عرض كتاب الإتقان (3) - النوع الأول في معرفة المكي والمدني [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد:

فهذا الفصل المتعلق بتحرير السور المختلف فيها، وقد عقده السيوطي للسور التي وقع فيها اختلاف من جهة نسبها إلى المكي أو المدني، وقد حرر الدكتور عبد الرزاق حسين أحمد إلى نهاية سورة الإسراء ما وقع في هذه السور من كلام، سواءً في السور أو في الآيات، ثم أكمل بعده آخر لكن الكتاب أو الجزء الآخر لم يطبع بعد.

سورة الفاتحة

أول سورة عندنا سورة الفاتحة، وقد ذكر أن الأكثرين على أنها مكية، ثم أشار إلى أنه ورد أنها أول ما نزل، كما سيأتي في النوع الثامن، وهو إنما ذكره في النوع السابع.

وهل الفاتحة مدنية؟ هذا هو القول الثاني. وبعضهم ذكر أن بعضها مدني وبعضها مكي، وكأن ذلك تخريج وإن كان مذكوراً عن بعض السلف، والذي اشتهر عنه القول بأنها مدنية: مجاهد . وقد رد عليه حسين بن الفضل فقال: هذه هفوة من مجاهد ؛ لأن العلماء على خلاف قوله. ولا شك أن التحرير أنها مكية بدلالة قوله سبحانه وتعالى في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، وهذا من باب عطف الصفات، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري فسر السبع المثاني والقرآن العظيم بأنها الفاتحة. وإذا ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم فما نحتاج بعد هذا إلى تخريجات أو غيرها.

وبعضهم قال: إن السورة نزلت مرتين، نزلت مرة بمكة ومرة بالمدينة. وهذا ليس عليه دليل؛ لأن الأصل النزول الأولي، لأول مرة، والكلام حتى فيما لو نزلت مرة أخرى إنما هو على النزول الأولي، فالحكم للنزول الأول فيما لو ثبت مع أنه لم يثبت نزول سورة مرتين أو آية مرتين.

ثم قال: [وبأنه لا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، ولم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة. ذكره ابن عطية وغيره] وهذا مما يستأنس به؛ لأنه يلزم لما فرضت الصلاة أن يكون قد عرف ترتيب الفاتحة فيها، وأنها قد صارت من شروط الصلاة، مع أن ذلك في بداية الصلاة لا يلزم لزوماً مطلقاً؛ لأنه قد يحتج محتج بأن النص لم يرد في بداية الصلاة بالذي يكون فيها، لكنه لاشك مما يستأنس به أيضاً.

ولو استدل مستدل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) فهل يصلح هذا أن يقال: إنه يدل على أن السورة مكية بدلالة هذا الخبر؟

أجاب القرطبي هنا ونبه على قاعدة جميلة، فقال: هذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء. وهذا الحكم قد يكون فرض مع الصلاة مباشرة، وقد يكون فرض بعد الصلاة بفترة، فقد يكون هذا وقد يكون هذا؛ لأنه مما يعلم أنه ليس كل ما في الصلاة قد فرض مرة واحدة؛ ولذلك كانوا إلى وقت المدينة وهم يتحدثون في الصلاة، ثم رفع هذا الأمر وأمروا بعدم الكلام.

فإذاً المقصد من هذا: أن ربط الفاتحة بفرض الصلاة وبأن الصلاة مكية والفاتحة تكون مكية فهذا مما يستأنس به، وليس حجة مطلقة، لكن الحجة المطلقة في تفسير قوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، لأن سورة الحجر مكية باتفاق. فإذا كان الله يمتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بالسبع المثاني والقرآن العظيم الذي فيه الفاتحة فقطعاً تكون مما قد نزل بمكة.

