خطب ومحاضرات
مقدمات في العلوم الشرعية [43]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بداية ظهور علم السلوك والتصوف
بعد أن انتهينا من بيان حد وتعريف علم السلوك والتصوف، نأتي إلى واضع هذا العلم، فلا يمكن أن يعين له واضع بخصوصه، لكن أول ما ظهر كعلم كان في البصرة أيام التابعين على رأس المائة الثانية، وبداية العناية به كانت بأقوال الإمام الحسن البصري ومحمد بن سيرين ومن كان على شاكلتهما من أواسط التابعين، وقد توفي الحسن البصري ومحمد بن سيرين سنة مائة وعشرة للهجرة، توفيا في نفس السنة وبين وفاتهما مائة يوم تقريباً.
وقد اشتهر كثير من المنقطعين للعبادة في البصرة إذ ذاك، وكان الناس يزورونهم لتذكيرهم بالله، كثير من أولئك المنقطعين للعبادة تظهر الحكمة وتجري على ألسنتهم، وتلك الحكمة لا تنسى إذا سمعت من أحدهم يتأثر بها سامعها، وينقلها وتبقى معه، ولهذا فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله عندما كان والياً على خناصرة بالشام مر به رجل كبير السن فرآه ضباً جميلاً، فقال: يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول، فأثرت هذه النصيحة في عمر تأثيراً بالغاً، فجعلها منهج حياته، فلقيه بعد ذلك فقال: عهدي بك بخناصرة ووجهك مضيء وفراشك وطيء، فقال: إني ذكرت تلك العقبة، ومنذ فارقتني وأنا أجتهد في قطعها.
وقد كان الناس يرحلون إلى أولئك المنقطعين للعبادة كما يرحل في طلب الحديث، فكما كانت الرحلة في طلب الحديث كذلك كان كثير من الناس إذا شكوا قسوة، أو مرضاً من أمراض القلوب رحلوا إلى بعض المعروفين بالانقطاع للعبادة والزهد، فيسمعون منهم حكمة مؤثرة، وقد اشتهرت الثغور الشامية بوجود المنقطعين للعبادة، فقد كانت مكاناً مناسباً؛ لأن المستقر فيها أيضاً مرابط في سبيل الله في وجه العدو، والعبادة في الرباط أفضل بكثير من العبادة في الأماكن الأخرى، فاشتهرت ثغور ومنها جبل لبنان وما حوله، قد اشتهر قديماً بذلك، وكذلك بيت المقدس وما حوله ودمياط من مصر والإسكندرية، تلك المناطق اشتهرت بوجود هذا النوع من الناس في الزمان الأول.
اعتناء المحدثين بجانب الرقائق والتأليف فيها
ولم يفرد أحد من الأقدمين هذا العلم بتأليف مستقل، بل قد ألف كثير من المحدثين في الزهديات بعد هذا، فمنهم وكيع بن الجراح قد ألف كتاب الزهد وهو مطبوع، ومنهم هناد بن السري وقد ألف كتاب الزهد أيضاً وهو مطبوع، ومنهم عبد الله بن المبارك، وقد ألف كتاب الزهد والرقائق وهو مطبوع كذلك، ومنهم أسد السنة وقد ألف كتاب الزهد أيضاً، ومنهم أبو بكر بن أبي عاصم النبيل قد ألف كتاب الزهد، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل وقد ألف كتاب الزهد، ومنهم تلميذه أبو بكر الخلال وقد ألف كتاب الزهد، ومنهم أبو خيثمة زهير بن حرب شيخ مسلم وقد ألف كتاب الزهد، وكذلك أبو بكر بن أبي شيبة ألف كتاب الزهد أيضاً، ثم جاءت كتب ابن أبي الدنيا فجمعت كثيراً مما يتعلق بالرقائق، وهي كثيرة جداً، فمنها: كتاب العيال، وكتاب المنامات، وكتاب الكرامات، وكتاب الرؤى، وكتاب القناعة، وكتاب الخشوع، وكتب كثيرة جداً، لقد جمع بعضها الآن في موسوعة تسمى موسوعة ابن أبي الدنيا في خمسة مجلدات مطبوعة، وطبع بعضها مستقلاً ككتاب الخمول وكتاب العيال، وكتاب أهوال القيامة، وهذا الكتاب الذي كان سبب موته، قُرئ عليه كتاب الأهوال، فلما أسمعه القارئ بعض أهوال الساعة نشق وأغمي عليه ومات.
