شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين والحاضرين يا رب العالمين.

قال العلامة ابن بدران رحمه الله: [ فصل الصحيح والفاسد ].

بعد أن ذكر المصنف رحمه الله تعالى ما يتعلق بالأحكام التكليفية، أورد هنا ما يتعلق بالأحكام الوضعية، وهي على نوعين: الصحيح والفاسد، ومن العلماء من يقول: إن الفاسد هو ضد أو قسيم للباطل، فيكون ثمة: صحيح وفاسد وباطل، والأحكام التكليفية -وهي ما تقدم الإشارة إليه بالواجب والمندوب والمباح والمحرم والمكروه- تتعلق بمجموع أفعال العبادات، فيجمع الإنسان فيها الواجبات مما شرعه الله عز وجل، وهي أشياء كثيرة على سبيل اللزوم والدوام، وأوصاف بعينها تقع على صور بعينها قد دل الدليل عليها، وأما بالنسبة للصحيح والفاسد فإنه متعلق بغيره، لا يكون لازماً على صفة بعينها مشروعة، وإنما هو ما كان خارجاً عن حكم الشرع، والفاسد لا يمكن للإنسان أن يحده بحد، وذلك أن أسباب الفساد لا يمكن حصرها، وأما أسباب الصحة فيمكن حصرها، فالإنسان يأتي بالصلاة فيأتي بشروطها وواجباتها وأركانها وسننها فهذه هي الصلاة، والمبطل لها لا حد له ولا حصر، فيضبط من جهة الأحكام التكليفية، وأما من جهة أسباب الفساد فذاك باب عريض.

قال رحمه الله تعالى: [ ما باعتداد أو نفوذ قد وصف فهو الصحيح ضده بطلاً عرف ].

بالنسبة للصحيح والفاسد فإن نتيجة الصحة والفساد هي الاعتداد ويقابله النفاذ، الاعتداد يكون في العبادات، والنفوذ يكون في العقود؛ ولهذا فإن العبادة الصحيحة نافذة، والعبادة الصحيحة معتد بها، والعقد الصحيح نافذ، وإذا تعاقد المتبايعان على صورة معينة فيقال حينئذٍ: قد نفذ العقد بينهما، وإذا أدى الإنسان عبادة بكامل شروطها وواجباتها فإنه يقال: إن هذه العبادة صحيحة.

ولهذا نقول: إن العبادة توصف بالصحة والاعتداد كما أنها توصف بالفساد وعدم الاعتداد، وأما بالنسبة للعقود فتوصف بالصحة والنفاذ، أو البطلان وعدم النفاذ، لهذا نقول: إن هذه العبادة معتد بها صحيحة، أو عبادة فاسدة غير معتد بها، وذاك عقد صحيح نافذ، وذاك عقد فاسد ليس بنافذ، هذا ما يتعلق بالعبادة.

وإذا دخلنا في المسائل والتفصيلات المتعلقة بالشروط والواجبات، وكذلك صفة ما توصف به العبادة الصحيحة، دخلنا في التفصيلات والأحكام الجزئية، وما يتعلق بمسائل الفقه، والعبادة توصف بالصحة إذا توفرت شروطها وأركانها وواجباتها، وأما بالنسبة للمعاملات والعقود فتوصف بالصحة إذا توفرت أركانها، وانتفت موانعها، فنقول حينئذٍ: إن أركان البيع مثلاً: البائع والمشتري والسلعة والثمن، هذه الأركان لا بد أن تكون متوفرة لصحة العقد، الموانع في ذلك عريضة جداً، وذلك مثلاً: كقصور الوكالة، أو وجود نوع جهالة في المبيع، ونحو ذلك، فهذا لا حد ولا ساحل له، وكذلك أيضاً ورود بعض الشروط التي تقتضي فساد ذلك العقد أو صحته؟ وهذا مما ليس مباحثه في هذا الباب.

قال رحمه الله تعالى: [ فصل في حد العلم ومباحثه.

