شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين يا رب العالمين.

قال الشيخ العلامة عبد القادر بن بدران الدومي الحنبلي رحمه الله تعالى: [ بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله الذي قد نظما شمل الفروع بالأصول كرما

وعم بالفضل من العهد الذي لدر مكنون الكتاب يحتذي ].

هذه الرسالة هي منظومة مختصرة كما هو ظاهر، وموضوعها في علم أصول الفقه، وهي مختصرة كما في عنوان هذه الرسالة، والمؤلف هو من أئمة الحنابلة الفقهاء الأصوليين الذين اعتنوا بالرأي، ولهم عناية بالدليل، وظهرت عنايتهم في الفقه، وهو من أئمة فقهاء الحنابلة المتأخرين.

والمنظوم عند الفقهاء من الحنابلة في أصول الفقه قليل جداً، ولكن المصنفات في الأصول كمتون مختصرة وكذلك مطولة ليست بالقليلة في المذهب، وهذه الرسالة سماها المصنف "رشف الشمول" وهذا إشارة إلى اختصارها، والرشف: هو شرب الماء القليل، ومعلوم أن الإنسان إما أن يشرب ماء كثيراً أو يشرب ماء قليلاً، وأشار بهذا إلى أن هذه المسائل هي مسائل مختصرات، والشمول: هو الماء الذي أصابه هواء الشمال فأصبح بارداً، ويرشف: يعني يُشرب على يسر من غير مشقة، وقيل أن المراد بالشمول: هو الخمر، ويبعد أن المصنف رحمه الله قصد ذلك، وقد نص على هذا المعنى أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره.

وابتدأ المصنف رحمه الله هذه الرسالة بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) هذه الطريقة اقتداء بكلام الله، وكذلك بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتباته، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ) وهذا أيضاً هو منهج أصحابه عليهم رضوان الله تعالى في المكاتبات، والابتداء بالبسملة قد جاء فيه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله: ( كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم ) وهذا الحديث معلول، ولا يصح موصولاً، والصواب فيه الإرسال كما صوب ذلك غير واحد من الأئمة، كـالدارقطني وغيره، وقد رواه الخطيب البغدادي وغيره مرسلاً وموصولاً، ورواه أيضاً الدارقطني .

وإنما وقع الخلاف عند العلماء في مسألة ابتداء الأشعار ببسم الله الرحمن الرحيم، فمنهم من حكى الإجماع في هذا على المنع، ولعلهم أرادوا بالأشعار؛ الأشعار التي يكون فيها المجون والوصف الفاحش ونحو ذلك، ولا يريدون بذلك المنظومات العلمية أو الكلام الموزون.

فالعلماء رحمهم الله لم يميلوا إلى ما يسمى بالمنظومات إلا متأخراً، ولذلك كانت الأشعار في الزمن الأول هي في المديح، وكذلك الرثاء والغزل، وهذا الذي يطغى عليها، فتكلموا على هذه المسائل، وقد نص على ذلك غير واحد من العلماء، كـعامر بن شراحيل الشعبي كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع عن مجالد عن عامر بن شراحيل الشعبي قال: أجمعوا على أنه لا يبتدئ الشعر ببسم الله الرحمن الرحيم.

وكذلك أيضاً جاء عن سعيد بن جبير أنه قال: مضت السنة ألا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وجاء عن سعيد بن جبير ما يخالف ذلك، والذي استقر عليه العمل هو البداءة ببسم الله الرحمن الرحيم في كل منظوم ومنثور حسن المعنى، وأما ما كان من غير ذي البال، كالمعاني السيئة وغير ذلك، سواء كان منظوماً أو كان منثوراً، فإنه لا يبتدئ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم؛ لأنه يجل أن يبتدئ الإنسان في مثل هذه المعاني ببسم الله الرحمن الرحيم، فإنه لا مجال للاستعانة بها على الباطل، ولا على الخطأ.

ثم شرع المصنف رحمه الله في هذه المنظومة بقوله:

(الحمد لله الذي قد نظما شمل الفروع بالأصول كرما)

حمد الله سبحانه وتعالى على نعمه وفضله أمر عليه هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا أمر عباده بالحمد، وهو متضمن لشكر المنعم على إنعامه، والحمد: هو ذكر صفات المحمود على وجه الحب له، فالذي يذكر المحمود بتعديد صفاته، وكذلك مناقبه ومآثره، فإن ذلك العمل يسمى حمداً، وهنا يحمد الله جل وعلا على أن يسر له ذلك العلم، وأن الله سبحانه وتعالى قد أقره في كتابه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومعنى الانتظام في قوله: (قد نظما) أن الله جل وعلا قد أحكم هذا العلم وبينه وفصله، وجعل له أصولاً في كتابه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بحاجة فقط للتقصي والتتبع، وكذلك أيضاً للعمل والاعتبار، وهذا يلزم منه حمده سبحانه وتعالى.

