عرض كتاب الإتقان (58) - النوع التاسع والخمسون في فواصل الآي [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

لعلنا نختم ما يتعلق بفواصل الآي، والمقطع القادم من فواصل الآي مقطع مرتبط ببلاغة القرآن في اختيار الفواصل.

أمثلة تبين مناسبة خاتمة الآية لاستهلالها

وذكر ابن أبي الأصبع أن فواصل القرآن لا تخرج عن أحد أربعة أشياء، وذكر مصطلحات: التمكين، والتصدير، والتوشيح، والإيغال. ثم بدأ يشرح كل مصطلح من هذه المصطلحات ويضرب عليه أمثلة.

من الأمثلة التي ذكرها في مثل قوله سبحانه وتعالى: يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود:87] ثم قال: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]. فختموا بالحلم والرشد.

قال: لما تقدم في الآية ذكر العبادة وتلاه ذكر التصرف في الأموال، اقتضى ذكر الحلم والرشد على الترتيب؛ لأن الحلم يناسب العبادات، والرشد يناسب الأموال.

مثلما قال: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، فهذه لطيفة جميلة، لكن لم يظهر لي مناسبة العبادات للحلم.

يعني: عندنا أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ [هود:87].. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87] ثم قال في خاتمتها: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87].

لكنها من اللطائف التي يستفاد منها.

ثم ذكر أمثلة أخرى في مثل: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26]، ثم قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ [السجدة:27].. إلى قوله: أَفَلا يُبْصِرُونَ [السجدة:27].

فذكر أيضاً ما يتعلق بفاصلة الآية في قوله: أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26]، أَفَلا يُبْصِرُونَ [السجدة:27].

قال: فأتى في الآية الأولى بـ يَهْدِ لَهُمْ [السجدة:26] وختمها بـ يَسْمَعُونَ [السجدة:26]؛ لأن الموعظة فيها مسموعة وهي أخبار القرون، وفي الثانية بـ يَرَوْا [السجدة:27] وختمها بـ يُبْصِرُونَ [السجدة:27]؛ لأنها مرئية.

والمقصد من هذا هو ذكر التناسب بين فاصلة الآية وموضوع الآية وألفاظها، وهذا موضوع لطيف جداً، وقد اعتنى به العلماء كثيراً.

ولهذا نجد صاحب نظم الدرر من أكثر من اعتنى بفواصل الآي، ولكن لم يكن يعتني بها على أنها فواصل الآي، وإنما كان يعتني بها على أنها خاتمة للآية، وعلاقتها بموضوع الآية أو بألفاظ الآية، ولكن السيوطي رحمه الله تعالى انطلق من كونها فواصل للآي، ولهذا أثار عندي مسألة وهي: هل يمكن أن يكون هناك بحث من خلال فواصل الآي بنفس الموضوع، أي: فواصل الآي وأثرها في المعنى الدلالي البلاغي، وليس المعنى الدلالي اللغوي.

السبب في اختلاف الفواصل في سورة إبراهيم والنحل بعد قوله تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ..)

فنلاحظ أن من الأشياء التي تثير السامع في قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] قال: [ ومن بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث عنه واحد؛ لنكتة لطيفة كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، ثم قال في سورة النحل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:18] ]، ومثل هذا يبحثه أيضاً من يعنى بمتشابه القرآن، فنلاحظ أن علم الفاصلة لو أخذ بهذا المنظور فإن مصادره متعددة.

قال المصنف رحمه الله: [ قال ابن المنير : كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها، فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوماً، وكونك كفاراً ]، يعني: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، فالخاتمة في هذه الآية ارتبطت بالإنسان، قال بعد ذلك: [ يعني: لعدم وفائك بشكرها، ولي عند إعطائها وصفان ]، يعني: (ولي) أي: الله سبحانه وتعالى، [ وهما: إني غفور رحيم أقابل ظلمك بغفراني وكفرك برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء ].

