عن شيء ولم يأمر بضده فإن الغالب أن النهي لا يكون على التحريم، ولهذا من فقه الرجل إذا أراد أن ينظر في المأمورات أن يلتمس المنهيات عن ترك ذلك العمل حتى يقيمه.

وثمة قاعدة وهي: أن الأمر يقتضي الوجوب، ويذكر العلماء الخلاف في ذلك هل الأمر يقتضي الوجوب أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: قالوا: إن الأمر يقتضي الوجوب، وهذا قول جماهير العلماء.

القول الثاني: قالوا: إن الأمر يقتضي الاستحباب إلا لقرينة، فإذا جاءت قرينة صارفة عن الاستحباب والندب إلى الوجوب فهذا يدفعه عن مرتبة الاستحباب إلى مرتبة العلو وهو الوجوب، الأمر الثاني: قالوا: لا ينضبط هذا وإنما ينظر فيه إلى القرائن، ولا أصل في هذا، ونحن نقول: إن الأمر إذا كان مقترناً بنهي عن ضد فإنه يقتضي الوجوب، وإذا كان نهياً من غير أمر بضده أو كان أمراً من غير نهي عن ضده فإن ذلك لا يقتضي التأكيد والإلزام؛ ولهذا نجد أن الشارع أمر بأفعال كالسواك، وما نهى عن ضده، ونهى عن المشي بنعل واحدة، والمشي بخف واحدة، وما أمر بضده بالمشي بنعلين أو المشي بخفين؛ فنعلم بذلك أن النهي هنا على الكراهة، والأمر في مسألة السواك إنما هو على الاستحباب، ومن فقه الرجل الذي ينظر في المأمورات أن ينظر في المنهيات في بابها حتى يقدرها على تقدير الشارع لها.

وفي قوله رحمه الله:

( أمر بشيء نهيك عن ضده كذاك نهي مثله في حكمه )

يعني: أن النهي عن الشيء هو أمر بضده، وهذا ليس على الاطراد كما تقدم الإشارة إليه، كذلك أيضاً قد ينهى الشارع عن شيء ولا يأمر بضده على سبيل الإلزام، وقد يكون مسألة الضد في ذلك لا تتطابق كما في النهي عن الزنا، فإن هذا ليس أمراً على سبيل الإيجاب بالزواج، فقد ينتهي الإنسان عن الزنا ولكن لا يؤمر بالزواج، وقد ينتهي الإنسان عن فعل وهو ترك الصلاة، لكن يجب عليه أن يأتي بالصلاة؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق ترك الصلاة إلا بالإتيان بها، كذلك نهي الشارع عن ترك الزكاة لا يمكن أن يتحقق إلا بالإتيان بها فيكون النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا على ضوابطه السابقة.

وهذه القاعدة التي يذكرها العلماء في أن الأمر بالشيء هو نهي عن الضد، أو النهي عن الشيء هو أمر بضده يذكرونها في أبواب المقابلة من جهة الإيجاب والتحريم، ولا يذكرونها من جهة إفادتها الإيجاب بنوعيها، ووجود الشيء منفكاً عن أحد وجهيه لا يعني المقابلة، فنعلم أن الواجب يأتي بالأمر، وإذا جاء الأمر أفاد الوجوب، فهل يلزم من ذلك أنَّ ما يقابله محرم؟ نقول: من جهة الأصل هذا هو الغالب ولكنه لا يطرد، وينبغي أن نأخذ من ذلك القاعدة السابقة أنَّ اجتماع الشيئين دليل على التأكيد والوجوب، وانفراد أحدهما عن الآخر دليل على عدم التأكيد وهو الاستحباب أو الكراهة.