لا حد للعلم يرى أهل النظر وكل حد قد بدا فيه نظر

وأن يقل: هو صفات تنكشف به الأمور بالتمام قد عرف

والعلم كالمعلوم في التفاوت يراهما أهل الكلام الثابت ]

تقدمت الإشارة إشارة المصنف رحمه الله إلى مسألة الفقه، وأنه أحد أنواع العلم وأصنافه، وهو أشرفها، وهنا في قوله: ( لا حد للعلم يرى أهل النظر وكل حد قد بدا فيه نظر ) وذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يعرف العلم؛ وذلك لسعة أنواعه، وكذلك وجوهه والسبل الموصلة إليه، بل كل شيء مكتسب قد يسمى علماً، ولكن إنما يجد العلماء حرجاً في أنه ما من حد وضابط إلا ويخرج عنه ما يند عنه من المعاني، وكذلك أيضاً المعلومات، وإنما نقول بأهمية ضبطه دفعاً للمعارف التي تفضي إلى مخالفة أمر الله، كعلم الإنسان بالسحر ونحو ذلك، مع أنه في ذاته ومن جهة اللفظ يسمى علماً، وفي اللغة يسمى علماً، ولكن من جهة الحقيقة الشرعية هو جهل.

وكذلك ما نهى الله عز وجل عن البحث فيه، كالبحث في الأمور الغيبية التي لا يدركها الإنسان، كحقيقة صفات الله سبحانه وتعالى فقد جاء في غير ما نص في كتابه العظيم؛ لأن هذا بحث عما لا يدركه الإنسان إلا بالرؤيا؛ ولهذا قال الله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وفيه الإشارة إلى أن الإنسان لا يمكن أن يدرك المعلومات إلا برؤيتها أو برؤية شبيهها، فالله عز وجل لم يأذن لعباده في هذه الدنيا أن يروه، إنما خص الله عز وجل ذلك بالآخرة، وأما ما عدا ذلك فإن الإنسان يبحثه في الشبه ولا شبه لله سبحانه وتعالى، لهذا البحث عن ذلك من الأمور المعدومة، وفي هذه الآية نعلم أن إدراك الإنسان إنما هو بالنظر في أحوال الكون، فيأخذ الإنسان ويقيس فيها.

لهذا نقول: إن المعلومات التي لدى الإنسان كلها أقيسة، فالإنسان لا يمكن أن يصف شكلاً لم يره بعينه، فهو مثلاً: لو أراد أن يصنع نظارة لماذا يجعل الإطار مستديراً؟ إما أخذه من رسم آخر من دائرة أخرى، وإما من ورقة الشجر، أو من دوران عينه، أو من رؤيته مثلاً لفوهة بئر أو نحو ذلك، وكذلك أيضاً رسوم الأشكال لا يمكن أن يخط عليها خطاً؛ ولهذا لو أعطيت إنساناً قلماً وقلت له: ارسم شيئاً لم تره من قبل لا يمكن أن يرسم؛ لأنه نسخة عن غيره، ولا يمكن أن يوجد شيء خارج المثيل له.

لهذا تجد الإنسان حينما يريد أن يصنع شيئاً لا بد أن يصنعه على مثال قد رآه، فالطائرة صنعوها على مثال مما يروه من الحشرات، والهليكوبتر صنعوها على طريقة البعوض ونحو ذلك، فالإنسان لا يمكن أن يوجد شيئاً معدوماً من العلوم، وإذا ادعى إجاد شيء من ذلك فهذا نظير ادعائه أنه يوجد شيئاً من أنواع المادة من عدم، وهذا يدل على عدم علم الإنسان بغير ما وضعه الله عز وجل له، فهو انعكاس لتلك المعلومات، ومن ادعى إيجاد شيء غير ذلك فهذا متوهم ومدعٍ خالقاً من دون الله سبحانه وتعالى، وإما هذه الإبداعات التي يفعلها البشر فهي تأليف دقيق، كلما أكثر الإنسان من جمع أجزاء تلك المؤلفات ظن أنه أبدع، فحينما تنثر أشكالاً في الإنسان، ثم يقوم بوضع لوح منها هو أبدع بوضعها مواضعها حتى أصبحت مكتملة على هذا الشكل، فهو يبدع بتأليف موجودات فيركبها على نحو لم تره أنت ولم يره هو.

ولهذا نقول: مكتسبات الإنسان من جهة علمه وإدراكه إما أن يكون معلوماً باليقظة، وإما بالمنام، فقد يقول الإنسان: كيف يرسم الناس أشكال الأشباح؟ فهنا نقول: إن هذه رأوها في المنام، ولا يمكن أن يوجد الإنسان شيئاً إلا بشبه رآه باليقظة، أو رآه بالمنام، فيرى شبحاً، أو يرى كذا، ثم يرسم له شكلاً، فربما يرسم رجلاً على هيئة شجرة، فهو وضع الرجل مع الشجرة، ووضع للغصن أعيناً وهكذا؛ ولهذا تجد مثلاً من يجعل للتفاحة أعيناً، ويجعلها تتكلم، ويضع لها فماً، فهو أخذ الفم من هنا وركبه في هذه، فأصبح هذا الشكل، أما أن يوجد شيئاً من عدم فلا يمكن أن يتحقق هذا.

