شرح سنن أبي داود [279]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (صم إن شئت وأفطر إن شئت)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الصوم في السفر.

حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : (أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: صم إن شئت، وأفطر إن شئت) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى:

[ باب الصوم في السفر ] أي: حكمه، والصوم في السفر سواء كان فرضاً أو نفلاً يسوغ ويسوغ الفطر، لكن أيهما أولى؟

قال بعض أهل العلم: إن الصيام أولى، وقال بعضهم: الفطر أولى، وقال بعضهم: إن هذا يرجع إلى المشقة وعدم المشقة، فإذا كان يشق الصوم عليه فإن الفطر أولى له، وإن كان لا يشق عليه فالصوم أولى له، وهذا القول فيما يبدو هو الأولى والأظهر؛ لأن الأولى للإنسان في حال مشقته أن يفطر حتى يسلم من المشقة ومن الضرر، وإذا لم يكن هناك مشقة وكان الصيام عليه سهلاً، فكون الإنسان يؤدي الواجب عليه لاسيما في شهر رمضان فهو أولى حتى يحمل نفسه ديناً، ويكون قد أدى الواجب عن نفسه في وقته، وحيث لا مشقة فإن هذا يكون هو الأولى.

وعلى هذا فإن للإنسان في السفر أن يفطر وله أن يصوم سوء كان فرضاً أو نفلاً، ولكن الأولى يرجع إلى المشقة وعدمها، فإن كان يناله مشقة ويلحقه ضرر فالأولى في حقه الإفطار، وإن كان لا يلحقه شيء من ذلك فإن الأولى في حقه الصيام.

أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن حمزة الأسلمي رضي الله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟

فقال صلى الله عليه وسلم: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) وهذا يدل على أن الأمر في ذلك واسع، وله أن يصوم وله أن يفطر، أي: هو مخير بين هذا وهذا، ولكن الأولى في حقه ما ذكرناه.

قوله: [ (أسرد الصوم) ].

يعني: يكثر من الصوم، والمقصود بهذا صوم النافلة؛ لأن النوافل هي التي يمكن للإنسان أن يقوم بها، وأما بالنسبة للفرض فإنه لازم لكل أحد، وإذا كان لم يصم في سفر فإنه يصوم أياماً أخر عوضاً عنها وبدلاً منها.

ولا يفهم منه صيام الدهر؛ لأن المراد من السرد الإكثار منه، ولا يعني ذلك أنه يصوم الدهر كله؛ لأن صوم الدهر قد ورد ما يدل على النهي عنه.

تراجم رجال إسناد حديث (صم إن شئت وأفطر إن شئت)

قوله: [ حدثنا سليمان بن حرب ].

سليمان بن حرب ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ومسدد ].

مسدد بن مسرهد البصري ، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا عن حماد ].

وهو حماد بن زيد ؛ لأنه إذا جاء حماد غير منسوب ويروي عنه سليمان بن حرب ، ويروي عنه مسدد فالمراد به: حماد بن زيد ، وإذا جاء حماد غير منسوب ويروي عنه موسى بن إسماعيل فالمراد حماد بن سلمة، وهكذا.

وهناك كما سبق أن أسلفت فصل ذكره المزي في تهذيب الكمال بعد ترجمة حماد بن سلمة وحماد بن زيد ؛ لأن الترجمتين متجاورتين، وبعد ترجمة حماد بن سلمة ذكر فصلاً بيّن فيه من يكون حماد إذا أبهم، وذكر عدداً من التلاميذ، إذا روى فلان أو فلان عن فلان فهو حماد بن زيد ، وإذا روى فلان أو فلان عن فلان فهو حماد بن سلمة.

وهنا حماد غير منسوب، وهذا يقال له في علم المصطلح المهمل، أي: الذي لم ينسب وهو يحتمل شخصين أو أكثر، كما في حماد يحتمل حماد بن زيد وحماد بن سلمة ، ومعروف أن سليمان بن حرب وكذلك مسدد إنما يرويان عن حماد بن زيد.

[ عن هشام بن عروة ].

هشام بن عروة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

أبوه عروة بن الزبير بن العوام ، ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عائشة ].

عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة ، هؤلاء هم الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

شرح حديث (أي ذلك شئت يا حمزة)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن عبد المجيد المدني قال: سمعت حمزة بن محمد بن حمزة الأسلمي يذكر أن أباه أخبره عن جده رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- وأنا أجد القوة وأنا شاب، فأجد بأن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخره فيكون ديناً، أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال: أي ذلك شئت يا حمزة) ].