وألف كذلك قبل هذا عبد الله بن وهب تلميذ مالك كتاب الأهوال أيضاً، وألف عدد الناس بهذا العنوان الذي هو كتاب الأهوال، وقد كان المحدثون يدرجون بعض ذلك في كتبهم، فـالبخاري رحمه الله في الصحيح وضع كتاب الرقائق، واعتنى البيهقي أيضاً بهذا الجانب، فله أيضاً كتاب الزهد، وله كتاب الدعوات الصغير، وكتاب الدعوات الكبير، وكتب أخرى من كتب البيهقي رحمه الله.
وكذلك أفرد اللالكائي جزءاً مستقلاً من كتابه شرح أصول السنة لكرامات الأولياء، وقد طبع مستقلاً عن الكتاب، لكن من أهم الكتب التي اعتنت كثيراً بالتربية والسلوك كتاب الحافظ أبي نعيم الأصبهاني حلية الأولياء، هو كتاب في التراجم في الأصل، لكن تلك التراجم يؤخذ منها هذا المنهج عموماً، وقد هذبه أو اختار منه ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة، فهذا عن عناية المحدثين بهذا الجانب.
أما الفقهاء فقد كانوا قديماً خصوماً للمتصوفة، والخصومة بينهم قديمة، فلذلك لم يعتنِ كثير من الفقهاء بتربية النفوس في كتبهم الفقهية، واعتنى بها كثيراً أصحاب الفلسفة والكلام.
تأليف بعض العلماء كتباً تتعلق بعلم السلوك والتصوف
ومن الذين خدموا هذا الباب الإمام أبو حامد الغزالي، قد ألف عدداً كبيراً من الكتب المهمة في جوانب السلوك المختلفة، وأهمها كتاب إحياء علوم الدين، الذي يقال فيه: كل الصيد في جوف الفراء.
وقد قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يستغني عنه طالب علم، مع أنه حذر من مواقع منه لما فيه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لكن عموماً هذا الكتاب وضع الله عليه قبولاً عجيباً، فاعتنت به الأمة منذ ألف إلى وقتنا هذا، ووضع عليه كثير من الكتب، فألف العراقي كتاب المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج أحاديث الإحياء، وألف الزركشي كذلك تخريج أحاديثه، وألف محمد بن يعقوب الفيروزآبادي صاحب القاموس تخريج أحاديثه، وألف محمد مرتضى الزبيدي كتاباً أيضاً في تخريج أحاديثه، وشرحه بكتاب مستقل، وهو كتاب إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين، والكتاب لا شك من الكتب العظيمة المحتوية على كثير من المباحث الجليلة، وإن كان بعضها يدرس في علوم أخرى، لكن طول باع الغزالي وكان اطلاعه جعله يبدع في كثير منها كالحلال والحرام، فكتاب الحلال والحرام من الأبواب المهمة جداً في كتاب الإحياء، وإن كان هذا الباب ألف فيه بعض الفقهاء، وقد اعتنى به المالكية وألف فيه عدد منهم كتباً مستقلة، لكن الغزالي أبدع فيه، وقد أفرد كتاب الحلال والحرام وحده من الإحياء وطبع في كتاب صغير.
