الأحاديث المعلة في الطهارة [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

الحديث الأول من أحاديث اليوم: هو حديث أبي واقد عليه رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت ).

هذا الحديث قد رواه الإمام أحمد وأبو داود و الترمذي و الدارقطني و البيهقي وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث تفرد به من هذا الوجه على هذا النحو عبد الرحمن بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر وكلهم يروونه على هذا الوجه من حديث أبي واقد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

و عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار قد تكلم فيه غير واحد, فلينه أبو حاتم، وأشار إلى ضعف روايته يحيى بن معين.

وقد خولف في روايته لهذا الحديث، فقد روى معن بن زائدة هذا الحديث عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فجعله من مسند عبد الله بن عمر فقال: عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت )، و هشام بن سعد من أوثق أصحاب زيد بن أسلم كما نص على ذلك أبو داود عليه رحمة الله في بعض أجوبته، ورواه كذلك عاصم بن عمر عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـهشام قد جعله من مسند عبد الله بن عمر ووافقه على ذلك عاصم بن عمر، ولكن قد اختلف في الطريق، فـهشام بن سعد رواه عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر ، وأما عاصم بن عمر فقد جعله من حديث عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث هشام أصح من حديث عاصم بن عمر ؛ وذلك أن عاصم بن عمر قد ضعفه بعض الأئمة.

وهذا الحديث قد وقع فيه اختلاف أيضاً من وجه آخر، فإنه قد رواه عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وتابعة على ذلك مسور بن الصلت , فقد رووه عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري فجعله من مسند أبي سعيد ، وعلى هذا فتكون الوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: من حديث أبي واقد.

الوجه الثاني: من حديث عبد الله بن عمر.

الوجه الثالث: من حديث أبي سعيد الخدري.

وقد اختلف فيه على سليمان بن بلال ، فتقدم أن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي و مسور بن الصلت قد جعلوه من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد خولف في ذلك, فرواه خارجة بن مصعب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار فجعله مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورواه عبد الرحمن بن مهدي عن زيد بن أسلم مرسلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام.

ورواه عبد الرزاق في كتابه المصنف عن معمر عن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقد جاء من حديث عطاء مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء من حديث تميم الداري كما رواه ابن ماجه في كتابه السنن من حديث أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن تميم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معلول من هذا الوجه؛ وذلك أن أبا بكر يسمى: سلمى وقد تكلم فيه غير واحد، وكذلك شهر مضعف، وحديثه عن تميم الداري في حكم المرسل، بل هو مرسل؛ وذلك أنه لم يسمع من تميم عليه رضوان الله تعالى شيئاً.

وقد جاء هذا الحديث أيضاً مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه، كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهذا معلول بعلل:

أولها: عبد الوهاب بن مجاهد ؛ فإنه قد ضعفه غير واحد من العلماء، بل بعضهم ضعفه جداً.

ثانيها: أن روايته عن أبيه مرسلة, فإنه لم يسمع من أبيه كما نص على ذلك الإمام أحمد.

ثالثها: أن رواية مجاهد أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلة، وعلى هذا فيقال: بأن هذا الحديث من هذا الوجه لا يصح.

وقد صوب بعض العلماء حديث عبد الرحمن بن مهدي و معمر في روايتهما عن زيد بن أسلم مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وممن صوب ذلك الدارقطني، وصوب البخاري أن الحديث محفوظ من عطاء بن يسار عن أبي واقد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي صوبه البخاري قد نقله عنه الترمذي ؛ وذلك أن الترمذي قد سأل البخاري عن هذا الحديث, فقال: أتراه محفوظاً؟ قال: نعم، قال: فإن عطاء بن يسار قديم قد أدرك أبا واقد.

وفي هذا إشارة إلى أن البخاري عليه رحمة الله تعالى يرى الخبر صحيحاً من حديث عطاء عن أبي واقد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم العلماء على حديث: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت)

وعلى هذا فيقال: إن الأئمة الأوائل في ترجيح هذا الخبر على أمرين:

الأمر الأول: منهم من صوب المرسل, وهذا رأي الدارقطني عليه رحمة الله، بترجيحه لحديث عبد الرحمن بن مهدي عن زيد ، وكذلك تابعه معمر عن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: هو رأي البخاري ؛ وذلك أنه قال: إن عطاء في روايته عن أبي واقد قد أدركه وهو محفوظ، والموقف من هذا التعليل وهذه الطرق التي تقدم الكلام عليها أن خلاف العلماء في ذلك ينظر إليه من وجوه:

منها: الجمع إذا أمكن الجمع بحيث يقال: إن الترجيح في كلام البخاري يختلف عن الترجيح في كلام الدارقطني ؛ وذلك أن الدارقطني قد قصد طريقاً يختلف عن الطريق الذي رجحه البخاري ؛ وذلك أن الدارقطني عليه رحمة الله في ترجيحه لرواية عبد الرحمن بن مهدي ورواية معمر عن زيد مرسلاً يقصد عليه رحمة الله الحديث الذي رواه سليمان بن بلال ، فإن سليمان بن بلال قد روى هذا الحديث وجعله من مسند أبي سعيد الخدري، فهو يرويه عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد الخدري ، وقد جاءت رواية عبد الرحمن و معمر عن زيد مرسلاً فلم يجعله موصولاً، وقد جاء أيضاً مرسلاً -وهو الوجه الثالث في هذا- من مرسل عطاء بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن الدارقطني قصد طريق سليمان بن بلال عن زيد ، فرجح رواية عبد الرحمن بن مهدي عليه، وهذا محتمل.

و أما البخاري عليه رحمة الله فإنما قصد أصل الطريق الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو داود و الترمذي ، وهو ما تقدمت الإشارة إليه، وذلك في رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار في تفرده بهذا الحديث حيث صوب هذا الوجه، وعلى طريقة البخاري وترجيحه ذهب عامة المتأخرين، وهو الذي مال إليه الترمذي عليه رحمة الله في ظاهر صنيعه في كتابه السنن.

كيفية التعامل مع كثرة طرق الحديث متباينة المخارج

وهنا مسألة مهمة في أبواب العلل، وهي أن كثرة الطرق للحديث المتباينة من جهة المخارج ينبغي ألا تجعل طالب العلم يحكم على الحديث بالاضطراب، بل إنه إذا وجد مكثراً من الرواة قد روى عن غير واحد ويحتمل منه التنوع، فعليه حينئذ أن يميل إلى الترجيح، ولا يميل إلى إغلاق باب الترجيح في هذا الحديث باعتبار أنه مضطرب، ولا يمكن أن يكون له وجه صحيح.

والفرق بين الحالين، أعني: حال الرد وحال القبول عند تعدد الرواية؛ أن حال القبول فيما إذا كان الراوي من أهل الإكثار كحال زيد بن أسلم فإنه من المكثرين وهو من أئمة الفقه والدراية والرواية في المدينة فهذا يحتمل منه تعدد الطرق والتنوع، وهذا ما مال إليه البخاري عليه رحمة الله, وذلك أنه لم يلتفت في ظاهر قوله إلى جملة الطرق المروية في هذا, وإلى هذا يميل الأئمة عليهم رحمة الله في جملة من الأحاديث في ذلك، منها ما جاء ولا يصح إلا من وجه واحد؛ كحديث عمر بن الخطاب ( إنما الأعمال بالنيات )، مع أنه روي من وجوه أخرى، فلم يلتفت الأئمة إليها ولم يعتدوا بها من جهة كونها متابعة، وكونها مؤثرة على حديث عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، بل يعدون هذا الخبر غريباً من هذا الوجه، وأما ما عداه فإنه لا يعتد به ولا يصح.

مراعاة الحكم بالصحة على السند والحكم على المتن

ومن الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها أنه قد يكون الترجيح عند العلماء في أبواب العلل ويقصدون بذلك وجهاً من الوجوه داخل كلام عام في أحاديث؛ فيكون الحديث مثلاً قد جاء من حديث عبد الله بن عمر وجاء من حديث أبي سعيد وجاء من حديث أبي واقد , وجاء من حديث تميم , وجاء مرسلاً أيضاً, وهذه جملة من الطرق، والمرسل جاء من مرسل عطاء , ومن مرسل زيد بن أسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الوجوه الستة في هذا الحديث، قد يرجح بعض العلماء وجهاً من وجهين في أحد هذه الوجوه ولا يعني بذلك ترجيحاً لأحد هذه الوجوه على مجموع الطرق، وهذا يكثر في كلام الأئمة في أبواب العلل، وهذا يصنعه الدارقطني كثيراً، وكذلك أبو حاتم و أبو زرعة ، ومن يميل إلى الاختصار، فإنهم يرجحون وجهاً من وجهين من طريق هو من طرق متعددة، ولا يقصد بذلك ترجيح هذا الوجه على سائر الوجوه المروية في هذا الحديث، وهذا ما ينبغي أن يتنبه له، خاصة أن كلام الدارقطني في ترجيح حديث عبد الرحمن بن مهدي عن زيد لم أره تاماً، وإنما ينقله بعض الأئمة ممن تكلم على العلل مما ينبغي ألا يجعل مصادماً لكلام البخاري عليه رحمة الله فيما نقله عنه الترمذي ، وكلام الترمذي عليه رحمة الله تعالى في نقله عن البخاري بين، وهو ظاهر أنه يرجح حديث عطاء بن يسار عن أبي واقد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني: أن هذا له صلة ببقية الوجوه، وإنما سأله عن طرق أو وجوه حديث أبي واقد ولم يسأله عن المتن، فلو جاء سؤال عن ذات المتن وهو في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت )، لأمكن القول بأن البخاري عليه رحمة الله يقصد جميع الحديث، وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه طالب العلم.

مفاد إطلاق الحكم العام على حديث تعددت طرقه

ومن المسائل الدقيقة في أبواب العلل: أن الأئمة عند كلامهم على حديث من الأحاديث يجملون تارة الحكم على مجموع الطرق، ويكون ذلك على سبيل الاختصار، فيقولون: هذا الخبر خبر منكر، ويريدون بذلك المتن، ولا يريدون بذلك طريقاً بعينه.

وثمة وجه ضد ذلك: أنهم ربما حكموا على حديث بالنكارة أو الغرابة أو الرد، ولكنهم لا يقصدون الحديث بمجموعه، وإنما يقصدون وجهاً من وجوهه، فينقل عنه ذلك القول، وينزل على متن الحديث وأصله، وهذا يكثر في صنيع المتأخرين، فينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية بها، فيفهم سياق الأئمة في أبواب الإعلال حتى يكون على دراية وبينة في هذا الأمر, حتى لا يقع في شيء من الخطأ والزلل.

حكم تعارض المرسل بالموصول

إذا تعارض المرسل مع الموصول فهل يسمى هذا تعارضاً؟

يسمى: تعارضاً، وغالب صنيع العلماء أنهم يعلون الموصول بالمرسل، وغالب نهج أبي حاتم و الدارقطني أنهم يميلون إلى ترجيح المرسلات، إلا في أحوال:

من هذه الأحوال: أن بعض الرواة يعرف عنه الإرسال وأنه لا يسند، وهذا يرد في بعض الأئمة الثقات الكبار كالإمام مالك ، فالإمام مالك يميل للإرسال، وميله للإرسال لوجوه:

أولاً: لعلو الطبقة، ثانياً: لمعرفة شيوخه مما لا يحتاج إلى ارتجاله، وشيوخ الإمام مالك في ذلك معروفون، وثالثاً: أنه يميل إلى الاختصار بخلاف غيره، والغالب أن الشخص يحب التعلق بالمروي عنه مباشرة، خاصة إذا كان قريباً منه، فالإمام مالك عليه رحمة الله مثلاً يروي عن عبد الله بن عمر بواسطة، فتارة يسقط هذه الواسطة, وكذلك عن عمر فإن شيوخه في ذلك وأسانيده معروفة, خاصة فيما كان من أبواب الاحتجاج عند الكلام على بعض المسائل.

