شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 13-14


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

عندنا اليوم حديثان، أحدهما: حديث أبي قتادة في سؤر الهر، والثاني: حديث أنس في قصة الأعرابي.

الحديث الأول: عن أبي قتادة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم ) أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة. ‏

كلام أهل العلم في الحديث

هذا الحديث أخرجه أيضاً غير الأربعة ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيره، وصححه جمع من الأئمة، فممن صحح الحديث -أولاً- الترمذي، وهذا التصحيح نقله المصنف رحمه الله حيث قال: وصححه الترمذي .

فـالترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد جوده مالك، ولم يأت به أحد أتم منه، وهو أحسن شيء في الباب. هذه كلمة الإمام الترمذي .

وصححه أيضاً ابن خزيمة كما ذكر المصنف، وصححه ابن حبان، وصححه الحاكم، وصححه البخاري والعقيلي، والذهبي .

فهؤلاء الأئمة حكموا على هذا الحديث بأنه حديث صحيح.

وأعله آخرون من العلماء، فممن أعل الحديث: ابن مندة رحمه الله، أعل الحديث بعلتين:

الأولى: أن في إسناده حميدة بنت عبيد بن رفاعة، وهي مجهولة كما يقول ابن مندة، حميدة بنت عبيد بن رفاعة .

العلة الثانية: أن في إسناده كبشة بنت كعب بن مالك وهي أيضاً مجهولة كما يقول ابن مندة، وذلك أن إسناد الحديث: أن حميدة روت عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت كبشة هذه زوجة لـابن أبي قتادة -كانت تحت ابن أبي قتادة - كما سيرد في سبب الحديث، فأعل ابن مندة الحديث بعلتين:

أولاهما: جهالة حميدة بنت عبيد، والثانية: جهالة كبشة بنت كعب بن مالك .

وقد أجاب العلماء عن هاتين العلتين: بأن حميدة وهي المذكورة في العلة الأولى .. حميدة بنت عبيد أنها روت أحاديث غير هذا الحديث، لم تنفرد بهذا الحديث، وروى عنها ثقتان فارتفعت جهالتها.

و هذه قاعدة: أن الراوي المجهول العين إذا روى عنه راويان ثقتان ارتفعت جهالة عينه .

ولذلك قال الحافظ ابن حجر عن حميدة هذه: مقبولة، وما معنى مقبولة؟ يعني: يقبل حديثها؟ كذا؟ ما رأيكم؟ مقبولة؟ أظن مر معنا مثال آخر غير هذا.

المقبول -كما صرح في المقدمة- أي: حيث يتابع، قال: مقبول حيث يتابع، وإلا فلين الحديث.

فـ المقبول درجة من درجات التضعيف، وليست من درجات التوثيق، فإذا قيل في راو: مقبول، فهذا يعني أنه ضعيف، لكن ضعفه قابل للانجبار، فإذا جاء الحديث نفسه من طريق راو آخر قبل الحديث.

هذا اصطلاح للحافظ ابن حجر في كتابه: تقريب التهذيب .

إذاً: تدفع العلة الأولى بعض الدفع لا كله، بأن يقال: إن حميدة روت أحاديث، وروى عنها ثقتان فارتفعت جهالتها، فبقيت مقبولة الحديث، لكنها تحتاج إلى من يتابعها في هذه الرواية.

أما العلة الثانية وهي: جهالة كبشة بنت كعب بن مالك، فهي تدفع بأن يقال: إن كبشة هذه ذكرها بعض المصنفين في الصحابة، كـابن حبان، ومن المعلوم أن جهالة عين الصحابي لا تضر، مع أنها معروفة على هذا.

فيندفع ما ذكر عنها من الجهالة، والحديث له طريق آخر غير هذا الطريق، ذكره الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار .

شواهد الحديث

وله شواهد أيضاً، من هذه الشواهد: حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصغي إلى الهرة الإناء لتشرب، وقال: إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين ).

والحديث رواه الطحاوي والدارقطني والحاكم وابن خزيمة وصححاه، وغيرهم.

فهذا شاهد للحديث الأول حديث أبي قتادة، الشاهد هذا عن عائشة رضي الله عنها.

الشاهد الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا أنس

! إن الهرة من متاع البيت، وإنها لا تقذر شيئاً ولا تنجسه )، والحديث رواه الطبراني في معجمه الصغير .

