عرض كتاب الإتقان (43) - النوع الثالث والأربعون في المحكم والمتشابه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فنبتدئ بكتاب الإتقان في النوع الثالث والأربعين منه، وهو في المحكم والمتشابه.

وموضوع المحكم والمتشابه يمكن أن يُعد من أصعب علوم القرآن.

أنواع المحكم والمتشابه

والسيوطي رحمه الله تعالى في بداية هذا الكتاب، بعد أن صدره بقوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7]، صدره بالنقل عن ابن حبيب النيسابوري ، ونقل عنه في المسألة ثلاثة أقوال، ثم اعترض عليه بعد ذلك بقوله في الثالث: وهو الصحيح: انقسامه إلى محكم ومتشابه للآية المصدر بها، ثم قال: [ والجواب عن الآيتين أن المراد بالإحكام .. ] إلى آخر كلامه.

وما ذكره ابن حبيب إن كان ذكر تحت هذه الآية أن المحكم والمتشابه فيه أقوال، فكلامه رحمه الله تعالى فيه نظر، وإنما الصواب أن يُقال: أنواع المحكم والمتشابه، أو المصطلحات في المحكم والمتشابه؛ لأن عندنا مصطلحات متعددة، وليست متعارضة أو أنها حكاية عن الآية في قوله: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ[آل عمران:7].

إذاً يمكن أن نقول: أنواع المحكم والمتشابه، أو نقول: استخدامات العلماء في مصطلح المحكم والمتشابه، بمعنى: أنها متعددة؛ لأن الموضوع هذا مهم جداً أن يتفكك؛ لكي نصل إلى الموطن المشكل.

النوع الأول: ما ذكره ابن حبيب في الأول أن القرآن كله محكم هذا دليله قوله سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ[هود:1]، وهذا الإحكام عام، من أول سورة الفاتحة إلى خاتمة الناس، فهو كتاب محكم، وهذا نسميه الإحكام العام، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى قد أحكم القرآن آيةً آية فهو محكم، والإحكام هنا بمعنى الإتقان، ويقابل هذا الإحكام المتشابه العام، وهو المذكور في الآية الأخرى في قوله: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا[الزمر:23]، (متشابهاً): يشبه بعضه بعضاً، وأيضاً (متشابهاً): يشبه بعضه قصص بعض، فهو تشابه عام مثل الإحكام العام.

والإحكام العام والمتشابه العام ليس فيه إشكال، فأنا أصف القرآن بأنه محكم كله، وأصف القرآن بأنه متشابه كله بناءً على هاتين الآيتين، ولكن المراد بالإحكام والتشابه أن الإحكام المراد به الإتقان، والتشابه المراد به أنه يشبه بعضه بعضاً أيضاً في الإتقان والوصف والنظم، فهو واحد لا يتعدد، فهذا النوع الأول من أنواع المحكم والمتشابه في استخدامات العلماء.

النوع الثاني وهو كثير: أن يستخدم المحكم مقابل المنسوخ، فيقول: هذه الآية محكمة، وبعضهم يقول: هذه الآية منسوخة، إذاً هذا المصطلح الثاني من استخدامات المحكم والمتشابه.

هذا النوع سنأتي إليه؛ لأنه سيندرج إن شاء الله فيما بعد في نوع آخر، ولكن لكثرة استخدام مصطلح الإحكام أمام النسخ يجب أن نتنبه إلى هذا، وأن نميزه؛ لكي يتنبه له طالب العلم وهو يقرأ في كتب التفسير أو في كتب علوم القرآن أن المحكم يقابل المنسوخ.

النوع الثالث: وهو الذي تحكيه الآية، وهو المشكل، وهو الذي قلت عنه: إنه من أصعب علوم القرآن، وسألخص الأمر وسنقرأ بعض كلام السيوطي ونطبق عليه؛ لنعلم ما هو المتشابه؛ لأن المحكم يقابله.

المتشابه الكلي وأنواعه والمحكم الكلي

المتشابه في هذا النوع قسمان:

القسم الأول: المتشابه الكلي.

القسم الثاني: المتشابه النسبي.

فالمتشابه الكلي: هو الذي لا يعلمه إلا الله، ويشمل ثلاثة أمور:

الأمر الأول: حقائق المغيبات.

والأمر الثاني: أوقات وقوع هذه المغيبات.

والأمر الثالث: بعض حكم القدر والتشريع.

