الأحاديث المعلة في الطهارة [9]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد :

فنكمل بعض الأحاديث الواردة في الطهارة وهي معلولة، الحديث الأول من درس هذا اليوم هو حديث أبي سعيد الخدري : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب الرجلان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك ).

هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود و النسائي وغيرهم، من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث معلول بعلل عدة:

العلة الأولى: هلال بن عياض فإنه مجهول ولا يعرف، وقد جاء في بعض الروايات: هلال بن عياض وفي بعضها عياض بن هلال والصواب في ذلك: عياض بن هلال ، وقد صوب ذلك ورجحه غير واحد من الأئمة كالإمام البخاري ، فقد سماه بذلك في كتابه التاريخ، وكذلك ابن أبي حاتم والخطيب البغدادي وجزم بهذا ابن حبان ووهم غيره، وكذلك ابن خزيمة في كتابه الصحيح، ومنهم من حمل الوهم في هذا على عكرمة بن عمار ، قالوا: وذلك أن روايته عن يحيى بن أبي كثير فيها اضطراب فوهم ولم يضبط ذلك، وقد نص على هذا ابن خزيمة عليه رحمة الله .

والذي يظهر والله أعلم أن الوهم ليس من عكرمة بن عمار ، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن الحديث قد جاء من غير طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير ، وورد فيه الاسم على الوجهين، فجاء من حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير ، وجاء أيضاً من حديث أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي كثير ، ورواه الأوزاعي على الوجهين بـهلال بن عياض و عياض بن هلال .

الأمر الثاني: أن لـهلال بن عياض أحاديث أخر غير هذا الحديث، من غير طريق عكرمة بن عمار ، وقد جاء فيها اختلاف اسمه، فتارةً يقال: هلال بن عياض وتارةً يقال: عياض بن هلال ، وهو رجل مجهول، وأما قول الحاكم عليه رحمة الله في كتابه المستدرك: إن هلال بن عياض شيخ مدني مشهور من أهل المدينة، فالذي يظهر والله أعلم أن في هذا نظراً، فـالحاكم ليس كغيره من الأئمة العارفين بأهل المدينة، و هلال بن عياض أو عياض بن هلال ليس من المشهورين، ولهذا لم يرو عنه الكبار من أهل المدينة .

كذلك فإن من وقع فيه الشك في اسمه وكنيته من الرواة لا يكون معروفاً في الغالب، والغالب من قلب اسمه أو روي على وجهين أنه يكون على الأقل منضبط من جهة الكنية، وأما من لم تعرف له كنية واسمه لم يضبط ثم يكون مشهوراً فهذا لا يستقر.

العلة الثانية: رواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير لهذا الحديث، و عكرمة بن عمار في روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، وقد نص على ضعفها غير واحد من العلماء كالإمام أحمد والبخاري و أبي حاتم و الدارقطني وغيرهم، وذلك أن عكرمة بن عمار لم يضبط أحاديث يحيى بن أبي كثير ، وهذا الحديث من هذا الطريق قد وقع فيه اختلاف، ولهذا جاء على وجوه عدة من طريق عكرمة بن عمار كما يأتي بيانه أيضاً، فقد وقع فيه اختلاف في رواية يحيى بن أبي كثير له.

العلة الثالثة: أنه قد وقع في إسناده اختلاف على يحيى بن أبي كثير ، والاختلاف في ذلك على ما يلي:

أولاً: رواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عن أبي سعيد الخدري ، وهذه الرواية الأولى، وقد رواه عن عكرمة بن عمار جماعة، فرواه عبد الرحمن بن مهدي و عبد الملك بن الصباح و إسماعيل بن سنان و سلم بن إبراهيم و عبد الله بن رجاء كلهم عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخولف فيه أولئك فرواه عبيد بن عقيل عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع فيه وهم وغلط، فغلط في إسناده، والعلة في ذلك ظاهرة تقدمت الإشارة إليها، فالطريق الأولى رواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عن أبي سعيد ، وهذه رواية عبيد بن عقيل يرويه عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة .

وهي طريق مشهور فقد سلك الجادة، وسلوك الجادة عند المخالفة علة، يعني: يدل على أن الإنسان سها، ورواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مشهورة، ولهذا غلط فيها عبيد بن عقيل ، وبهذا يقال: إن روايته هذه شاذة.

الطريق الثانية في غير رواية عكرمة بن عمار : ما رواه أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله من حديث أبي قتادة ، وهذه الطريق وهم وغلط أيضاً، وقد جاء عن أبان بن يزيد العطار عن يحيى طريق أخرى يأتي الكلام عليها بإذن الله .