وينظر في ذلك إلى حال الراوي, فالأصل المعارضة، والأصل التعليل، والغلبة في ذلك صحة المرسل على الموصول, والأئمة يرون في هذا الترجيح أسباباً:

منها: الاحتياط، وأنه لا ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً إلا على الوجه الأحوط في ذلك، والأحوط في الإرسال، وذلك أننا إذا جعلناه متصلاً قطعنا وجزمنا بتلفظه، وإذا جعلناه مرسلاً لم نجزم بذلك مع نسبتنا له إليه.

الأمر الثاني: أن الرواة الذين يرسلون الأحاديث خاصة إذا لم يكونوا من الأئمة الثقات ففي عدم إسنادهم شبهة قوية، وذلك أن الراوي -خاصة المتوسط- إذا كان لديه إسناد يفاخر به -خاصة إذا كان شيوخه في ذلك كبار- فإنه لا بد أن يسند، وثمة قرينة في هذا، إذا كان الذي يحدث عنه المرسل، ثقة كبيراً ولم يسم المرسل شيخه في ذلك فهذا قرينة على أنه لا يوجد لديه شيخ يعتمد عليه، وإلا لتفاخر به عند شيخه الذي هو أحفظ وأجل قدراً منه، فالشيخ له أثر كذلك التلميذ والمتن، والبلد التي هو فيها، فبعض أهل المدينة يرسل خاصة الذين احتفت القرائن بحد شيوخهم وعدم تشعبهم؛ وذلك لكونهم لم يغادروا البلدة التي هم فيها، فانحصروا في بلدة من البلدان ولم يخرجوا منها، وكحال المدنيين. وكذلك إذا تقدمت طبقة الراوي.

وأما الراوي المكثر الذي يطوف البلدان فهذا يُخاف من إرساله أكثر من غيره؛ وذلك أنه لا يدرى من أسقط هنا، هل هو الكوفي، أو المدني أو المكي أو المصري أو الشامي ونحو ذلك, ولهذا يحتاط في متنوع البلدان، والحافظ الذي يكثر التنقل، فيحتاط في مراسيله أكثر من الشخص الذي هو مستقر في بلد واحد.

والتلميذ له أثر أيضاً فإذا كان التلميذ بلدياً لذلك الشيخ الذي أرسل فإنه يحتمل منه، بخلاف ما إذا كان ليس من أهل بلده فروى عنه ففي ذلك شبهة.

وأيضاً ينظر إلى حال الرواة فهذا من آثاره، فيقارن بين الراوي المرسل إذا كان له دراية وبين الراوي المرسل الذي ليس له دراية، فالراوي المرسل الذي له دراية وفقه يعل الحديث به، ما الذي حملة على الإرسال؟ يغلب عليهم الفقه فإنهم يرسلون ولا يلتفتون إلى ضبط الأسانيد، فحينئذ هذا من القرائن الذي قد تحمل منه.

فلهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل العناية بالتمييز بين الرواة الذين هم من أهل الرواية فقط، وبين الرواة الذين لهم دراية ولهم فقه.

والأئمة عليهم رحمة الله تعالى يجعلون كثيراً من آثار الأسانيد في أبواب الإرسال والاتصال, وفي أبواب ضبط الألفاظ وتغيير المعنى وأثر الرواة الذين لهم دراية فهم السبب في ذلك، وهذا ما ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية بها, خاصة في أبواب الترجيح بين تغير المتون، ووقفها ورفعها ونحو ذلك، فإن هذا من مسائل الاحتياط.

