خطب ومحاضرات
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله تعالى أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، وقد جاء به جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة، ينزل بحسب الوقائع، وبحسب ما يسأل عنه أهل الأرض، وكان ذلك اتصالاً بين أهل السماء وأهل الأرض، وارتباطاً بين الخلق والخالق جل وعلا ببيان ما يريده منهم، وتشريع ما يرتضيه لهم.
وقد ختم الله الرسائل إلى أهل الأرض برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وختم الكتب المنزلة إلى أهل الأرض بالقرآن، وجعله مصدقاً لما بين يديه من الحق، ومهيمناً على كل الكتب، وناسخاً لها؛ فلا يقبل الله من أحد بعد نزول القرآن ديناً إلا هذا الإسلام الذي تضمنه هذا القرآن، وقد أنزل على هيئات متنوعة، فمنها أن يأتي الملك على هيئة رجل، فيكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعي عنه ما يقول، ومنها أن ينزل على قلبه بالمباشرة، فيأتيه فيسمع مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليه، فإذا انفصل عنه حفظ ما قال له، ومنها أن يأتي في رؤيا المنام، ومنها ما يكون بالمباشرة، وكل هذه هي من أصناف الوحي، وقد ذكرها الله تعالى في قوله: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ[الشورى:51] فقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا[الشورى:51]؛ أي: إلا رؤيا في المنام، فالوحي في اللغة يطلق على: رؤيا المنام، وهي المقصودة هنا، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الشورى:51] هذا تكليم الله للخلق بالمباشرة، وهو من وراء حجاب كتكليمه لموسى عليه السلام، ((أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا)) وهو الملك ((فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)) مما أنزل عليه من الوحي، وهو كلام الله تعالى، وهذا الكلام كلام الله بلفظه ومعناه، وجاء به الملك من عنده؛ ولذلك ينسب في تبليغه إلى الملك كما قال الله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ[التكوير:19-21]، وهو جبريل عليه السلام؛ ولهذا قال بعدها: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ[التكوير:22]، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وينسب إلى الرسول المبلغ أيضاً عن الملك، ومن ذلك قول الله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[الحاقة:40-47]، فالمقصود هنا بالرسول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنزل إليه؛ فلذلك كان نزوله كما ذكرنا مختلفاً عن غيره من الكتب لهذه الخصائص.
نزول القرآن منجماً
وخصه الله تعالى بعدد من الخصائص العظيمة، منها: إنزاله دفعة واحدة، ومنها: إنزاله بالتدريج والتقسيط في ثلاث وعشرين سنة منجماً، على خلاف ما كانت تنزل عليه الكتب السابقة، فقد كانت تنزل دفعة واحدة، فالتوراة كتبها الله لموسى بيمينه في الألواح، والإنجيل أنزله الله مكتوباً في الصحف إلى عيسى بن مريم، والزبور أنزله الله مكتوباً في الصحف إلى داود عليه السلام، وصحف إبراهيم نزلت إليه من السماء مكتوبة، أما القرآن فنزل بالتدريج والتقسيط، وإنما أودع القلوب؛ لأن الله تعالى أراد بحكمته أن تكون مصاحف هذه الأمة وأناجيلها في صدورها، كما جاء وصفها بذلك في الإنجيل والتوراة: (أناجيلها في صدورها)؛ ولهذا يسر الله القرآن للذكر، فهو ميسر للحفظ، يحفظه الكبار والصغار، والذكور والإناث، ومن كان من الناطقين باللغة العربية على وجه السليقة، ومن كان من الناطقين بها على وجه التعلم، كلهم يأخذ حظه من هذا القرآن ميسراً له.
النسخ والإنساء
ومن هذه الخصائص: أن هذا القرآن في تنزيله حصل فيه النسخ، والإنساء، والتبديل، ولم يكن ذلك يحصل في الكتب السابقة، فقد كانت تنسخ دفعة واحدة؛ ولهذا استنكر المشركون هذه الظواهر؛ لأنهم ما عرفوها في الكتب السابقة، فرد الله تعالى عليهم فيما يتعلق بتنزيله بقوله: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا[الإسراء:106-108]، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:32-33].
