خطب ومحاضرات
عرض كتاب الإتقان (21)- النوع السادس عشر في كيفية إنزاله [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فسنذكر ابتداء ما ذكره ابن القيم من مراتب وصور للوحي تصل في مجموعها إلى ثمان مراتب.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وكمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة:
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.
السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.
السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران ، وهذه المرتبة هي ثابتة لـموسى قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء.
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعاً للصحابة)، انتهى.
هذا ملخص لمراتب الوحي التي طرحها السيوطي رحمه الله تعالى.
أما الموضوع الذي سنتطرق إليه في درسنا فيعتبر من أكثر موضوعات علوم القرآن إشكالاً، وهو: الأحرف السبعة، قال: (اختلاف الأقوال في نزول القرآن على سبعة أحرف) ولو رجعنا إلى بداية الباب، قال: (في كيفية إنزاله وفيه مسائل) وذكر المسألة وهي: ما تتعلق بقضية النزول الجملي والنزول التفصيلي، ثم ذكر المسألة الثانية في كيفية الإنزال والوحي، ثم عقد بعد جملة من الفوائد، قال: المسألة الثالثة في الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها، وهنا أورد من روى الحديث من الصحابة، ومنها الحديث المختصر: (إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف ).
أقوال العلماء في نزول القرآن على سبعة أحرف
ثم ذكر السيوطي اختلاف الأقوال، وتوسع في ذكر اختلاف الأقوال في المراد بالأحرف السبعة:
أول قول ذكره: (أنه من المشكل الذي لا يدرى معناه؛ لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة، قاله ابن سعدان النحوي )، وهذا القول إنما يقبل إذا كان المراد به المشكل النسبي، يعني: مشكل على صاحبه؛ فيمكن، لكن ليس مشكلاً كلياً، إنما يصح هذا القول على أن يقال: إنه مشكل نسبي، أي: بالنسبة لصاحب هذا القول، يكون مشكلاً عندهم، أما أن يحكم بالإشكال على الأحرف السبعة على غيره فهذا لا يصح؛ لأنه أحياناً بعض العلماء يقولون: هذه آية مشكلة، وهذه الله أعلم بمرادها، وهذا يكون أمراً نسبياً، يعني: بالنسبة لمن تعرض لتفسيرها، أو تعرض لمعناها كما عندنا في الأحرف السبعة.
والقول الثاني: (أن العدد ليس مراداً، وأن السبعة جاء على أسلوب العرب في ذكر السبعة ومرادفاتها، على أنها للتضعيف) وهذا القول أيضاً يرده أن الرسول صلى الله عليه وسلم راجع جبريل عليه السلام متدرجاً، فقال: (أنزل القرآن على حرف)، فاستزاده حتى وصل إلى حد السبعة، ولو كان المراد التكثير، لما كان لهذه الزيادة أي معنى، يعني: لو كان جاء الأمر على سبعة أحرف مباشرة ولم يرد أي دليل يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الزيادة من الحرف الواحد إلى سبعة أحرف لكان لما قالوه وجه، لكن مع وجود طلب الزيادة هذا مرة بعد مرة، فدل على أن المراد بالسبعة هو العدد الذي بين الستة وبين الثمانية، وليس ما ذهب إليه هؤلاء من أن المراد به التكثير.
والقول الثالث قال: (أن المراد بها سبع قراءات، وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل مثل: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ[المائدة:60] و فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[الإسراء:23]).
وهذا مجمل، يعني: من قال بأنها قراءات، ما مراده بالقراءات؟ هذا الأمر مجمل، فهل مراده بالفعل قراءات على هذا الأسلوب أو غيره، فنبقى على أنه ليس المراد بها كما سيأتي القراءات السبع، لكن على السبع القراءات خبر مجمل؛ لأنه قد يصح من وجه كما سيأتي إن شاء الله في تحرير المراد بها.
والرابع قال: (وأجيب بأن المراد أن كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، ويشكل على هذا أن في الكلمات ما قرئ على أكثر، وهذا يصلح أن يكون قولاً رابعاً) كأنه يقوله: هناك كلمات قرئت أكثر، لكن لو نظرنا إلى القراءات المشهورة المقبولة فإنا لا نجد أنها قرئت بأكثر من سبع قراءات، وإنما أدخل معها الشاذ، فلو أدخلنا الشاذ فنعم، وجدت كلمات قرئت بأكثر من سبع قراءات.
القول الخامس: (أن المراد بها الأوجه التي يقع فيها التغاير) وهذا ذكره ابن قتيبة .
وأوجه التغاير استنبطها ابن قتيبة من خلال تأمله في القراءات، قال: (فأولها ما يتغير حركته ولا يزول معناه وصورته، مثل: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ[البقرة:282] قرئت: يضارَّ، و"لا يضارُ") بالفتح والضم.
(وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل: (بَاعَدَ) و (بِاعِدْ).
وثالثها: ما يتغير بالنقط مثل: (ننشزها) و (ننشرها).
ورابعها: ما يتغير بالإبدال مثل: (طلح منضود) و (طلع).
وخامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ[ق:19] و(جاءت سكرة الحق بالموت).
ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[الليل:3] و(الذكر والأنثى).
وما يتغير بإبدال كلمة بكلمة مثل: كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ[القارعة:5]، (كالصوف المنفوش).
قال: (وتعقب هذا قاسم بن ثابت بأن الرخصة وقعت، وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم) لأنه كما تلاحظون أن بعضها مرتبط بالرسم، وبعضها مرتبط بموضوع حدث بعد الصحابة وهو النقط، الذي في (ننشزها) و (ننشرها).
قال: (وأجيب بأنه لا يلزم من ذلك توهين ما قاله ابن قتيبة لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقاً، وإنما اطلع عليه بالاستقراء).
نقول هنا: ما ذكره ابن قتيبة هو في الحقيقة هو أحد الصور الصحيحة للوصول إلى الأحرف السبعة، لكن ليس قوله برمته هو الصحيح في الأحرف السبعة، ويقرب منه قول أبي الفضل الرازي الذي عده السادس.
وأيضاً حاول أن يجمع سبعة أوجه من أوجه الاختلاف، فذكر أولاً اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، والثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر، الثالث: وجوه الإعراب، الرابع: النقص والزيادة، والخامس: التقديم والتأخير، والسادس: الإبدال، والسابع: اختلاف اللغات كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإدغام.. إلخ. وهذا نفس المنطلق الذي انطلق منه ابن قتيبة .
والسابع قال: (أن المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق..) إلخ.
والثامن: قول ابن الجزري وهو من نفس المشكاة التي أخرج منها ابن قتيبة و أبو الفضل الرازي نفس الطريقة، وذكر أيضاً سبعة أوجه من أوجه الاختلاف، على سبيل المثال قال: (إما في الحركات بلا تغير في المعنى مثل "بالبخل" بأربعة ويحسن بوجهين أو متغير المعنى مثل: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ[البقرة:37]، وقراءة أخرى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو (تبلو) و (تتلو)..) إلى آخر الأمثلة التي ذكرها من الأوجه السبعة التي استنبطها واستقرأها، وجعل هذا القول الثامن.
القول التاسع: (المعاني بالألفاظ المختلفة مثل: أقبل وتعال وهلم..) الذي يسمى في علم اللغة المترادف. وهذا القول نسب إلى ابن جرير .
القول العاشر: (أن المراد سبع لغات)، وهذا مذهب مشهور، وذهب إليه جماعة منهم من ذكر أبو عبيد و ثعلب و الأزهري وآخرون، قال: واختاره ابن عطية وصححه البيهقي في الشعب، قال: (وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها..) ثم ذكر ما روي عن ابن عباس من طريق أبي صالح بأنه: (نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن) ولكن هذا الأثر أصلاً ضعيف، وكما قيل في لغات العرب أنها أكثر من السبع، وبعضهم قال: إن هذه أكثر حظاً بنزول القرآن، لكن الصحيح أن عموم لغات العرب - خصوصاً المقبولة منها - نزل بها القرآن سواء من جهة اللهجة أو من جهات الألفاظ.
وهذا القول مع الأقوال السابقة التي ذكرت لـابن قتيبة ، و أبي الفضل الرازي و ابن الجزري تشكل أيضاً الطريق إلى القول الصحيح في المراد بالأحرف السبعة.
القول الحادي عشر: أن المراد بها سبعة أصناف، وذكر منها: (أمر) و (نهي) و (حلال) و (حرام) و (محكم) و (متشابه)، وهذا قول ضعيف جداً، وإن كان ورد فيه أثر، لكن ليس هو المراد بالأحرف السبعة، أنه أنزل القرآن على سبعة أبواب، وذكر هذه الأبواب، لكن هذه غير الأحرف السبعة.
القول الثاني عشر: قيل: (المراد بها المطلق والمقيد).
والقول الثالث عشر: قيل: (المراد بها الحذف والصلة والتقديم والتأخير) التي هي أوجه من أوجه البلاغة.
والقول الرابع عشر: (أنها أوجه من أوجه اللغة)، ثم قال: (التذكير والتأنيث والشرط والجزاء والتصريف والإعراب والأقسام وجوابها..) إلى آخره، هذه كلها داخلة في القضايا المرتبطة باللغة.
والقول الخامس عشر: قال: (المراد بها سبعة أنواع من المعاملات الزهد والقناعة مع اليقين والجزم..) إلخ، وهذا كله محكي عن المتصوفة، وكل هذه الأقوال الأربعة الأخيرة، ليست بالصواب، يعني من القول الثاني عشر إلى القول الخامس عشر ليس فيها شيء صواب، وهي خارجة عن محيط الأحرف السبعة، حتى لو ذكرت فهي أقوال للمتأخرين، وليست عمدة في هذا الباب.
ثم ذكر بعد ذلك ما نقله عن ابن النقيب في مقدمة تفسيره، وأطال في النقل عن ابن النقيب .