أورد أبو داود حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله بالخيار بين أن يصوم وأن يفطر، وهذا الحديث فيه تنصيص على أنه شهر الصوم.

قال: إنه يجد قدرة ويريد ألا يحمل نفسه ديناً، وهو يقدر على الصيام، فقال: (أي ذلك شئت) يعني: إن شئت أن تصوم فصم، وإن شئت أن تفطر فأفطر، وهذا مثل ما جاء في حديث عائشة في قصته، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) وهو يدل على التخيير، ولكن كما قلت في التفصيل الذي أشرت إليه آنفاً: إن كان لا يجد مشقة ولا يصيبه تعب ومضرة فالأولى في حقه الصيام، حتى يكون قد أدى الواجب في وقته ولم يحمل نفسه ديناً، وإن كان عليه مشقة في ذلك فالأولى في حقه أن يفطر؛ لأنها رخصة رخص الله تعالى له بها، فإذا كان هناك مشقة فلا يقدم على شيء عليه فيه مشقة، وإنما يأتي بالرخصة التي رخص الله تعالى له بها بأن يفطر ويصوم عدة ما أفطر من أيام أخر.

قوله: [ عن حمزة قال: (قلت: يا رسول الله! إني صاحب ظهر) ].

يعني: صاحب مركوب يعني: دواب.

(أعالجه) يعني: أستعمله وأكريه.

قوله: [ (أسافر عليه وأكريه) ].

يعني: أحياناً يسافر عليه لنفسه، وأحياناً يكريه.

قوله: [ (وإنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- وأنا أجد القوة وأنا شاب، وأجد بأن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخره فيكون ديناً أفأصوم يا رسول الله! أعظم لأجري أو أفطر؟ قال: أي ذلك شئت يا حمزة) ].

أي ذلك شئت: يعني: لك هذا ولك هذا، لك أن تصوم ولك أن تفطر، وهو كالتخيير الذي جاء عن عائشة في قصة حمزة هذا، والإسناد ضعيف، ولكنه من حيث اللفظ مطابق لما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها في قصته من التخيير، فهو من حيث الإسناد ضعيف، ولكنه صحيح من حيث المعنى، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها بالطريق الصحيحة الثابتة المتقدمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خيره، وعائشة تحكي التخيير له، وهو يحكي التخيير لنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تراجم رجال إسناد حديث (أي ذلك شئت يا حمزة)

قوله: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ].

عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي ، ثقة ، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.

[ حدثنا محمد بن عبد المجيد المدني ].

وهو مقبول، أخرج له أبو داود .

[ سمعت حمزة بن محمد بن حمزة الأسلمي ].

حمزة بن محمد بن حمزة الأسلمي ، وهو مجهول الحال، أخرج له أبو داود .

[ يذكر أن أباه ].

وهو مقبول، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي .

[ عن جده ].

جده حمزة بن عمرو رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي .

شرح حديث ابن عباس في إفطار النبي عندما بلغ عسفان

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكة حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فرفعه إلى فيه ليريه الناس، وذلك في رمضان، فكان ابن عباس يقول: قد صام النبي صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر) ].

أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة في رمضان، وكان ذلك في عام الفتح، فكان صائماً، ولما بلغ عسفان دعا بإناء والناس يرونه، فشرب صلى الله عليه وسلم وأفطر، في أثناء اليوم حتى يعلم الناس بأنه مفطر، وكان ذلك في عام الفتح، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى أن يفطروا ليتقووا على العدو لما قربوا من مكة، ولما وصلوا إلى مكة أو قاربوها أمرهم بأن يفطروا ليتقووا على العدو كما سيأتي، وهنا أفطر ليراه الناس وحتى يتابعوه ويقتدوا به صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا أنه صام وأفطر وهو مسافر؛ لأنه كان أولاً صائماً ثم أفطر للسفر، ففيه أنه صام قبل أن يصل إلى عسفان، وأفطر بعدما وصل إلى عسفان.

فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: (قد صام النبي صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر) لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام أولاً ثم أفطر آخراً، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر، يعني: للإنسان أن يصوم، وله أن يفطر.

تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في إفطار النبي عندما بلغ عسفان

قوله: [ حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة ].

مسدد مر ذكره.

أبو عوانة هو وضاح بن عبد الله اليشكري ، ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن منصور ].

منصور بن المعتمر ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن مجاهد ].

مجاهد بن جبر المكي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن طاوس ].

طاوس بن كيسان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

ابن عباس : عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، أحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام -وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير- وهو أحد السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث (سافرنا مع رسول الله في رمضان فصام بعضنا وأفطر بعضنا...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة عن حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه قال (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان فصام بعضنا وأفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم) ].

أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام بعضنا وأفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم)، يعني: أن الأمر واسع، وأن كل واحد له أن يصوم وله أن يفطر، وما عاب من صام على من أفطر، ولا عاب من أفطر على من صام، فدل هذا على أن الأمر واسع في السفر، فللإنسان أن يصوم وله أن يفطر، ولكن التفصيل الذي أشرت إليه هو المناسب.

تراجم رجال إسناد حديث (سافرنا مع رسول الله في رمضان فصام بعضنا وأفطر بعضنا...)

قوله: [ حدثنا أحمد بن يونس ].

أحمد بن عبد الله بن يونس ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا زائدة ].

زائدة بن قدامة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن حميد الطويل ].

حميد بن أبي حميد الطويل ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أنس ].

أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الإسناد من الرباعيات عند أبي داود التي هي أعلى الأسانيد عنده؛ لأن بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أربعة أشخاص.

ولا أتذكر أنزل إسناد عند أبي داود ، وسبق أن مر بنا إسناد فيه تسعة أشخاص، وهو في باب الصائم يستقيء عامداً.

وهو حديث: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو حدثنا عبد الوارث حدثنا الحسن عن يحيى قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن يعيش بن الوليد بن هشام أن أباه حدثه قال: حدثني معدان بن طلحة أن أبا الدرداء حدثه.

فهذا سند فيه تسعة أشخاص.

شرح حديث (خرجنا مع النبي في رمضان عام الفتح فكان رسول الله يصوم ونصوم...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان المعنى قالا: حدثنا ابن وهب قال: حدثني معاوية عن ربيعة بن يزيد أنه حدثه عن قزعة قال: أتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو يفتي الناس، وهم مكبون عليه، فانتظرت خلوته، فلما خلا سألته عن صيام رمضان في السفر، فقال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم ونصوم، حتى بلغ منزلاً من المنازل فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر، قال: ثم سرنا فنزلنا منزلاً فقال: إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

قال أبو سعيد : ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك وبعد ذلك ].

أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سأله قزعة عن الصوم في السفر، فأجابه بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من المسالك التي يسلكها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في الفتوى، فكانوا إذا سئلوا عن شيء أجابوا بالحديث، وفيه الجواب مشتملاً على الدليل، وقد يجيب ثم يذكر الحديث، ولكن الغالب أنه يأتي بالأثر، وأحياناً يأتي بالحديث الطويل المشتمل على جملة معينة محددة من الحديث الطويل هي محل الشاهد، ولكنه يسوق الحديث بأكمله من أجل الجملة التي فيه، ومن ذلك حديث جبريل المشهور وهو أول حديث في صحيح مسلم ؛ أن ابن عمر رضي الله عنه جاءه أناس من البصرة وأخبروه أنه خرج في بلدهم أناس يتكلمون في القدر، فـعبد الله بن عمر تبرأ منهم ثم ساق الحديث عن أبيه وأتى بحديث جبريل الطويل المشتمل على محل الشاهد، فكانوا رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم إذا سئلوا أجابوا بالأثر.

قوله: [ أتيت أبا سعيد الخدري ، وهو يفتي الناس، وهم مكبون عليه ].

أي وهو يفتي الناس وهم مكبون عليه يستفتون، يعني: أنهم كثيرون.

قوله: [ فانتظرت خلوته ].

يعني: تحين الفرصة حتى يخف عنده الزحام والناس مكبون عليه، فجاءه وسأله عن الصوم في السفر.

قوله: [ فلما خلا سألته عن صيام رمضان في السفر، فقال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم ونصوم، حتى بلغ منزلاً من المنازل فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم) ].

هنا قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في رمضان عام الفتح، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ويصومون معه، ولما كانوا في الطريق قال: (إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم).

هذا إرشاد وإيماء إلى أن يفطروا، وليس فيه عزيمة، لأنه ما أمرهم، ولكنه أرشد إلى أن هذا أقوى لهم، فلما دنوا من عدوهم قال: (إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزيمة) معناه الأمر الأخير عزيمة، وأما الأمر الأول ففيه إرشاد؛ لأنه قال: (الفطر أقوى لكم) وفي الأخير قال: (أفطروا) لأنه قبل ذلك كان بينه وبين العدو مسافة، فكونهم يفطرون حتى يكون عندهم شيء من القوة أولى، ولكنهم بعد أن وصلوا إلى العدو وصاروا مصبحين له، أمرهم أن يفطروا حتى يكونوا على قوة ليتمكنوا مما يريدون، هذه هي العزيمة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو سعيد : [ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك ].