وهناك آثار تدخل في باب الغيبيات، وموضوع الغيبيات من الموضوعات التي تحتاج إلى تحرير، فعندنا -مثلاً- أثر عن علي رضي الله عنه أورده الواحدي و الثعلبي قال: (نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش)، وكونها نزلت بمكة ليس فيه إشكال؛ لأن هذا هو القول الصحيح، ولكن كونها نزلت من كنز تحت العرش فهذا خبر غيبي عن علي رضي الله عنه. ولا شك أن الأصل في أخبار الصحابة الغيبية القبول، ما دام أنه لا يستطاع أن يتوصل إلى هذا الخبر بطريق العقل، فيحكم عليه بالقبول. هذا هو الأصل؛ لأن الظن الأكبر أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتصور أن الصحابي يسمع من الإسرائيليات ويرويها على أنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً ينتبه إلى أنه حينما يرتبط الموضوع بأمور مرتبطة بالإسلام فإنه لا يتصور أيضاً دخول الإسرائيليات فيها، فكون الفاتحة نزلت من كنز تحت العرش لا يتصور دخول الإسرائيليات في هذا الخبر؛ لأن أمر الفاتحة أمر إسلامي بحت، ما له علاقة بالإسرائيليات، فمثل هذا الخبر إذا صح عن علي رضي الله عنه فإنه يحكم بقبوله.

وأيضاً سيأتينا خبر عن مجاهد عن أبي هريرة أن إبليس رن حين أنزلت فاتحة الكتاب، ثم قال: وأنزلت في المدينة.

قال: [ويحتمل أن الجملة الأخيرة مدرجة من قول مجاهد ]، لكن كون إبليس رن حين أنزلت فاتحة الكتاب أيضاً هذا من الأخبار الغيبية التي تحمل على هذا.

وأما قول من قال: إن الفاتحة أول ما نزل فيحتمل أن يكون أراد: أول ما نزل من السور كاملاً، لا أنها أول ما نزل مطلقاً؛ لأن أول ما نزل مطلقاً هو الخمس الآيات الأولى من سورة العلق، أما لو قلنا: إنها أول ما نزل من جهة أنها سورة كاملة فهذا محتمل، وإن كان النص يعوز هذه القضية.

سورة النساء

سورة النساء يقول: [زعم النحاس أنها مكية]. فهل يتصور أن تكون سورة النساء مكية؟ لا يتصور ذلك.

وما ذكره النحاس في معانيه أنها مكية دون الاستدلال الذي ذكره السيوطي ؛ لأنه استدل هنا قال: [مستنداً إلى أن قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء:58] الآية نزلت بمكة اتفاقاً في شأن مفتاح الكعبة، وذلك مستند واه؛ لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية]، ثم قال: [خصوصاً أن الأرجح] يعني أنه رجع إلى قضية المكي والمدني في تحرير المراد بالمكي والمدني.

والدكتور حسين ذكر في كتابه المكي والمدني: أن النحاس رجع عن هذا القول.

ونلاحظ هنا أن السيوطي قال: [إن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني].

مع أنه في السابق ما كان يذكر الأرجح، وإنما ذكر مصطلحات أشهرها: أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة. وأما هنا فنص على ترجيح هذا المصطلح أن ما نزل قبل الهجرة مكي وما نزل بعد الهجرة مدني. ولاشك أن هذا القول الذي ذكره النحاس في أن سورة النساء مكية ضعيف، ولكن قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] لاشك أن هذه نزلت في جوف الكعبة، فهي مكية من جهة المكان ومدنية من جهة اعتبار الزمان.

سورة يونس

سورة يونس واضح جداً من السورة أنها مكية، وذكر عن ابن عباس روايتين، قال: [ وعن ابن عباس روايتان، فتقدم في الآثار السابقة عنها أنها مكية. وأخرجه ابن مردويه .. ] إلى آخره، على أنها مدنية.

قال: [ وأخرج من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس أنها مدنية ]، ثم قال: [ ويؤيد المشهور ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس : لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت العرب ..] إلى آخره. فهذا يدل على أنه يوجد خلاف عن ابن عباس هل هي مدنية أو مكية؟

وهذا مشكل في الروايات، والرواية هذه لاشك أن فيها ضعف، وقد ذكر هذا الدكتور حسين أحمد ، فهل نحتاج نحن في مثل هذه الروايات إلى النظر في الآثار أو لا؟ فلم يرد قولان متغايران سواء عن صحابي أو تابعي، وكلهم متفقون على أنها مكية وتأتي رواية منفردة عن ابن عباس مع أن ابن عباس يقول بأنها مكية أيضاً ففيها إشارة إلى شذوذ هذه الرواية، وإنما الصحيح أنها مكية.

لعلنا نقف عند هذا، ونأتي إن شاء الله عليه في الدرس القادم.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.