ومن جهة حد العلم لا بد له من حد؛ لأن العلم ينفع، والجهل يضر، وثمة معلومات هي داخلة في أبواب المكتسب وتضر الإنسان لكونها جهل، كذلك أيضاً العلم له حد فإذا تجاوزه الإنسان أضر به كالطعام، الإنسان جعل الله عز وجل له لذة في الطعام، فإذا زاد عن ذلك قتله، كذلك العلم.

لهذا جعل الله سبحانه وتعالى أعمار أمة محمد من الستين إلى السبعين وقليل من يجاوز ذلك؛ لأن العلم إن زاد عن حده أفسد على الإنسان نفسه، فابتكر كيف يقتل الناس؛ لأنه متمرد يحب السطوة؛ لهذا جعل الله عز وجل عمر الإنسان ما بين الستين والسبعين ثم يقضي عليه؛ لأنه لو عاش ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف ماذا يصنع وهو قد صنع في الستين والسبعين صاروخاً، أو قنبلة ذرية، ونحو ذلك؟ ولكن الله عز وجل يقضي عليه حتى يموت العلم معه، يأتي ابنه بعد ذلك فيجد فتاتاً من أبيه، شيئاً من العلم فيبدأ يبني، فإذا أراد أن يصل قضى الله عز وجل عليه.

لهذا جعل الله عز وجل للبشر سناً معيناً، قد يقول قائل: إن الأزمان السابقة كنوح وغيره كانت أعمارهم بالألف ونحو ذلك فنقول: العلم المكتسب من الأمم السابقة قليل؛ لأنهم أول الأمم، والعلم الموروث بدأ يزيد وينتقل شيئاً فشيئاً، وكلما جاء جيل ومات الشخص مات معه أكثر من شطر علمه، وبقي الشطر الباقي، منهم من يستفيد منه شيئاً ومنهم من لا يستفيد؛ ولهذا الله عز وجل يقضي على الإنسان، ويقصر في عمره، ويأتي سبحانه وتعالى بالأنبياء لصلاح البشرية، لماذا؟ لأنه قد زاد في أبواب العلم؛ ولأن قدرة الإنسان البشرية لا يمكن أن تتقبل مثل هذه الزيادة من العلم؛ لأن الطاقة البشرية لا تطيق أن تتعلم أكثر من هذا، وبقاؤها بدون رسول فساد من جهة العقل والتطبيق؛ ولهذا نقول: لا بد من ضبط العلم كما يضبط أمر الطعام والشراب، وإلا لفسدت البشرية حينئذ كما تفسد الأبدان؛ ولهذا نقول: إن الله جل وعلا جعل لكل شيء قدراً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن البشر ما أوتوا من العلم إلا قليلاً؛ ولهذا يقول هنا رحمه الله:

( وإن يقل: هو صفات تنكشف به الأمور بالتمام قد عرف

والعلم كالمعلوم في التفاوت يراهما أهل الكلام الثابت)

العلم - كما تقدم - على قسمين: علم ضروري، وعلم نظري، وتقدم الكلام على هذا التقسيم، وكل ما كشف عنه الإنسان فهو علم، ولكن العلم منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، والعلم المحمود الذي يعود على الإنسان بالنفع، والمذموم الذي يعود عليه بالمضرة، فالجهل بالعلم الضار علم بذاته.

العلم الضروري

قال رحمه الله تعالى: [ وعده ضرورة حيث ورد من دون فكر أو دليل يعتمد ].

هنا ذكر العلم الضروري وهو ما لا يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك كمعرفة أن الجزء أصغر من الكل، وأن السماء فوق الأرض، والأرض تحت السماء، وأن الابن أصغر من الأب، والأب أكبر من الابن، هذه أمور بديهية، وعلم ضروري يعلمه الإنسان ولا يحتاج فيه إلى تأمل، كذلك أيضاً في عمليات الحساب البديهية التي يعلمها الإنسان.