وثمة فرق بين الحمد والشكر من جهة العموم والخصوص، وقيل: إنهما بمعنى واحد، والذي يظهر -والله أعلم- أن بين الحمد والشكر عموماً وخصوصاً من وجه، وذلك أن الإنسان يحمد غيره على أفعاله اللازمة والمتعدية، وأما الشكر فإن الإنسان يشكر على أفعاله المتعدية، هذا من جهة ما يقع عليه الحمد أو الشكر، فالإنسان يبعد أن يقول: أشكرك على أنك حليم، ونحو ذلك، وهذا لا يقع، وأما بالنسبة للشكر فإنه يكون على الأمر الذي يصدر من الإنسان كإكرامه بإعانته لفلان، وإحسانه إليه، ودفع الضر عنه، فهذا مما يشكر عليه الإنسان، أما الأمور اللازمة في الإنسان غير المتعدية فإن الإنسان يُحمد عليها ولا يُشكر عليها.

وكذلك أيضاً بين الحمد والشكر تباين من جهة صدوره من الحامد والشاكر؛ ولهذا يقول الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

يقول: (قد نظما شمل الفروع بالأصول كرما) الشريعة إنما هي فروع وأصول، وثمة شيء بين هذه الفروع والأصول، وهي الأدلة والعلل، وهي الرابطة بين الفروع والأصول؛ لأنه لا يمكن أن يلتحق الفرع بالأصل إلا لعلة تلحق الفرع بأصله، وهذه العلة لا بد أن تبنى على دليل بين ظاهر، سواء من كلام الله أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان ذلك أيضاً من الأدلة العقلية.

يقول: (وعم بالفضل من العهد الذي لدر مكنون الكتاب يحتذي)، الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا العلم عمدة لقاصد الفقه ومريده، وطالب العلم لا يمكن أن يتحقق فيه العلم على وجه يستوي فيه وينضج إلا بأن يأخذ ما بينه الله سبحانه وتعالى في كتابه، من بيان تلك القواعد العامة والأصول الكلية التي يأخذ منها الإنسان الأدلة الفرعية التفصيلية، وهذا مرده إلى الشريعة.

وينبغي أن نعلم أن علم الأصول وما يسمى بأصول الفقه من جهة الأصل مادته في الكتاب والسنة، وليس هو من الاستنباط العقلي المحض الذي يأخذه الإنسان بمجرد الإدراك من غير معلوم سابق، فإن هذا من الأمور المحالة، وإنما مرده بسبر الفروع حتى تتحقق الأصول، وهذا أمر معلوم، ومعلوم أن الفروع تبنى على الأصول، والأصول إنما هي قواعد للفروع، فإذا عرف الإنسان مجموع الفروع عرف الأصل، وإذا عرف الإنسان الأصل عرف الفروع التي تبنى عليه.

والإنسان في معرفته للأصول له طريقان:

الطريقة الأولى: أن يتعلم مجموع الفروع حتى توصله إلى الأصول.

الطريقة الثانية: أن يتعلم الأصول ابتداء حتى توصل الإنسان إلى تلك الفروع.

وذلك كحال الإنسان الذي يعرف الطريق الذي يؤديه مثلاً من المدينة إلى مكة هذا هو الأصل، وثمة فروع تتفرع من هذا الطريق تؤدي إلى أجزاء وشعب بين مكة والمدينة، وهذه فروع متشعبة، فالإنسان إذا أخذ بهذا الأصل لا بد أن يأتي على هذه الفروع حتى يتمكن، وإذا أراد أن يأتي إلى الأصل عن طريق الفروع فإنه يأتي إلى هذه الفروع واحداً واحداً حتى يعلم أين تلتقي، وكلها تؤدي إلى معنى واحد، وقد اختلف العلماء في أيهما أولى، أن يتعلم الإنسان الفروع التي تؤديه إلى معرفة الأصول، أو أن يعلم الأصول قبل معرفة الفروع.

ترجيح طريقة تعلم الفروع قبل الأصول

والذي يظهر والله أعلم أن الشريعة جاءت ببيان الفروع ابتداء أكثر من بيان الأصول، فجاءت بالأحكام التفصيلية، ثم جاءت بالأحكام العامة الأصولية، والأحكام الفرعية اقترنت ببعض الأحكام الأصولية، وهذا لا ينفي وجود القواعد الأصولية في الشريعة ابتداء، ولكن الأكثر أن الشريعة جاءت بطرح الفروع أكثر من طرح الأصول، ثم بعد ذلك لما اكتملت الأجزاء والصور وضعت قواعد عليها، وهي شبيهة بالمظلات التي يضعها الإنسان ويجمع تحتها مجموعة من الفروع، كما يجمع الإنسان مجموعة مثلاً من الزروع في أحواض ونحو ذلك يجمعها، فهذا لنبتة كذا، وهذا لنبتة كذا، وهذا لنبتة كذا، بعد أن زرعها واحدة واحدة أطلق بعد ذلك عليها الأسماء، هذا حوض كذا، وهذا حوض كذا، ونحو ذلك، ومن العلماء من يميل إلى معرفة الأصول ابتداء قبل أن يبتدئ بالفروع، يعني: أنه يسمي هذا الأمر أنه لباب كذا، ثم ينشئ لديه فروعاً، قالوا: لأن الشريعة قد اكتملت لدينا أصولاً وفروعاً، والمشرع إنما جاء ابتداء ببعض الفروع وبعض الأصول، وجاءت الفروع طاغية على الأصول من جهة البيان؛ لأن الأصول لا يمكن أن تفهم إلا بمعرفة أجزائها، لهذا نجد أن الأصوليين حينما يتكلمون على قاعدة معينة يكثرون من ضرب المثال فيها؛ حتى يثبت صحة هذا الأصل من عدمه؛ لأن الأصل لا يمكن أن يصح إلا بمعرفة مجموع أجزائه وفروعه، وإلا لا يعتبر أصل؛ لأن الأصل هو الذي يبنى عليه غيره، وهذا الغير الذي يبنى على ذلك الأصل لا بد أن يعرف عدده، فإذا كان كثيراً كانت هذه القاعدة كلية، وإذا لم يكن كثير وإنما أصبح قليلاً فإنها تكون من القواعد الفرعية، ويأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