الطريق الثالثة في هذا: هي طريق الأوزاعي واختلف فيها على الأوزاعي على وجهين :

الوجه الأول: رواية مسكين بن بكير عن الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله من مسند جابر بن عبد الله ، وهذه الرواية وهم وغلط .

الوجه الثاني عن الأوزاعي : يرويها الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية هي أصح الوجوه، وذلك لأسباب:

السبب الأول: أن رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي إذا صرح بالسماع رواية متينة، وقد تابعه على ذلك أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً، ورواية أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي كثير أقوى الروايات، وعلى هذا فيقال: إن أصح الروايات في ذلك هي رواية الإرسال، وقد صوب الإرسال في ذلك غير واحد من الحفاظ كـأبي حاتم الرازي، وصوب الدارقطني عليه رحمة الله كما في كتابه العلل رواية هلال بن عياض عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فنقول: إن الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصواب في ذلك الإرسال وهو ضعيف .

وأما بالنسبة لمسألة الكلام عند قضاء الحاجة فثمة أحاديث أخر في مسألة رد السلام وذكر الله، وأما مجرد الكلام العام فجاء فيه هذا الحديث، وهو معلول بالإرسال.

الحديث الثاني: حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ) ، وجاء في رواية: ثلاثاً، والمراد بنتر الذكر: هو حلبه حتى يخرج ما في إحليله من قطرات لمن به سلسل البول ونحو ذلك، ولكن هذا الحديث معلول، ولا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهذا الحديث قد رواه يحيى بن يعلى أبو محياة عن ليث بن أبي سليم عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث لا يصح، وثمة حديث آخر في هذا وهو حديث عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وعند إتيان أحدكم أهله فاستحيوهم وأكرموهم ) ، وهذا الحديث لا يصح أيضاً، فقد جاء من حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى وإسناده ضعيف، تفرد به ليث بن أبي سليم عن نافع عن عبد الله بن عمر ، وهذا الحديث مع تفرد ليث بن أبي سليم، فإنه قد رواه عن ليث بن أبي سليم يحيى بن يعلى ، و يحيى بن يعلى مع كونه مقارب الحديث إلا أنه قد تفرد به عن ليث ، و ليث قد تفرد به عن نافع ، و نافع له أصحاب كثر من أهل المدينة خاصة وغيرها، وتفرده بذلك لا يحتمل منه هذا.

وأما الحديث الآخر فهو حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى عن عمر بن الخطاب : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تبل قائماً، قال: فما بلت قائماً ) ، وهذا الحديث حديث معلول، فإنه قد جاء من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تبل قائماً )، وقد تفرد به على هذا الوجه عبد الكريم بن أبي المخارق ، و عبد الكريم بن أبي المخارق هو أبو أمية وهو مضعف فهو سيء الحفظ، ولم يضبط هذا الحديث.

علة حديث: (لا تبل قائماً)

وقد أعل هذا الحديث غير واحد من الحفاظ بـعبد الكريم بن أبي المخارق ، ومع كونه قد تفرد به، إلا أن تفرده في ذلك شديد؛ وذلك أن عبد الكريم بصري و نافع مدني ، و نافع له أصحاب كثر لم يرووا عنه هذا الحديث مع الحاجة إلى مثل هذه المسألة، فثمة أحاديث قد جاءت في الصحيح في إثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى وغيره: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسباطة قوم فبال قائماً ) .

وهذا الحديث مع كونه مدنياً إلا أنه لم يروه عن نافع إلا عبد الكريم بن أبي المخارق فدل على أنه قد تفرد به ووهم وغلط فيه، وغلطه في ذلك يتضح من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا الحديث قد رواه غير عبد الكريم بن أبي المخارق ، فرواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت، فجعله موقوفاً وليس فيه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا للنهي، وإنما هي حكاية حال، و عبيد الله بن عمر حديثه في ذلك صحيح، فقد جاء في المصنف وعند البزار وابن المنذر وغيرهم، وإسناده في هذا عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى صحيح وهو موقوف من فعله، وأما أن يكون مرفوعاً في ذلك فهو مردود.

الوجه الثاني: أن أصحاب نافع مع كثرتهم ووفرتهم، وشهرته بروايته عن أبيه لم يرووا هذا الخبر .

وأما ما جاء عند ابن حبان من حديث هشام بن يوسف عن ابن جريج عن نافع عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبل قائماً )، فهذا قد رواه ابن جريج عن نافع ، والذي يظهر لي والله أعلم أن هذا الخبر لم يسمعه ابن جريج من نافع، وقد وهم وغلط فيه ودلسه، و ابن جريج معروف بالتدليس، فابن جريج يروي عن عبد الكريم بن أبي المخارق ودلسه هنا ولم يبينه، والدليل على ذلك أنه قد جاء من طريق أخرى من حديث عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تبل قائماً ) ، فدل على أن ابن جريج قد دلس عبد الكريم بن أبي المخارق ، وقد أشار إلى ذلك ابن حبان عليه رحمة الله في كتابه الصحيح لما أخرج هذا الطريق فقال: أخاف أن ابن جريج لم يسمعه من نافع إنما رواه عن عبد الكريم بن أبي المخارق وهذا هو الظاهر، و ابن جريج لا تقبل روايته إذا لم يصرح بالسماع إذا روى عن مثل نافع وتفرد برواية غير أهل بلده، إلا من كان مكثراً بالرواية عنه فإن روايته في ذلك تحمل على القبول، وهذا ما استقام في ذلك المتن .

ولا أعلم حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على النهي عن البول قائماً، وإنما جاء من فعله عليه الصلاة والسلام هذا وهذا، وجاء في ذلك آثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء في هذا الباب من حديث عبد الله بن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من الجفاء أن يبول الرجل قائماً ) ، وهذا الحديث لا يصح وليس بمحفوظ، وقد وقع في إسناده اضطراب، كما نص على ذلك البخاري وقال الترمذي: بأنه ليس بمحفوظ.

وهذا الحديث جاء من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع فيه اختلاف على عبد الله بن بريدة ، فرواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث وكيع بن الجراح عن كهمس عن عبد الله بن بريدة قال: كان يقال: من الجفاء أن يبول الرجل قائماً ، فلم يجعله من قول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوقفه على أحد معلوم، وإنما أرسله هكذا من غير نسبة، وهذا هو الصواب.

وجاء هذا الحديث من وجوه أخرى، فجاء من حديث سعيد بن عبيد الله عن ابن بريدة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه قتادة بن دعامة السدوسي و الجريري وجعلوه من حديث عبد الله بن مسعود ، فرووه عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وهم وغلط، والصواب أنه من حديث بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من حديث عبد الله بن مسعود ، وأما في حديث بريدة فالصواب أنه من مرسل بريدة إلى غير أحد، فيكون أصح الطرق أنه من مرسل عبد الله بن بريدة إلى غير أحد، ثم يليه بعد ذلك عن التعارض مع رواية عبد الله بن مسعود أنه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أرجح من رواية عبد الله بن مسعود ، وكلا الطرق الموصولة في ذلك ضعيفة ولا يصح منها شيء.

وجاء في ذلك حديث أيضاً عن عبد الله بن مسعود تارةً يرفع وتارةً يوقف وهو الأشهر، فجاء من حديث المسيب بن رافع كما رواه الطبراني وغيره، عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده في ذلك منقطع، فإن المسيب بن رافع لم يسمعه من عبد الله بن مسعود كما نص على ذلك الإمام أحمد وأبو حاتم، وقال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: إن من الجفاء أن يبول الرجل قائماً.

وهذا الحديث مع كونه منقطعاً في المرفوع والموقوف إلا أنه قد جاء من وجه آخر عن عبد الله بن مسعود أصح من هذا، فجاء من حديث إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: من الجفاء أن يبول الرجل قائماً، وهذا إسناد ظاهره الاستقامة، وهو صحيح عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى.

وجاء في هذا أيضاً من حديث جابر بن عبد الله عليه رضوان الله تعالى كما رواه ابن عدي في كتابه الكامل من حديث أبي نضرة عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبل قائماً ) ، وهذا الحديث قد تفرد به عدي بن الفضل حديث يرويه عن الحكم ، و عدي بن الفضل ضعيف الحديث، وهذا خبر منكر.

حكم التبول قائماً

وبه نعلم أنه لا يثبت خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن البول قائماً، إلا أن مجموع الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهمية التنزه من البول ورشاشه، وكذلك أن يرتاد الإنسان لبوله موضعاً أو يتهيأ لبوله موضعاً كما جاء في ذلك جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على هذا، كذلك فيه التشديد من عدم التنزه من البول يدل على أصل هذا، كذلك أيضاً في اشتهار فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبوله قاعداً، وأن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فهو على سبيل الاعتراض، ولهذا جاء في حديث حذيفة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في سباطة قوم، والمراد بالسباطة: هي الزبالة التي يرمي فيها أهل المدن والقرى الفضلات التي يرمونها، سواءً كانت من حيض النساء أو كان من أمتعتهم الفانية، أو من الجيف وغير ذلك.