نظرة في الأقوال الواردة في تفسير السبعة أحرف
وإذا تأملنا هذه الأقوال المذكورة نجد أن كل واحد من أصحاب هذه الأقوال من العلماء سواءً كان فرداً أو مجموعة يعني: أرادوا أن يفسروا الأحرف ما هي، ولو نحن تأملنا الحديث: (أنزل القرآن على سبعة أحرف)، ولما حصل ما حصل من بعض الصحابة قال: (فاقرءوا كما علمتم) والصحابي يقول: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، والثاني يقول: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فنحن ممكن نستنبط من خلال مجموع هذه الآثار أن الأحرف أصلاً مرتبطة بالقراءة، بمعنى أنه أي تفسير للأحرف بغير القراءة فهو غير صحيح.
وتفسيرها بالخاص والعام والمطلق والمقيد، هذا غير صحيح إطلاقاً؛ لأن هذه الأشياء مرتبطة بالتفسير وليست مرتبطة بالأداء والقراءة.
كذلك قوله: ( أقرأني جبريل)، وقوله: (أنزل القرآن على سبعة أحرف )، هذا يشير إلى أن هذه منزلة، بمعنى: أنه ليس لأحد فيها أي تدخل، فمن زعم أو ظن أو توهم أنه يجوز للصحابة أن يقرءوا على لغتهم، ويقلبوا المعاني فيها؛ فهذا توهم غير صحيح؛ لأن الأصل في القراءة الاتباع، وليس لأحد فيه حتى الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما نزل عليه القرآن ليس له أن يزيد وينقص في القرآن، فلهذا من زعم هذا الزعم؛ فنقول: إنه قد أخطأ في هذا القول، وهو قول غير صواب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر قال: (أنزل القرآن)، وقال: (أقرأني جبريل)، فدل على أنه هو صلى الله عليه وسلم ليس له في الأحرف هذه أي تدخل.
أيضاً لما قال: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف)، السبعة هذه مقصودة، وهي العدد الذي بين الستة والثمانية بدلالة الاستزادة.
تبقى عندنا قضية: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف)، ما المراد بالحرف؟!
لو تأملنا القراءات الموجودة اليوم، وكذلك حاولنا أن ننظر أو نستشف الواقع الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم حال نزول هذه الأحرف، على سبيل المثال: ما حصل بين عمر بن الخطاب و هشام بن حكيم الذي كان يقرأ سورة الفرقان، فما الذي استشكله عمر حين سمع هشام أن يقرأ؟ لو حاولنا أن نتأمل ما هو الشيء الذي يمكن أن يقع الآن لرجل عالم، لكن ليس له أي خبر بالقراءات، وجاء إنسان وقرأ عليه قراءة خلف عن حمزة ، تكون مشكلة عنده أو غير مشكلة؟ مشكلة.
وإذا قرأ بوجه السكت على (ال) و (شيء) والمقصور، والموصول تقع فيها إشكالية أكبر.
إذاً المقصد من هذا: أنه لو تأملنا واقع القراءات التي بين يدينا اليوم وحاولنا أو اجتهدنا أننا نستشف الواقع الذي كان عند الصحابة، يعني: ما الذي إذا سمعه الصحابي يحس بأن هناك شيئاً تغير، هو هذه وجوه القراءة، فكأن الأحرف السبعة أو الحرف المراد به الوجه القرائي؛ فإذاً الأحرف هي وجوه القراءة.
ولما نأتي إلى وجوه القراءة ونرصد عدد وجوه القراءة، يعني: كم عدد وجوه القراءة في جميع هذه القراءات الموجودة عندنا؟ هل هي محصورة بسبعة أو أكثر من سبعة؟ تكون أكثر من سبعة، لكن كم يجتمع في الكلمة القرآنية الواحدة؟ أعلى ما يجتمع سبعة، يعني: أعلى ما يجتمع في الكلمة القرآنية الواحدة سبعة.
إذاً نقول: عدد الأوجه شيء، وعدد ما يجتمع في الحرف الواحد أو في الكلمة شيء آخر؛ فعلى كلامنا يكون معنى الحديث: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف) أن الكلمة القرآنية تقرأ بسبعة أوجه، ولا يلزم أن تبلغ كلمات كثيرة سبعة أوجه، لكن قطعاً قد يكون فيها وجهان أو ثلاثة أو أربعة، على حسب الاختلافات الواردة عند العرب.
فإذاً من قال: إنها لغات، ومن قال: إنها أنواع التغاير، يعني: هذه الأقوال الأربعة المذكورة، التي ذكرناها عن ابن قتيبة، وعن الرازي وعن ابن الجزري وعن أبي عبيدة ومن ذهب مذهبه أنها لغات هي في الحقيقة تخرج لنا بنظر آخر المراد بالأحرف السبعة، فالذي نقوله الآن ليس قولاً جديداً ليس له أصول؛ لا، إنما أصوله موجودة عند العلماء، لكنهم لم يبينوه بهذه الطريقة، وإذا فهمنا الأحرف على هذا الأسلوب؛ فإنه يسهل عندنا ما يتعلق بالأحرف السبعة ولا يكون فيها أي إشكال.