والذي يظهر لي -والله أعلم- أن الأدق والأتم والأكمل: أن يتعلم الإنسان الفروع ثم يعرف بعد ذلك الأصول، وهذه الطريقة شاقة، ولكنها تمكن الإنسان من معرفة الدين بدقة، وذلك بمعرفة المسائل الاستثنائية التي لا تدخل في القاعدة، وكذلك معرفة المسائل بأدلتها حتى لا يخلط الإنسان بمعرفة أدلة المسائل؛ لأن الإنسان إذا وضع قاعدة عامة كقاعدة مثلاً: المشقة تجلب التيسير، أو مثلاً: لا ضرر ولا ضرار، ونحو ذلك، هذه قاعدة صحيحة، ولكن لا ينبغي أن يصيرها الإنسان إلى قاعدة كلية ولديه نص من الكتاب والسنة بين في المسألة بذاتها، فإذا عرف القواعد وما عرف المسائل بذاتها استدل على الأحكام الشرعية بقواعد عامة فضعف لديه الدليل، فربما حاججه غيره بدليل يخالف الدليل الصحيح في المسألة، فضعفت تلك القاعدة بدليل في ذات المسألة بعينها، لهذا أدق المسائل أن يعرف الإنسان الفروع قبل الأصول، أي: أن يعرف الفروع ثم يجمع هذه الفروع ويلحقها بذلك الأصل، كما نزلت على طريقة التشريع، ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أدق الناس في الفقه والفهم؛ لأنهم عرفوا الفروع فتمكنوا منها، عرفوا الفرع، وعرفوا الدليل، وعرفوا أيضاً أنواع الفروع وأشباهها، ثم عرفوا بعد ذلك الأصل، فسلموا من جهة الاستدلال واستدلوا بالدليل قبل غيره.

معلوم أن أقوى الأدلة الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم القياس، ليس لأحد أن يستدل بالقياس مع ظهور الدليل من كلام الله عز وجل، أو يستدل بقاعدة ولو كانت متفقاً عليها مع ظهور الدليل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة.

أما الطريقة الثانية وهي: معرفة الأصول ثم معرفة الفروع المتفرعة عنها، وهي أسهل على الإنسان من جهة التلقي والأخذ، ولكن يظهر ضعف معرفة الإنسان في التطبيق؛ لأن موضوع علم أصول الفقه هو في معرفة الأدلة، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وكذلك أيضاً القواعد الأخرى في مسألة المصالح والاستحسان وغير ذلك، فهذه أدلة يتكلم عليها العلماء، هل هذه الأدلة صحيحة أم ليست بصحيحة؟ يأخذونها واحداً واحداً، ثم يفرعون عليها، ثم يأتون إلى الكتاب، ثم يقسمونه إلى أقسام، من بيان المحكم والمتشابه، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ وغير ذلك، وهذه فروع هذا الدليل، ولكن لا يسهبون بذكر الفروع، يعطون هذه القواعد، ثم يبدأ الإنسان بتتبعها في الفروع.

وغالباً الإنسان إذا ابتدأ علماً بعينه فإن همته في الابتداء تكون أقوى من الانتهاء، فإذا أخذ الإنسان الأصول ابتداء أصبح من المتمكنين فيها، وأما من جهة التطبيق فيصبح ضعيفاً، وهذا ملموس عند كثير من المتكلمين والأصوليين تجدهم من أهل الضعف في الفقه ومعرفة الأدلة، ولكن من جهة الأصول والتقعيد هم من أهل الحذق والنظر، ولهذا يستفتى الأصولي في كثير من المسائل الفقهية فيحجم عن الكلام فيها؛ خشية أن يكون فيها دليل يخالف تلك القاعدة ويتوجس؛ لكثرة ما رأى من مخالفة الأدلة لبعض القواعد، ومعلوم أنه لا يوجد قاعدة شرعية أو كونية إلا ولها شيء مخالف يند عنها.