الشاهد الثالث: حديث جابر بنحوه، وقد أخرجه ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ .

فهذه ثلاثة شواهد للحديث الأصل، مع أن له طريقاً آخر عند الطحاوي كما سبق، وبذلك يتبين أن الصواب مع من ضعف الحديث كـابن مندة أو مع من صححه كالأئمة الذين سبقوا؟ الراجح تصحيح الحديث؛ لأن ضعف الطريق التي أخرجها الأربعة منجبر، وقد توبع عند الطحاوي، وله شواهد ثلاثة أو أربعة كما سبق، فالحديث بهذا صحيح، هذا فيما يتعلق بالكلام على إسناد الحديث وطرقه وشواهده.

سبب الحديث

أما سبب الحديث فقد ذكر المخرجون سببه، وهو: أن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت ابن أبي قتادة، فدخل عليها أبو قتادة فسكبت له ماء ليتوضأ منه، فجاءت الهرة فأصغى لها الإناء فشربت منه، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قلت: نعم. قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم ).

زاد الترمذي وأحمد وابن حبان وغيرهم : ( والطوافات )، ( إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات )، فهذا سبب سياق أبي قتادة رضي الله عنه للحديث.

حكم سؤر الهر

أما المسائل الفقهية في الحديث فهي: حكم سؤر الهر.

ما حكم الماء القليل أو الكثير إذا ولغ فيه الهر أو شرب منه، هل ينجس بذلك أم لا ينجس؟

ذهب جمهور أهل العلم بما فيهم الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية إلى أن سؤر الهر طاهر، يتوضأ به ويغتسل به، واستدلوا بأدلة، منها: حديث أبي قتادة وهو حديث الباب.

وحديث عائشة.

وحديث جابر .

وحديث أنس بن مالك على طهارة سؤر الهر.

أما القول الثاني فهو قول لـأبي حنيفة قال: إن سؤر الهر نجس، ولكن خفف فيه لعموم البلوى به فكره كراهة .. خفف فيه فكره كراهة، واستدل أبو حنيفة على هذا القول بأدلة، منها:

أولاً: ما رواه الطحاوي والدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يغسل الإناء من ولوغ الهر مرة أو مرتين )، فقال: هذا دليل على أن الإناء ينجس بولوغ الهر، ولكنه خفف فيه فكره؛ لكثرة ملابسته للناس، ووجوده في البيوت، وولوغه في الأواني، فهذا دليل له.

واستدل أيضاً بما رواه أحمد والدارقطني والحاكم وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السنور سبع )، والسنور هو الهر، قال: فهذا الحديث الذي صححه الحاكم وغيره يدل على أن حكم الهر حكم السباع، وقد سبق في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بالفلات من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ) وفي لفظ: ( لم ينجس ) فقالوا: لولا أن ورود السباع على الماء في الأصل ينجسه لما سئل عن ذلك، ولقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم إن السباع طاهرة، فلما قال: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ) أو ( لم ينجس ) دل على أن آثار السباع خبث ونجس، ولكن إذا كان الماء كثيراً لم يتأثر بها ولم ينجس، فاستدل بحديث ( السنور سبع ) ثم بحديث: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ).

الأدلة على طهارة آسار السباع إلا ما استثني

ويجاب عن هذا الاستدلال: بأن حديث ( السنور سبع ) ضعفه أبو زرعة والذهبي وغيرهما من الأئمة، وعلى فرض أنه صحيح، فإن الأدلة تدل على أن آثار السباع كلها طاهرة إلا ما استثني، وما هو الدليل على أن آسار السباع طاهرة؟

لدينا عدد من الأدلة، من هذه الأدلة:

( حديث ابن عمر رضي الله عنه، في قصة عمر أبيه حين قال: يا صاحب المقراة! أخبرنا عن مقراتك، هل ترد عليه السباع أم لا؟ فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا تخبره، هذا متكلب ) والحديث رواه الدارقطني .

ومنها أيضاً: ( ما ورد في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الماء الذي بطريق مكة، وأن السباع ترده وتشرب منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور ).

ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل: ( يا رسول الله! أنتوظأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم. وبما أفضلت السباع كلها )، وهذه الأحاديث أيضاً رواها الدارقطني وغيره.