بمعنى: أن بعض الحكم معروفة، ولكن بعض الحكم لا تكون معروفة، مهما اجتهد الإنسان في بيان حكم بعض الأمور التعبدية أو القدرية فقد لا يكون هو الصواب، ويكون مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، فلو بحثنا من الآن إلى ما شاء الله، لماذا صلاة الظهر أربع؟ هل يستطيع أحد أن يصل إلى حكمة معينة؟ وهل يستطيع أحد أن يجزم بشيء في ذلك؟ إذاً هذا مما استأثر الله بعلمه؛ لأن بعضها قد تكون الحكمة فيها ظاهرة أظهرها الله سبحانه وتعالى، وبعضها قد يدرك بالعقل، ولكن بعضاً منها لا يمكن أن يدرك، وهذا الذي قال عنه ابن عباس: من ادعى علمه فقد كذب؛ لأنه مختص بالله سبحانه وتعالى، ودائماً أضرب مثالاً بالدابة التي تخرج في آخر الزمن، وذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ[النمل:82]، فالدابة من حيث المعنى، هل هي مجهولة لما نقول: دابة؟ فتحتمل أن تكون الدابة حماراً، وتحتمل أن تكون غيرها من الدواب التي تمشي، فإذاً معنى الدابة معلوم، لكن هل يستطيع أحد أن يصف شكل الدابة؟ وكيف هي؟ وما كنهها؟ لا يستطيع أحد أن يصفها إلا بما ورد فيها من الخبر إن كان ورد، وهل يستطيع أحد أن يقول: متى تخرج هذه الدابة؟ لا يستطيع أحد أن يقول: متى تخرج هذه الدابة.

فإذاً: عندنا كيفية ووقت وقوع، فهذا النوع وهذه أمثلته، فهذا النوع كما قلنا: لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فقد كذب، فإذا دخل إنسان في هذه الأنواع الثلاثة فلا شك أنه وضع قدمه في مكانٍ لا يمكن أن يثبت فيه، وهي مزلة أقدام، ولا يجوز للإنسان كما أخبر ابن عباس أن يدخل في هذا الباب؛ لأنه سيقول على الله بغير علم قطعاً.

والمتشابه الكلي يقابله المحكم الكلي، والمحكم الكلي: هو المعلوم من جهة المعنى أو غيره مما أخبر به الله سبحانه وتعالى.

فإذاً: هو المعلوم للناس، فالمعلوم للناس يدخل في المحكم، والمعلوم لله فقط يكون هو المتشابه.

المتشابه النسبي وما يقابله من الإحكام

النوع الثاني من المتشابه: المتشابه النسبي، وهذا أوسع أنواع المتشابه، وهو الذي فيه الإشكال، والإشكال في هذا أكثر من الأول، والأول قل من يدعي فيه هذا الأمر، ولكن الثاني هو الذي يقع فيه الإشكال وهو الأمر الشائك والعويص في هذه المسألة، وهو الذي بُني عليه هذا العنوان (المحكم والمتشابه).

والمتشابه النسبي سيقابله المحكم، ونريد أن نعرف ما هو المتشابه النسبي الذي نعرف به المحكم المقابل له، فالمتشابه النسبي: هو ما يشتبه على قومٍ دون قوم، فالفرق بينه وبين الأول، أن الأول يشتبه على الكل، فسميناه متشابهاً كلياً، وهذا يشتبه على قوم دون قوم فسميناه متشابهاً نسبياً، فمثلاً: إذا كانت آية أو لفظة بالنسبة لك من المتشابه، فلا يلزم أنها متشابهة عند كل الناس. بل هي متشابه بالنسبة لك، ولكن قد يكون آخرون يعلمون معنى هذه الكلمة ومعنى هذه الجملة.

ونوع المحكم المقابل لهذا التشابه هو الذي لا يقع فيه خلاف، وهو الذي سماه الإمام أحمد وغيره معلوماً. مثلاً لما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الملك:1]، إلى أن قال: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا[الملك:3]، هل يقع خلاف في أن عدد السماوات سبع لا يمكن أن يدخله التشابه؛ لأنه عدد، فإذاً هذا نعده من المحكم الذي لا يقع فيه خلاف، ولا يتصور وقوع الخلاف فيه، وما يقع فيه الخلاف فهو من المتشابه.

ولو أردنا أن نربط بين النوعين: النوع الأول، والنوع الثاني.