نفي اطراد القواعد الشرعية

إذاً: قاعدة الاطراد على الدوام في الأحكام الشرعية غير موجودة، وإنما ثمة قواعد أغلبية، كذلك أيضاً في المسائل الكونية لا يوجد نهار سرمداً، ولا ليل سرمداً، ولا مطر سرمداً، ولا شمس ولا حر ولا برد سرمداً، وإنما الله عز وجل يقلب؛ لهذا لا يستطيع الإنسان أن يجعل هذا، ولكن يختلف الأمد والكثرة والقلة، فتجد في بلد الصيف يمتد أكثر من غيره، والشتاء يقل، فيكون مثلاً لشهرين أو ثلاثة، والصيف ما هو أكثر من ذلك، وفي بلد يختلف عن الآخر، ثم تدور، ومنها ما يكون متباعداً فينقلب الشتاء في بلد فيكون أكثر من الصيف بعد قرون مديدة، ويتقلب الناس في دائرة الكون، وتجد كذلك أيضاً حتى ما جعل الله عز وجل له قاعدة ثابتة كذلك، وهي قاعدة كونية، ومعلوم أن القواعد الكونية هي أظهر ثباتاً من القواعد الشرعية؛ لأن القواعد الشرعية ترتبط بأفعال المكلفين، ومخالفة القاعدة أرأف بالعباد وأرحم، وأما بالنسبة للقواعد الكونية ثباتها أرحم بالعباد وأثبت، وهذا في مسألة ظهور الشمس والقمر، فدوران الأفلاك وما يتعلق بالأهلة ونحو ذلك، ثباتها أصلح للناس كمسألة الأهلة من جهة ظهورها وانصرامها، وكذلك طلوع الشمس ودقة المواقيت، فدقة المواقيت منذ أن جعل الله عز وجل الشمس ظاهرة على الأرض فالناس يعرفون ذلك بالحساب إلى قيام الساعة، ولكن لا بد أن يضطرب ذلك عند خروج الشمس من مغربها.

إذاً: لا يوجد قاعدة مطردة، ولكن من جهة الاتساع والقلة، لهذا تجد أن هذه المخالفات لهذه القواعد في الأدلة الشرعية والأدلة الكونية يعرفها من دخل في الفروع قبل أن يصل الأصول، وهم أهل التمكن والحذق، لكن الذين يدخلون في أبواب الأصول قبل الفروع تقل عنايتهم بالدليل، بخلاف الذي أخذ بالفروع؛ لأن الذي عرف الفرع ليس لديه قاعدة يعتمد عليها، وليس لديه شيء يتكئ عليه، بل أقرب شيء يتكئ عليه هو الدليل، فيتمسك بالدليل، وأما الذي يبتدئ من الأصول فإنه أخذ الأصل على أنه دليل، ثم أخذ يدخل على جميع الفروع من هذا الباب، فضعف الأخذ بالدليل عند الذي يبتدئ بالأصول أظهر من ضعف الإنسان الذي يبتدئ بالفروع، وهذه يختلف بحسب طريقة التلقي؛ لهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أخذوا المسائل الفرعية من النبي عليه الصلاة والسلام كل مسألة بدليلها حتى تألفت جملة المسائل، فألحقوا ذلك بالقواعد العامة التي يأتي الكلام على شيء منها بإذن الله تعالى.

والذي يظهر والله أعلم أن الشريعة جاءت ببيان الفروع ابتداء أكثر من بيان الأصول، فجاءت بالأحكام التفصيلية، ثم جاءت بالأحكام العامة الأصولية، والأحكام الفرعية اقترنت ببعض الأحكام الأصولية، وهذا لا ينفي وجود القواعد الأصولية في الشريعة ابتداء، ولكن الأكثر أن الشريعة جاءت بطرح الفروع أكثر من طرح الأصول، ثم بعد ذلك لما اكتملت الأجزاء والصور وضعت قواعد عليها، وهي شبيهة بالمظلات التي يضعها الإنسان ويجمع تحتها مجموعة من الفروع، كما يجمع الإنسان مجموعة مثلاً من الزروع في أحواض ونحو ذلك يجمعها، فهذا لنبتة كذا، وهذا لنبتة كذا، وهذا لنبتة كذا، بعد أن زرعها واحدة واحدة أطلق بعد ذلك عليها الأسماء، هذا حوض كذا، وهذا حوض كذا، ونحو ذلك، ومن العلماء من يميل إلى معرفة الأصول ابتداء قبل أن يبتدئ بالفروع، يعني: أنه يسمي هذا الأمر أنه لباب كذا، ثم ينشئ لديه فروعاً، قالوا: لأن الشريعة قد اكتملت لدينا أصولاً وفروعاً، والمشرع إنما جاء ابتداء ببعض الفروع وبعض الأصول، وجاءت الفروع طاغية على الأصول من جهة البيان؛ لأن الأصول لا يمكن أن تفهم إلا بمعرفة أجزائها، لهذا نجد أن الأصوليين حينما يتكلمون على قاعدة معينة يكثرون من ضرب المثال فيها؛ حتى يثبت صحة هذا الأصل من عدمه؛ لأن الأصل لا يمكن أن يصح إلا بمعرفة مجموع أجزائه وفروعه، وإلا لا يعتبر أصل؛ لأن الأصل هو الذي يبنى عليه غيره، وهذا الغير الذي يبنى على ذلك الأصل لا بد أن يعرف عدده، فإذا كان كثيراً كانت هذه القاعدة كلية، وإذا لم يكن كثير وإنما أصبح قليلاً فإنها تكون من القواعد الفرعية، ويأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