فدل على أن آثار السباع طاهرة؛ الهر وغيره، حتى وإن كان الهر سبعاً من السباع، وهذا يرجح.. وهذه الأحاديث .. وخاصة الحديث الأخير منها ذكره البيهقي، رواه وقال: له أسانيد إذا انضم بعضها إلى بعض اكتسب بها قوة.

فدل على أن هذه الأحاديث صالحة في الجملة للاحتجاج بها على طهارة آثار السباع، بما في ذلك الهر، مع وجود النص الصريح في ذلك، وهي الأحاديث السابقة.

وبهذا يترجح قول الجمهور أن سؤر الهر طاهر، هذه المسألة الفقهية الظاهرة والبارزة في الحديث.

وما ورد من غسل الإناء من ولوغ الهر مرة أو مرتين، هذا الحديث أيضاً فيه مقال، وجميع الأحاديث التي استدلوا بها على نجاسة سؤر الهر أو وجوب غسله ضعيفة لا تصلح للاحتجاج .

هذا الحديث أخرجه أيضاً غير الأربعة ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيره، وصححه جمع من الأئمة، فممن صحح الحديث -أولاً- الترمذي، وهذا التصحيح نقله المصنف رحمه الله حيث قال: وصححه الترمذي .

فـالترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد جوده مالك، ولم يأت به أحد أتم منه، وهو أحسن شيء في الباب. هذه كلمة الإمام الترمذي .

وصححه أيضاً ابن خزيمة كما ذكر المصنف، وصححه ابن حبان، وصححه الحاكم، وصححه البخاري والعقيلي، والذهبي .

فهؤلاء الأئمة حكموا على هذا الحديث بأنه حديث صحيح.

وأعله آخرون من العلماء، فممن أعل الحديث: ابن مندة رحمه الله، أعل الحديث بعلتين:

الأولى: أن في إسناده حميدة بنت عبيد بن رفاعة، وهي مجهولة كما يقول ابن مندة، حميدة بنت عبيد بن رفاعة .

العلة الثانية: أن في إسناده كبشة بنت كعب بن مالك وهي أيضاً مجهولة كما يقول ابن مندة، وذلك أن إسناد الحديث: أن حميدة روت عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت كبشة هذه زوجة لـابن أبي قتادة -كانت تحت ابن أبي قتادة - كما سيرد في سبب الحديث، فأعل ابن مندة الحديث بعلتين:

أولاهما: جهالة حميدة بنت عبيد، والثانية: جهالة كبشة بنت كعب بن مالك .

وقد أجاب العلماء عن هاتين العلتين: بأن حميدة وهي المذكورة في العلة الأولى .. حميدة بنت عبيد أنها روت أحاديث غير هذا الحديث، لم تنفرد بهذا الحديث، وروى عنها ثقتان فارتفعت جهالتها.

و هذه قاعدة: أن الراوي المجهول العين إذا روى عنه راويان ثقتان ارتفعت جهالة عينه .

ولذلك قال الحافظ ابن حجر عن حميدة هذه: مقبولة، وما معنى مقبولة؟ يعني: يقبل حديثها؟ كذا؟ ما رأيكم؟ مقبولة؟ أظن مر معنا مثال آخر غير هذا.

المقبول -كما صرح في المقدمة- أي: حيث يتابع، قال: مقبول حيث يتابع، وإلا فلين الحديث.

فـ المقبول درجة من درجات التضعيف، وليست من درجات التوثيق، فإذا قيل في راو: مقبول، فهذا يعني أنه ضعيف، لكن ضعفه قابل للانجبار، فإذا جاء الحديث نفسه من طريق راو آخر قبل الحديث.

هذا اصطلاح للحافظ ابن حجر في كتابه: تقريب التهذيب .

إذاً: تدفع العلة الأولى بعض الدفع لا كله، بأن يقال: إن حميدة روت أحاديث، وروى عنها ثقتان فارتفعت جهالتها، فبقيت مقبولة الحديث، لكنها تحتاج إلى من يتابعها في هذه الرواية.

أما العلة الثانية وهي: جهالة كبشة بنت كعب بن مالك، فهي تدفع بأن يقال: إن كبشة هذه ذكرها بعض المصنفين في الصحابة، كـابن حبان، ومن المعلوم أن جهالة عين الصحابي لا تضر، مع أنها معروفة على هذا.

فيندفع ما ذكر عنها من الجهالة، والحديث له طريق آخر غير هذا الطريق، ذكره الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار .