شرح عمدة الأحكام [27]


الحلقة مفرغة

تغسيل الميت وتجهيزه وممن يكون

قال الله المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[باب في صفة تغسيل الميت وتشييع الجنازة.

عن أم عطية الأنصارية قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته زينب ، فقال: اغسلنها بثلاث أو خمس أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه -تعني إزاره، وفي رواية: أو تبعاً- وقال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها، وأن أم عطية قالت: وجعلنا رأسها ثلاثة قرون) .

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته -أو قال: فأوقصته-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، وفي رواية: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) .

وقال المصنف رحمه الله: الوقص: كسر العنق].

هذه الأحاديث فيها صفة تغسيل الميت وتكفينه، وقد ذكر لنا أن تغسيله وتكفينه من فروض الكفايات، وفروض الكفايات هي التي إذا قام بها بعض المكلفين سقط الإثم عن الباقي، وإذا تركوها كلهم وهم قادرون أثموا كلهم، فيدل على أنهم مكلفون.

فإذا مات إنسان بين أهل بلد ففرض عليهم أن يقوموا بتغسيله، ثم بتكفينه، ثم بحمله والصلاة عليه، ثم بدفنه، فريضة عليهم، فإذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، فإذا تركوه كلهم وهم قادرون أثموا كلهم، أي: لحقهم الإثم.

وذلك لأن من كرامة ابن آدم أنه بعد موته لا تبقى جثته على الأرض تأكلها السباع والطيور ونحوها لحرمة ابن آدم، بل شرعت مواراته، وشرع دفنه ومواراة جثته، يقول الله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] أي: شرع أن يقبر. ويقول: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55] فهذا دليل على أن دفن المسلم بعد موته من فروض الكفايات، وأما الكفار فلا يعترفون بذلك، بل يحرقون أمواتهم، أو يشرحونهم -كما يقولون-، أو ما أشبه ذلك.

ففرض -أولاً- تغسيله رجلاً كان أو امرأة، ففي حديث ابن عباس الذي ذكره المصنف تغسيل الرجل، وفي حديث أم عطية تغسيل المرأة، فدل على أن الرجل أو المرأة بعد الموت كل منهما يغسل، فالمرأة يغسلها النساء والرجل يغسله الرجال.

الحكمة من تغسيل الميت

في حديث أم عطية أن زينب إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكبر بناته، وقد ماتت سنة تسع، أي: قبله صلى الله عليه وسلم بسنة. ولما ماتت تولى النساء تجهيزها، ومنهن أم عطية ، واسمها نسيبة الأنصارية ، وهي من الصحابيات اللاتي حملن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فذكرت أنه لما أمرهن بالتغسيل أمرهن أن يغسلنها عدداً يحصل به النظافة، فالقصد من التغسيل تنظيف جسد الميت إذا كان فيه وسخ أو نحوه، فإن كان نظيفاً فتغسيله تعبد، كأن ذلك تطهير له، واعتبر بعضهم أن الموت كالحدث يسبب وجود الغسل لا للنظافة ولكن للطهارة، فإن الإنسان إذا أحدث حدثاً أكبر -كما لو وطئ مثلاً أو احتلم- ولو كان حديث العهد بالاغتسال والنظافة فإن عليه أن يغتسل مرة ثانية، ليس للنظافة ولكن لرفع الحدث، فيقولون: إن الموت حدث، فيغسل الميت لتطهيره من ذلك الحدث الذي هو الموت، حتى إذا صلي عليه يكون قد نظف وقد طهر، فتكون الصلاة من طاهر على طاهر.

أما إذا كان متسخ البدن بعيد العهد بالنظافة فإنه يغسل بما يزيل الدرن والوسخ الذي عليه، ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء النساء: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك -إن رأيتن ذلك- بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً) أمرهن بأن يكون غسلهن وتراً، فالثلاث وتر، فإذا لم ينق إلا برابعة غسل خامسة، فإذا احتاج إلى سادسة فما نظف إلا بست غسلات زيد سابعة، حتى يقطع على وتر؛ لأن الله وتر يحب الوتر، هذا معنى أن يغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ومن العلماء من يقول: إذا زاد عن السبع فلا يحتاج إلى الوتر؛ لأنه قال: (أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك).