فالمحكم المقابل للمتشابه الكلي هو داخل ضمن المحكم المقابل للمتشابه النسبي، فالمحكم المقابل للمتشابه الكلي هو في حقيقته ينقسم إلى قسمين:

محكم معلوم لا يقع فيه خلاف، ومتشابه لا يقع فيه خلاف، وهذان بينهما علاقة من هذه الجهة، ونأتي إلى فائدة أخرى مرتبطة بهذا الباب، وهو أن المتشابه النسبي مرتبط بالمعاني المدركة، وما بينه الله سبحانه وتعالى وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يدخل ضمن المتشابه النسبي.

أسباب التشابه

وهنا مسألة وهي أسباب التشابه وهي أسباب متعددة، وننتبه إلى هذه القضية المهمة: وهي أننا حينما نريد أن نبحث في مثل هذا الموضوع نبحث عن أسباب التشابه؟ لماذا تشابهت هذه الآية على قومٍ وعلمها آخرون؟ على سبيل المثال الخوارج وهي من أوائل الفرق التي تركت منهج الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فقد اشتبه عليهم موضوع الحكم، فهم عمدوا إلى آيات فيها: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ[الأنعام:57]، فقالوا: لا حكم إلا لله، وألغوا حكم البشر، وقالوا: لا يجوز للبشر أن يحكموا، فهم اعتمدوا على جزء من الآيات وتركوا آيات أخر، فهذا يُعتبر نوع من المتشابه، وقع عليهم تشابه فوقعوا في هذا الخلل، وهو بالنسبة للصحابة معلوم.

ما يحصل به فهم المتشابه

وعندنا أيضاً مسألة مهمة في هذا النوع وهو المتشابه النسبي، والمسألة أن فك التشابه يأتي بالنقل والعقل، ولا بد من وجود المصدر النقلي، ويأتي إعمال العقل فيه، إذا انعكس الأمر وجعلنا العقل هو المصدر والأصل، والنقل تبعاً له، فهذا يقع فيه التشابه الكبير ويقع فيه الانحراف، وما عدا العقل وهو الذي يسمى عند بعضهم بظواهر القرآن تعتبر هذه الظواهر ظنية، فيجعلون العقل محكماً قطعي الدلالة، وظواهر النصوص ظنية، فإذا تصادم عندهم القطعي الذي هو الدليل العقلي بزعمهم بالظن لظواهر النصوص فيقدم القطعي، فيقدم العقل على النقل، وأكبر مشكلة وقعت في العلم الشرعي هي هذه المشكلة، التي هي مشكلة تقديم العقل المحض على الشرع، وهذا مثار خلاف وجدل وكلام قد يكون فلسفياً طويلاً جداً، والرازي رحمه الله تعالى كتب فيها كتابه المشهور الذي هو أساس التقديس، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الذي هو: درء تعارض العقل والنقل، وفي بداية الكتاب رد فيه على الأصول التي ذكرها الرازي ، والمسألة تفاعلية وطويلة وإلى اليوم هي موجودة في كتب العقائد وفيها استفاضات طويلة، ولكن نحن نريد أن نفهم مثارات هذا الأمر ومواطن الجدل فيه، وننبه إلى هذه القضية أننا حينما نجعل العقل فقط وحده هو المحكم، فمعنى ذلك أن نرد أي نص من نصوص الكتاب والسنة إليه، فما قبله العقل قبلناه وما رده العقل أولناه، فلو جعلنا الدلائل العقلية هي المحكمة، وهذا الذي اعتمده على سبيل المثال عبد الجبار الهمداني في كتابه متشابه القرآن،... أأأ

وجعل ظواهر الكتاب ظنية، ولهذا عندما يجمع بين الآية والآية إذا أورد فيها تشابهاً، أو زعم أن قوماً احتجوا بها على عقيدة ما فإنه يردها بدلالة العقل وليس بدلالة النصوص.

لا نريد أن نطيل في هذا، ولكن المقصد من ذلك أن ننتبه إلى هذه المشكلة، وأنا عندي أن الذي جعل هذا الموضوع صعباً هو دخول هذه القضية: قضية تقديم العقل على النقل، وجعلت قضية المحكم والمتشابه قضية شائكة؛ ولهذا قل من كتب في المحكم والمتشابه وأحسن فيها الكتابة؛ لأنه يصطدم بتفريعات وتشجيرات ونقاشات طويلة عريضة، ولا يكاد يخلص بزبدة هذا الكلام، فيكون المحكم والمتشابه بالنسبة لنا من المتشابه الذي يصعب حله، لكن إذا رتبناه بهذه الصورة التي ذكرتها تتفكك مشكلات هذا الموضوع، ويتبين لنا في النهاية أن كل نقاشنا هو في المتشابه النسبي، وأن سبب المشكلة في هذا المتشابه النسبي بالذات هو تقديم العقل على النقل وسيتبين بعد قليل بالأمثلة التي سيذكرها السيوطي رحمه الله تعالى، وعندنا قضية أخرى مرتبطة بهذا نريد أن ننتبه لها، وهي في النوع الثاني قلنا: المحكم هو الذي لا يقع فيه نسخ، والمتشابه هو الذي يقع فيه نسخ، وهذا النوع لو أردنا أن نربطه بالقسم الثالث، فأين نضعه من المتشابه الكلي أو النسبي؟ نضفه في المتشابه النسبي؛ لأنه يعلمه قوم دون قوم.