وهذه الآية ذكر فيها ثلاث حكم هي سر تنزيله بالتدريج والتقسيط:
أما الحكمة الأولى من هذه الحكم فهي قوله تعالى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ[الفرقان:32] تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم عما يعرض من إعراض المشركين، وتكذيبهم له، وأذاهم به، وعما يعرض كذلك في الزمان من المشكلات، وعما يعرض من الأسئلة والاعتراضات، ففي كل ذلك يأتي القرآن تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم، كقصص الأنبياء السابقين، فهي تثبيت له؛ لأنهم عانوا أكثر مما عانى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وقال: ( رحم الله أخي يوسف ! لو مكثت في السجن ما مكث، ثم أتاني الداعي لأجبته )؛ ولهذا قال الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120]، وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ[هود:120]، فهذا التثبيت هو من حكمة تنزيل قصص الأنبياء السابقين، مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ[هود:120]؛ ولهذا قال ابن المبارك رحمه الله: (قصص الصالحين جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ[هود:120]).
والحكمة الثانية هي قوله: وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا[الفرقان:32]؛ أي: خصه الله تعالى بما يتعلق بحفظه، فإن الله تعالى تولى حفظه بنفسه، ولم يكله إلى الناس، بخلاف غيره من الكتب؛ فإن الله وكل حفظها إلى الذين أنزلت إليهم، فهم الذين اؤتمنوا على حفظ تلك الكتب فضيعوها، وبدلوها وحرفوها؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ[الحج:52]، (إذا تمنى): إذا تلا وقرأ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الحج:52-54].
والحكمة الثالثة هي قوله: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:33]، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ[الفرقان:33]؛ أي: بحجة، إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ[الفرقان:33] ببيان الرد على تلك الحجة والشبهة؛ ولهذا فإن أول ما جاء به أهل الكتاب من المجادلة ما حصل بمكة عندما أرسل اليهود إلى المشركين بمكة، يقولون: جادلوا محمداً؛ فقولوا: (إنك تزعم أن ما تذبحه أنت بيمينك حلال، وأن ما يذبحه الله بشمشار من ذهب حرام) ويقصدون: الجيف، فرد الله تعالى زعمهم ودعواهم، وأنزل في سورة الأنعام: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[الأنعام:121]؛ فلذلك رد الله تعالى ما يوحيه الشياطين إلى أوليائهم من المجادلة، وما يزعمه أهل الكتاب من أن الجيف حلال، وهم يعلمون أنها في كتبهم حرام، وإنما قصدوا بذلك مجرد المجادلة، ثم جاءت المجادلة الثانية من طرف النصارى لما أنزل الله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ[الأنبياء:98]، قال النصارى لمشركي العرب: جادلوا محمداً، فقولوا: إنك تؤمن بأن المسيح بن مريم عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ومع ذلك يأتي في الوحي الذي تزعم أنه كلام الله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ[الأنبياء:98] ونحن نعبد المسيح؛ فأنزل الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57]، وأنزل الله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ[الزخرف:57-61]، (وإنه) أي: المسيح بن مريم، لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ[الزخرف:61]؛ أي: شرط من أشراطها، وعلامة من علاماتها؛ وذلك بنزوله في آخر الزمان ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق عند صلاة الفجر حكماً عدلاً.
الإعجاز
وكذلك من هذه الخصائص التي ميز الله بها هذا القرآن أنه معجزة لفظية باقية؛ فالرسائل السابقة كانت في علم الله محددة بوقت محدد لا تتعداه؛ ولذلك تكون معجزاتها مادية بحسب ما تقوم به الحجة على من رآه أو من نقل إليه تواتراً لعلم الله أن تلك الرسالة لا تصلح إلا لذلك الطور البشري، والله تعالى خلق الناس أطواراً، وقال: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19]، وهي مراتب الخلق، وهي تسع بينها الله تعالى في آية المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:12-14]، والمقصود بذلك تناميه من صباه إلى شيخوخته، يبدأ ضعيفاً، ثم يقوى، ثم يرجع إلى الضعف والشيبة، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:14-16]، وهذه التسع في خلق الإنسان الواحد، وغيرها من الأطوار تمر به المجتمعات والشعوب والأمم، فتمر بالرقي والازدهار، والغنى والفقر، والتراجع والانحطاط، كل ذلك تمر به الأمم في حضارتها وهي الأطوار؛ فلهذا كانت المعجزات السابقة مادية، وتكون من جنس ما هو معجز لأهل ذلك الزمان، ومن جنس ما يتوجهون إليه وتتجه إليه حضارتهم، فالعرب لما أرسل إليهم صالح كانت معجزته ناقة؛ لأن الإبل كانت أكبر شيء لدى العرب، وأهل مصر لما أرسل إليهم موسى كانت معجزته العصا التي تأكل ما يأفكه السحرة؛ لأن مستوى حضارتهم إذ ذاك كان يتعلق بالسحر، وكذلك لما أرسل المسيح بن مريم إلى أهل الشام كانوا يشتغلون بالطب والحكمة، فجاء من غير أب، وهو يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وهذه أمور وقف دونها العلم، ولا يمكن أن يصل إليها، فهذه معجزات تقوم بها الحجة على كل من شاهدها أو نقلت إليه تواتراً؛ كما صح في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ). ولذلك كانت هذه الرسالة الخالدة الباقية- وهي رسالة الإسلام- مرتبطة بمعجزة خالدة باقية وهي هذا القرآن، الذي تحدى الله به الثقلين: الإنس، والجن أن يأتوا بسورة مثله، وهذا التحدي باق إلى أن يرفعه الله، فمنه بدأ وإليه يعود.
ومن هنا فلو كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كجنس المعجزات السابقة لما استطعنا نحن الآن إقناع أحد بالإسلام؛ لأنكم أنتم الآن لو لم تسمعوا في القرآن أن المسيح بن مريم كان يحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، لما صدقتم ذلك، وإنما صدقتموه؛ لأنه جاء في القرآن.
ولهذا فهذه المعجزة قائمة باقية، وهي إعجاز في اللفظ، وإعجاز في المعنى، وإعجاز في التشريع، وإعجاز في العلم، وإعجاز في القصص، فألفاظ القرآن محصورة يسيرة، آياته ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، أو ستة آلاف ومائتان وأربع وثلاثون آية على العد الكوفي، وهي بين أيديكم بين دفتي المصحف، يضعه الإنسان في جيبه، ويحفظه في صدره، ومع ذلك جمعت أنواع علوم الأولين والآخرين، ثم لخص كل ما فيه من العلوم على كثرتها وتشعبها في سبع آيات فقط، وهي السبع المثاني الفاتحة، فيها ما يتعلق بالتوحيد والثناء على الله بالألوهية، والأسماء والصفات، وبالربوبية، وفيها ما يتعلق باليوم الآخر، والعرض على الله، وفيها ما يتعلق بعبادات الناس، وفيما ما يتعلق بمعاملاتهم، وفيها ما يتعلق بالقصص وأطوار الناس في الأرض، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] هذا جامع لتوحيد الله تعالى بربوبيته وألوهيته، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3] هذا جامع للإيمان بأسمائه وصفاته، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] هذا جامع لليوم الآخر وما اشتمل عليه، إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة:5] هذا جامع لأحكام العبادات والتعامل مع الله، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، هذا جامع لأحكام المعاملات، وكل ما يتعلق بشئون العباد فيما بينهم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] هذا جامع لأحوال العباد من بداية النشأة إلى الممات، وما يكلفون به من التكاليف، وما يمر عليهم من الأخلاق والقيم، والمبادئ والأيديولوجيات، وغير ذلك، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] هذا جامع لقصص الماضين وبيان حالهم من: الالتزام، والاستقامة، والضلال، والغواية، وشأن اليهود والنصارى؛ فكانت هذه الفاتحة ملخصاً للقرآن كله، وجامعة لكل علومه، وهذا من الإعجاز الباقي الخالد.
كتابة القرآن وعلاقتها بالقراءات
وهذا الإعجاز اللفظي منه ما يتعلق بنطقه، ومنه ما يتعلق بكتابته؛ فكتابته خص هذا القرآن فيها بأن أنزل أصلاً من عند الله تعالى على سبعة أحرف؛ فلذلك تختلف القراءة فيه في كثير من الكلمات، مع أن المعنى واحد، لكن بعضه يصدق بعضاً ويفسره، فأنت مثلاً إذا قرأت بقراءة نافع: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ[هود:40] (من كل زوجين) بالإضافة، سيشكل عليك المعنى فتقول: كيف أعزل من كل زوجين اثنين وهما اثنان؟! هما زوجان اثنان، فكيف أعزل منهما اثنين؟! فتقرأ بالقراءة الأخرى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ[هود:40]؛ أي: من كل نوع من أنواع الخلائق زوجين اثنين، والتنوين يزيل عنك هذا الإشكال؛ فتكون القراءة تفسيراً للأخرى.
وكذلك إذا قرأت بقراءة حمزة: (يا أيها الناس اتقوا ربكمُ الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً) يشكل عليك الجر في (الأرحام) على هذه القراءة، فتقول: هل يقسم بالأرحام كما يقسم بالله تعالى، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحلفوا بغير الله )، وقال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، وقال: ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، وقال: ( لا تحلفوا بآبائكم )، والجواب عن هذا تجده في القراءات الأخرى: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء:1]؛ فتجد أن الجر كان للمجاورة.
ومثل هذا إذا قرأت بقراءة ابن كثير: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتمُ إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكمُ وأيديكمُ إلى المرافق وامسحوا برءوسكمُ وأرجلِكمُ إلى الكعبين) (وأرجلِكم) بالجر هذه قراءة ابن كثير، وهي تقتضي المسح على الرجلين كالمسح على الرأس؛ فيكون الوضوء غسلتين ومسحتين، فالغسلتان لليدين والوجه، والمسحتان للرأس والرجلين، لكن إذا استشكلت هذا قرأت بقراءة الجمهور، فقلت: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]؛ فزال عنك الإشكال.
فالقراءات بعضها يفسر بعضاً ويبينه؛ وعلى هذا احتيج إلى أن يكون المصحف جامعاً لهذه القراءات، فوفق الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فجمعوا القرآن في مصحف واحد، وكتبوه بخط يمكن أن تؤخذ منه جميع القراءات، الخط الذي رسموه به ليس فيه نقط ولا شكل، ولم يكن النقط والشكل معروفاً لدى العرب من قبل، وكتبوه بهيئة يمكن أن يقرأ منها جميع القراءات، فإذا قرأت مثلاً: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً) وقرأت بالقراءة الأخرى: وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا[الزخرف:19] تجد الخط قابلاً للأمرين، ومثل ذلك: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4]، (ملك يوم الدين) فالألف أسقطها الصحابة؛ فكانت تقرأ بالوجهين، ومثل ذلك: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ[البقرة:9] (وما يخادعون إلا أنفسهم) أسقط الصحابة الألف؛ فكانت تقرأ بالوجهين، وهكذا ما سنذكره من (كلمت) و(كلمات) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ[الأنعام:115] (وتمت كلمات ربك) قراءتان سبعيتان؛ فكتبها الصحابة بالتاء وحذفوا الألف، فكانت قابلة للقراءة بالوجهين، وهكذا في كل موضع من القرآن كتبوه بوجه يمكن أن تقرأ منه كل القراءات، فكان هذا من إعجاز هذا القرآن.
التأثير النفسي للقرآن الكريم
ومثله أيضاً إعجازه في النطق، فإن النطق به معجز، فبمجرد السماع يتأثر الإنسان تأثراً بالغاً، فهذا السماع لقراءة القرآن هو مؤثر حتى في الجمادات والبهائم؛ ولذلك فإن الفضيل بن عياض كان في الحج، فجيء بجمل صعب أتعب الناس، فقال: قربوه إلي، فقرأ في أذنه: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[آل عمران:83] فاستكان الجمل لها، ومثل ذلك فإن رجلاً من الأعراب لم يكن سمع القرآن من قبل، سمع قارئاً يقرأ سورة النجم، فلما وصل إلى آخرها وهو قول الله تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا[النجم:59-62] خر ساجداً، فقيل: أتعرف مواضع السجود في القرآن؟ قال: ما كنت أعلم أن في القرآن مواضع للسجود، ولكن هذا الكلام لا يسمعه إنس ولا جن إلا سجد له، وهو أعرابي لا علم له بهذا، لكن سمع هذا اللفظ فأخذ بمجامع قلبه؛ وبلبه فسجد لله تعالى إجلالاً له عندما سمع هذا الكلام.
وكذلك فإن رجلاً من النصارى كان في ديره يتعبد، وهو يوقد قنديله في الليل في طريق اليمن، فمر حوله راكب، فإذا هو يقرأ سورة النساء، فلما بلغ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا[النساء:47] انزعج غاية الانزعاج لسماعه لهذا الوعيد، ونزل مسرعاً حتى لحق بالراكب وصحبه إلى المدينة يريد الإسلام، وكان يضع يده على وجهه يخاف أن يطمس إلى قفاه لهذا الوعيد الشديد؛ ولذلك فإن الله تعالى يقول في ذكر الجبال: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، ومن هنا فإن كثيراً من اليهود والنصارى كانوا يسلمون لمجرد سماعه، وقد أخبر الله بذلك في سورة المائدة، فقال: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ[المائدة:82-84]، فذلك بسبب سماعهم لهذا القرآن وتأثيره فيهم، وقد بين الله تعالى تأثيره البالغ في الأجساد؛ شفاء من السقم، وتثبيتاً على الإيمان، وهداية إليه أصلاً، ففي الهداية يقول الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[الإسراء:9]، ويقول تعالى: الـم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[البقرة:1-2]، والشفاء من الأسقام الظاهرة والباطنة يقول الله فيه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[الإسراء:82].
وكذلك فإن من تأثيره أيضاً تأثيره على القلوب وأخذه بمجامعها؛ فـالوليد بن المغيرة لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله وهو مشرك، ولم يوفقه الله للإسلام، بل مات على الشرك، نسأل الله السلامة والعافية! لما أتى قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعض القرآن، فلما رجع إلى قريش قال: (يا معشر قريش، والله لقد سمعت شعر الشعراء، ورجز الرجاز، وسجع الكهان؛ فما سمعت كلاماً كهذا القرآن، إن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة) وكذلك فإن: (عتبة بن ربيعة لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله قال: اسمع أبا الوليد، فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[فصلت:1-3].. )، فقرأ عليه آيات من سورة فصلت، حتى وصل إلى قول الله تعالى: ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ[فصلت:13]؛ فقال: حسبك، ووضع يده على فيه خوفًا من مثل هذه الصاعقة )؛ ولهذا فإن طبيباً أمريكيّاً في عصرنا هذا كان يعالج بالعلاج النفسي، وتخصص في ذلك، واشتهر به، فكان يجمع الأشرطة التي فيها أنواع الموسيقى والألحان، فيعرضها على المرضى، ويراقب تأثرهم بها، حتى وصلت يده إلى تسجيل لتلاوة من القرآن، فكان إذا أسمعها لمريض تأثر بها تأثراً لا يساويه تأثره بالتسجيلات الأخرى، ولاحظ أن ذروة التأثير وقمته تصل إلى مقطع معين؛ فسجل ذلك المقطع وحده من شريط، ثم بحث عن تفسيره، فإذا الشريط الذي لديه فيه سورة الرعد، وإذا المقطع الذي تصل إليه قمة التفاعل والاستجابة هو قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[الرعد:28]؛ فكان هذا سبب إسلامه.
وخصه الله تعالى بعدد من الخصائص العظيمة، منها: إنزاله دفعة واحدة، ومنها: إنزاله بالتدريج والتقسيط في ثلاث وعشرين سنة منجماً، على خلاف ما كانت تنزل عليه الكتب السابقة، فقد كانت تنزل دفعة واحدة، فالتوراة كتبها الله لموسى بيمينه في الألواح، والإنجيل أنزله الله مكتوباً في الصحف إلى عيسى بن مريم، والزبور أنزله الله مكتوباً في الصحف إلى داود عليه السلام، وصحف إبراهيم نزلت إليه من السماء مكتوبة، أما القرآن فنزل بالتدريج والتقسيط، وإنما أودع القلوب؛ لأن الله تعالى أراد بحكمته أن تكون مصاحف هذه الأمة وأناجيلها في صدورها، كما جاء وصفها بذلك في الإنجيل والتوراة: (أناجيلها في صدورها)؛ ولهذا يسر الله القرآن للذكر، فهو ميسر للحفظ، يحفظه الكبار والصغار، والذكور والإناث، ومن كان من الناطقين باللغة العربية على وجه السليقة، ومن كان من الناطقين بها على وجه التعلم، كلهم يأخذ حظه من هذا القرآن ميسراً له.
ومن هذه الخصائص: أن هذا القرآن في تنزيله حصل فيه النسخ، والإنساء، والتبديل، ولم يكن ذلك يحصل في الكتب السابقة، فقد كانت تنسخ دفعة واحدة؛ ولهذا استنكر المشركون هذه الظواهر؛ لأنهم ما عرفوها في الكتب السابقة، فرد الله تعالى عليهم فيما يتعلق بتنزيله بقوله: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا[الإسراء:106-108]، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:32-33].
وهذه الآية ذكر فيها ثلاث حكم هي سر تنزيله بالتدريج والتقسيط:
أما الحكمة الأولى من هذه الحكم فهي قوله تعالى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ[الفرقان:32] تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم عما يعرض من إعراض المشركين، وتكذيبهم له، وأذاهم به، وعما يعرض كذلك في الزمان من المشكلات، وعما يعرض من الأسئلة والاعتراضات، ففي كل ذلك يأتي القرآن تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم، كقصص الأنبياء السابقين، فهي تثبيت له؛ لأنهم عانوا أكثر مما عانى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وقال: ( رحم الله أخي يوسف ! لو مكثت في السجن ما مكث، ثم أتاني الداعي لأجبته )؛ ولهذا قال الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120]، وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ[هود:120]، فهذا التثبيت هو من حكمة تنزيل قصص الأنبياء السابقين، مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ[هود:120]؛ ولهذا قال ابن المبارك رحمه الله: (قصص الصالحين جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ[هود:120]).
والحكمة الثانية هي قوله: وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا[الفرقان:32]؛ أي: خصه الله تعالى بما يتعلق بحفظه، فإن الله تعالى تولى حفظه بنفسه، ولم يكله إلى الناس، بخلاف غيره من الكتب؛ فإن الله وكل حفظها إلى الذين أنزلت إليهم، فهم الذين اؤتمنوا على حفظ تلك الكتب فضيعوها، وبدلوها وحرفوها؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ[الحج:52]، (إذا تمنى): إذا تلا وقرأ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الحج:52-54].
والحكمة الثالثة هي قوله: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:33]، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ[الفرقان:33]؛ أي: بحجة، إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ[الفرقان:33] ببيان الرد على تلك الحجة والشبهة؛ ولهذا فإن أول ما جاء به أهل الكتاب من المجادلة ما حصل بمكة عندما أرسل اليهود إلى المشركين بمكة، يقولون: جادلوا محمداً؛ فقولوا: (إنك تزعم أن ما تذبحه أنت بيمينك حلال، وأن ما يذبحه الله بشمشار من ذهب حرام) ويقصدون: الجيف، فرد الله تعالى زعمهم ودعواهم، وأنزل في سورة الأنعام: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[الأنعام:121]؛ فلذلك رد الله تعالى ما يوحيه الشياطين إلى أوليائهم من المجادلة، وما يزعمه أهل الكتاب من أن الجيف حلال، وهم يعلمون أنها في كتبهم حرام، وإنما قصدوا بذلك مجرد المجادلة، ثم جاءت المجادلة الثانية من طرف النصارى لما أنزل الله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ[الأنبياء:98]، قال النصارى لمشركي العرب: جادلوا محمداً، فقولوا: إنك تؤمن بأن المسيح بن مريم عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ومع ذلك يأتي في الوحي الذي تزعم أنه كلام الله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ[الأنبياء:98] ونحن نعبد المسيح؛ فأنزل الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57]، وأنزل الله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ[الزخرف:57-61]، (وإنه) أي: المسيح بن مريم، لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ[الزخرف:61]؛ أي: شرط من أشراطها، وعلامة من علاماتها؛ وذلك بنزوله في آخر الزمان ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق عند صلاة الفجر حكماً عدلاً.