وهذا الكلام كلام نفيس ودقيق من جهة ربط الآيتين بعضهما ببعض، ولا شك أن سياق الآيات أيضاً له مناسبة لم يذكرها ابن المنير ، فلو كان كلام ابن المنير هكذا فقط مطلقاً لقنا: يجوز أن يبدل آية النحل موضع الآية الأخرى في قوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] التي في سورة إبراهيم، فلو قلنا في سورة إبراهيم: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) لما استقام؛ لأن إيثار ذكر ما يقوم به العبد مقابل النعم أولى في سورة إبراهيم، وإيثار ذكر مغفرة الله سبحانه وتعالى ورحمته في سورة النحل أولى لمناسبة السياق في الموطنين.

فعندنا فائدتان لا تتنازعان، فهذه صحيحة وهذه أيضاً صحيحة، وما ذكره ابن المنير دقيق جداً.

قال المصنف رحمه الله: [ وقال غيره: إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعَم عليه، وسورة النحل بوصف المنعِم؛ لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان، وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات الألوهية ].

إذاً: هذه الفائدة الثانية وهي مرتبطة بالسياق، فمثل هذه الفوائد لا تتعارض إطلاقاً.

وأيضاً ذكر أمثلة كثيرة في هذا الموضوع.

مشكلة الفواصل

ثم ذكر تنبيهاً ثانياً سماه من مشكلات الفواصل، وهذه التسمية فيها لطافة وإن كان قد يعترض عليها بعضهم في كونه سمى شيئاً في الفواصل مشكلاً.

والحقيقة أن جهة الإشكال تجيء من سبق الذهن في الفاصلة، ولهذا تجد أن هذه الآية التي سيذكرها الآن يختبر بها في مسألة سبق الذهن، وأنت اختبر بها بعضهم وهو غافل، قل لهم: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ [المائدة:118] سيسبق إلى ذهنه (الغفور الرحيم)؛ لأنه قال: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [المائدة:118]، فيتبادر إلى الذهن (الغفور الرحيم)، ولكن الفاصلة جاءت فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].

ولو تأملنا المقام الذي يقومه عيسى عليه السلام في هذه الآية في يوم القيامة، وهل مقامه يوم القيامة مقام طلب المغفرة لمن أشرك بالله الشرك الأكبر وادعى لله الولد؟ لا شك أنه ليس مقام طلب المغفرة.

ومع ذلك قال عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [المائدة:118] حرف الشرط (إن) يدخل في باب الاحتمال، يعني: إن وقعت مغفرة لهم في هذا اليوم فمغفرتك صادرة عن عزة وحكمة، بمعنى: أنك القوي الغالب، فمغفرته سبحانه وتعالى ليست عن ضعف ولا عن جهل أو غير ذلك من صفات النقص، بل مغفرته سبحانه وتعالى وهو في تمام عزته، وكذلك إن غفر فمغفرته مرتبطة بحكمته أي: ليست عبثاً، وإلا كيف يتوعد هؤلاء الذين يدعون له الولد بالعذاب الشديد، ثم يوقع مغفرته؛ فإنه إن أوقعها فإنها تصدر من هاتين الصفتين.

ولهذا يقول ابن القيم عندما علق على هذه الآية عبارة أنا أذكر معناها: بأن عيسى عليه السلام طلب لهم المغفرة من أوسع أبوابها؛ بأنه جعل مغفرة الله سبحانه وتعالى لهم في هذا المقام مبنية على العزة والحكمة، كما فسرنا قبل هذا.

فهذه الفاصلة من الفواصل التي يقع فيها سؤال واستشكال.

كذلك أيضاً في قوله سبحانه وتعالى: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] وفي سورة الممتحنة: وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة:5]، فطلبوا المغفرة باسمه العزيز وباسمه الحكيم.

وكذلك قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [النور:10]، فجاءت الحكمة.

يقول رحمه الله: [ فإن بادئ الرأي يقتضي (تواب رحيم)؛ لأن الرحمة مناسبة للتوبة، لكن عبر به إشارة إلى فائدة مشروعية اللعان وحكمته، وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة.

ومن خفي ذلك أيضاً قوله في سورة البقرة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، وفي آل عمران: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]؛ فإن المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الختم بالقدرة ]؛ لأنها مرتبطة بالخلق، وفي آية آل عمران الختم بالعلم. ثم ذكر الجوابات عنها.