علاقة الأحرف بالقراءات
وهنا إشكال ذكره المؤلف حيث يقول: (وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبعة، وهو جهل قبيح) هذا كان ينقل عن المرسي .
ولا شك أنه يرد السؤال: ما علاقة القراءات بالأحرف؟
القراءات هي في حقيقتها صورة للأحرف، يعني: ليست شيئاً جديداً، يعني: القراءات هي نفسها، والاختلافات القرائية هي نفس الاختلافات في الأحرف، لكن ما الذي حصل؟ الرسول صلى الله عليه وسلم لما أقرأ الصحابة على وجه من الأوجه السبعة لفلان وفلان وفلان، هؤلاء أقرأوا من بعدهم.
ولكي نتصور الآن كيف سيقع الخلاف، لنفرض أن عندنا سبعة من قراء الصحابة كل واحد كأنه ذهب أو أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم حرفاً من هذه الأحرف، في هذه الأحرف السبعة، قد يتفق اثنان أو ثلاثة في كلمات، وقد يختلفون ويختلف معهم أربعة، وقد يتفق خمسة في كلمة ويختلف معهم اثنان، وقد يتفق ستة ويختلف معهم السابع، على حسب الوجوه القرائية الموجودة في الآيات التي نزلت.
لما يقرئ هؤلاء السبعة.. كل واحد يقرئ من التابعين عدد، ولو تصورنا أن واحداً من التابعين قرأ على ثلاثة من هؤلاء الصحابة، يعني: أخذ من هذا ومن هذا ومن هذا، ثم خلط الأوجه القرائية، يعني: أخذ من هذا ومن هذا، فسيتكون عنده اختيار، ولما تكون عنده اختيار درس طلابه هذا الاختيار الذي اختاره، وهذا الاختيار الذي اختاره نابع عن وجوه القراءة الوجوه الأولى، لكن ليست هي صورة الوجوه الأولى، لكن الوجوه الأولى موجودة في هذا الاختيار، ولو تصورنا أن غيره اختار، وغيره اختار وغيره اختار.. خمسة اختاروا، كل الأوجه القرائية الموجودة في الأحرف موجودة، لكن صار فيها خلط واختيار؛ فهذه علاقة الأحرف بالقراءات.
لكن كثير من الناس يتوقع أن الأحرف شيء والقراءات شيء آخر، ما بينهم أي اتصال، ما هو صحيح، والذي أميل إليه أن الأحرف هي أصل القراءات وأن القراءات إنما هي انعكاس من انعكاسات الاختلاف الموجودة في الأحرف، بحيث أنه لم يترك وجهاً من أوجه القرائية الموجودة في الأحرف السبعة مما بقي إلا وقرئ به، سواءً قرأ به واحد أو قرأ به أكثر، ولم يترك منها شيئاً؛ لأن من زعم أنه ترك منها شيئاً فهذا يقع في إشكال.
وقوع الحذف في أوجه القراءات
وهنا قضية أخرى مهمة، وهي: أن هذه الاختلافات في الأوجه لو رجعنا إليها، هل هناك حذف في آية؟ يعني: نقول: آية محذوفة من خلال الأوجه هذه؟
يعني قوله: تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ[التوبة:100]، وقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[البقرة:25]، فمثل هذا المثال الذي فيه الحذف نجده ثابتاً في قراءة، وغير ثابت في القراءة الأخرى، لكنه في النهاية حفظ. لكن عندنا حذف غير مقبول مع صحة سنده، قال: (والذكر والأنثى) وقال: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[الليل:3]، في القراءة الثابتة عندنا: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[الليل:3]، والقراءة الصحيحة غير المقبولة التي هي: (والذكر والأنثى) فإذاً كيف نتعامل مع هذا الحذف الثاني؟ لماذا قبلنا في: تَجْرِي تَحْتَهَا[التوبة:100]، وتَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا[البقرة:25]، وما قبلنا (في الذكر والأنثى)، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[الليل:3]؟
نقول: إنه وقع في بعض الأحرف نسخ. والذي ينسخ هو الله سبحانه وتعالى، إذاً حق النسخ هو لله سبحانه وتعالى. لكن هل يجوز لأحد من الأمة أن يتصرف في الأحرف النازلة ويترك شيئاً منها؟
لا يجوز؛ ولهذا من توهم من العلماء وهم كبار مثل ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، من توهم أن عثمان رضي الله عنه ترك ستة أحرف فإنا نقول: إنه قد وقع في الوهم، وقد ذهب إلى هذا المذهب سفيان بن عيينة .
فالمقصد من هذا: إن من ذهب هذا المذهب أنه قد وقع في الوهم؛ لأنه قال: ( أنزل القرآن )، وكذلك قال: ( أقرأني جبريل )، فهذا ليس من حق النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن يكون حق من جاء بعده.
فإذاً لا ينتبه طالب العلم إلى أن ما ذكره بعض العلماء من أن عثمان ترك ستة أحرف أنه وقع في وهم.