كيفية الغسل والمواد المستخدمة فيه

والغسل يبدأ من رأسه إلى قدميه، ويدلك بماء وسدر، فيمر يده عليه ويغسله بالماء والسدر إلى أن يصل إلى قدميه، ثم يعود مرة ثانية ويغسل رأسه إلى قدميه، ثم ثالثة من رأسه إلى قدميه يدلكه، ويبدأ بجنبه الأيمن ثم الأيسر، وبفخذيه الأيمن ثم الأيسر، وبساقيه الأيمن ثم الأيسر، وهكذا.

فإذا نقي بالثلاث لم يحتج إلى زيادة.

والسدر ورق السدر المعروف، فإذا قطع ورق السدر ويبس وسحق فإنه ينظف به، وكانوا يستعملونه كما نستعمل الصابون في تنظيف الأواني وفي تنظيف الثياب، ويكون له رغوة إذا خلط بالماء، أو رغوة تكون فوقه، فيأخذ تلك الرغوة ويغسل بها شعر رأسه، ويغسل بها شعر لحيته حتى لا يدخل شيء من حبات السدر بين الشعر، فيغسل الرأس والشعر بالرغوة، وأما حثالة السدر فيغسل بها بقية جسده؛ لأنها تزول إذا صب عليها الماء.

وحيث إن القصد من الغسل بالسدر التنظيف فقد ذهب بعضهم إلى أن السدر تعبدي، وأنه يستعمل في الغسيل ولابد منه، وذهب آخرون إلى أنه للتنظيف، فيقوم مقامه الصابون أو الأشنان، والأشنان معروف، وهو ثمر شجر يشبه الرمث المعروف، ينبت في شجر من البلاد، تؤخذ زهرته وتسحق بعد أن تيبس، ويقوم مقام الصابون في تنظيف الأواني وتنظيف الثياب ونحوها.

فيجوز أن يجعل بدل السدر أشنان أو صابون أو غير ذلك من المنظفات؛ لأن القصد إزالة الوسخ وتنظيف البدن وإزالة ما علق به من درن أو نحوه، وذلك حاصل بالصابون ونحوه.

فالحاصل أنه أمر بغسلها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً بماء سدر.

يقول بعضهم: إن السدر يجعل في إناء، والماء يجعل في إناء، فيؤخذ غرفة من السدر ويدلك بها الجسد، ثم يصب عليها ماءً حتى يزول أثرها -الذي هو حبات السدر- وتنظف، وكذلك إذا جعل الصابون في قدح ثم أخذ منه غرفة وغسل بها، ثم بعد ذلك أتبع هذا الماء حتى يزيل أثرها ولزوجتها.

ثم في هذا الحديث أنه أمر بأن يبدأ بالميامن وبمواضع الوضوء، والمعنى أنه يبدأ بأعضاء الوضوء؛ لأن ذلك يعتبر حدثاً، والمحدث الذي هو عليه حدث أكبر إذا اغتسل بدأ بأعضاء الوضوء ويتوضأ، كما نقل ذلك مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك الميت يغسل، يبدأ بمواضع الوضوء منه، ومواضع الوضوء الوجه واليدان والرجلان، أي: أعضاء الوضوء، فيبدأ بالمضمضة، ولكن لا يدخل الماء في فمه لئلا يحرك النجاسة في باطنه، بل ينظف فمه بإصبعه أو نحو ذلك دون أن يدخل الماء في فمه، وكذلك ينظف المغسل منخريه ولا يدخلهما الماء لهذا السبب؛ لأنه قد يحرك النجاسة، فيقتصر على المسح.

