خطب ومحاضرات
عرض كتاب الإتقان (64) - النوع الرابع والستون في إعجاز القرآن [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصبحه والتابعين.
أما بعد:
فنبتدئ إن شاء الله بكتاب الإتقان في النوع الرابع والستين، هذا النوع في إعجاز القرآن الكريم:
قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: [ النوع الرابع والستون في إعجاز القرآن ].
نشأة الحديث عن إعجاز القرآن
قبل أن نبتدأ بما ذكره الإمام رحمه الله تعالى، نقول: من أين نشأ الحديث عن إعجاز القرآن؟ وهذه مسألة من جهة التاريخ مهم أن ننتبه لها، وما هي الأشياء التي كانت تدور في قضية إعجاز القرآن؟ وما هي المسالك التي كان هؤلاء يناقشونها في إعجاز القرآن؟
لو رجعنا إلى الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وكذلك أئمة أهل السنة مقابل المعتزلة؛ لا نجد أن لهم عناية بما يتعلق بإعجاز القرآن، ولم يكن لهم كلام فيما يتعلق بإعجاز القرآن، ونشأ الحديث عن إعجاز القرآن عند المعتزلة، وعند بعض علماء السنة ممن كان له احتكاك بالمعتزلة من المتقدمين، على سبيل المثال إمام أهل السنة في الأدب ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" طرح شيئاً من هذا، لكن من تقدمه من العلماء لم يكن لهم عناية بإعجاز القرآن؛ لأنها مسألة انتهت وحسمت، ولكن الذي جعلها تثور عند المعتزلة هو أن المعتزلة كانوا ينحون ببحوثهم إلى المنحا العقلي المجرد، أي: النظريات والفرضيات.
وكانت المعتزلة على طبقات، منهم طبقة معتنية بالحديث، وهم قليل جداً، ومنهم طبقة ليست معتنية بالحديث وإنما معتنية بالقرآن من جانب، وبالدلائل العقلية النظرية المجردة من جانب آخر، وصنفوا في ذلك تفاسير، ومنهم طبقة منسوبة للمعتزلة وهي طبقة فيها إلحاد وزندقة، مثلما يذكر عن ثمامة بن أشرس ، فالمعتزلة كانوا على طبقات.
هذه الدائرة من المعتزلة وقد حكى ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" عن جماعة من المعتزلة وكيفية نقاشاتهم أحياناً؛ فاثنان منهم تناقشوا في علم الله فواحد منهم غلب الثاني، فقال له: قد ظهرت لك حجة صاحبك فَلِم لا تنتقل إلى رأيه؟ فقال: لو انتقلت لرأيه لكان لي في كل مرة دين؛ فالمسألة مجرد نقاش فقط وليس للوصول إلى الحق.
في هذه البيئة التي كان المعتزلة يعيشونها جاء الكلام عن إعجاز القرآن من جهة المسلك الكلامي، أي: النظري، وهو هل القرآن معجز أو ليس بمعجز؟ وبعض المعتزلة الذين وصفوا بأنهم زنادقة كانوا يثيرون هذه المسألة للطعن في القرآن، فانبرى لهم بعض المعتزلة وبدأوا يتكلمون فيما يتعلق بإعجاز القرآن، فما ظنكم بعلم سينشأ في أحضان المدرسة العقلية النظرية؛ بلا شك أنه سيتأثر بهذه المدرسة، وهذه المدرسة منتقدة عند جمهور أهل السنة ممن يتبع منهج السلف أو يتبع الأشاعرة أو الماتريدية أو الكلابية أو غيرهم، وكلهم في صف أهل السنة -دائرة أهل السنة- أمام الاعتزال، وينتقدون هذه المدرسة، فلا زالت إلى اليوم بقايا هذه المدرسة الكلامية فيما يتعلق بإعجاز القرآن موجودة.
إذاً: الإعجاز نشأ في أحضان الاعتزال، هذه واحدة.