وهذا فيما إذا كان المحكم يقابله منسوخ، فبعضهم يقول: الآية محكمة، وبعضهم يقول: هي منسوخة أما إذا قالوا كلهم: هي منسوخة زالت عن الإشكال، وصارت من المعلوم.

أقوال العلماء في المحكم والمتشابه

قال السيوطي رحمه الله: [ وقد اختلف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال:

فقيل: المحكم: ما عُرف المراد منه، إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه؛ كقيام الساعة وخروج الدجال ]، وهذا الذي ذكره من النوع الأول الذي هو المتشابه الكلي ومقابله المحكم الذي هو معلوم.

قال: [ والحروف المقطعة في أوائل السور ]، الحروف المقطعة في أوائل السور ليست من المتشابه الكلي، والدليل على أنها ليست من المتشابه الكلي وقوع الاختلاف بين الصحابة والتابعين فيها، ولو قلنا: هي من المتشابه الكلي معناه: أن الصحابة والتابعين تعدوا على ما قلنا: إنه مما يستأثر الله بعلمه، وأن من ادعى علمه فقد كذب.

فكون الصحابة والتابعين تكلموا فيها دل على أنها قد خرجت من المتشابه الكلي قطعاً، ونكتفي بهذا الرد؛ لأننا إذا دخلنا أطلنا ورجعنا إلى الرد والنقاش فيها.

قال رحمه الله: [ وقيل: المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه ]، وهذا من المتشابه النسبي أيضاً، قال: [ وقيل: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه؛ كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان قاله الماوردي ]، وهذا يدخل في نوع المحكم والمتشابه الكلي.

قال: [ وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره ] وهذا أيضاً نسبي.

[ وقيل: المحكم ما تأويله تنزيله والمتشابه ما لا يُدرى إلا بالتأويل ]، وهذا يدخل في النسبي أيضاً.

[ وقيل: المحكم ما لم تتكرر ألفاظه ومقابله المتشابه ]، وهذا يدخل في النوع الأول وهو المحكم العام ومقابله التشابه العام الذي يتكرر، وهذا ليس من باب المحكم والمتشابه الذي عندنا.

[ وقيل: المحكم: الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه: القصص والأمثال ]، هذا من التشابه النسبي؛ لأن الفرائض: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واضحة، أما القصص فقد يكون فيها نوع من التشابه والذي هو التشابه النسبي، والأمثال أيضاً لأن الله قال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، فقد يقع فيها أيضاً اختلاف في فهم معاني الأمثال.

ولهذا أورد فقال: [ عن ابن عباس قال: المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به، ويُعمل به، والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه، وما يُؤمن به ولا يُعمل به ]، مثل الأخبار الغيبية، يؤمن بها ولا يُعلم بها، وهذا يدخل ضمن المتشابه النسبي، وعلى ذلك أغلب كلام السلف داخل في معنى المحكم والمتشابه النسبي.

إذاً هذا باختصار ما يتعلق بقضية المحكم والمتشابه، فألغي القسم الأول والقسم الثاني، وكن في القسم الثالث الذي قلنا: إنه ينقسم إلى قسمين، وافهم هذين القسمين واضبطهما ينضبط عندك كل ما يتعلق بالمحكم والمتشابه، فالمتشابه متشابه كلي ومتشابه نسبي، المتشابه الكلي يقع في حقائق المغيبات في أزمانها أو أوقاتها، وفي علل بعض القضايا القدرية أو الشرعية، والمتشابه النسبي هو ما يقع فيه الاختلاف بين الناس، ويقابله المحكم الذي لا يقع فيه الاختلاف، وأكبر سبب في المتشابه النسبي الذي يقع فيه شجار وجدل هو تقديم العقل على النقل، وهو الذي جعل هذا الموضوع شائكاً، والكلام فيه يكاد يكون غير معلوم، ودخل في باب المتشابه، فإذا فككناه بهذا الشكل ينتهي عندنا كل مشكلات المحكم والمتشابه.