وكذلك اعتنى بهذا الجانب من المتأخرين بعد هذا ابن الجوزي، فألف عدداً كثيراً من الكتب المتعلقة به، فمنها مثلاً: كتاب تلبيس إبليس، وتعرض فيه للزهاد من المتصوفة والفقهاء والمحدثين والقراء وغيرهم، على غرار كتاب الذهبي زغل العلم، وإن كان هو توسع فيه وذكر فيه الفرق من الشيعة والخوارج والمعتزلة، وله كتب أخرى تعتني بهذا الجانب.
ومن الكتب المهمة أيضاً في هذا الباب كتاب الهروي الحنبلي، وقد هذبه ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين ومنازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين، وهذا الكتاب من أهم كتب التصوف عموماً؛ لأن ابن القيم رحمه الله ذو أسلوب مؤثر أيضاً، وقد هذب كلام الهروي، ففي كلام الهروي كثير من الأمور التي قد يلتبس فيها الحق بالباطل وقد يقع فيها الإشكال، وقد أخذ ذلك ابن القيم فهذبه ورتبه ونفى أكثر ما فيه من الأخطاء، ثم كان الشيخ أبو عمار عبد المنعم العلي حفظه الله، موفقاً حين أخرج منه فقط هذه الملازم في كتابه تهذيب مدارج السالكين.
وللكبار من السابقين كتب كثيرة جداً تعتني بهذا الباب، ومنها كتب الشيخ عبد القادر الجيلاني، ومن أشهرها كتاب الغنية، وفيه كثير من الإشكالات، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية حاول التماس العذر له وشرح الإشكالات التي فيه، وحاول أن يؤولها على وجه يقترب من الصواب، وإن كان الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه كثيراً ما يتكلم في حال المحو لا في حال الصحو، أو قل: في حال الشطح فيقع منه إشكالات كبيرة جداً، مثل قوله: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله في السماء أو في الأرض، وغير ذلك من كلامه الذي حاول شيخ الإسلام أن يجد له مخرجاً بتأويل أو بالتماس عذر.
وكتب الغزالي كثيرة جداً في هذا الباب، فإنه من المبدعين فيه، وابن القيم كذلك له كتب كثيرة تتعلق بهذا مثل عدة الصابرين ومثل بدائع والفوائد، ومثل الفوائد، ومثل إغاثة اللهفان، كلها تتعلق بعلم التصوف والسلوك.
إذا أردنا أن نفصل القول في موضوع هذا العلم فإننا بالإضافة إلى الوجه الناصع المشرق الذي تحدثنا عنه فيما يتعلق بتربية النفوس وتزكيتها، وأطرها على الطاعة، وموافقة الشرع، سنجد جوانب أخرى فيها بعض الغموض والخفاء ولا تخلو من بعض الإشكالات الشرعية، فمن تلك الجوانب أننا ذكرنا أن الأصل أن الإنسان يسعى لتخليص نفسه من الأدران والاجتهاد في إتقان العبادة لله سبحانه وتعالى، لكن كثيراً ما تكون النتيجة هي أن يصل الإنسان بتلك العبادة إلى صفاء، يستشعر به أخطار الطريق، ويدرك به أحوال نفسه، بل يستطيع به تقويم الآخرين أيضاً، فتقوى نفسه حتى يكون ذا تأثير فيمن حوله، وتقوى بصيرته حتى يطلع على بعض الغيوب النسبية، ونحن نعلم أن الغيب ينقسم إلى قسمين: غيب حقيقي وهو مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وغيب نسبي معناه ما يكون غيباً بالنسبة لبعض الناس، ليس غيباً بالنسبة لغيرهم، فما كان في مجلسنا هذا غيب عمن لم يحضر، لكنه غيب نسبي؛ لأننا نحن عرفناه، وما كان في بطن الشاة غيب نسبي؛ لأن من لم يسلخها ولم يطلع على ما في بطنها فهو مغيب عنه، لكن من سلخها ورأى ما في بطنها زال عنه ذلك، وكذلك الاستكشاف بالأجهزة فالأشعة وغيرها ينكشف بها بعض ما هو من الغيب النسبي وهكذا.