وكنت أبحث في سبب حديث المعتزلة عن إعجاز القرآن وحرصهم على ذلك، غير قضية كلام بعض الزنادقة؛ فوجدت رأياً هو رأي خاص بي واجتهاد مني، أن قول المعتزلة في القرآن قول ضعيف، فهم يقولون في القرآن أنه مخلوق، فلو قلنا: بأن القرآن مخلوق والقرآن معجز، إذاً الإعجاز سيكون مخلوقاً؛ لأن القرآن مخلوق، ولم يشر أحد من المعتزلة فيما قرأت إلى هذه الإشكالية، ولكن من خلال النظر يتبين أن هذا أحد أسباب كلام المعتزلة في إعجاز القرآن، ومحاولة إبراز هذه القضية؛ لأن قولهم في القرآن كان ضعيفاً، والزنادقة يحتجون عليهم في هذا الباب، فجاءوا بأن القرآن معجز؛ ليغلقوا الباب في هذه المسألة، لكن إذا تأملنا قولهم في القرآن، وقولهم في الإعجاز فلا نجد أن هناك توائماً بين القولين؛ لأن إثبات الإعجاز الذاتي للقرآن لا يكون إلا إذا كان كلام الله سبحانه وتعالى، وما دام القرآن عندهم مخلوقاً فسيكون الإعجاز مخلوقاً مثله.
مذهب النظام في القرآن وإعجاز القرآن
وعندي أيضاً -من باب الرأي- أن كلام النظام أكثر تناسقاً مع مذهب المعتزلة في خلق القرآن من كلام غيره من المعتزلة في الإعجاز؛ لأن كلام النظام في الإعجاز أن العرب يقدرون على مثله، ولكنهم صُرفوا، وهذا ما يسمى بالصرف وسيأتي.
أقول: إن هذا المذهب - الذي هو مذهب النظام - يتناسق مع القول بأن القرآن مخلوق أكثر من تناسق قول جمهور المعتزلة الذين ردوا على النظام في هذه المسألة، وهي مسألة الصرفة؛ لأنه ما دام القرآن مخلوقاً فإذاً: الإعجاز ليس ذاتياً فيه، فما دام الإعجاز ليس ذاتياً فيه والعرب يقدرون أن يأتوا بمثله؛ لأن الأداة عندهم؛ فإذاً: لماذا لم يقولوا مثله في مسألة الصرف؟ هذا رأي النظام باختصار؛ فأقول - من باب أيضاً الرأي - : إن مذهب النظام في هذا أقرب إلى قول المعتزلة وأكثر تناسقاً مع قول المعتزلة في خلق القرآن. هذا مهم جداً أن ننتبه له ونحن نتكلم عن قضية المعجزة.
مسالك إعجاز القرآن الكريم
المسالك التي بُحث فيها إعجاز القرآن كما قلت مسلكان، وأشار إليهما محمود شاكر في كلامه عن إعجاز القرآن في مقدمته للظاهرة القرآنية "الملك والنبي" وأيضاً في رسالته التي طُبعت باسم مداخل إعجاز القرآن.
المسلك الأول: هو المسلك الكلامي الذي ظهر عند المعتزلة وصار النقاش فيه بين المعتزلة وغيرهم من الزنادقة، ثم برز المتكلمون من الأشاعرة ودخلوا في مجال الإعجاز، وصار بينهم وبين المعتزلة أيضاً نقاش.
والمسلك الثاني: الذي هو المسلك التذوقي البلاغي؛ وهذا مسلك يعتبر مسلكاً أدبياً، بمعنى: إبراز بلاغة القرآن.
وأما المسلك الأول فهو مرتبط بإثبات النبوة، والكتب فيه موجودة، ولكنه كلما ابتعد الزمن عن المعتزلة ونقاشاتهم صار هذا المسلك يقل شيئاً فشيئاً، ويبرز المسلك الآخر الذي هو المسلك التذوقي الأدبي، وهو الذي برزت فيه الكتب، ولا ينصرف الذهن إذا قيل: إعجاز القرآن إلا إلى هذا النوع، وهو الذي طرحه الإمام السيوطي رحمه الله تعالى فيما يتعلق بإعجاز القرآن، وهذه فكرة موجزة عن ذلك، وسنأتي إن شاء الله إلى الإشارة أيضاً إلى ما يقع من الخلل في قول الأشاعرة في كون القرآن معجزاً حينما يأتي كلام لذلك سيذكره السيوطي ، وسأبين أن القول بأن القرآن معجز على رأي الأشاعرة فيه إشكال.