مثال للإحكام والتشابه

ولنأخذ أمثلة تطبيقية ذكرها السيوطي رحمه الله تعالى قال: [ فصل من المتشابه آيات الصفات، ولـابن اللبان فيها تصنيف مفرد]، واسمه: (رد معاني الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات)، يقول المحققون: الكتاب مما يُنصح بالحذر منه؛ لأنه ينحو منحا أهل الرموز والإشارات الباطنية، وقد ذكر ابن حجر أن ابن اللبان ضبطت عليه كلمات على طريق الاتحادية فقام عليه الفقهاء ومُنع من الكلام.

فهذا ابن اللبان الآن عفا الله عنه ذكر في هذا التصنيف المفرد أمثلة، وذكر منها السيوطي أمثلة في قوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5]، وصدر بها السيوطي الأمثلة، وهذه الآية أكثر ما يُصدر بها أهل الكلام لإثبات المتشابه، ثم قال وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ[القصص:88]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ[الرحمن:27]، وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[طه:39]، يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[الفتح:10]، وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ[الزمر:67]، قال: [ وجمهور أهل السنة من السلف وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها ]، هذا الكلام الذي قاله السيوطي رحمه الله تعالى من المشكلات التي تقع منه ومن نحا منحاه، وهو أنهم لم يفهموا كلام السلف على الحقيقة، وهذا ليس هو منهج السلف، فقد فهموا أن منهج السلف تفويض المعنى، وليس كذلك؛ لأن مالكاً لما سُئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، يعني: معلوم المعنى، لكن ما هو المتشابه الكلي؟ قال: والكيف مجهول، وعندما نرجع إلى تقسيمنا قلنا: كيفيات المغيبات من المتشابه الكلي؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا كيف استوى، ولكن أخبرنا أنه استوى، فنثبت الاستواء فإذاً إثبات الاستواء هو المعنى المعلوم، ولكن كيف استوى هذا الذي نعتبره مجهولاً وهو من الكلي.

إذاً الصفات دخلها التشابه النسبي والكلي، ومعاني الصفات يدخلها التشابه النسبي، وكيفيات الصفات من التشابه الكلي عند الجميع.

وقد يقول قائل: لماذا تقول في معاني الصفات: نسبي؟ والجواب: لأنه وقع الخلاف بين طوائف الأمة، ولكن الحق مع من؟ هذه قضية أخرى، وإنما كلامنا في وقوع الخلاف في المعنى؛ ولهذا لما نأتي إلى قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5]، يفسرون استوى باستولى، وبعضهم يفسر العرش بأنه المُلك، فإذاً صار فيه تأويلات لهذه المعاني، فهذا وقع فيه خلاف ونسميه نسبياً، والحق مع السلف، وقد أورد السيوطي رحمه الله تعالى بعد ذلك أقوال السلف فقال: [ عن أم سلمة ] والصحيح عن مالك ، ووردت أيضاً عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: [ قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول ]، تعني: الاستواء معلوم، [ والإقرار به من الإيمان، والجحود به كفر ]، ولهذا لو نظرنا إلى المؤول فإنه قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5]، معناه: استولى، فهو لم يجحد الاستواء وقال: لا ثمة رحمن على العرش ولا ثمة استواء، ولو قال هذا لكفر، بل هذا وقع عنده التأويل، فعنده شبهة أوردته إلى أن يقول بهذا القول.

صفة الاستواء عند الأشاعرة

وغالب المتكلمين على هذا الباب الذي هو تأويل الصفات، ولو أخذنا مثالاً آخر من الأمثلة التي ذكرها السيوطي حيث ذكر مجموعة من كلام بعض العلماء إلى أن قال: [ ذكر ما وقفت عليه من تأويلات الآيات المذكورة على طريقة أهل السنة، وهي في الحقيقة على طريقة المتكلمين خصوصاً الأشاعرة.