فحينما ذكر سباطة قوم إشارة إلى الاعتذار لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، مما يدل على أن الأصل في ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن ممن يعتد هذا، وأما النهي في هذا فلا يثبت، ويؤكد هذا أيضاً أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت، ولو كان في ذلك خبر مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة النهي لنسبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

دلالة حديث عائشة: (ما رأيت رسول الله يبول قائماً)

فإن قال قائل: ما معنى حديث عائشة: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول قائماً

فنقول: نحن نتكلم عن النهي، وحديث عائشة هو حديث صحيح، قالت: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول قائماً )، ولكن هذا الحديث هو إخبار ونحن إنما نتكلم عن النهي، والنهي كما لا يخفى أنه يقتضي تحريماً ويقتضي كراهة على أقل أحواله، وأما النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك صحيح فلا أعلمه يثبت.

معنى قول عائشة: (من حدثك أن رسول الله بال قائماً فقد كذب)

وكذلك معنى قول عائشة: ( من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فقد كذب ).

أولاً: في قولها: (فقد كذب) ، لا تريد التشديد في هذا لكن تريد أنه أخطأ، يعني: ما عرف حال النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الكذب في كلامهم يريدون بذلك الغلط، فهي ليست عبارة تشديد، و عائشة عليها رضوان الله تعالى ليست ممن يرى النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من أصحابه، ومعلوم أن عائشة وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام في بيوتهم وكذلك في خدورهن، والنبي عليه الصلاة والسلام يخرج ويبرز ويراه أصحابه أكثر، وكذلك في أسفاره يشاهدونه، ولهذا من يحكي عنه في ذلك غير، ومن علم حجة على من لم يعلم.

ففي قول عائشة : (من حدثك أنه بال قائماً فقد كذب)، إشارة إلى الأغلب من فعله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو ظاهر في حديث حذيفة : (النبي عليه الصلاة والسلام مر بسباطة قوم)، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يمر بسباطة قوم ما بال قائماً، وهذا نوع من الاعتذار، وإلا لو بال النبي عليه الصلاة والسلام قائماً لم يكن لذكر سباطة القوم علة في مثل هذا، ولقال: بال النبي عليه الصلاة والسلام قائماً ولم يذكر السباطة، لأنها إضافة لا حاجة إليها، وهذا يستثقل العرب وروده بمثل هذا السياق.

وقد أعل هذا الحديث غير واحد من الحفاظ بـعبد الكريم بن أبي المخارق ، ومع كونه قد تفرد به، إلا أن تفرده في ذلك شديد؛ وذلك أن عبد الكريم بصري و نافع مدني ، و نافع له أصحاب كثر لم يرووا عنه هذا الحديث مع الحاجة إلى مثل هذه المسألة، فثمة أحاديث قد جاءت في الصحيح في إثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى وغيره: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسباطة قوم فبال قائماً ) .

وهذا الحديث مع كونه مدنياً إلا أنه لم يروه عن نافع إلا عبد الكريم بن أبي المخارق فدل على أنه قد تفرد به ووهم وغلط فيه، وغلطه في ذلك يتضح من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا الحديث قد رواه غير عبد الكريم بن أبي المخارق ، فرواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت، فجعله موقوفاً وليس فيه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا للنهي، وإنما هي حكاية حال، و عبيد الله بن عمر حديثه في ذلك صحيح، فقد جاء في المصنف وعند البزار وابن المنذر وغيرهم، وإسناده في هذا عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى صحيح وهو موقوف من فعله، وأما أن يكون مرفوعاً في ذلك فهو مردود.

الوجه الثاني: أن أصحاب نافع مع كثرتهم ووفرتهم، وشهرته بروايته عن أبيه لم يرووا هذا الخبر .

وأما ما جاء عند ابن حبان من حديث هشام بن يوسف عن ابن جريج عن نافع عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبل قائماً )، فهذا قد رواه ابن جريج عن نافع ، والذي يظهر لي والله أعلم أن هذا الخبر لم يسمعه ابن جريج من نافع، وقد وهم وغلط فيه ودلسه، و ابن جريج معروف بالتدليس، فابن جريج يروي عن عبد الكريم بن أبي المخارق ودلسه هنا ولم يبينه، والدليل على ذلك أنه قد جاء من طريق أخرى من حديث عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تبل قائماً ) ، فدل على أن ابن جريج قد دلس عبد الكريم بن أبي المخارق ، وقد أشار إلى ذلك ابن حبان عليه رحمة الله في كتابه الصحيح لما أخرج هذا الطريق فقال: أخاف أن ابن جريج لم يسمعه من نافع إنما رواه عن عبد الكريم بن أبي المخارق وهذا هو الظاهر، و ابن جريج لا تقبل روايته إذا لم يصرح بالسماع إذا روى عن مثل نافع وتفرد برواية غير أهل بلده، إلا من كان مكثراً بالرواية عنه فإن روايته في ذلك تحمل على القبول، وهذا ما استقام في ذلك المتن .