عندنا مسألة وهي لو أردنا أن نرتب الأنواع، إعجاز القرآن ذكره السيوطي في النوع الرابع والستين، والنوع الذي قبله هو في الآيات المتشتبهات، والنوع الذي قبله في مناسبات الآيات والسور، والنوع الذي قبله في فواصل الآي، والنوع الذي قبله في بدائع القرآن، والنوع الذي قبله في الخبر والإنشاء، والذي قبله في الإيجاز والإطناب، لو قيل لك: رتب؛ أين تضع إعجاز القرآن؟ ستقول: يتقدم مع البحوث البلاغية، وعندي أنه لو جاء به بعد البدائع لكان أولى، وهو النوع الثامن والخمسون، بدائع القرآن تكلم عن جملة كبيرة جداً مما يتعلق بعلم البلاغة، ولو جعل إعجاز القرآن النوع التاسع والخمسين في نظري أنه أولى، لأن جل المباحث المذكورة في الإعجاز مرتبطة بهذا الجانب، الذي هو جانب بلاغة القرآن، ولا أدري هل السيوطي رحمه الله تعالى كان يرتب كتابه ترتيباً في ذهنه، أو أنه رتب ترتيباً عاماً وقد يشذ عنه بعض الأشياء، الله أعلم، وعلى العموم هذا من باب النظر في قضية الترتيبات والترتيبات، ليس فيها إشكال كبير.
أجود ما كتب في إعجاز القرآن
وذكر من صنّف في إعجاز القرآن، وهم كثير غير الذي ذكرهم الإمام السيوطي، ومن أشرف هذه الكتب وأنفسها كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني ، وهو مشهور بإعجاز القرآن، وهو مطبوع وطبعته متداولة، ولا يعني كونه هو الأنفس والأشهر أن الكتب التي قبله، أو التي جاءت بعده لا يستفاد منها، لكن هذا الكتاب نفيس ومشهور.
والباقلاني لما أراد أن يبن مزايا آيات القرآن أخذ أنفس ما عند العرب من شعر، وهي معلقة امرؤ القيس ، ولكنه استخدم أسلوب النقض، ثم بين ممادح آيات القرآن في البلاغة، وهذا الأسلوب عابه عليه بعض العلماء، وممن عابه من المتأخرين محمود شاكر ، وذلك أنه جاء إلى أنفس ما عند العرب ونقضه، وكأنه قال: ليس فيه شيء، وكان الرأي أن يأتي بأحسن ما في هذا الشعر، ثم يقول: إن القرآن فاقهم، وهذا أفضل، أما أن يقول: هذا الشعر ليس فيه شيء، ثم يقول: القرآن أفضل منه، فهذه كما يقال:
ألم ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
لكن هكذا قدر الله للإمام الباقلاني رحمه الله تعالى أن يصنع، والأولى كما ذكر هؤلاء أنه لو بين محاسن هذا الشعر، ثم أضاف إلى ذلك محاسن ما في القرآن من البلاغة.
تعريف المعجزة وما يؤخذ عليه من ردود
سأختم بمناقشة تعريف المعجزة، وهذا التعريف أصله من بطون الاعتزال، ثم توقف عند علماء الأشاعرة وغيرهم، واستمر هذا التعريف إلى اليوم وهو التعريف المشهور، ولكن عليه ملحوظة ذكرها بعض العلماء وهي: كون تسمية القرآن بإعجاز ومعجز، والمصطلح القرآني أنه آية وبرهان كما ذكر؛ فهذه مسألة يجب أن ننتبه لها، ولكننا سنبقى على ما اشتهر في تعريف الإعجاز.
قال السيوطي رحمه الله: [المعجزة أمر خارق للعادة]، قولهم: (أمر خارق للعادة) فيه إشكال، وقد أشكل على الإمام الباقلاني رحمه الله تعالى لما كتب له كتاب في المعجزات والكرامات والسحر والشعوذة، أشكل عليه رحمه الله تعالى ووقع عنده التباس في أنه لا يمكن تمييز المعجزة من الكرامة من السحر، وهذا مشكل، والسبب عنده: أنه لم ينتبه إلى قضية الخارق للعادة، وهذه التي قيلت في تعريف المعجزة؛ ولذلك كي نخرج من إشكالية (خارق العادة) نقول: الخارق للعادة نوعان -ويكون فيه ضبط-:
النوع الأول: الخارق الكلي، والنوع الثاني: الخارق النسبي.