ووجهه يغسله كما يغسل بقية بدنه، وذراعاه يغسلهما كذلك، ويمسح برأسه ويغسله، ويغسل بعد ذلك قدميه، وإذا انتهى من أعضاء الوضوء بدأ في التغسيل، فيغسل رأسه، ويبدأ بجانبه الأيمن قبل الأيسر، وذكرنا أنه يغسل برغوة السدر أو بالصابون بعدما يذوب، ثم بعد ذلك يغسل عضده ومنكبه الأيمن ثم الأيسر، وكذلك جنبه الأيمن إلى نصف الصدر ونصف الظهر، ثم يقلبه ويغسل جنبه الأيمن قبل الأيسر، كذلك بعدما يغسل جنبيه إلى حقويه يبدأ فيغسل رجليه، الرجل اليمنى من الفخذ إلى العقب، ثم الرجل اليسرى من الفخذ إلى العقب أو إلى الإبهام، فيغسل الرجل كلها، وهكذا، فهذه تعتبر غسلة، وبعد ذلك يعود مرة ثانية وثالثة إلى أن ينتهي وإلى أن ينظف، فإن لم ينقضِ الوسخ زيد حتى ينقى.

أما الغسلة الأخيرة فيجعل فيها كافوراً كما في الحديث، والكافور هو الذي يباع في أماكن العطورات ونحوها، فهذه القطع البيضاء ونحوها تسحق، ثم تخلط بالماء، ثم تجعل في الغسلة الأخيرة، والحكمة فيه أنه يصلب الأعضاء، فقد يكون الماء الذي غسل به حاراً فتستأكل مفاصله وأعضاؤه، فهذا الكافور يكون صلابة في مفاصله وفي أعصابه، فهذه الحكمة في غسله في الأخيرة بالكافور أو بما يقوم مقامه.

وبعدما يغسل وينظف ينشف بثوب أو نحوه، ثم بعد ذلك يكفن، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، وذكرنا أنه وضع فوقها بعدما بسط بعضها فوق بعض، ثم يرد الطرف الأعلى طرفاه بعضهما إلى بعض، ثم الأوسط طرفاه بعضهما على بعض، ثم الأسفل طرفاه بعضهما، ثم بعد ذلك يعقد بالعقد التي تمسكه.

غسل الميت المُحرِم

والحديث الثاني حديث ابن عباس ، وفيه أن رجلاً كان محرماً مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في عرفة، وفي أثناء وقوفهم في آخر النهار سقط عن دابته وهو محرم، ولما سقط سقط على رأسه فاندقت رقبته فمات وهو محرم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجهزوه، فأمرهم بالتغسيل، مما يدل على أنه يجب أن يغسل كل ميت حتى ولو كان نظيفاً؛ لأن العادة أن المحرم يكون نظيفاً، فأمر بأن يغسل.

وأمر بأن يغسل بماء وسدر (اغسلوه بماء وسدر) ، وهذا دليل على أن السدر كان مستعملاً عندهم لكل ميت؛ لأنه يحصل به التنظيف.

وفي رواية أخرى أنه (نهى أن يحنط) ، والتحنيط: هو تطييب الميت بعد أن يغسل، فالحنوط: طيب يجمع من أنواع من العطورات، كالورد والمسك وما أشبههما، فتجمع وتسحق، ثم بعدما ينتهون من تغسيله يجعلون من ذلك الطيب بين إليتيه وفي إبطيه، وفي بطون ركبتيه، وكذلك في سرته وتحت حلقه، وفي أذنيه، وفي المواضع الرقيقة منه، وقد يجوز أن يطيب كله، فهذا يسمى الحنوط.

وكل ميت يحنط إلا المحرم، وذلك لأن المحرم باق على إحرامه بعد موته، فلا يحنط -أعني: لا يطيب-، كما أن المحرم في حياته لا يقرب الطيب؛ لأن الطيب من المرفهات، فكذلك بعد موته، أما غير المحرم فيحنط، فيجعل فيه من أنواع هذه الأطياب، والسبب في ذلك ألا تتغير رائحته بسرعة، وأن يبقى معه رائحة طيبة بعد دفنه.

وعلى كل حال فقد وردت أدلة تدل على أنه يحنط الميت ويطيب بعدما يغسل.