ولا أعلم حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على النهي عن البول قائماً، وإنما جاء من فعله عليه الصلاة والسلام هذا وهذا، وجاء في ذلك آثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء في هذا الباب من حديث عبد الله بن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من الجفاء أن يبول الرجل قائماً ) ، وهذا الحديث لا يصح وليس بمحفوظ، وقد وقع في إسناده اضطراب، كما نص على ذلك البخاري وقال الترمذي: بأنه ليس بمحفوظ.

وهذا الحديث جاء من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع فيه اختلاف على عبد الله بن بريدة ، فرواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث وكيع بن الجراح عن كهمس عن عبد الله بن بريدة قال: كان يقال: من الجفاء أن يبول الرجل قائماً ، فلم يجعله من قول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوقفه على أحد معلوم، وإنما أرسله هكذا من غير نسبة، وهذا هو الصواب.

وجاء هذا الحديث من وجوه أخرى، فجاء من حديث سعيد بن عبيد الله عن ابن بريدة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه قتادة بن دعامة السدوسي و الجريري وجعلوه من حديث عبد الله بن مسعود ، فرووه عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وهم وغلط، والصواب أنه من حديث بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من حديث عبد الله بن مسعود ، وأما في حديث بريدة فالصواب أنه من مرسل بريدة إلى غير أحد، فيكون أصح الطرق أنه من مرسل عبد الله بن بريدة إلى غير أحد، ثم يليه بعد ذلك عن التعارض مع رواية عبد الله بن مسعود أنه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أرجح من رواية عبد الله بن مسعود ، وكلا الطرق الموصولة في ذلك ضعيفة ولا يصح منها شيء.

وجاء في ذلك حديث أيضاً عن عبد الله بن مسعود تارةً يرفع وتارةً يوقف وهو الأشهر، فجاء من حديث المسيب بن رافع كما رواه الطبراني وغيره، عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده في ذلك منقطع، فإن المسيب بن رافع لم يسمعه من عبد الله بن مسعود كما نص على ذلك الإمام أحمد وأبو حاتم، وقال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: إن من الجفاء أن يبول الرجل قائماً.

وهذا الحديث مع كونه منقطعاً في المرفوع والموقوف إلا أنه قد جاء من وجه آخر عن عبد الله بن مسعود أصح من هذا، فجاء من حديث إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: من الجفاء أن يبول الرجل قائماً، وهذا إسناد ظاهره الاستقامة، وهو صحيح عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى.

وجاء في هذا أيضاً من حديث جابر بن عبد الله عليه رضوان الله تعالى كما رواه ابن عدي في كتابه الكامل من حديث أبي نضرة عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبل قائماً ) ، وهذا الحديث قد تفرد به عدي بن الفضل حديث يرويه عن الحكم ، و عدي بن الفضل ضعيف الحديث، وهذا خبر منكر.

وبه نعلم أنه لا يثبت خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن البول قائماً، إلا أن مجموع الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهمية التنزه من البول ورشاشه، وكذلك أن يرتاد الإنسان لبوله موضعاً أو يتهيأ لبوله موضعاً كما جاء في ذلك جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على هذا، كذلك فيه التشديد من عدم التنزه من البول يدل على أصل هذا، كذلك أيضاً في اشتهار فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبوله قاعداً، وأن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فهو على سبيل الاعتراض، ولهذا جاء في حديث حذيفة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في سباطة قوم، والمراد بالسباطة: هي الزبالة التي يرمي فيها أهل المدن والقرى الفضلات التي يرمونها، سواءً كانت من حيض النساء أو كان من أمتعتهم الفانية، أو من الجيف وغير ذلك.

فحينما ذكر سباطة قوم إشارة إلى الاعتذار لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، مما يدل على أن الأصل في ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن ممن يعتد هذا، وأما النهي في هذا فلا يثبت، ويؤكد هذا أيضاً أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت، ولو كان في ذلك خبر مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة النهي لنسبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: ما معنى حديث عائشة: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول قائماً

فنقول: نحن نتكلم عن النهي، وحديث عائشة هو حديث صحيح، قالت: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول قائماً )، ولكن هذا الحديث هو إخبار ونحن إنما نتكلم عن النهي، والنهي كما لا يخفى أنه يقتضي تحريماً ويقتضي كراهة على أقل أحواله، وأما النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك صحيح فلا أعلمه يثبت.