وكلام العلماء سواء من المعتزلة أو غيرهم ممن تكلم عن (خارق العادة) لم يريدوا الخارق النسبي، وإنما أرادوا الخارق الكلي؛ ولهذا هم يتكلمون عن الخارق الكلي، فمثل الإمام الباقلاني رحمه الله تعالى في كتابه هذا وقع عنده لبس؛ لأنه ذهب إلى الخارق النسبي الإضافي، ففي الخارق الإضافي قد يأتي أحد بأقوى مما أتى به الآخر، ولكن في الخارق الكلي لا يستطيع أحد أن يأتي به، والمراد هنا في المعجزة: أنها الخارق الكلي الذي يعجز عنه كل الخلق؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88]؛ فإذاً المراد هنا الخارق الكلي وهو: أنه لو اجتمعت الإنس والجن فإنه لا يمكن أن يأتوا بمثله، وهذا خارق كلي.
والخارق النسبي مثل: السحر، وبعض الناس أسحر من بعض، وفي قصة موسى عليه السلام؛ لأنهم ظنوا أن ما جاء به موسى عليه السلام سحر، ولأنهم يعرفون السحر، فقالوا: إذاً نستطيع أن نغلبه، فجاءوا للمغالبة ظناً منهم أن موسى منفرد، وهم مجموعة من السحرة سينتصرون عليه، ووقع ما لم يكن بحسبانهم.
والمقصد من ذلك أن الخارق النسبي قد يكون بعض الناس أقوى من بعض فيه، مثال آخر بعض الأعمال البهلوانيات التي يعملها البهلوان، هو الآن يأتي بأمر خارق للعادة، وليس كل واحد منا يستطيع أن يفعل مثلما يفعل، ولكن لو أتى بهلوان آخر جسمه ألين من جسم هذا البهلوان، فإنه سيأتي بما لم يأت به هذا، وأهل الصناعات يتفوق بعضهم على بعض في مثل هذا، فهذا نسميه خارقاً نسبياً.
فإذاً يجب أن نقيد الخارق للعادة بأنه الخارق الكلي.
تقييد المعجزة بالتحدي
المسألة الثانية: قولهم: (مقرون بالتحدي)، وهذه مشكلة من أكبر مشكلات تعريف المعجزة، وإذا كنا تخلصنا من قولهم: خارق للعادة بأن قلنا: الخارق الكلي؛ فسلمت لنا، فقولهم: (مقرون بالتحدي) لا يسلم إطلاقاً، فهذا الضابط في التعريف لا يسلم؛ وذلك لأن كل معجزة لا يشترط أن تكون مقرونة بالتحدي، وليست كل المعجزات على نوع واحد، فهناك معجزات أظهرها الله سبحانه وتعالى على يد النبي صلى الله عليه وسلم أمام قوم كافرين، وهناك معجزات أظهرها الله سبحانه وتعالى على يد النبي صلى الله عليه وسلم أمام قوم مؤمنين، وهناك معجزات ظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته؛ فإذاً مجموع المعجزات هذه التي ظهرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو قبله أو لغيره من الأنبياء لم تكن مقرونة بالتحدي كلها، والذي قرن بالتحدي من جميع هذه المعجزات الذي ثبت عندنا بالنص هو القرآن فقط، وأنا أقول: فقط؛ قصداً؛ لأن نظري ورأيي أنه لم يقع التحدي بآيات الأنبياء أبداً، وإنما وقع التحدي في القرآن فقط، وإثبات التحدي في القرآن لا نحتاج فيه إلى دليل، فالدليل فيه واضح، ولكن بعض الناس قد يقول: لماذا تنفي التحدي في آيات غير النبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول:
أولاً: لو نحن رجعنا إلى آيات النبي صلى الله عليه وسلم، فليس كل آيات النبي صلى الله عليه وسلم وقع فيها تحد؛ كتسبيح الحصى وحنين الجذع، وخطاب البعير للنبي صلى الله عليه وسلم، ونبع الماء بين أصابعه، وأشياء كثيرة جداً مما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة وكلها ليس فيها تحد، وهي معجزات ظاهر، وانشقاق القمر لم يكن فيه تحد، وأمثلة كثيرة جداً من المعجزات لم يقع فيها تحد.
وآيات الأنبياء أيضاً كنجاة إبراهيم عليه السلام من النار، هي معجزة، ولم يتحد إبراهيم بها الكفار، وأين الآية من آيات الأنبياء التي وقع فيها التحدي للبشر؟ لا يوجد.