والعلم الضروري يتحقق للإنسان بعد شيء من نظر سابق فاستقر لديه فتمحص، فأصبح مستقراً لديه، فأصبح وصف ذلك العلم الوارد إليه علماً ضرورياً، والعلم الضروري إثباته شاق، واليقين فيه شاذ، وذلك أنه لو أراد شخص منك أن تثبت له أن الذي أمامك هو فلان، فإنك تأتيه بشاهدين وانتهى الأمر، أو تأتيه بأبيه يقول: هذا ابني، أو بابنه يقول: هذا أبي، فربطته بأصله وفرعه فثبت أنه فلان، ولكن أن تأتي فلان ويقول: أثبت لي أن السماء فوق الأرض، كيف تثبت له؟ فهذا إثبات مادي، وهو من الأمور الصعبة؛ لأن مردها القطع والعلم الضروري، وهذه من الأمور التي يأخذها الإنسان ضرورة.

العلم النظري

وأما بالنسبة للعلم النظري الذي يحتاج فيه إلى تأمل، فقد ذكرنا أن نظر وتأمل الإنسان في المعقولات يسمى النظر، وتأمل الإنسان في المحسوسات يسمى تخيل.

قال رحمه الله تعالى:

[ وإن يكن بذاك فهو المكتسب والكل تصوير وتصديق وجب ]

لا يمكن أن يتحقق للإنسان العلم النظري إلا بالتصور والتأمل، والتصور يسبق التصديق والتكذيب، فيتصور الإنسان ثم يصدق أو يكذب؛ ولهذا نقول: إن العلم على قسمين: ضروري، ونظري، والنظري ما يحتاج إلى نظر وتصور، فيتصور الإنسان ثم تصح لديه النتيجة، فيصدق أو يكذب، ونستطيع أن نقول: إن العلم على نوعين: نافع وضار، والنافع هو الذي في مباحثنا هذه، وقد يكون العلم ضاراً بذاته نافعاً بلزومه كمعرفة أنواع السموم والأمور القاتلة في ذاتها، هي في ذاتها ضارة ولكن بلزومها نافعة للتوقي منها.

قال رحمه الله تعالى: [ وعده ضرورة حيث ورد من دون فكر أو دليل يعتمد ].

هنا ذكر العلم الضروري وهو ما لا يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك كمعرفة أن الجزء أصغر من الكل، وأن السماء فوق الأرض، والأرض تحت السماء، وأن الابن أصغر من الأب، والأب أكبر من الابن، هذه أمور بديهية، وعلم ضروري يعلمه الإنسان ولا يحتاج فيه إلى تأمل، كذلك أيضاً في عمليات الحساب البديهية التي يعلمها الإنسان.

والعلم الضروري يتحقق للإنسان بعد شيء من نظر سابق فاستقر لديه فتمحص، فأصبح مستقراً لديه، فأصبح وصف ذلك العلم الوارد إليه علماً ضرورياً، والعلم الضروري إثباته شاق، واليقين فيه شاذ، وذلك أنه لو أراد شخص منك أن تثبت له أن الذي أمامك هو فلان، فإنك تأتيه بشاهدين وانتهى الأمر، أو تأتيه بأبيه يقول: هذا ابني، أو بابنه يقول: هذا أبي، فربطته بأصله وفرعه فثبت أنه فلان، ولكن أن تأتي فلان ويقول: أثبت لي أن السماء فوق الأرض، كيف تثبت له؟ فهذا إثبات مادي، وهو من الأمور الصعبة؛ لأن مردها القطع والعلم الضروري، وهذه من الأمور التي يأخذها الإنسان ضرورة.

وأما بالنسبة للعلم النظري الذي يحتاج فيه إلى تأمل، فقد ذكرنا أن نظر وتأمل الإنسان في المعقولات يسمى النظر، وتأمل الإنسان في المحسوسات يسمى تخيل.

قال رحمه الله تعالى:

[ وإن يكن بذاك فهو المكتسب والكل تصوير وتصديق وجب ]

لا يمكن أن يتحقق للإنسان العلم النظري إلا بالتصور والتأمل، والتصور يسبق التصديق والتكذيب، فيتصور الإنسان ثم يصدق أو يكذب؛ ولهذا نقول: إن العلم على قسمين: ضروري، ونظري، والنظري ما يحتاج إلى نظر وتصور، فيتصور الإنسان ثم تصح لديه النتيجة، فيصدق أو يكذب، ونستطيع أن نقول: إن العلم على نوعين: نافع وضار، والنافع هو الذي في مباحثنا هذه، وقد يكون العلم ضاراً بذاته نافعاً بلزومه كمعرفة أنواع السموم والأمور القاتلة في ذاتها، هي في ذاتها ضارة ولكن بلزومها نافعة للتوقي منها.