ترجيح الرواة على حسب عنايتهم بالفن واختصاصهم به

ومن القرائن في هذا الذي ينبغي للطالب العلم أيضاً أن يهتم بها: أنه بعض الرواة له عناية بالموقوفات أكثر من المرفوعات، فإذا اختلف الوقف والرفع عنده فإنه أضبط لغيره ولو كان ممن هو أحفظ منه، فيكون حينئذ الصواب في ذلك الوقف؛ وهذا كحال هشيم بن بشير السلمي , فإن هشيماً وإن كان من الأئمة الثقات إلا أنه ممن يكثر رواية الموقوفات على الصحابة، وكذلك المقطوعات، حتى قال الإمام أحمد عليه رحمة الله: أخذنا الموقوف عنه، يعني: الآثار الموقوفة، فهو ضابط وعالم وبصير بفقه السلف ومروياتهم, سواء من المدنيين أو من العراقيين، وقد نبه على هذا غير واحد، ولهذا يعتني بمروياته من يصنف في هذا الباب كـعبد الرزاق و ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم، وثمة مرجحات في هذا كثيرة وسوقها مما يطول.

وعلى هذا فيقال: إن الأئمة الأوائل في ترجيح هذا الخبر على أمرين:

الأمر الأول: منهم من صوب المرسل, وهذا رأي الدارقطني عليه رحمة الله، بترجيحه لحديث عبد الرحمن بن مهدي عن زيد ، وكذلك تابعه معمر عن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: هو رأي البخاري ؛ وذلك أنه قال: إن عطاء في روايته عن أبي واقد قد أدركه وهو محفوظ، والموقف من هذا التعليل وهذه الطرق التي تقدم الكلام عليها أن خلاف العلماء في ذلك ينظر إليه من وجوه:

منها: الجمع إذا أمكن الجمع بحيث يقال: إن الترجيح في كلام البخاري يختلف عن الترجيح في كلام الدارقطني ؛ وذلك أن الدارقطني قد قصد طريقاً يختلف عن الطريق الذي رجحه البخاري ؛ وذلك أن الدارقطني عليه رحمة الله في ترجيحه لرواية عبد الرحمن بن مهدي ورواية معمر عن زيد مرسلاً يقصد عليه رحمة الله الحديث الذي رواه سليمان بن بلال ، فإن سليمان بن بلال قد روى هذا الحديث وجعله من مسند أبي سعيد الخدري، فهو يرويه عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد الخدري ، وقد جاءت رواية عبد الرحمن و معمر عن زيد مرسلاً فلم يجعله موصولاً، وقد جاء أيضاً مرسلاً -وهو الوجه الثالث في هذا- من مرسل عطاء بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن الدارقطني قصد طريق سليمان بن بلال عن زيد ، فرجح رواية عبد الرحمن بن مهدي عليه، وهذا محتمل.

و أما البخاري عليه رحمة الله فإنما قصد أصل الطريق الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو داود و الترمذي ، وهو ما تقدمت الإشارة إليه، وذلك في رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار في تفرده بهذا الحديث حيث صوب هذا الوجه، وعلى طريقة البخاري وترجيحه ذهب عامة المتأخرين، وهو الذي مال إليه الترمذي عليه رحمة الله في ظاهر صنيعه في كتابه السنن.

وهنا مسألة مهمة في أبواب العلل، وهي أن كثرة الطرق للحديث المتباينة من جهة المخارج ينبغي ألا تجعل طالب العلم يحكم على الحديث بالاضطراب، بل إنه إذا وجد مكثراً من الرواة قد روى عن غير واحد ويحتمل منه التنوع، فعليه حينئذ أن يميل إلى الترجيح، ولا يميل إلى إغلاق باب الترجيح في هذا الحديث باعتبار أنه مضطرب، ولا يمكن أن يكون له وجه صحيح.