وموسى عليه السلام وهو المثال الذي يقع فيه إيهام، فنقول: إن موسى عليه السلام لم يتحد، وإنما قال: هذه آياتي على نبوتي، قالوا نحن نعارضك، فعملهم هذا معارضة وليس تحدياً منه صلى الله عليه وسلم لهم، فلما عارضوه حصل بينه وبينهم هذه المغالبة وغلب.
ولما ننتقد هذا وهو أنه ليس كل معجزة مقرونة بالتحدي؛ لا يعني هذا أنه يستطيع أن يأتي بها البشر؛ لأن بعض من ذكرت له هذا الكلام قال: ما دامت مقرونة بالتحدي إذاً يمكن أن يأتي بها البشر، نقول: لا، لا يلزم كونها لم يتحد بها أنه يمكن للبشر أن يأتوا بها، هذه قضية مهمة ننتبه لها؛ لأن مشكلتنا أن لدينا خلفيات علمية تؤثر علينا في فهم بعض المسائل التي قد تطرح؛ فيجب أن ننتبه وأن نفكر، ولا يأخذك كلامي وتقتنع به ولكن فكر فيه؛ فقد يظهر لك صوابه وقد يظهر لك أيضاً خطأه، فالمقصد من ذلك أنك لا تستعجل في قضية وتقبل الآراء، كما أنك أيضاً لا تستعجل في قضية الاعتراض على الآراء؛ ما دام أن فيها دليلاً فليس كلامي مطلقاً.
وكذلك صالح ما تحداهم، إنما طلبوا منه برهاناً، فقال: (هذه ناقة الله)، أخرجها كما قيل من الصخر، وهذا ليس تحدياً، والطلب ليس تحدياً، فالتحدي أن يقول النبي: هذه آية أتحداكم أن تأتوا بمثلها، مثلما في القرآن، فالقرآن واضح فيه معنى التحدي.
فإن قال قائل: لماذا لا نقول: إن وجود المعجزة دلالة بلسان الحال على أنه تحدى بها؟ فنقول: نحن نتحدث عن التحدي الصريح، ولماذا جاء التحدي الصريح بالقرآن؟ وما الفائدة منه؟ لو نحن طردنا هذا فلا فائدة من كون القرآن يتحدى به صراحة، ولمضى مثلما مضى غيره من الآيات؛ فكونه يتحدى به بوضوح تام جداً في أكثر من آية، وأما غيره من آية الأنبياء، وكذلك من آية النبي صلى الله عليه وسلم لا يتحدى بها دلالة على أن هذا أمر خاص للقرآن الكريم.
فهذه تتمة لقولهم: (مقرون بالتحدي سالم من المعارضة)، فنحن لا نحتاجها؛ لأن تاريخ الأنبياء دال على أن آيات الأنبياء سلمت من المعارضة، والموضوع في هذا طويل، ولكن هي إشارات فقط إلى ما يتعلق بنقد تعريف المعجزة، ولعلنا نقف عند هذا في كتاب السيوطي رحمه الله تعالى ونكمل فيما بعد.
قبل أن نبتدأ بما ذكره الإمام رحمه الله تعالى، نقول: من أين نشأ الحديث عن إعجاز القرآن؟ وهذه مسألة من جهة التاريخ مهم أن ننتبه لها، وما هي الأشياء التي كانت تدور في قضية إعجاز القرآن؟ وما هي المسالك التي كان هؤلاء يناقشونها في إعجاز القرآن؟
لو رجعنا إلى الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وكذلك أئمة أهل السنة مقابل المعتزلة؛ لا نجد أن لهم عناية بما يتعلق بإعجاز القرآن، ولم يكن لهم كلام فيما يتعلق بإعجاز القرآن، ونشأ الحديث عن إعجاز القرآن عند المعتزلة، وعند بعض علماء السنة ممن كان له احتكاك بالمعتزلة من المتقدمين، على سبيل المثال إمام أهل السنة في الأدب ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" طرح شيئاً من هذا، لكن من تقدمه من العلماء لم يكن لهم عناية بإعجاز القرآن؛ لأنها مسألة انتهت وحسمت، ولكن الذي جعلها تثور عند المعتزلة هو أن المعتزلة كانوا ينحون ببحوثهم إلى المنحا العقلي المجرد، أي: النظريات والفرضيات.