والذي يظهر لي -والله أعلم- أن الأدق والأتم والأكمل: أن يتعلم الإنسان الفروع ثم يعرف بعد ذلك الأصول، وهذه الطريقة شاقة، ولكنها تمكن الإنسان من معرفة الدين بدقة، وذلك بمعرفة المسائل الاستثنائية التي لا تدخل في القاعدة، وكذلك معرفة المسائل بأدلتها حتى لا يخلط الإنسان بمعرفة أدلة المسائل؛ لأن الإنسان إذا وضع قاعدة عامة كقاعدة مثلاً: المشقة تجلب التيسير، أو مثلاً: لا ضرر ولا ضرار، ونحو ذلك، هذه قاعدة صحيحة، ولكن لا ينبغي أن يصيرها الإنسان إلى قاعدة كلية ولديه نص من الكتاب والسنة بين في المسألة بذاتها، فإذا عرف القواعد وما عرف المسائل بذاتها استدل على الأحكام الشرعية بقواعد عامة فضعف لديه الدليل، فربما حاججه غيره بدليل يخالف الدليل الصحيح في المسألة، فضعفت تلك القاعدة بدليل في ذات المسألة بعينها، لهذا أدق المسائل أن يعرف الإنسان الفروع قبل الأصول، أي: أن يعرف الفروع ثم يجمع هذه الفروع ويلحقها بذلك الأصل، كما نزلت على طريقة التشريع، ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أدق الناس في الفقه والفهم؛ لأنهم عرفوا الفروع فتمكنوا منها، عرفوا الفرع، وعرفوا الدليل، وعرفوا أيضاً أنواع الفروع وأشباهها، ثم عرفوا بعد ذلك الأصل، فسلموا من جهة الاستدلال واستدلوا بالدليل قبل غيره.

معلوم أن أقوى الأدلة الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم القياس، ليس لأحد أن يستدل بالقياس مع ظهور الدليل من كلام الله عز وجل، أو يستدل بقاعدة ولو كانت متفقاً عليها مع ظهور الدليل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة.

أما الطريقة الثانية وهي: معرفة الأصول ثم معرفة الفروع المتفرعة عنها، وهي أسهل على الإنسان من جهة التلقي والأخذ، ولكن يظهر ضعف معرفة الإنسان في التطبيق؛ لأن موضوع علم أصول الفقه هو في معرفة الأدلة، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وكذلك أيضاً القواعد الأخرى في مسألة المصالح والاستحسان وغير ذلك، فهذه أدلة يتكلم عليها العلماء، هل هذه الأدلة صحيحة أم ليست بصحيحة؟ يأخذونها واحداً واحداً، ثم يفرعون عليها، ثم يأتون إلى الكتاب، ثم يقسمونه إلى أقسام، من بيان المحكم والمتشابه، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ وغير ذلك، وهذه فروع هذا الدليل، ولكن لا يسهبون بذكر الفروع، يعطون هذه القواعد، ثم يبدأ الإنسان بتتبعها في الفروع.

وغالباً الإنسان إذا ابتدأ علماً بعينه فإن همته في الابتداء تكون أقوى من الانتهاء، فإذا أخذ الإنسان الأصول ابتداء أصبح من المتمكنين فيها، وأما من جهة التطبيق فيصبح ضعيفاً، وهذا ملموس عند كثير من المتكلمين والأصوليين تجدهم من أهل الضعف في الفقه ومعرفة الأدلة، ولكن من جهة الأصول والتقعيد هم من أهل الحذق والنظر، ولهذا يستفتى الأصولي في كثير من المسائل الفقهية فيحجم عن الكلام فيها؛ خشية أن يكون فيها دليل يخالف تلك القاعدة ويتوجس؛ لكثرة ما رأى من مخالفة الأدلة لبعض القواعد، ومعلوم أنه لا يوجد قاعدة شرعية أو كونية إلا ولها شيء مخالف يند عنها.

إذاً: قاعدة الاطراد على الدوام في الأحكام الشرعية غير موجودة، وإنما ثمة قواعد أغلبية، كذلك أيضاً في المسائل الكونية لا يوجد نهار سرمداً، ولا ليل سرمداً، ولا مطر سرمداً، ولا شمس ولا حر ولا برد سرمداً، وإنما الله عز وجل يقلب؛ لهذا لا يستطيع الإنسان أن يجعل هذا، ولكن يختلف الأمد والكثرة والقلة، فتجد في بلد الصيف يمتد أكثر من غيره، والشتاء يقل، فيكون مثلاً لشهرين أو ثلاثة، والصيف ما هو أكثر من ذلك، وفي بلد يختلف عن الآخر، ثم تدور، ومنها ما يكون متباعداً فينقلب الشتاء في بلد فيكون أكثر من الصيف بعد قرون مديدة، ويتقلب الناس في دائرة الكون، وتجد كذلك أيضاً حتى ما جعل الله عز وجل له قاعدة ثابتة كذلك، وهي قاعدة كونية، ومعلوم أن القواعد الكونية هي أظهر ثباتاً من القواعد الشرعية؛ لأن القواعد الشرعية ترتبط بأفعال المكلفين، ومخالفة القاعدة أرأف بالعباد وأرحم، وأما بالنسبة للقواعد الكونية ثباتها أرحم بالعباد وأثبت، وهذا في مسألة ظهور الشمس والقمر، فدوران الأفلاك وما يتعلق بالأهلة ونحو ذلك، ثباتها أصلح للناس كمسألة الأهلة من جهة ظهورها وانصرامها، وكذلك طلوع الشمس ودقة المواقيت، فدقة المواقيت منذ أن جعل الله عز وجل الشمس ظاهرة على الأرض فالناس يعرفون ذلك بالحساب إلى قيام الساعة، ولكن لا بد أن يضطرب ذلك عند خروج الشمس من مغربها.