فأقول: إن مثل هذا البحث وهي الفواصل المشكلة التي يقع فيها ما يخالف بادي الرأي عندنا، يعني: ما تخالف الظاهر فيما نظنه فهو يعتبر مشكلاً؛ لأن المشكل نسبي، وسبق أن تحدثنا عن علم المشكل وعلم المتشابه.

فالمراد أن المشكل نسبي، ويقع في سؤال سبب اختيار هذه الفاصلة، والأمثلة كثيرة ذكرها في هذا الباب ويمكن أن يرجع إليها.

فواصل لا نظير لها في القرآن

التنبيه الثالث: فواصل لا نظير لها في القرآن.

وهذه أيضاً مما يذكر من باب الفائدة مثل قوله: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ذكرها من باب الفائدة.

أنواع الفواصل

أيضاً مما يتعلق بتممة الموضوع وهو موضوع أنواع الفواصل قال: [ التصدير ]: وهو الذي يسمى: رد العجز على الصدر، وهذا أيضاً مفيد جداً في التفسير، يعني: في فهم كلام الله سبحانه وتعالى، وأحياناً يرتبط بالمعنى من جهة التفسير، وكثيراً ما يرتبط بالبلاغة؛ بحيث أنه يبتدئ بموضوع ويختم بما يتناسب مع هذا الموضوع، ويكون ما بينهما ليس مرتبطاً بالموضوع ارتباطاً واضحاً أو ظاهراً مثل قوله سبحانه وتعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:166] يعني: شهيداً ويشهدون.

ومثل قوله تعالى: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، (هب) و(الوهاب).

وفي قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة:5] لو أردنا أن نقيس هذه الآية عليها ففي هذه إشكال، ولكن وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] ليس فيها إشكال؛ لأنه جاء على مقتضى الظاهر، أنه عندما قال: (هب) ذكروا اسمه الوهاب.

طبعاً ذكر أمثلة، وقد يعترض على بعضها مثل قوله: قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ [الشعراء:168]، وهذا موافقة الكلمة الكلمة فقط دون أن يكون المراد بها المعنى؛ لأن (قال) من القول، و(القالين) من البغض مثل: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، فهذه ليست بينها مناسبة إلا في اللفظ وفي الرسم فقط، أما في المعنى فلا.

المقصود: أن رد العجز على الصدر يمكن أن يكون بحثاً وهو كثير في القرآن، بل أحياناً قد تكون موضوعات السورة فيها معنى رد العجز على الصدر، مثل بداية سورة الشعراء، كان الحديث في بدايته عن القرآن، وفي خاتمته عن القرآن نفسه.

فمثل هذا يمكن أن ينظر فيه فيما يتعلق بالسور وهو رد العجز على الصدر، وتكون بداية السورة عن موضوع، ثم تأتي موضوعات متوالية يظن القارئ أنه لا علاقة لها ببعضها، ولا علاقة لها بما قبلها، لكن إذا تأمل يجد أنها كلها مرتبطة ببعضها ثم يعود الحديث صريحاً مرة أخرى عما ابتدئ به في مثل سورة الشعراء.

وذكر ما يتعلق بالسجع مرة أخرى يقول: [ قسم البديعيون السجع ومثله الفواصل إلى أقسام.. ]، وذكرها.

ولا نحتاجها؛ لأن هذه قضايا فنية ليس فيها كبير أثر على المعنى.

والموضوع الذي يتعلق بالفواصل مليء، لكن نأخذ مما ذكر شيئاً سريعاً في التنبيهات التي ذكرها أنه قال: [ أحسن السجع وأعزه ما تساوت قرائنه مثل: مَخْضُودٍ [الواقعة:28]، و مَنْضُودٍ [الواقعة:29]، و مَمْدُودٍ [الواقعة:30] ].

وهذا لا شك أنه أكثره، وأكثر إراحة للسمع حين سماعه، وهو الذي يقع عليه مسمى السجع.

فواصل الآي وعلاقتها بالوقف

وذكر أيضاً موضوعات أخرى مرتبطة بما يتعلق بهذا النوع، لعلنا نختم بهذا، وسبق أن ذكرت أنني سأذكر أمرين: الأمر الأول: ما يتعلق بقضية الفواصل ورءوس الآي من جهة القراءة ومن جهة الوقف عليها.