وكذلك من هذه الخصائص التي ميز الله بها هذا القرآن أنه معجزة لفظية باقية؛ فالرسائل السابقة كانت في علم الله محددة بوقت محدد لا تتعداه؛ ولذلك تكون معجزاتها مادية بحسب ما تقوم به الحجة على من رآه أو من نقل إليه تواتراً لعلم الله أن تلك الرسالة لا تصلح إلا لذلك الطور البشري، والله تعالى خلق الناس أطواراً، وقال: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19]، وهي مراتب الخلق، وهي تسع بينها الله تعالى في آية المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:12-14]، والمقصود بذلك تناميه من صباه إلى شيخوخته، يبدأ ضعيفاً، ثم يقوى، ثم يرجع إلى الضعف والشيبة، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:14-16]، وهذه التسع في خلق الإنسان الواحد، وغيرها من الأطوار تمر به المجتمعات والشعوب والأمم، فتمر بالرقي والازدهار، والغنى والفقر، والتراجع والانحطاط، كل ذلك تمر به الأمم في حضارتها وهي الأطوار؛ فلهذا كانت المعجزات السابقة مادية، وتكون من جنس ما هو معجز لأهل ذلك الزمان، ومن جنس ما يتوجهون إليه وتتجه إليه حضارتهم، فالعرب لما أرسل إليهم صالح كانت معجزته ناقة؛ لأن الإبل كانت أكبر شيء لدى العرب، وأهل مصر لما أرسل إليهم موسى كانت معجزته العصا التي تأكل ما يأفكه السحرة؛ لأن مستوى حضارتهم إذ ذاك كان يتعلق بالسحر، وكذلك لما أرسل المسيح بن مريم إلى أهل الشام كانوا يشتغلون بالطب والحكمة، فجاء من غير أب، وهو يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وهذه أمور وقف دونها العلم، ولا يمكن أن يصل إليها، فهذه معجزات تقوم بها الحجة على كل من شاهدها أو نقلت إليه تواتراً؛ كما صح في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ). ولذلك كانت هذه الرسالة الخالدة الباقية- وهي رسالة الإسلام- مرتبطة بمعجزة خالدة باقية وهي هذا القرآن، الذي تحدى الله به الثقلين: الإنس، والجن أن يأتوا بسورة مثله، وهذا التحدي باق إلى أن يرفعه الله، فمنه بدأ وإليه يعود.
ومن هنا فلو كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كجنس المعجزات السابقة لما استطعنا نحن الآن إقناع أحد بالإسلام؛ لأنكم أنتم الآن لو لم تسمعوا في القرآن أن المسيح بن مريم كان يحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، لما صدقتم ذلك، وإنما صدقتموه؛ لأنه جاء في القرآن.
ولهذا فهذه المعجزة قائمة باقية، وهي إعجاز في اللفظ، وإعجاز في المعنى، وإعجاز في التشريع، وإعجاز في العلم، وإعجاز في القصص، فألفاظ القرآن محصورة يسيرة، آياته ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، أو ستة آلاف ومائتان وأربع وثلاثون آية على العد الكوفي، وهي بين أيديكم بين دفتي المصحف، يضعه الإنسان في جيبه، ويحفظه في صدره، ومع ذلك جمعت أنواع علوم الأولين والآخرين، ثم لخص كل ما فيه من العلوم على كثرتها وتشعبها في سبع آيات فقط، وهي السبع المثاني الفاتحة، فيها ما يتعلق بالتوحيد والثناء على الله بالألوهية، والأسماء والصفات، وبالربوبية، وفيها ما يتعلق باليوم الآخر، والعرض على الله، وفيها ما يتعلق بعبادات الناس، وفيما ما يتعلق بمعاملاتهم، وفيها ما يتعلق بالقصص وأطوار الناس في الأرض، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] هذا جامع لتوحيد الله تعالى بربوبيته وألوهيته، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3] هذا جامع للإيمان بأسمائه وصفاته، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] هذا جامع لليوم الآخر وما اشتمل عليه، إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة:5] هذا جامع لأحكام العبادات والتعامل مع الله، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، هذا جامع لأحكام المعاملات، وكل ما يتعلق بشئون العباد فيما بينهم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] هذا جامع لأحوال العباد من بداية النشأة إلى الممات، وما يكلفون به من التكاليف، وما يمر عليهم من الأخلاق والقيم، والمبادئ والأيديولوجيات، وغير ذلك، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] هذا جامع لقصص الماضين وبيان حالهم من: الالتزام، والاستقامة، والضلال، والغواية، وشأن اليهود والنصارى؛ فكانت هذه الفاتحة ملخصاً للقرآن كله، وجامعة لكل علومه، وهذا من الإعجاز الباقي الخالد.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [9] | 3618 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [6] | 3098 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [2] | 3087 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [3] | 2967 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [4] | 2870 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [7] | 2606 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [10] | 2376 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [11] | 2007 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [5] | 1734 استماع |
شرح المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه [8] | 1551 استماع |