والفرق بين الحالين، أعني: حال الرد وحال القبول عند تعدد الرواية؛ أن حال القبول فيما إذا كان الراوي من أهل الإكثار كحال زيد بن أسلم فإنه من المكثرين وهو من أئمة الفقه والدراية والرواية في المدينة فهذا يحتمل منه تعدد الطرق والتنوع، وهذا ما مال إليه البخاري عليه رحمة الله, وذلك أنه لم يلتفت في ظاهر قوله إلى جملة الطرق المروية في هذا, وإلى هذا يميل الأئمة عليهم رحمة الله في جملة من الأحاديث في ذلك، منها ما جاء ولا يصح إلا من وجه واحد؛ كحديث عمر بن الخطاب ( إنما الأعمال بالنيات )، مع أنه روي من وجوه أخرى، فلم يلتفت الأئمة إليها ولم يعتدوا بها من جهة كونها متابعة، وكونها مؤثرة على حديث عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، بل يعدون هذا الخبر غريباً من هذا الوجه، وأما ما عداه فإنه لا يعتد به ولا يصح.

ومن الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها أنه قد يكون الترجيح عند العلماء في أبواب العلل ويقصدون بذلك وجهاً من الوجوه داخل كلام عام في أحاديث؛ فيكون الحديث مثلاً قد جاء من حديث عبد الله بن عمر وجاء من حديث أبي سعيد وجاء من حديث أبي واقد , وجاء من حديث تميم , وجاء مرسلاً أيضاً, وهذه جملة من الطرق، والمرسل جاء من مرسل عطاء , ومن مرسل زيد بن أسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الوجوه الستة في هذا الحديث، قد يرجح بعض العلماء وجهاً من وجهين في أحد هذه الوجوه ولا يعني بذلك ترجيحاً لأحد هذه الوجوه على مجموع الطرق، وهذا يكثر في كلام الأئمة في أبواب العلل، وهذا يصنعه الدارقطني كثيراً، وكذلك أبو حاتم و أبو زرعة ، ومن يميل إلى الاختصار، فإنهم يرجحون وجهاً من وجهين من طريق هو من طرق متعددة، ولا يقصد بذلك ترجيح هذا الوجه على سائر الوجوه المروية في هذا الحديث، وهذا ما ينبغي أن يتنبه له، خاصة أن كلام الدارقطني في ترجيح حديث عبد الرحمن بن مهدي عن زيد لم أره تاماً، وإنما ينقله بعض الأئمة ممن تكلم على العلل مما ينبغي ألا يجعل مصادماً لكلام البخاري عليه رحمة الله فيما نقله عنه الترمذي ، وكلام الترمذي عليه رحمة الله تعالى في نقله عن البخاري بين، وهو ظاهر أنه يرجح حديث عطاء بن يسار عن أبي واقد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني: أن هذا له صلة ببقية الوجوه، وإنما سأله عن طرق أو وجوه حديث أبي واقد ولم يسأله عن المتن، فلو جاء سؤال عن ذات المتن وهو في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت )، لأمكن القول بأن البخاري عليه رحمة الله يقصد جميع الحديث، وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه طالب العلم.

ومن المسائل الدقيقة في أبواب العلل: أن الأئمة عند كلامهم على حديث من الأحاديث يجملون تارة الحكم على مجموع الطرق، ويكون ذلك على سبيل الاختصار، فيقولون: هذا الخبر خبر منكر، ويريدون بذلك المتن، ولا يريدون بذلك طريقاً بعينه.

وثمة وجه ضد ذلك: أنهم ربما حكموا على حديث بالنكارة أو الغرابة أو الرد، ولكنهم لا يقصدون الحديث بمجموعه، وإنما يقصدون وجهاً من وجوهه، فينقل عنه ذلك القول، وينزل على متن الحديث وأصله، وهذا يكثر في صنيع المتأخرين، فينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية بها، فيفهم سياق الأئمة في أبواب الإعلال حتى يكون على دراية وبينة في هذا الأمر, حتى لا يقع في شيء من الخطأ والزلل.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحاديث المعلة في الطهارة [24] 2421 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [15] 2391 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [23] 2334 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [29] 2271 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [26] 2246 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [5] 2130 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [14] 2072 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [18] 1947 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [28] 1787 استماع
الأحاديث المعلة في الطهارة [2] 1680 استماع