أما المحرم فيكفن في ثوبيه، ومعلوم أن المحرم يكون عليه ثوبان إزار ورداء، والإزار هو الذي يجعل على عورته، والرداء على ظهره، فيكفن فيهما، ولكن لا يغطى وجهه ولا رأسه، بل يكشف؛ لأن المحرم مأمور بكشف رأسه في حالة الإحرام إذا كان رجلاً، فيبقى مكشوف الرأس؛ لأنه يبعث يوم القيامة محرماً ملبياً، وهذا من خصائصه، فيدفن مكشوف الرأس، ويجعل الكفن ساتراً للرقبة وللمنكبين ولبقية البدن، حتى القدمين يسترهما، فالإزار والرداء اللذان هما لباس المحرم يلف فيهما ويعقد ويدفن فيهما فقط، هكذا وردت السنة بدفنه فيهما وعدم تحنيطه وعدم تغطية رأسه.

وهذه صفة تكفينه، وصفة تغسيله أنه يغسل بماء وسدر حتى ينقى.

كيفية تكفين الرجل والمرأة وعدد لفائفهما

أما تكفين المرأة فذكر في حديث أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولهن حقوه وقال: (أشعرنها إياه)، والحقو هو الإزار، كان عليه إزار يلبسه، وغالباً يكون أبيض كإزار المحرم؛ لأنه خفيف، فأمرهن أن يشعرنها إياه، والشعار: هو اللباس الذي يلي الجسد. والدثار: هو اللباس الظاهر الذي فوق الشعار. ولهذا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (الأنصار شعار والناس دثار) يعني: الناس لحاف أعلى وهم لباس داخلي، يعني أنهم مقربون لديه.

وقوله: (أشعرنها إياه) يعني: اجعلنه شعاراً لها. أي: لباساً يلي جسدها.

وذكرت أم عطية في رواية أخرى أنه ألقى إليهن خمسة أثواب، مما يدل على أن المرأة تكفن في خمسه، فذلك الشعار الذي هو إزار تشد به العورة كالإزار، ثم خرقة أخرى يلف بها الرأس تسمى الخمار، يلف بها الرأس والوجه والعنق والرقبة، ثم بعد ذلك قميص، وهو ثوب طويل ليس بمخيط، يشق في وسطه خرق للرأس، ويجعل نصفه لحافاً ونصفه فراشاً، فيعتبر كالثوب، إلا أنه ليس بمخيط الطرفين، وهذا لباس ثالث.

وبعد ذلك يلف فوقه لفافتين كلفافتي الرجل تلف إحداهما فوق الأخرى، فهذا تكفين المرأة في خمسة أثواب، أولاً الإزار الذي على العورة، ثم الخمار الذي على الرأس، ثم القميص الذي له شبه الجيب فتحة في وسطه، ثم بعد ذلك اللفافتان، أما الرجل فإنه يجعل في ثلاث لفائف كما تقدم؛ لما في الحديث الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف -أي: من قطن- ليس فيها قميص ولا عمامة.

فهذه صفة التكفين وصفة الغسل، وبعدهما صفة الصلاة تأتينا إن شاء الله.

قال الله المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[باب في صفة تغسيل الميت وتشييع الجنازة.

عن أم عطية الأنصارية قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته زينب ، فقال: اغسلنها بثلاث أو خمس أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه -تعني إزاره، وفي رواية: أو تبعاً- وقال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها، وأن أم عطية قالت: وجعلنا رأسها ثلاثة قرون) .

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته -أو قال: فأوقصته-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، وفي رواية: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) .

وقال المصنف رحمه الله: الوقص: كسر العنق].

هذه الأحاديث فيها صفة تغسيل الميت وتكفينه، وقد ذكر لنا أن تغسيله وتكفينه من فروض الكفايات، وفروض الكفايات هي التي إذا قام بها بعض المكلفين سقط الإثم عن الباقي، وإذا تركوها كلهم وهم قادرون أثموا كلهم، فيدل على أنهم مكلفون.

فإذا مات إنسان بين أهل بلد ففرض عليهم أن يقوموا بتغسيله، ثم بتكفينه، ثم بحمله والصلاة عليه، ثم بدفنه، فريضة عليهم، فإذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، فإذا تركوه كلهم وهم قادرون أثموا كلهم، أي: لحقهم الإثم.

وذلك لأن من كرامة ابن آدم أنه بعد موته لا تبقى جثته على الأرض تأكلها السباع والطيور ونحوها لحرمة ابن آدم، بل شرعت مواراته، وشرع دفنه ومواراة جثته، يقول الله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] أي: شرع أن يقبر. ويقول: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55] فهذا دليل على أن دفن المسلم بعد موته من فروض الكفايات، وأما الكفار فلا يعترفون بذلك، بل يحرقون أمواتهم، أو يشرحونهم -كما يقولون-، أو ما أشبه ذلك.

ففرض -أولاً- تغسيله رجلاً كان أو امرأة، ففي حديث ابن عباس الذي ذكره المصنف تغسيل الرجل، وفي حديث أم عطية تغسيل المرأة، فدل على أن الرجل أو المرأة بعد الموت كل منهما يغسل، فالمرأة يغسلها النساء والرجل يغسله الرجال.

في حديث أم عطية أن زينب إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكبر بناته، وقد ماتت سنة تسع، أي: قبله صلى الله عليه وسلم بسنة. ولما ماتت تولى النساء تجهيزها، ومنهن أم عطية ، واسمها نسيبة الأنصارية ، وهي من الصحابيات اللاتي حملن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فذكرت أنه لما أمرهن بالتغسيل أمرهن أن يغسلنها عدداً يحصل به النظافة، فالقصد من التغسيل تنظيف جسد الميت إذا كان فيه وسخ أو نحوه، فإن كان نظيفاً فتغسيله تعبد، كأن ذلك تطهير له، واعتبر بعضهم أن الموت كالحدث يسبب وجود الغسل لا للنظافة ولكن للطهارة، فإن الإنسان إذا أحدث حدثاً أكبر -كما لو وطئ مثلاً أو احتلم- ولو كان حديث العهد بالاغتسال والنظافة فإن عليه أن يغتسل مرة ثانية، ليس للنظافة ولكن لرفع الحدث، فيقولون: إن الموت حدث، فيغسل الميت لتطهيره من ذلك الحدث الذي هو الموت، حتى إذا صلي عليه يكون قد نظف وقد طهر، فتكون الصلاة من طاهر على طاهر.

أما إذا كان متسخ البدن بعيد العهد بالنظافة فإنه يغسل بما يزيل الدرن والوسخ الذي عليه، ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء النساء: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك -إن رأيتن ذلك- بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً) أمرهن بأن يكون غسلهن وتراً، فالثلاث وتر، فإذا لم ينق إلا برابعة غسل خامسة، فإذا احتاج إلى سادسة فما نظف إلا بست غسلات زيد سابعة، حتى يقطع على وتر؛ لأن الله وتر يحب الوتر، هذا معنى أن يغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ومن العلماء من يقول: إذا زاد عن السبع فلا يحتاج إلى الوتر؛ لأنه قال: (أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك).

والغسل يبدأ من رأسه إلى قدميه، ويدلك بماء وسدر، فيمر يده عليه ويغسله بالماء والسدر إلى أن يصل إلى قدميه، ثم يعود مرة ثانية ويغسل رأسه إلى قدميه، ثم ثالثة من رأسه إلى قدميه يدلكه، ويبدأ بجنبه الأيمن ثم الأيسر، وبفخذيه الأيمن ثم الأيسر، وبساقيه الأيمن ثم الأيسر، وهكذا.

فإذا نقي بالثلاث لم يحتج إلى زيادة.