مذهب ابن جرير في وجوه الاختلاف في القراءة
لكن هنا مسألة لطيفة متعلقة بمذهب ابن جرير الطبري : ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى قوله متناسق مع القول بالترك، لماذا؟ لأن ابن جرير الطبري في قوله لا يجعل وجوه الاختلاف في القراءة هي الأحرف، هو يجعل الأحرف هي الكلمات المترادفة فقط، بمعنى: على سبيل المثال: قوله سبحانه وتعالى: وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ[يوسف:23]، لو تصورنا أنه في قراءة ثانية قال: (وقالت أقبل)، بدل (هيت لك) هل تتغير أوجه القراءة لما نقول: (هيت لك) أو (أقبل)؟
ما تتغير، يعني: أوجه القراءة الأخرى ما تتغير، إنما يتغير فقط هذه المترادفات.
فمذهب ابن جرير رحمه الله تعالى ماش على هذا النسق، لكي يفهم المذهب الذي ذهب إليه، وإن كان المذهب ضعيفاً؛ لأن بعض المتأخرين الذين أخذوا قوله بنوا عليه معنًى آخر ولم ينتبهوا إلى هذا؛ فوقع عندهم إشكال، لأنه إذا كان عثمان ترك ستة أحرف فوجوه القراءة المختلفة هذه ما علاقتها بالأحرف؟ كيف خرجت؟ وإذا تصورنا ستة أحرف.. على سبيل المثال: لنقل: إن عثمان أبقى الحرف رقم واحد، وهذا الحرف رقم واحد فيه هذه الاختلافات الموجودة، كذلك الحرف رقم اثنين، ما هي الاختلافات التي ستكون موجودة فيه؟ هل هناك اختلافات أو ما هناك اختلافات؟ فإن كان هناك اختلافات؛ فما هي؟ لم لم تثبت؟! إذا ما كان هناك اختلافات، قال: لا، والله ما هناك اختلافات، إذاً هذه الاختلافات التي في هذا الحرف هل تنتقل مع الحرف الثاني؟ طبعاً رأي ابن جرير تنتقل، لكن بعض المتأخرين ما أدرك هذا السر الذي ذهب إليه ابن جرير وأنها تنتقل؛ فيقع السؤال عنده بهذا: كيف هذه الأوجه من الاختلافات ما علاقتها بالأحرف السبعة! ويقع الإشكال من هذه الجهة.
المقصد من ذلك: أننا ننتبه إلى ما ذهب إليه ابن جرير .
الوهم الذي وقع فيه ابن جرير رحمه الله تعالى: أنه لما نظر لما فعله عثمان رضي الله عنه، وهذا مرتبط بجمع المصحف، أن عثمان رضي الله عنه أراد أن يجمع الأمة، ثم إذا بنا نجد أن الذي أراد أن يجمع الأمة أوجد قراءات متنوعة ما زالت موجودة، يعني: الذي يخاف منه ما زال موجوداً، حذيفة قال: (أدرك الأمة قبل أن يهلكوا؛ فإني رأيت بعضهم يكفر بعضاً) يقول: قراءتي أفضل من قراءتك، وهذا يقول: هذا حرف ابن مسعود ، وذاك يقول: هذا حرف زيد ، والثاني يقول: هذا حرف أبي الدرداء .. وهكذا، يعني: الذين هم الصحابة الذين علموهم، فـعثمان جمع المصحف، أو نسخ المصاحف وما زالت الاختلافات موجودة.
فلما رأى ذلك ذهب ابن جرير إلى هذا المذهب: أن عثمان والصحابة كانوا مخيرين في الأحرف السبعة، وقاس ذلك على التخيير في مثل الظهار وغيره.
ومذهب ابن جرير أنه أخذ برخصة الفطر في السفر والعزيمة على الصيام، فذكر أن الأمة قد رخص لها هذا وذاك، يعني: هو أخذ ببعض الآثار الواردة في بعض الرخص.
وقد رد عليه الذي هو الشيخ عبد العزيز القاري في كتابه (حديث الأحرف السبعة)، وهو أفضل ما كتب في هذا الباب، فقد ذكر في قضية: أن عثمان كان أثبت في مصحفه حرفاً، وألغى الستة الباقية.
قال هنا: [فإن قلنا تنزلاً مع ابن جرير : إن الأمة كانت مخيرة في الأخذ بهذه الأحرف أو تركها وأنها لم تكن ملزمة بالقراءة بجميعها؛ لأنها كانت رخصة رخص الله بها، فإننا نقول: إن التخيير كان في القراءة في واحدة من تلك الأحرف حسب ما يتيسر للقارئ ويسهل عليه، ولم يكن التخيير في نقل الأحرف، بل كانت الأمة ملزمة بنقلها جميعاً؛ لأن كل حرف منها بمنزلة الآية، ولم يكن عثمان أو الصحابة جميعاً مفوضين في إلغاء شيء منها، وهناك فرق واضح بين أن يكون المكلف مخيراً بين الأخذ برخصة الفطر في السفر والعزيمة على الصيام، وبين أن يلغي هذه الرخصة فيحرم على نفسه وعلى الأمة الفطر، ويحمل الناس على الصيام] والمعنى أنه الآن القول بهذا يلزم منه هذا الإلزام.
ثم ذكر قضايا أخرى مرتبطة في الرد على هذا المذهب الذي ذهب إليه ابن جرير رحمه الله تعالى ومن تبعه من العلماء.
ومن الأشياء التي جعلت بعض من يذهب هذا المذهب هي قول عثمان للكتبة: (فإذا اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه بلسانها نزل) وهذا فهم منه بعض الذين قرأوه به أنه حرف قريش، وأنه وحد القراءة، نقول: لا، هو وحد الرسم، وأراد النظر إلى الرسم، وليس النظر إلى القراءة، يعني: أن هذا المقطع من حديث جمع عثمان للمصحف أنه لما قال هذه العبارة أراد الرسم ولم يرد القراءة، بدلالة أنهم ذكروا (التابوت) كذا، و زيد قال: (التابوة) فكتبوها بــ(التابوت) على لسان قريش، يعني: كيف تنطقها قريش فكتبوها.
وقد يقول قائل: فلم لم تقرأ (التابوة) و زيد أراد أن ثبتها؟ نقول: حتى لو أثبتها زيد (التابوة) بالتاء المربوطة فإنها تقرأ بالتاء المفتوحة لماذا؟ لأن الرسم تابع وفرع عن القراءة، وليست القراءة تابعة للرسم، وهذه قاعدة مهمة يجب أن ننتبه لها! أنه في قراءة القرآن نحن لا نقرأ من المرسوم؛ لأن المرسوم ليس هو الأصل، الأصل هو القراءة، وهذه لو فهمت فإنها تلغي إشكالات كثيرة جداً؛ لأنه الأصل القراءة، والرسم تابع للقراءة وفرع عنها، ولا نأخذ نحن قراءتنا من المرسوم، وهذا الذي أوقع المستشرقين وغيرهم من الملحدين الذين يتكلمون في نص القرآني، حيث أنهم انطلقوا من المرسوم إلى المقروء، وهذا خطأ، في المصحف عندنا؛ لا، الانطلاق من المقروء إلى المرسوم.
ولذلك المرسوم قد يكون أحياناً مطابقاً للمنطوق، وقد يكون غير مطابق للمنطوق، إما بزيادة وإما بنقصان، وهذا ليس في لغة العرب فقط، بل هو في جميع مرسومات العالم كلها، أنه يكون في زيادات أو نقص، على سبيل المثال لو تعلمت الـ(A.B.C) الإنجليزية، ثم أتقنت القراءة بالإنجليزية وبدأت أقرأ بناءً على المرسومات في بعض المواطن يقع خطأ أو ما يقع خطأ؟
يقع؛ لأنه أحياناً ثلاثة أحرف تشكل كلمة واحدة، وعندهم بعض الأحرف تكتب ولا تنطق، فإذاً المقصد من هذا: إنه يجب أن ننتبه إلى هذه الحيثية، فإنا لا ننطلق من المرسوم.
إذاً عثمان رضي الله عنه إنما أراد فقط أن يضبط هذا المرسوم لما قال: اكتبوه واجعلوه على لسان قريش، كذلك لما كتبوا (المؤمنون) نعرف أنها همزة، وقالوا: إن قريش لا تهمز، هل كتبوها بالهمز أو بغير الهمزة؟
عصر الصحابة الهمز ليس موجوداً عندهم، يعني: الهمزة هذه حادثة، مثل النقط. بمعنى: أن مرسوم الصحابة في عهدهم لم يكون الهمز معروفاً، فلما يكتبون (المؤمنون) يكتبونها (المومنون)، هنا الآن ما نقول: إنهم كتبوها بلغة قريش؛ لأنه أصلاً هكذا ترسم عند الذي يهمز وعند الذي لا يهمز.
ولو درس هذا المقطع من هذا الأثر في المصحف من دون نقد ولا شكل، وحاول يتتبع ما الذي جاء في القرآن بغير لغة قريش؛ لأنه الأصل لغة قريش؛ قد يخرج ماذا ببعض الكلمات التي كتبت بلغة غير لغة قريش.
والموضوع طويل، لكن المقصود من هذا: أن الأحرف السبعة نسخ بعضها؛ ولهذا لا نجد في القراءات المشهورة العشر، ليس هناك كلمة قرآنية قرئت أكثر من خمسة أوجه، أما لو دخلنا في الشاذة فقد تتعدى سبعة أوجه؛ مما يدل على أن بعض هذه الوجوه يكون فيها نظر، لكن المقصد من ذلك: أنها لا تتعدى أو لم يتعد شيء من القراءات المشهورة المقبولة خمسة أوجه.
فإذاً نقول: الذي بقي عندنا هو ما لم ينسخ أو ما لم يترك في العرضة الأخيرة من القراءات الصحيحة، وما عداه مما صح ولكن لم يقرأ به نقول: هذا من الأحرف لكنه مما ترك، من الذي تركه؟ نقول: من هو؟ الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من جبريل عن رب العالمين، بمعنى: إن النص القرآني ليس للرسول صلى الله عليه وسلم فضلاً عمن جاء بعده أي تدخل في الزيادة أو النقص؛ لأنه نزل به جبريل عليه السلام كما سمعه فهو مؤد له، والرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً مؤد للقرآن من غير زيادة ولا نقص.
لعلنا نقف عند هذا الحد، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
ثم ذكر السيوطي اختلاف الأقوال، وتوسع في ذكر اختلاف الأقوال في المراد بالأحرف السبعة:
أول قول ذكره: (أنه من المشكل الذي لا يدرى معناه؛ لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة، قاله ابن سعدان النحوي )، وهذا القول إنما يقبل إذا كان المراد به المشكل النسبي، يعني: مشكل على صاحبه؛ فيمكن، لكن ليس مشكلاً كلياً، إنما يصح هذا القول على أن يقال: إنه مشكل نسبي، أي: بالنسبة لصاحب هذا القول، يكون مشكلاً عندهم، أما أن يحكم بالإشكال على الأحرف السبعة على غيره فهذا لا يصح؛ لأنه أحياناً بعض العلماء يقولون: هذه آية مشكلة، وهذه الله أعلم بمرادها، وهذا يكون أمراً نسبياً، يعني: بالنسبة لمن تعرض لتفسيرها، أو تعرض لمعناها كما عندنا في الأحرف السبعة.
والقول الثاني: (أن العدد ليس مراداً، وأن السبعة جاء على أسلوب العرب في ذكر السبعة ومرادفاتها، على أنها للتضعيف) وهذا القول أيضاً يرده أن الرسول صلى الله عليه وسلم راجع جبريل عليه السلام متدرجاً، فقال: (أنزل القرآن على حرف)، فاستزاده حتى وصل إلى حد السبعة، ولو كان المراد التكثير، لما كان لهذه الزيادة أي معنى، يعني: لو كان جاء الأمر على سبعة أحرف مباشرة ولم يرد أي دليل يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الزيادة من الحرف الواحد إلى سبعة أحرف لكان لما قالوه وجه، لكن مع وجود طلب الزيادة هذا مرة بعد مرة، فدل على أن المراد بالسبعة هو العدد الذي بين الستة وبين الثمانية، وليس ما ذهب إليه هؤلاء من أن المراد به التكثير.
والقول الثالث قال: (أن المراد بها سبع قراءات، وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل مثل: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ[المائدة:60] و فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[الإسراء:23]).
وهذا مجمل، يعني: من قال بأنها قراءات، ما مراده بالقراءات؟ هذا الأمر مجمل، فهل مراده بالفعل قراءات على هذا الأسلوب أو غيره، فنبقى على أنه ليس المراد بها كما سيأتي القراءات السبع، لكن على السبع القراءات خبر مجمل؛ لأنه قد يصح من وجه كما سيأتي إن شاء الله في تحرير المراد بها.
والرابع قال: (وأجيب بأن المراد أن كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، ويشكل على هذا أن في الكلمات ما قرئ على أكثر، وهذا يصلح أن يكون قولاً رابعاً) كأنه يقوله: هناك كلمات قرئت أكثر، لكن لو نظرنا إلى القراءات المشهورة المقبولة فإنا لا نجد أنها قرئت بأكثر من سبع قراءات، وإنما أدخل معها الشاذ، فلو أدخلنا الشاذ فنعم، وجدت كلمات قرئت بأكثر من سبع قراءات.
القول الخامس: (أن المراد بها الأوجه التي يقع فيها التغاير) وهذا ذكره ابن قتيبة .
وأوجه التغاير استنبطها ابن قتيبة من خلال تأمله في القراءات، قال: (فأولها ما يتغير حركته ولا يزول معناه وصورته، مثل: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ[البقرة:282] قرئت: يضارَّ، و"لا يضارُ") بالفتح والضم.
(وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل: (بَاعَدَ) و (بِاعِدْ).
وثالثها: ما يتغير بالنقط مثل: (ننشزها) و (ننشرها).
ورابعها: ما يتغير بالإبدال مثل: (طلح منضود) و (طلع).
وخامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ[ق:19] و(جاءت سكرة الحق بالموت).
ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[الليل:3] و(الذكر والأنثى).
وما يتغير بإبدال كلمة بكلمة مثل: كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ[القارعة:5]، (كالصوف المنفوش).
قال: (وتعقب هذا قاسم بن ثابت بأن الرخصة وقعت، وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم) لأنه كما تلاحظون أن بعضها مرتبط بالرسم، وبعضها مرتبط بموضوع حدث بعد الصحابة وهو النقط، الذي في (ننشزها) و (ننشرها).
قال: (وأجيب بأنه لا يلزم من ذلك توهين ما قاله ابن قتيبة لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقاً، وإنما اطلع عليه بالاستقراء).