إذاً: لا يوجد قاعدة مطردة، ولكن من جهة الاتساع والقلة، لهذا تجد أن هذه المخالفات لهذه القواعد في الأدلة الشرعية والأدلة الكونية يعرفها من دخل في الفروع قبل أن يصل الأصول، وهم أهل التمكن والحذق، لكن الذين يدخلون في أبواب الأصول قبل الفروع تقل عنايتهم بالدليل، بخلاف الذي أخذ بالفروع؛ لأن الذي عرف الفرع ليس لديه قاعدة يعتمد عليها، وليس لديه شيء يتكئ عليه، بل أقرب شيء يتكئ عليه هو الدليل، فيتمسك بالدليل، وأما الذي يبتدئ من الأصول فإنه أخذ الأصل على أنه دليل، ثم أخذ يدخل على جميع الفروع من هذا الباب، فضعف الأخذ بالدليل عند الذي يبتدئ بالأصول أظهر من ضعف الإنسان الذي يبتدئ بالفروع، وهذه يختلف بحسب طريقة التلقي؛ لهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أخذوا المسائل الفرعية من النبي عليه الصلاة والسلام كل مسألة بدليلها حتى تألفت جملة المسائل، فألحقوا ذلك بالقواعد العامة التي يأتي الكلام على شيء منها بإذن الله تعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[ وفي بحار العلم من سفن النجا رام الأمان في الدوام والتجا

فسار في نور التجلي معلنا نحو الكتاب بالأمان والمنى

جل الذي قد حير العقولا فلم تجد لسيرها سبيلا ].

الله سبحانه وتعالى قد أحكم كتابه كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ[هود:1] وقد جعل سبحانه هذا الإحكام منضبطاً للبشر، وجعل له استثناء لا يلغي تلك القاعدة، وإنما يلغي نزول الحكم على أعيان من الناس رحمة ورأفة؛ ولهذا يرفع التكليف عن أحد من العباد ولا يرفع عن العامة، فالاستثناء يقع على الأفراد ولا يقع على الجميع، وهذا دليل على الإحكام، وهو ورود الاستثناء على أفراد لا الاستثناء الذي يبطل القاعدة الكلية؛ ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى هذا العلم علماً محكماً في كتابه سبحانه وتعالى.

والكتاب إذا أطلق يراد به القرآن والسنة، وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد : ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، فقيل لي: على ابنك جلد مائة وتغريب عام، قال: ففديت ابني بمائة من الغنم ووليدة، فقال: اقض بيننا يا رسول الله! بكتاب الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الغنم والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لأقضين بينكما بكتاب الله )، فقضى بكتاب الله بناء على طلب ذلك الرجل، والقضاء لا يمكن أن يخرج عن هذا، وإنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أن الحكم لا يخرج عن كتاب الله، فقضى بشيء من الأحكام مما ليس في القرآن، ولكن بسنته عليه الصلاة والسلام وهو التغريب ورد الغنم والوليدة.

والله سبحانه وتعالى قد جعل هذا العلم ونظام الشريعة محيراً للعقول؛ لأنه لا يمكن أن يجد الإنسان نظاماً مكتملاً كمثل هذا النظام؛ ولهذا حير الله عز وجل الألباب والعقول أن تجد مثله من جهة التركيب، وتركيب الوحي هي ألفاظه، لهذا جعل الله عز وجل القرآن معجزاً في ذاته، فأعجز الله عز وجل بألفاظه كفار قريش، وأعجز بمعانيه وبلاغته أيضاً أفصح العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وأعجز الله جل وعلا أيضاً بأحكامه المعارضين المعاندين إلى قيام الساعة أن يجدوا لذلك مثيلاً.

لهذا إن وقع قصور في شيء ظاهر من بعض الأحكام الشرعية، فليعلم أن القصور إنما هو في الناظر والعقل الذي يتأمل النص، وليس في النص بذاته؛ ولهذا كثير من العلل التي تحجب الإنسان عن رؤية الشمس، أو تحجبه عن رؤية الهلال أو النجوم، فيخلط بين هذا وهذا، حتى ربما بعض العارفين يحول بينه وبين الحق حاجب في الأمور المادية، فيحول بينه وبين رؤية الشمس غيم وقتر، ونحو ذلك، وهذا العلة فيه وليست في النجم، وليست في الكواكب، وإنما هي ظاهرة بينة، لكن قد يحول بينها وبين الإنسان شيء من العوارض التي تطرأ على الإنسان.