فدل على أن الصوم في السفر بابه واسع.

تراجم رجال إسناد حديث (خرجنا مع النبي في رمضان عام الفتح فكان رسول الله يصوم ونصوم...)

قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح ].

أحمد بن صالح المصري ، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.

[ ووهب بن بيان ].

وهب بن بيان الواسطي ، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثنا ابن وهب ].

عبد الله بن وهب المصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثني معاوية ].

معاوية بن صالح ، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن ربيعة بن يزيد ].

وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن قزعة ].

قزعة بن يحيى ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سعيد الخدري ].

وهو سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الصوم في السفر.

حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : (أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: صم إن شئت، وأفطر إن شئت) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى:

[ باب الصوم في السفر ] أي: حكمه، والصوم في السفر سواء كان فرضاً أو نفلاً يسوغ ويسوغ الفطر، لكن أيهما أولى؟

قال بعض أهل العلم: إن الصيام أولى، وقال بعضهم: الفطر أولى، وقال بعضهم: إن هذا يرجع إلى المشقة وعدم المشقة، فإذا كان يشق الصوم عليه فإن الفطر أولى له، وإن كان لا يشق عليه فالصوم أولى له، وهذا القول فيما يبدو هو الأولى والأظهر؛ لأن الأولى للإنسان في حال مشقته أن يفطر حتى يسلم من المشقة ومن الضرر، وإذا لم يكن هناك مشقة وكان الصيام عليه سهلاً، فكون الإنسان يؤدي الواجب عليه لاسيما في شهر رمضان فهو أولى حتى يحمل نفسه ديناً، ويكون قد أدى الواجب عن نفسه في وقته، وحيث لا مشقة فإن هذا يكون هو الأولى.

وعلى هذا فإن للإنسان في السفر أن يفطر وله أن يصوم سوء كان فرضاً أو نفلاً، ولكن الأولى يرجع إلى المشقة وعدمها، فإن كان يناله مشقة ويلحقه ضرر فالأولى في حقه الإفطار، وإن كان لا يلحقه شيء من ذلك فإن الأولى في حقه الصيام.

أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن حمزة الأسلمي رضي الله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟

فقال صلى الله عليه وسلم: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) وهذا يدل على أن الأمر في ذلك واسع، وله أن يصوم وله أن يفطر، أي: هو مخير بين هذا وهذا، ولكن الأولى في حقه ما ذكرناه.

قوله: [ (أسرد الصوم) ].

يعني: يكثر من الصوم، والمقصود بهذا صوم النافلة؛ لأن النوافل هي التي يمكن للإنسان أن يقوم بها، وأما بالنسبة للفرض فإنه لازم لكل أحد، وإذا كان لم يصم في سفر فإنه يصوم أياماً أخر عوضاً عنها وبدلاً منها.

ولا يفهم منه صيام الدهر؛ لأن المراد من السرد الإكثار منه، ولا يعني ذلك أنه يصوم الدهر كله؛ لأن صوم الدهر قد ورد ما يدل على النهي عنه.

قوله: [ حدثنا سليمان بن حرب ].

سليمان بن حرب ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ومسدد ].

مسدد بن مسرهد البصري ، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا عن حماد ].

وهو حماد بن زيد ؛ لأنه إذا جاء حماد غير منسوب ويروي عنه سليمان بن حرب ، ويروي عنه مسدد فالمراد به: حماد بن زيد ، وإذا جاء حماد غير منسوب ويروي عنه موسى بن إسماعيل فالمراد حماد بن سلمة، وهكذا.

وهناك كما سبق أن أسلفت فصل ذكره المزي في تهذيب الكمال بعد ترجمة حماد بن سلمة وحماد بن زيد ؛ لأن الترجمتين متجاورتين، وبعد ترجمة حماد بن سلمة ذكر فصلاً بيّن فيه من يكون حماد إذا أبهم، وذكر عدداً من التلاميذ، إذا روى فلان أو فلان عن فلان فهو حماد بن زيد ، وإذا روى فلان أو فلان عن فلان فهو حماد بن سلمة.

وهنا حماد غير منسوب، وهذا يقال له في علم المصطلح المهمل، أي: الذي لم ينسب وهو يحتمل شخصين أو أكثر، كما في حماد يحتمل حماد بن زيد وحماد بن سلمة ، ومعروف أن سليمان بن حرب وكذلك مسدد إنما يرويان عن حماد بن زيد.

[ عن هشام بن عروة ].

هشام بن عروة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ].

أبوه عروة بن الزبير بن العوام ، ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عائشة ].

عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة ، هؤلاء هم الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2650 استماع