والسدر ورق السدر المعروف، فإذا قطع ورق السدر ويبس وسحق فإنه ينظف به، وكانوا يستعملونه كما نستعمل الصابون في تنظيف الأواني وفي تنظيف الثياب، ويكون له رغوة إذا خلط بالماء، أو رغوة تكون فوقه، فيأخذ تلك الرغوة ويغسل بها شعر رأسه، ويغسل بها شعر لحيته حتى لا يدخل شيء من حبات السدر بين الشعر، فيغسل الرأس والشعر بالرغوة، وأما حثالة السدر فيغسل بها بقية جسده؛ لأنها تزول إذا صب عليها الماء.

وحيث إن القصد من الغسل بالسدر التنظيف فقد ذهب بعضهم إلى أن السدر تعبدي، وأنه يستعمل في الغسيل ولابد منه، وذهب آخرون إلى أنه للتنظيف، فيقوم مقامه الصابون أو الأشنان، والأشنان معروف، وهو ثمر شجر يشبه الرمث المعروف، ينبت في شجر من البلاد، تؤخذ زهرته وتسحق بعد أن تيبس، ويقوم مقام الصابون في تنظيف الأواني وتنظيف الثياب ونحوها.

فيجوز أن يجعل بدل السدر أشنان أو صابون أو غير ذلك من المنظفات؛ لأن القصد إزالة الوسخ وتنظيف البدن وإزالة ما علق به من درن أو نحوه، وذلك حاصل بالصابون ونحوه.

فالحاصل أنه أمر بغسلها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً بماء سدر.

يقول بعضهم: إن السدر يجعل في إناء، والماء يجعل في إناء، فيؤخذ غرفة من السدر ويدلك بها الجسد، ثم يصب عليها ماءً حتى يزول أثرها -الذي هو حبات السدر- وتنظف، وكذلك إذا جعل الصابون في قدح ثم أخذ منه غرفة وغسل بها، ثم بعد ذلك أتبع هذا الماء حتى يزيل أثرها ولزوجتها.

ثم في هذا الحديث أنه أمر بأن يبدأ بالميامن وبمواضع الوضوء، والمعنى أنه يبدأ بأعضاء الوضوء؛ لأن ذلك يعتبر حدثاً، والمحدث الذي هو عليه حدث أكبر إذا اغتسل بدأ بأعضاء الوضوء ويتوضأ، كما نقل ذلك مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك الميت يغسل، يبدأ بمواضع الوضوء منه، ومواضع الوضوء الوجه واليدان والرجلان، أي: أعضاء الوضوء، فيبدأ بالمضمضة، ولكن لا يدخل الماء في فمه لئلا يحرك النجاسة في باطنه، بل ينظف فمه بإصبعه أو نحو ذلك دون أن يدخل الماء في فمه، وكذلك ينظف المغسل منخريه ولا يدخلهما الماء لهذا السبب؛ لأنه قد يحرك النجاسة، فيقتصر على المسح.

ووجهه يغسله كما يغسل بقية بدنه، وذراعاه يغسلهما كذلك، ويمسح برأسه ويغسله، ويغسل بعد ذلك قدميه، وإذا انتهى من أعضاء الوضوء بدأ في التغسيل، فيغسل رأسه، ويبدأ بجانبه الأيمن قبل الأيسر، وذكرنا أنه يغسل برغوة السدر أو بالصابون بعدما يذوب، ثم بعد ذلك يغسل عضده ومنكبه الأيمن ثم الأيسر، وكذلك جنبه الأيمن إلى نصف الصدر ونصف الظهر، ثم يقلبه ويغسل جنبه الأيمن قبل الأيسر، كذلك بعدما يغسل جنبيه إلى حقويه يبدأ فيغسل رجليه، الرجل اليمنى من الفخذ إلى العقب، ثم الرجل اليسرى من الفخذ إلى العقب أو إلى الإبهام، فيغسل الرجل كلها، وهكذا، فهذه تعتبر غسلة، وبعد ذلك يعود مرة ثانية وثالثة إلى أن ينتهي وإلى أن ينظف، فإن لم ينقضِ الوسخ زيد حتى ينقى.

