تفسير آيات الأحكام [65]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

ينعقد هذا المجلس في الخامس عشر من جمادى الآخرة من عام خمسة وثلاثين بعد الأربعمائة والألف، نكمل ما يتعلق بالمحرمات من النساء من سورة النساء، وذلك في قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23].

المحرمات بالوصف قسمان

الله سبحانه وتعالى حرم على الرجال النساء، وجعل الأصل في النكاح الحل، كما تقدم في قول الله جل وعلا: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] فهذا دليل على أن الأصل في النكاح الحل، وقيد الله عز وجل ذلك بالعدد في أول سورة النساء، قال: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] ، وأما بالنسبة للأوصاف فإن الله عز وجل قيد الأوصاف بالمحرمات هنا في قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] ، وذكر الله سبحانه وتعالى للفظ التحريم في هذه الآية في قوله: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ))، وقوله جل وعلا في الآية السابقة: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] إشارة إلى أن التحريم في هذه الآية أغلظ من التحريم في الآية السابقة، وذلك أن النهي بلفظ التحريم في كلام الله عز وجل أغلظ، فإذا قال الله عز وجل: حرام، أو حُرم، أو حرَّم الله، فإن ذلك أغلظ من قوله: ولا تفعلوا، وذلك للصراحة والوضوح والجلاء، وكذلك أيضاً فإن الله سبحانه وتعالى أكد التحريم بقوله: عَلَيْكُمْ [النساء:23] ، فقول الله جل وعلا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23] هذا المراد به محرمات النسب، فالله عز وجل جعل المحرمات على نوعين: محرمات بالنسب وهن سبع، والنوع الثاني محرمات بالمصاهرة والرضاع، وهن سبع كذلك.

المحرمات بالنسب

ولهذا روى سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: حرم الله عز وجل من النسب سبعاً، وحرم من المصاهرة سبعاً، وهن أربع عشرة امرأة حرمها الله جل وعلا في كتابه العظيم في هذا الموضع، وبدأ الله عز وجل بالأمهات، وحرمهن على الأبناء، وذلك لعظم حق الأمهات ومنزلتهن في الدين والرحم.

البدء بتحريم نكاح الأمهات

يقول: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] ذكر الله عز وجل الأمهات في أول المحرمات؛ وذلك لعلو منزلة الأم وحقها، فإن أعلى مراتب الرحم هي محل الأبوة والأمومة، فيطلق على الأب والأم الأبوين للتغليب، وذلك لغلبة الذكورة على الأنوثة لا لغلبة الحق، فالحق للأم في ذلك أعظم، وأعظم منازل الأبوة في ذلك هي للأم، ومعلوم أن المرأة الواحدة تكون أماً من وجه، وتكون بنتاً من وجه، وتكون أختاً من وجه، وتكون عمة من وجه، وتكون خالة من وجه، وقد تكون أيضاً من النسب، وقد تكون أيضاً من الرضاع من وجه، فذكر الله عز وجل مرتبة الأمومة وقدمها على غيرها، مع أن المرأة قد تكون بنتاً وأختاً وعمة وخالة، ولكن لذكور آخرين، فذكر الله عز وجل أعظم وجوه الصلة في ذلك وهي مرتبة الأمومة، فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23]، وذلك أن أول رحم يدلي به الإنسان هو رحم أمه، والمراد بالأم هنا هي أم النسب، أما بالنسبة للرضاع فيأتي الكلام عليها فيما يأتي من هذه الآية.

نكاح البنات

قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23] وذكر هنا البنات، وهن أشد تحريماً من الأخوات، وذلك لأنهن أقرب من جهة الرحم، وهنا في ترتيب المحرمات يأخذ العلماء منه ترتيب الحق في الأرحام، وذلك أن التحريم والحل يتقابلان، من جهة الحل مما جعل الله عز وجل في ذلك الصلة، وكذلك جانب الولاية، وغير ذلك، فإن الابن أحق بولاية أمه من أخيه، وذلك للحق بينهما إذا كان بالغاً راشداً، كذلك أيضاً من جهة الرحم، فصلة الأم أولى من صلة البنت عند التزاحم، وكذلك فإن صلة البنت أولى من صلة الأخت، لأن الله عز وجل جعل ذلك على الترتيب في أبواب التحريم، للتغليظ في الحق والمحرمية، وكذلك فإن البنت تدلي برحم مباشرة، بخلاف الأخت فإنها تدلي برحم بواسطة.

في قوله جل وعلا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23] هذه المذكورات هن الأمهات والبنات والأخوات من جهة النسب لا من جهة الصهر والرضاع، وهنا في تحريم الله عز وجل للأمهات شامل للأمهات وإن علون، وللأم والجدة من جميع الجهات، سواء كانت أم الأم أو أم الأب، وإن علون، فإنهن محرمات لدخولهن في هذا الباب، ولا خلاف عند العلماء في هذا.

وفي قوله جل وعلا: وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23] وإن نزلن، ولا خلاف عند العلماء في ذلك، فإنه يحرم على الأب أن يتزوج بنته وأن يتزوج بنت بنته، ولا خلاف عند العلماء في ذلك وإن نزلن.

تحريم نكاح الأخوات

وكذلك أيضاً في قوله: وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23] حرم الله عز وجل نكاح الأخوات، وذلك من جميع الجهات، سواء كانت أختاً من أم أو أختاً من أب، أو كانت أختاً شقيقة، ولا خلاف عند العلماء في ذلك.

تحريم نكاح العمات والخالات

قال: وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ [النساء:23] العمات والخالات وإن علون، فعمة الإنسان مباشرة تأخذ حكمها عمة أبيه وعمة أمه، وكذلك بالنسبة لخالة أبيه وخالة أمه، تأخذ ذات الحكم من عمته؛ ولهذا نقول: إن العمات محرمات وإن علون، والخالات محرمات وإن علون، كما أن الأمهات محرمات وإن علون، والبنات محرمات وإن نزلن، وذلك لأن الله عز وجل أطلق ذلك، والحكم في ذلك سواء، ولا يستثنى من ذلك نوع.

وعلى هذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى إنما ذكر في هذه الآية أصول المحرمات لا أشخاص المحرمات وأعيانهن، فالأصول يعني: أنه يتفرع عنها فرع، كالبنت وبنت الابن والأم وإن علت، وإن كانت الأم هي فرع لأمها وجدتها، وإنما ذكرت لعظم حقها، وكذلك بالنسبة للعمات والخالات.

نكاح بنات الأخ والأخت

قال: وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23]، يتفق العلماء على حرمة بنات الأخ وبنات الأخت وإن نزلن، فبنت بنت الأخ حرام، وكذلك بنت بنت الأخت، وهنا من جهة الترتيب في قول الله عز وجل: وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23] هل يقال بتقديم الرحم من جهة الأخ على الرحم من جهة الأخت؟

نقول: نعم، وهذا هو الظاهر من جهة الأدلة، أن ذرية الإخوة أولى بالصلة من ذرية الأخوات، وكذلك من جهة ذرية الأبناء أولى بالصلة من ذرية البنات، ولأن النسب يتعلق بالذكورية ولا يتعلق بالأنوثة؛ ولهذا جعل الشارع مقام الذكورة أعظم من مقام الأنوثة في الميراث وأشباهه، وهذا من العلل في أبواب المواريث على ما تقدم الإشارة إليه في مواضع سابقة.

والقرينة في هذا أن الله عز وجل قدم بنات الأخ على بنات الأخت، والعرب تجعل ما يكون من ذرية البنات لأزواج البنات بالنسب، وما يكون من ذرية الأبناء للأبناء، فيتصل بذلك النسب بالذكورة لا بالأنوثة، وهذا معلوم أيضاً بالطبع، فإن الناس يتعلقون بنسب الذكورة أعظم من نسب الأنوثة، وهذا من العلل العظيمة أن الله سبحانه وتعالى لم يقدر لنبيه صلى الله عليه وسلم ولداً ذكراً من ذريته يبقى وينشأ له نسل وذرية، وهذا من رحمة الله عز وجل بنبيه، ورحمة الله سبحانه أيضاً ولطفه بأمته، فإن ذرية النبي صلى الله عليه وسلم الباقية هن من بناته لا من أبنائه، ومع ذلك غلا فيها من غلا، وجُعلوا آلهة من دون الله، وهن والذرية من ذرية بنات النبي صلى الله عليه وسلم هن من البنات لا من الأبناء، فلم يجعل الله عز وجل لنبيه ابناً يُعمَّر، فإذا كان من ذرية النبي ابن يعمر فما هو مقام الغلو والشرك والفتنة في دين الناس لتعظيم الذرية في باب الذكورة والفتنة بها أعظم من غيرها؛ ولهذا نجد الروافض إنما غلوا في هذا الباب مع أن الصلة في ذلك من جهة الأنوثة، وأما من جهة جِماع الشرف والصلة والتعظيم فإن الذكورة تشترك مع الأنوثة من جهة الشرف والتعظيم؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ابني هذا سيد ) يقصد الحسن عليه رضوان الله تعالى، وهو ابن بنته، وهو ابن لـعلي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الشاعر في هذا الباب:

بنونا بنو أبنائنا ... وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

يعني: أن أبنائي الذين يرجع نسبهم إلي هم أبناء أبنائي، وأما أبناء البنات فهم أبناء الرجال الأباعد، يعني: ينسبون إلى آبائهم وقبائلهم وأعراقهم، والعجمي إذا تزوج عربية أصبح أبناؤه عجماً كأبيهم، فانتسبوا إليه من جهة العرق، ولو كانت الأم في ذلك عربية، والرجل العربي إذا تزوج أعجمية لحق أبناءه نسب أبيهم، ولو كانت الأم في ذلك أعجمية، فضلاً عن ما دون ذلك من أجزاء النسب مما يتصل به من جهة الأبوة، وكذلك النسب إلى الجد والقبائل والأفخاذ وفروع الأنساب.

المحرمات بالرضاع الأمهات من الرضاعة

وقول الله سبحانه وتعالى هنا: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23] ذكر الله سبحانه وتعالى الرضاع بعدما ذكر النسب، إشارة إلى أن أدنى مراتب النسب أعظم من أعلى مراتب الرضاع، والعلماء يتفقون على أن الرضاع ليس من الرحم الذي يجب وصله، وإنما هو من الوفاء وحسن العهد، فإذا قطع الرجل رضاعاً كان بينه وبين امرأة، أو كانت له أخت أو عمه أو خالة من الرضاع، لم يكن بذلك قاطعاً، وعلى هذا جملة من الأدلة، ومن ذلك ما جاء في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله: ( أن أبا القعيس استأذن عليها، فقال: إني عمك من الرضاعة. فلم تأذن له حتى استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخليه فإنه عمك من الرضاعة ).

وفي عدم إدخال عائشة عليها رضوان الله تعالى له إشارة إلى أنها لم تجالسه في السابق، وإلا لما احتاجت إلى بيان حكم جديد، والعم من الرحم الذي يجب وصله، ومع ذلك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة لما كان عهدك به بعيداً، أو لم تصليه، أو كان من رحم، بل أجاز النبي صلى الله وعليه وسلم دخوله عليها، لأنه من محارمها، فذكر الله سبحانه وتعالى هنا الأمهات من الرضاعة بعدما ذكر بنات الأخ وبنات الأخت، وهذا الترتيب له حكمة من جهة التعظيم؛ ولهذا نقول: إن نكاح بنات الأخ وبنات الأخت أعظم عند الله عز وجل من نكاح الأم من الرضاعة، لاتصال الأول بالنسب، وإن كان ثبوت المحرمية وأصلها يثبت للرضاع ما يثبت للنسب، وهذا أصل المحرمية لا مراتب التعظيم، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ).

وقوله سبحانه وتعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23] يدخل في هذا الأمهات وإن علون، الأم والجدة وإن علون في ذلك.

الأخوات من الرضاعة

وكذلك أيضاً في قوله جل وعلا: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23] الله سبحانه وتعالى إنما ذكر الأمهات وما ذكر غير الأمهات والأخوات في المحرمات، وما ذكر الله سبحانه وتعالى غير الأمهات والأخوات من الرضاعة، فهل يعني أن المحرمات في هذا تتقيد فيما ذكره الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، فلا يحرم على الإنسان غير ذلك؟

الله سبحانه وتعالى حرم على الرجال النساء، وجعل الأصل في النكاح الحل، كما تقدم في قول الله جل وعلا: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] فهذا دليل على أن الأصل في النكاح الحل، وقيد الله عز وجل ذلك بالعدد في أول سورة النساء، قال: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] ، وأما بالنسبة للأوصاف فإن الله عز وجل قيد الأوصاف بالمحرمات هنا في قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] ، وذكر الله سبحانه وتعالى للفظ التحريم في هذه الآية في قوله: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ))، وقوله جل وعلا في الآية السابقة: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] إشارة إلى أن التحريم في هذه الآية أغلظ من التحريم في الآية السابقة، وذلك أن النهي بلفظ التحريم في كلام الله عز وجل أغلظ، فإذا قال الله عز وجل: حرام، أو حُرم، أو حرَّم الله، فإن ذلك أغلظ من قوله: ولا تفعلوا، وذلك للصراحة والوضوح والجلاء، وكذلك أيضاً فإن الله سبحانه وتعالى أكد التحريم بقوله: عَلَيْكُمْ [النساء:23] ، فقول الله جل وعلا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23] هذا المراد به محرمات النسب، فالله عز وجل جعل المحرمات على نوعين: محرمات بالنسب وهن سبع، والنوع الثاني محرمات بالمصاهرة والرضاع، وهن سبع كذلك.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2758 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2719 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2520 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2443 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2332 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2313 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2267 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2250 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2212 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2172 استماع