وأشار المصنف رحمه الله إلى تحيير العقول، والعقول المراد بها: الألباب والأفهام التي يتأمل بها الإنسان، وفيها معاقل ومعاقد الإدراك، فالإنسان إذا تحير في فهم هذا المنظوم ينبغي أن يعلم ضعفه، فكلما عرف الإنسان نظم الشريعة وقوتها وإحكامها أدرك ضعفه، والإنسان في عقله إنما هو يدرك ما يراه خارجاً عنه، ولا يمكن أن يولج شيئاً من المعاني في عقله منفرداً، وإنما ينظر ويحمل جملة من الأقيسة، فيخرج بجملة من النتائج، فيحتار الإنسان في هذه المعاني المنظومة، فإذا أدرك ذلك وجب عليه أن يكل العلم إلى عالمه، وكذلك أيضاً إذا عرف الإنسان مثل هذا الإحكام ومثل هذه السعة ينبغي عليه أن يسأل الله المزيد، فما من شيء أمر الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام أن يسأله زيادة فيه مثل العلم، قال الله عز وجل: رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114]، فهذا دليل على فضله، ودليل سعته وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] .

فينبغي للإنسان إذا عرف هذه السعة وهذا الإحكام أن يعلم أولاً: ضعفه، ثانياً: أن يسأل المزيد، ثالثاً: أن ينسب ما لديه من معلوم لله سبحانه وتعالى، وهذا ما يغفل عنه كثير من المتعلمين، وهو أنهم إذا اكتسبوا شيئاً من المادة من أمر الدنيا ورزقها نسبوه إلى الله وشكروا المنعم عليه، وهذا يظهر عند كثير من الصالحين، ولكن نسبة المعلومات لله هذا مما يضعف عند كثير من المتعلمين، بل عند كثير من الصالحين، فينبغي أن يحمد الله على أي علم أوتيه حتى يزاد في الحق والخير الذي آتاه الله جل وعلا إياه لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم:7]، وإذا لم ينسب الإنسان ذلك العلم لله جل وعلا فإن الله سبحانه وتعالى يحرمه ذلك، يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح: ( إن الله ليرضى عن العبد بالشربة يشربها فيحمد الله، وبالأكلة يأكلها فيحمد الله ) إذا كانت شربة، فكيف بالمعنى الذي يظهر للإنسان، فينبغي أن يحمد الله على كل معنى فتح الله عز وجل به عليه، فإن هذا إشارة إلى المزيد، ويظهر كفر الخالق سبحانه وتعالى من عباده في أبواب العلوم حيث إن الإنسان ينسب العلم كثيراً إلى نفسه، وكذلك أيضاً ينبغي أن يُعلم أن نسبة خلق المعلومات إلى الإنسان كنسبة خلق المادة للإنسان، فإذا قيل: أنا خلقت هذا، أو خلقت هذه المادة، فإن هذا مشابه لقول الإنسان: أنا أوجدت هذا الشيء، وأنا أول من فعله، وهذا من المعاني الخطيرة، فينبغي أن تنسب المعلومات لله، فالله عز وجل هو الذي خلق كل شيء، حتى ما كان في أذهان الإنسان من مدركات ومعلومات.

قال رحمه الله:

[ ففوضتْ أمورها للنقل فزال غين القلب ذا بالصقل ]

يقول: (ففوضت أمورها للنقل) كلما تحير الإنسان انقاد لكل داعي، المتحير يتحير بكثرة المعلومات المتضادة، أو بوجود الجهل المستحكم، هذان الأمران هما اللذان يجعلان الإنسان يتحير.

الأمر الأول: كثرة المعلومات المتضادة، وهذه المعلومات المتضادة التي يتعلمها الإنسان، تجتمع في ذهنه، فيطرأ لديه الشك والريب، فتجعل الإنسان متحيراً، فينقاد لأي داعي.

الأمر الثاني: الجهل المستحكم، وهو عدم العلم بالشيء.

فإذا تحير الإنسان بهذه المعلومات على أي هذين السببين انقاد لأي داعي، فكيف إذا تحير بإحكام نظام تام لا يجد فيه ثغرة، فإنه إذا دعي من غير معرفة علة لذلك المنظم أجاب من غير سؤال، فمن أمرك بأمر أن تأتي به ورأيت صوابه مائة مرة لن تعصيه فيما زاد عن المائة؛ لأنك تعلم أن هذا من حضك لا من حض غيرك، ولهذا قال: (ففوضت أمورها للنقل) بعد ذلك التحير الذي لمسته من نظام الشريعة وإحكامها.

قال: (فزال غين القلب ذا بالصقل) غين القلب هو: القتر والغين والران والحجاب الذي يقع على القلب؛ ولهذا العرب تسمي الغيم غين، فيقال: غين وغيم وقتر، والقلب تأتيه سحابة وغمامة كما قال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، وجاء مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه ابن مندة وغيره في قول عائشة عليها رضوان الله تعالى في الرجل يكون لديه العلم ثم ينساه فيذكره، وإذ يذكره فينساه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك القلب تكون عليه مثل السحابة، فإن زالت تذكر، وإن أتته نسي ) ولهذا للقلب سحابة كما للسماء سحابة، فيزول ذلك الغين بالصقل، وهذا الصقل كما أنه حسي كذلك أيضاً معنوي بمعرفة المعاني، فإنها تزيل ما على القلب من غين، وكذلك غيم وقتر.