أما الغسلة الأخيرة فيجعل فيها كافوراً كما في الحديث، والكافور هو الذي يباع في أماكن العطورات ونحوها، فهذه القطع البيضاء ونحوها تسحق، ثم تخلط بالماء، ثم تجعل في الغسلة الأخيرة، والحكمة فيه أنه يصلب الأعضاء، فقد يكون الماء الذي غسل به حاراً فتستأكل مفاصله وأعضاؤه، فهذا الكافور يكون صلابة في مفاصله وفي أعصابه، فهذه الحكمة في غسله في الأخيرة بالكافور أو بما يقوم مقامه.

وبعدما يغسل وينظف ينشف بثوب أو نحوه، ثم بعد ذلك يكفن، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، وذكرنا أنه وضع فوقها بعدما بسط بعضها فوق بعض، ثم يرد الطرف الأعلى طرفاه بعضهما إلى بعض، ثم الأوسط طرفاه بعضهما على بعض، ثم الأسفل طرفاه بعضهما، ثم بعد ذلك يعقد بالعقد التي تمسكه.

والحديث الثاني حديث ابن عباس ، وفيه أن رجلاً كان محرماً مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في عرفة، وفي أثناء وقوفهم في آخر النهار سقط عن دابته وهو محرم، ولما سقط سقط على رأسه فاندقت رقبته فمات وهو محرم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجهزوه، فأمرهم بالتغسيل، مما يدل على أنه يجب أن يغسل كل ميت حتى ولو كان نظيفاً؛ لأن العادة أن المحرم يكون نظيفاً، فأمر بأن يغسل.

وأمر بأن يغسل بماء وسدر (اغسلوه بماء وسدر) ، وهذا دليل على أن السدر كان مستعملاً عندهم لكل ميت؛ لأنه يحصل به التنظيف.

وفي رواية أخرى أنه (نهى أن يحنط) ، والتحنيط: هو تطييب الميت بعد أن يغسل، فالحنوط: طيب يجمع من أنواع من العطورات، كالورد والمسك وما أشبههما، فتجمع وتسحق، ثم بعدما ينتهون من تغسيله يجعلون من ذلك الطيب بين إليتيه وفي إبطيه، وفي بطون ركبتيه، وكذلك في سرته وتحت حلقه، وفي أذنيه، وفي المواضع الرقيقة منه، وقد يجوز أن يطيب كله، فهذا يسمى الحنوط.

وكل ميت يحنط إلا المحرم، وذلك لأن المحرم باق على إحرامه بعد موته، فلا يحنط -أعني: لا يطيب-، كما أن المحرم في حياته لا يقرب الطيب؛ لأن الطيب من المرفهات، فكذلك بعد موته، أما غير المحرم فيحنط، فيجعل فيه من أنواع هذه الأطياب، والسبب في ذلك ألا تتغير رائحته بسرعة، وأن يبقى معه رائحة طيبة بعد دفنه.

وعلى كل حال فقد وردت أدلة تدل على أنه يحنط الميت ويطيب بعدما يغسل.

أما المحرم فيكفن في ثوبيه، ومعلوم أن المحرم يكون عليه ثوبان إزار ورداء، والإزار هو الذي يجعل على عورته، والرداء على ظهره، فيكفن فيهما، ولكن لا يغطى وجهه ولا رأسه، بل يكشف؛ لأن المحرم مأمور بكشف رأسه في حالة الإحرام إذا كان رجلاً، فيبقى مكشوف الرأس؛ لأنه يبعث يوم القيامة محرماً ملبياً، وهذا من خصائصه، فيدفن مكشوف الرأس، ويجعل الكفن ساتراً للرقبة وللمنكبين ولبقية البدن، حتى القدمين يسترهما، فالإزار والرداء اللذان هما لباس المحرم يلف فيهما ويعقد ويدفن فيهما فقط، هكذا وردت السنة بدفنه فيهما وعدم تحنيطه وعدم تغطية رأسه.

وهذه صفة تكفينه، وصفة تغسيله أنه يغسل بماء وسدر حتى ينقى.




استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2578 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2575 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2511 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2497 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2435 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2366 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2351 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2330 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2327 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2324 استماع