نبتدئ أولاً بذكر ما يتعلق بها من جهة الوقف عليها، ونذكر كلام إمام من أئمة البلاغة المعاصرين وهو الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى، فقد تكلم عن الفواصل في مقدمته -المقدمة الثامنة- في الجزء الأول وقال: واعلم أن هذه الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز؛ لأنها ترجع إلى محسنات الكلام، وهي من جانب فصاحة الكلام، فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل، لتقع في الأسماع فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل، كما تتأثر بالقوافي في الشعر وبالأسجاع في الكلام المسجوع، فإن قوله تعالى: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر:71] آية، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] آية، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ [غافر:73] آية، مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر:74]... إلى آخر الآيات.

فقوله: فِي الْحَمِيمِ [غافر:72] متصل بقوله: يُسْحَبُونَ [غافر:71]، وقوله: مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر:74] متصل بقوله: تُشْرِكُونَ [غافر:73]. وينبغي الوقف عند نهاية كل آية منها.

وقوله تعالى: وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [هود:54] آية، وقوله: مِنْ دُونِهِ [هود:55] ابتداء الآية بعدها في سورة هود.

ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشعر أن يلقيه ملقيه على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه؟! فإن ذلك إضاعة لجهود الشعراء، وتغطية على محاسن الشعر، وإلحاق للشعر بالنثر.

وأن إلقاء السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة.

ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن محافظة هذه الدقائق فيكون مضيعاً لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته.

والعلة بأنه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام فضول؛ فإن البيان وظيفة ملقي درس لا وظيفة منشد الشعر، ولو كان هو الشاعر نفسه.

وفي الموطن الآخر وهو يتكلم عن وقوف القرآن أكمل هذه الفكرة فقال: ولما كان القرآن مراداً منه فهم معانيه وإعجاز الجاحدين به، وكان قد نزل بين أهل اللسان كان فهم معانيه مفروغاً من حصوله عند جميعهم.

أما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية، التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأعجاز النثر، وهي مرادة في نظم القرآن لا محالة كما قدمنا عند الكلام على آيات القرآن، فكان عدم الوقف عليها تفريطاً في الغرض المقصود منها.. إلى آخر كلامه.

هذا الذي ذكرناه عن هذا الإمام فيما يتعلق بالاعتناء بالوقف على رءوس الآي هو المذهب الذي أراه، حتى لو كانت الآية مرتبطة بما بعدها؛ بناءً على العلة التي ذكرها الإمام.

ويشهد لقوله ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، أنه طلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن، فلما قرأ عليه سورة النساء قطع النبي صلى الله عليه وسلم قراءة ابن مسعود عند قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن.

ولو نظرنا إلى الآية التي بعدها يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]، والتي بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، والآن وقف التمام على الآية التي بعدها؛ لأن القاعدة: إذا جاء (يا أيها الذين) فهي دلالة على الاستئناف وأن ما قبلها وقف تام.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قطع القراءة، فالقطع أبلغ من الوقف؛ فكونه قطع القراءة بمعنى أنه قطع قطعاً تاماً، مع أنه لم يبق إلا آية واحدة، فلو كانت قضية التمام مراعاة تامة لما بقي إلا آية، ولأكملها ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: حسبك، فما دام أنه قطع قبل التمام والقطع أبلغ من الوقف، فهذا يشهد بأن المراد رءوس الآي، وأنها من مقاطع الإعجاز، كما ذكر الإمام ابن عاشور رحمه الله تعالى.

الوقف على مقطع من آية ثم وصله بمقطع بعده للإكمال

وسنبني عليها الفكرة الثانية التي ذكرت أني سأذكرها، فبعض الأئمة المعاصرين من أئمة المساجد يقف على مقطع آية ثم يرجع ويصل من مقطع ويكمل، وسمعنا من يقرأ ويقول: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، ثم قال: الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:15-16]، هذا عندي خطأ محض؛ لأن فيه ارتكاب أمرين مرتبطين ببعض:

الأمر الأول: الإخلال بنظم القرآن.

الأمر الثاني: الإخلال بإعراب القرآن. والإعراب تابع للنظم.

الآن إذا قلنا: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، ثم قال هو: الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:15-16]، نعرب المجيد بناءً على هذه القراءة مبتدأ، و(فعال لما يريد) خبر، ولكن نظم القرآن لا يساعده؛ لأن (ذو العرش) تبقى معلقة، فلا يصح في نظري مثل هذا وإن استملحه من استملحه من فضلاء الأئمة الذين أجزم يقيناً أنهم يستملحون هذا لهذا المعنى، لكن يغيب عنهم أو يغفلون عن الجانب الآخر.

وفي هذا أمثلة كثيرة جداً: فمثلاً بعضهم يقف عند قوله سبحانه وتعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]، ثم يقول: الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]؛ لأنه أصلاً في غالب الأسئلة يكون الجواب جزءاً من السؤال فيقفون بمثل هذا، وأذكر قديماً كنت وأخي الدكتور محمد بن عبد العزيز الخضيري ندرس تفسير جزء عم في آخر سورة المطففين، وهي: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ [المطففين:34-35]، يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:35-36].

وكنت أنا أجهل أن هذا فيه نوع من الإخلال بنظم القرآن، فلما قرأت كلام الطاهر بن عاشور أيقنت بأن مثل هذا الذي يفعله بعض الأئمة الآن بالنسبة لي أعتبره خطأ محضاً.

كذلك قوله: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1]، ثم أقول: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ [البينة:1-2]؛ لأنه يجعل البينة مبتدأ، والبنية في الحقيقة ليست مبتدأ.

وذكر ابن أبي الأصبع أن فواصل القرآن لا تخرج عن أحد أربعة أشياء، وذكر مصطلحات: التمكين، والتصدير، والتوشيح، والإيغال. ثم بدأ يشرح كل مصطلح من هذه المصطلحات ويضرب عليه أمثلة.

من الأمثلة التي ذكرها في مثل قوله سبحانه وتعالى: يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود:87] ثم قال: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]. فختموا بالحلم والرشد.

قال: لما تقدم في الآية ذكر العبادة وتلاه ذكر التصرف في الأموال، اقتضى ذكر الحلم والرشد على الترتيب؛ لأن الحلم يناسب العبادات، والرشد يناسب الأموال.

مثلما قال: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، فهذه لطيفة جميلة، لكن لم يظهر لي مناسبة العبادات للحلم.

يعني: عندنا أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ [هود:87].. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87] ثم قال في خاتمتها: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87].

لكنها من اللطائف التي يستفاد منها.

ثم ذكر أمثلة أخرى في مثل: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26]، ثم قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ [السجدة:27].. إلى قوله: أَفَلا يُبْصِرُونَ [السجدة:27].

فذكر أيضاً ما يتعلق بفاصلة الآية في قوله: أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26]، أَفَلا يُبْصِرُونَ [السجدة:27].

قال: فأتى في الآية الأولى بـ يَهْدِ لَهُمْ [السجدة:26] وختمها بـ يَسْمَعُونَ [السجدة:26]؛ لأن الموعظة فيها مسموعة وهي أخبار القرون، وفي الثانية بـ يَرَوْا [السجدة:27] وختمها بـ يُبْصِرُونَ [السجدة:27]؛ لأنها مرئية.

والمقصد من هذا هو ذكر التناسب بين فاصلة الآية وموضوع الآية وألفاظها، وهذا موضوع لطيف جداً، وقد اعتنى به العلماء كثيراً.

ولهذا نجد صاحب نظم الدرر من أكثر من اعتنى بفواصل الآي، ولكن لم يكن يعتني بها على أنها فواصل الآي، وإنما كان يعتني بها على أنها خاتمة للآية، وعلاقتها بموضوع الآية أو بألفاظ الآية، ولكن السيوطي رحمه الله تعالى انطلق من كونها فواصل للآي، ولهذا أثار عندي مسألة وهي: هل يمكن أن يكون هناك بحث من خلال فواصل الآي بنفس الموضوع، أي: فواصل الآي وأثرها في المعنى الدلالي البلاغي، وليس المعنى الدلالي اللغوي.