ذكر صفة الاستواء فقال: [ حاصل ما رأيت فيها سبعة أجوبة: أحدها: حكى مقاتل و الكلبي عن ابن عباس أن استوى بمعنى استقر، قال: وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل ]، وهذا هو التأويل في كلام الله؟ وهو تأويل حتى في كلام ابن عباس قال: [ فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم، نقع طبعاً هنا في إشكالية ما نريد أن نطيل فيها، لكن دائماً نقول قاعدة: أن أي مؤولٍ فإنه يمر على قنطرة أيش؟ التجسيم، ثم يذهب إلى تنزيه ما توهمه هو، ولو أجرى الكلام على ظاهره أن استوى بمعنى: استقر، وعلا ارتفع، وتركها كما هي ما اضطر إلى أن يقول بما يقوله السيوطي رحمه الله تعالى: إنه مشعر بالتجسيم، ومن أين جاء التجسيم؟ جاء التجسيم من كونك توهمت التجسيم فأردت أن تنفيه، وكما تعلمون في القاعدة المعروفة، وقد ذكرها الشريف المرتضى في كتابه: في الصرفة، وذكرها غيرهم من بعده، مثل: شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات.

طيب لو قلت: إنه مشعر بالتجسيم، فأي إثبات لأي صفة سيأتيك المثبت لهذه الصفة التي أنت أولتها وسيحتج عليك بنفس الطريقة، فما الذي يبيح لك أن تدعي التجسيم هنا ولا يبيح للآخر أن يدعي التجسيم هناك، مثل لما نقول في قوله سبحانه وتعالى: غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7]، يقولون: الغضب هو إرادة الانتقام، والإرادة من صفات المخلوقات، فإذاً هذه مشعرة أيضاً بقضية أن الله كخلقه بهذا الشكل، فنأتي وندخل في أنه لا بد أيضاً أن ننزهه، ولهذا لو تأملنا هذا الباب الذي هو باب التأويل على هذا الأسلوب هو الذي أوصل بعض الفلاسفة الذين عاشوا في ظل الإسلام إلى التنزيه المحض المطلق، مثل ابن رشد و ابن سينا وغيرهم، فقد وصلوا إلى منتهى التعطيل بقنطرة التأويل.

أقوال السلف في الصفات وأقوال الخلف

وأقول: إن من يذهب إلى التأويل بهذه الأشياء يحتاج أن يتأمل هذه الطريقة التي يسلكها ويراجعها ويقرأ في كلام السلف المتقدمين، مثل كلام ابن المبارك ، وسفيان بن عيينة ، وسفيان الثوري ، والشعبي ، وأمثال هؤلاء المتقدمين الذين كانوا إذا ذكرت هذه الأشياء بينوا القول الصواب فيها، ولكن مع الأسف؛ لأنه انقطع علمنا عن تراث هؤلاء، وصرنا لا نأخذ اعتقاداتنا من كلامهم، وإنما نأخذ اعتقاداتنا من تقريرات عقلية متأخرة، ومن علماء متأخرين يُزعم أنهم كانوا يجابهون قوماً ما، ويناقشونهم من أهل العقل أو من أهل الإلحاد، فصار هذا التراث هو الاعتقاد، وترك الأصل الذي هو الاعتقاد المبني على الكتاب والسنة، ولهذا أقول وقد قلته سابقاً: لك أن تتأمل أحياناً في كتاب من كتب الاعتقاد المتقدمة للسلف، وكتاب من كتب الاعتقاد المتأخرة على أي طائفة من طوائف المتأخرين، وتنظر كم الآيات والأحاديث التي يستشهد بها من يتبع منهج السلف، وكم الآيات والأحاديث التي يستشهد بها من يتبع منهج الخلف، فإذا تأملت سيظهر لك من هو الذي على الأصل الصحيح، ومن الذي يكون عنده إشكال في هذا الأصل؛ لأننا حينما نريد أن نغرس العقيدة في نفوس المسلمين لا نغرسها بالدلائل العقلية؛ لأننا لا نحتاج إلى هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم استخدم هذا الأسلوب، وذلك لما جاءته الجارية التي لطمها سيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة )، فهذا هو الاعتقاد، وأكثر من هذا يأتي إنسان ويقول: إنه لا يجوز أن يُشار إلى الله بالأينية، هذا مخالفة لنص الرسول صلى الله عليه وسلم صراحةً، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول للجارية: ( أين الله؟ ) وهو المشرع، فكيف تأتي أنت وتقول: لا يجوز؟ هذه مخالفة صريحة، وقس على ذلك غيرها من الأمثلة، فإذاً الاعتقاد لا يُؤخذ من الدلائل العقلية، ولا يُؤخذ بالمباحث الكلامية، أما لو كنا سنناقش أقواماً فلاسفة كلاميين فهذه قضية أخرى، فهذه تدخل في باب الجدل وليست في باب الاعتقاد، أما أن نجعل باب الجدل هو الاعتقاد فهذا مشكل، ومع الأسف بعض المدارس في الدول الإسلامية، سواءً كانت مدارس حكومية أو غير حكومية، مع الأسف فهي تُدرس الاعتقاد على هذا الأسلوب، الذي هو أسلوب الجدل الكلامي العقلي، ولا شك أنه قد نستفيد من هذه المباحث الكلامية، ولكن ليس في موطن بيان الاعتقاد للمسلمين، قد نستفيد منه في الجدل مع النصارى، وقد نستفيد فيه في الجدل مع اليهود، ونستفيد منه في الجدل مع المستشرقين، ونستفيد منه في الجدل مع الملحدين ومع الفلاسفة، أما أن يكون هو الأصل الذي تُنشر به عقيدة المسلمين فهذا لا أظنه صحيحاً وصواباً أبداً، بل الصواب أن يؤخذ هذا الاعتقاد من الكتاب والسنة، كيف فهم السلف المتقدمون هذا؟ ننظر في كتبهم ونقرأ، لكن مع الأسف قطعنا عن علم هؤلاء، ليس فقط في جانب الاعتقاد، بل حتى في جانب التزكية، وفي جانب التزكية تتعجب أن قوماً ينتسبون إلى فلان وهو في القرن الخامس أو السادس، وآخرون ينتسبون إلى فلان وهو في القرن الرابع عشر، ويزعمون أنهم على طريقة فلان، والطريقة الفلانية وفلان الفلاني، وهذه طريقة منقطعة، أين أولئك الذين أخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً؟ وأين كلامهم؟ وكيف فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا تجد شيئاً أبداً من هذا في هذه الطرق، من أخذ عن هؤلاء من الصحابة والتابعين كيف فهموا الإسلام؟ كيف فهموا عبادة الله؟ لا تجد في كتب القوم مثل هذا أبداً، فهذا يدل على انقطاعٍ عن علم هؤلاء، وكما قال الإمام مالك : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها، فنحن بحاجة إلى أن نرجع في كل أمورنا إلى تراث هؤلاء في التزكية، وفي الاعتقاد، وفي فهم كلام الله سبحانه وتعالى في الأحكام وغيرها، أما القضايا الأخرى التي يكون فيها الاجتهاد في الدنيويات وغيرها فهذه قضية أخرى، فالمقصد أن هذه الأمور الكلية المرتبطة بالشرع والتي لها علاقة بالاعتقاد الأصل فيها أن تُؤخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن كتاب الله سبحانه وتعالى، وتُؤخذ كما فهمها الصحابة وفهمها التابعون وأتباع التابعين، فالانقطاع هذا لا شك أنه فتح لنا باباً كبيراً، ولا زلت أقول إن مساوئ علم الكلام في كتب التفسير أكثر من المساوئ الإسرائيليات فيها؛ لأنك لا تكاد تجد في كتابٍ من التفسير إلا وتجد أثراً لقضية علم الكلام في مكان من الأماكن تؤثر على فهم كلام الله سبحانه وتعالى، حتى أن بعض المحررين في علم التفسير في قوله سبحانه وتعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ[النمل:14]، ينفي كفر الجحود، يقول: لا يتصور وجود كفر جحود، أي: لا تتصور أن إنساناً يقتنع بأن هذا هو النبي ثم يكفر به، ثم يحاول أن يتأول هذه الآية، فسبب هذا التأول هو إشكالية الاعتقاد، فهو اعتقد ثم استدل.

هذه تقريباً فكرة المحكم والمتشابه، ونكون بهذا قد انتهينا من النوع الثالث والأربعين.

معنى المحكم والمتشابه في آية آل عمران

ونبين معنى آية آل عمران بناءً على المحكم والمتشابه؛ لأنه ضروري جداً، ففي قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7]، فالسلف رحمه الله تعالى اختلفوا في معنى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ[آل عمران:7]، فبعضهم قال: ما يعلم تأويله أي ما تؤول إليه حقيقته، وبعضهم قال: وما يعلم تأويله أي تفسيره، عندنا الآن قولان:

ننظر الآن ما تؤول إليه حقيقة أخبار القرآن وهي مغيباته، فهذه يعلمها الله فقط، إذاً هي من المتشابه الكلي، فإذاً على هذا القول يكون الوقف على لفظ الجلالة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ[آل عمران:7]، ثم يكون الاستئناف: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7].

وإذا قلنا: إن التأويل بمعنى التفسير فيكون وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7]: أي: تفسيره إلا الله، ومعلوم أن التفسير من المتشابه الذي يعلمه أيضاً غير الله، فصار من المتشابه النسبي، فيكون المعنى وما يعلم تفسيره على الحقيقة إلا الله والراسخون في العلم، فصار الوقف على (الراسخون في العلم).

ولو رجعنا إلى الآيات قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7]، فإذا قلنا: (هن أم الكتاب): أي المعلومات للناس، وأخر متشابهات: تشابهاً كلياً، وما يعلم تأويل المتشابه الكلي إلا الله، ثم قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7].. إلى آخره.

وإذا رجعنا مرة أخرى وقلنا (هن أم الكتاب) أي المحكمات المعلومات التي لا يقع فيها خلاف، وأخر متشابهات وهي التي يقع فيها خلاف، وما يعلم ما يقع فيه الخلاف إلا الله والراسخون في العلم.

إذاً يكون وجه تفسير الآية على هذا، إذا قلنا بالمتشابه الكلي وإذا قلنا بالمتشابه النسبي، فيختلف المراد بأم الكتاب ويختلف المراد بالمتشابهات، فهذا باختصار تفسير الآية على الوجهين..

والسيوطي رحمه الله تعالى في بداية هذا الكتاب، بعد أن صدره بقوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7]، صدره بالنقل عن ابن حبيب النيسابوري ، ونقل عنه في المسألة ثلاثة أقوال، ثم اعترض عليه بعد ذلك بقوله في الثالث: وهو الصحيح: انقسامه إلى محكم ومتشابه للآية المصدر بها، ثم قال: [ والجواب عن الآيتين أن المراد بالإحكام .. ] إلى آخر كلامه.

وما ذكره ابن حبيب إن كان ذكر تحت هذه الآية أن المحكم والمتشابه فيه أقوال، فكلامه رحمه الله تعالى فيه نظر، وإنما الصواب أن يُقال: أنواع المحكم والمتشابه، أو المصطلحات في المحكم والمتشابه؛ لأن عندنا مصطلحات متعددة، وليست متعارضة أو أنها حكاية عن الآية في قوله: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ[آل عمران:7].

إذاً يمكن أن نقول: أنواع المحكم والمتشابه، أو نقول: استخدامات العلماء في مصطلح المحكم والمتشابه، بمعنى: أنها متعددة؛ لأن الموضوع هذا مهم جداً أن يتفكك؛ لكي نصل إلى الموطن المشكل.

النوع الأول: ما ذكره ابن حبيب في الأول أن القرآن كله محكم هذا دليله قوله سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ[هود:1]، وهذا الإحكام عام، من أول سورة الفاتحة إلى خاتمة الناس، فهو كتاب محكم، وهذا نسميه الإحكام العام، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى قد أحكم القرآن آيةً آية فهو محكم، والإحكام هنا بمعنى الإتقان، ويقابل هذا الإحكام المتشابه العام، وهو المذكور في الآية الأخرى في قوله: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا[الزمر:23]، (متشابهاً): يشبه بعضه بعضاً، وأيضاً (متشابهاً): يشبه بعضه قصص بعض، فهو تشابه عام مثل الإحكام العام.

والإحكام العام والمتشابه العام ليس فيه إشكال، فأنا أصف القرآن بأنه محكم كله، وأصف القرآن بأنه متشابه كله بناءً على هاتين الآيتين، ولكن المراد بالإحكام والتشابه أن الإحكام المراد به الإتقان، والتشابه المراد به أنه يشبه بعضه بعضاً أيضاً في الإتقان والوصف والنظم، فهو واحد لا يتعدد، فهذا النوع الأول من أنواع المحكم والمتشابه في استخدامات العلماء.

النوع الثاني وهو كثير: أن يستخدم المحكم مقابل المنسوخ، فيقول: هذه الآية محكمة، وبعضهم يقول: هذه الآية منسوخة، إذاً هذا المصطلح الثاني من استخدامات المحكم والمتشابه.

هذا النوع سنأتي إليه؛ لأنه سيندرج إن شاء الله فيما بعد في نوع آخر، ولكن لكثرة استخدام مصطلح الإحكام أمام النسخ يجب أن نتنبه إلى هذا، وأن نميزه؛ لكي يتنبه له طالب العلم وهو يقرأ في كتب التفسير أو في كتب علوم القرآن أن المحكم يقابل المنسوخ.

النوع الثالث: وهو الذي تحكيه الآية، وهو المشكل، وهو الذي قلت عنه: إنه من أصعب علوم القرآن، وسألخص الأمر وسنقرأ بعض كلام السيوطي ونطبق عليه؛ لنعلم ما هو المتشابه؛ لأن المحكم يقابله.