وكانت المعتزلة على طبقات، منهم طبقة معتنية بالحديث، وهم قليل جداً، ومنهم طبقة ليست معتنية بالحديث وإنما معتنية بالقرآن من جانب، وبالدلائل العقلية النظرية المجردة من جانب آخر، وصنفوا في ذلك تفاسير، ومنهم طبقة منسوبة للمعتزلة وهي طبقة فيها إلحاد وزندقة، مثلما يذكر عن ثمامة بن أشرس ، فالمعتزلة كانوا على طبقات.
هذه الدائرة من المعتزلة وقد حكى ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" عن جماعة من المعتزلة وكيفية نقاشاتهم أحياناً؛ فاثنان منهم تناقشوا في علم الله فواحد منهم غلب الثاني، فقال له: قد ظهرت لك حجة صاحبك فَلِم لا تنتقل إلى رأيه؟ فقال: لو انتقلت لرأيه لكان لي في كل مرة دين؛ فالمسألة مجرد نقاش فقط وليس للوصول إلى الحق.
في هذه البيئة التي كان المعتزلة يعيشونها جاء الكلام عن إعجاز القرآن من جهة المسلك الكلامي، أي: النظري، وهو هل القرآن معجز أو ليس بمعجز؟ وبعض المعتزلة الذين وصفوا بأنهم زنادقة كانوا يثيرون هذه المسألة للطعن في القرآن، فانبرى لهم بعض المعتزلة وبدأوا يتكلمون فيما يتعلق بإعجاز القرآن، فما ظنكم بعلم سينشأ في أحضان المدرسة العقلية النظرية؛ بلا شك أنه سيتأثر بهذه المدرسة، وهذه المدرسة منتقدة عند جمهور أهل السنة ممن يتبع منهج السلف أو يتبع الأشاعرة أو الماتريدية أو الكلابية أو غيرهم، وكلهم في صف أهل السنة -دائرة أهل السنة- أمام الاعتزال، وينتقدون هذه المدرسة، فلا زالت إلى اليوم بقايا هذه المدرسة الكلامية فيما يتعلق بإعجاز القرآن موجودة.
إذاً: الإعجاز نشأ في أحضان الاعتزال، هذه واحدة.
وكنت أبحث في سبب حديث المعتزلة عن إعجاز القرآن وحرصهم على ذلك، غير قضية كلام بعض الزنادقة؛ فوجدت رأياً هو رأي خاص بي واجتهاد مني، أن قول المعتزلة في القرآن قول ضعيف، فهم يقولون في القرآن أنه مخلوق، فلو قلنا: بأن القرآن مخلوق والقرآن معجز، إذاً الإعجاز سيكون مخلوقاً؛ لأن القرآن مخلوق، ولم يشر أحد من المعتزلة فيما قرأت إلى هذه الإشكالية، ولكن من خلال النظر يتبين أن هذا أحد أسباب كلام المعتزلة في إعجاز القرآن، ومحاولة إبراز هذه القضية؛ لأن قولهم في القرآن كان ضعيفاً، والزنادقة يحتجون عليهم في هذا الباب، فجاءوا بأن القرآن معجز؛ ليغلقوا الباب في هذه المسألة، لكن إذا تأملنا قولهم في القرآن، وقولهم في الإعجاز فلا نجد أن هناك توائماً بين القولين؛ لأن إثبات الإعجاز الذاتي للقرآن لا يكون إلا إذا كان كلام الله سبحانه وتعالى، وما دام القرآن عندهم مخلوقاً فسيكون الإعجاز مخلوقاً مثله.
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
عرض كتاب الإتقان (45) - النوع الخامس والأربعون في عامه وخاصه | 3938 استماع |
عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1] | 3816 استماع |
عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه | 3597 استماع |
عرض كتاب الإتقان (79) - النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه | 3588 استماع |
عرض كتاب الإتقان (69) - النوع السابع والستون في أقسام القرآن | 3545 استماع |
عرض كتاب الإتقان (49) - النوع التاسع والأربعون في مطلقه ومقيده | 3540 استماع |
عرض كتاب الإتقان (74) - النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله | 3482 استماع |
عرض كتاب الإتقان (34) - النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه [1] | 3480 استماع |
عرض كتاب الإتقان (7) - النوع الرابع - النوع الخامس - النوع السادس | 3444 استماع |
عرض كتاب الإتقان (53) - النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته | 3422 استماع |