قال رحمه الله:

[ من سنة الهادي الأمين المصطفى خير الأنام نور أهل الاصطفا ]

سنة النبي عليه الصلاة والسلام هي طريقته ومنهجه عليه الصلاة والسلام، ويعرفها الفقهاء بأنها: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية، وهذا من جهة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قلنا بذات المعنى فينبغي أن نقول بصحة هذا التعريف، وأما إذا قلنا من جهة العمل وهذا هو الظاهر، فنقول: إن هذا التعريف ليس بذاك التام، وذلك أنه في قولنا: أو صفة خَلقية، الخَلقية لا يقتدى بها؛ لأنه يلزم من السنة الاستنان بها، والاقتداء بها، فسنة النبي عليه الصلاة والسلام الخَلقية التي خلقه الله عز وجل عليها، من طول، وكذلك عرض، وكذلك بياض البشرة، وطريقة المشي، ونحو ذلك، لا يستطيع الإنسان أن يقتدي بها، والأصل في السنة أن الإنسان يتسنن بها، فلهذا نقول: إن الأولى في هذا التعريف أن يقال: إنه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلقية، فذكر الخَلقية فيه نظر، وأما ما يستدركه البعض من قولهم أن ثمة أشياء خَلقية هي من سنة النبي عليه الصلاة والسلام مثل: إعفاء اللحى، فنقول: إن هذا من الأفعال؛ لأن الأفعال إما مبادرة أو ترك، وأبواب التروك لاحقة في الأفعال، وإعفاء اللحى من أبواب التروك.

يقول: (الهادي الأمين المصطفى) ذكر الهادي والأمين، فالهادي إشارة إلى المعرفة والعلم التام من الله سبحانه وتعالى، وهذا مرادف لقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ[القصص:26] القوي هو: العالم والقادر، وأما الأمين فهو: صاحب الصدق الذي لا يكذب، فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه يكذب، وقد يكون الإنسان صادقاً ولكنه ليس بعالم، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع فيه الخيران، وهو أنه هادي في ذاته، فتحقق فيه العلم الذي يجب معه الاتباع وهو الوحي، فالله سبحانه وتعالى أمر بأن نجعل رسوله عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة، كما قال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21]، وقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ[الأنعام:90].

و(الأمين) الذي يؤدي الرسالة كما اؤتمن، و(المصطفى) المشرف على غيره كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ) (خير الأنام نور أهل الاصطفاء) يعني: أنه عليه الصلاة والسلام سيد المصطفين من الأنبياء، وكذلك الأولياء والصالحين والشهداء، وفيه إشارة أيضاً لأهمية الاتباع.

قال رحمه الله تعالى:

[ صلى عليه الله من غير عدد دوماً ولا حد يحيط بالأمد ]

يقول: (صلى عليه من غير عدد) الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي: الدعاء له عليه الصلاة والسلام بالمنزلة العالية، (من غير عدد دوماً ولا حد يحيط بالأمد) ذكر العدد عند الدعاء، فهل يعطي الإنسان ذلك العدد مما ألحقه به، أم يعطي ذلك تعظيماً؟ نقول: يعطي ذلك تعظيماً، ولا يعطيه ذلك العدد، بمعنى: أن الإنسان إذا قال: سبحان الله وبحمده عدد الشجر، وعدد المطر، وغير ذلك، فهذا لا يعطيه عدد الشجر ولا عدد الحجر تسبيحات، وإنما يعطيه تعظيماً لذلك اللفظ، وإلا لقال الإنسان بعد الصلاة: سبحان الله والله أكبر ثلاثة وثلاثين وانتهى الأمر، والدليل على ذلك حديث جويرية وحديث ابن عباس في مسلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لما خرج إلى صلاة الفجر، وعاد بعدما ارتفعت الشمس: ( ما زلت في مكانك الذي تركتك فيه؟ قالت: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: أما إني قلت أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت ) ما قال: عدت ( لو وزنت فيما قلت لوزنته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته ) هذا فيه إشارة إلى أن هذا يعطي الإنسان تعظيماً لا يعطيه ذلك العدد، وهذا مراد المصنف رحمه الله. قال: (من غير عدد) يعني: من جهة الاستحقاق، وإنما أراد بذلك تعظيم الأجر، ولهذا لا حرج على الإنسان بل يستحب له أن يقول: سبحان الله عدد الشجر، وعدد قطر المطر، وعدد الكواكب، والأفلاك، ثم يلتزم أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: (دوماً ولا حد يحيط بالأمد) لدينا أمد، ولدينا أبد، الأبد: الذي لا نهاية له، والأمد: هو المحدود بحد معين، منها ما هو مقدر، ومنها ما لا يقدر، والأبد الأصل أنه لا يحد إلا بقرينة.