نقول هنا: ما ذكره ابن قتيبة هو في الحقيقة هو أحد الصور الصحيحة للوصول إلى الأحرف السبعة، لكن ليس قوله برمته هو الصحيح في الأحرف السبعة، ويقرب منه قول أبي الفضل الرازي الذي عده السادس.
وأيضاً حاول أن يجمع سبعة أوجه من أوجه الاختلاف، فذكر أولاً اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، والثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر، الثالث: وجوه الإعراب، الرابع: النقص والزيادة، والخامس: التقديم والتأخير، والسادس: الإبدال، والسابع: اختلاف اللغات كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإدغام.. إلخ. وهذا نفس المنطلق الذي انطلق منه ابن قتيبة .
والسابع قال: (أن المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق..) إلخ.
والثامن: قول ابن الجزري وهو من نفس المشكاة التي أخرج منها ابن قتيبة و أبو الفضل الرازي نفس الطريقة، وذكر أيضاً سبعة أوجه من أوجه الاختلاف، على سبيل المثال قال: (إما في الحركات بلا تغير في المعنى مثل "بالبخل" بأربعة ويحسن بوجهين أو متغير المعنى مثل: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ[البقرة:37]، وقراءة أخرى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو (تبلو) و (تتلو)..) إلى آخر الأمثلة التي ذكرها من الأوجه السبعة التي استنبطها واستقرأها، وجعل هذا القول الثامن.
القول التاسع: (المعاني بالألفاظ المختلفة مثل: أقبل وتعال وهلم..) الذي يسمى في علم اللغة المترادف. وهذا القول نسب إلى ابن جرير .
القول العاشر: (أن المراد سبع لغات)، وهذا مذهب مشهور، وذهب إليه جماعة منهم من ذكر أبو عبيد و ثعلب و الأزهري وآخرون، قال: واختاره ابن عطية وصححه البيهقي في الشعب، قال: (وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها..) ثم ذكر ما روي عن ابن عباس من طريق أبي صالح بأنه: (نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن) ولكن هذا الأثر أصلاً ضعيف، وكما قيل في لغات العرب أنها أكثر من السبع، وبعضهم قال: إن هذه أكثر حظاً بنزول القرآن، لكن الصحيح أن عموم لغات العرب - خصوصاً المقبولة منها - نزل بها القرآن سواء من جهة اللهجة أو من جهات الألفاظ.
وهذا القول مع الأقوال السابقة التي ذكرت لـابن قتيبة ، و أبي الفضل الرازي و ابن الجزري تشكل أيضاً الطريق إلى القول الصحيح في المراد بالأحرف السبعة.
القول الحادي عشر: أن المراد بها سبعة أصناف، وذكر منها: (أمر) و (نهي) و (حلال) و (حرام) و (محكم) و (متشابه)، وهذا قول ضعيف جداً، وإن كان ورد فيه أثر، لكن ليس هو المراد بالأحرف السبعة، أنه أنزل القرآن على سبعة أبواب، وذكر هذه الأبواب، لكن هذه غير الأحرف السبعة.
القول الثاني عشر: قيل: (المراد بها المطلق والمقيد).
والقول الثالث عشر: قيل: (المراد بها الحذف والصلة والتقديم والتأخير) التي هي أوجه من أوجه البلاغة.
والقول الرابع عشر: (أنها أوجه من أوجه اللغة)، ثم قال: (التذكير والتأنيث والشرط والجزاء والتصريف والإعراب والأقسام وجوابها..) إلى آخره، هذه كلها داخلة في القضايا المرتبطة باللغة.
والقول الخامس عشر: قال: (المراد بها سبعة أنواع من المعاملات الزهد والقناعة مع اليقين والجزم..) إلخ، وهذا كله محكي عن المتصوفة، وكل هذه الأقوال الأربعة الأخيرة، ليست بالصواب، يعني من القول الثاني عشر إلى القول الخامس عشر ليس فيها شيء صواب، وهي خارجة عن محيط الأحرف السبعة، حتى لو ذكرت فهي أقوال للمتأخرين، وليست عمدة في هذا الباب.
ثم ذكر بعد ذلك ما نقله عن ابن النقيب في مقدمة تفسيره، وأطال في النقل عن ابن النقيب .
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
عرض كتاب الإتقان (45) - النوع الخامس والأربعون في عامه وخاصه | 3938 استماع |
عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1] | 3816 استماع |
عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه | 3597 استماع |
عرض كتاب الإتقان (79) - النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه | 3588 استماع |
عرض كتاب الإتقان (69) - النوع السابع والستون في أقسام القرآن | 3545 استماع |
عرض كتاب الإتقان (49) - النوع التاسع والأربعون في مطلقه ومقيده | 3540 استماع |
عرض كتاب الإتقان (74) - النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله | 3482 استماع |
عرض كتاب الإتقان (34) - النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه [1] | 3480 استماع |
عرض كتاب الإتقان (7) - النوع الرابع - النوع الخامس - النوع السادس | 3444 استماع |
عرض كتاب الإتقان (53) - النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته | 3422 استماع |