فالغيوب النسبية كما تكشف عن طريق الأجهزة، اليوم تكشف أيضاً عن طريق الصفاء الروحي، وهذا الذي يسمى بالكشف، ويحلو لبعض الناس أن يسميه إشراقاً روحياً.
فإن لله سبحانه وتعالى عوالم كثيرة جداً وما يعلمها إلا هو سبحانه، وهذه العوالم تنقسم في مجملها إلى عالم الملك وعالم الملكوت، فعالم الملك فيما هو واضح من الأمور، وعالم الملكوت في المخفيات، وعالم الملكوت له بوابتان: بوابة عليا، وبوابة سفلى، فالبوابة السفلى هي التطلع المذموم على الغيبيات عن طريق الجن أو عن طريق الكهانة، أو التنجيم، أو علوم الشر أو غير ذلك، وهذه البوابة ممنوعة شرعاً، وهي فتنة وضعها الله للناس ولو شاء لسدها، كما كان الشياطين يستمعون إلى الوحي ويرجمون، وبقي هذا القدر عند الكهان يأتون بالكلمة الواحدة مما التقطوا فيضيفون إليها تسعاً وتسعين كذبة كما في الحديث.
وكذلك من هذه البوابات: بوابات القراءة في كتب السابقين، ومنها كتب الباطنية كالجبر وغيره، أما البوابة العلياء فهذه لا ينبغي التطلع إليها، ولا ينبغي للعابد أن يريد بإحسان عبادته لله وقربه منه تقوية بصيرته، أو إشراق روحه، فإذا فعل لم يكن مخلصاً لله، وربما عوقب بالطرد فترة محددة، والسالك يستوعب التقريب والطرد بما لا يستوعبه غيره، السائر في الطريق ربما أصابته نكبة، فأدرك أنها خير له، وأنها تنبيه له عن أمر، وربما أطلع على سر لا يحل له إفشاؤه، وربما نبه أيضاً على نقص في نفسه وضعف لديه ليحاول علاجه، أو ليدرك به عظمة ربه، فهذه البوابة العلياء إنما تدخل من قبيل ما يسمى بالكشف الذي المقصود به فتح الباب للاطلاع على بعض الغيوب النسبية، التي ليست هي من قبيل الوحي المنزل المعصوم الذي خص الله به الأنبياء، بل هي بمجرد قوة البصيرة، ولا تقتضي جزماً ولا إيماناً، ولا يلزم الإنسان بالإيمان بما أطلع عليه من ذلك، لكن يمكن التصرف على أساسها في بعض الأحيان، فـأبو بكر رضي الله عنه قال لـعائشة رضي الله عنها عند موته: إنما هما أخواكِ وأختاك، فقالت: أما أخواي فـعبد الرحمن ومحمد، وأما أختاي فهذه أسماء فمن الثانية؟ قال: أرى ذا بطن بنت خارجة أنثى، فأنجبت أم كلثوم بنت أبي بكر بعد موته رضي الله عنه.
وكذلك قال عمر: يا سارية الجبل الجبل، وكذلك قال عثمان حين دخل عليه الرجل: وما بال أحدكم يدخل علي وفي عينيه أثر الزنا، فقال أنس رضي الله عنه: أوحي بعد رسول الله، قال: لا، ولكنها بصيرة المؤمن، وهكذا فعدد من الصحابة رضوان الله عليهم كان يصلون إلى هذا القبيل، ومن ذلك ما ذكرنا من رؤية الملائكة وسماع أصواتهم، وأيضاً ما يحصل لهم من الحوار مع الجن وغير ذلك، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه حصل له من ذلك بعض ما ثبت عنه، وكذلك غيره كـعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
وقد كثر هذا فيمن دونهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية لذلك علة عجيبة قال: إن الآيات الكونية التي تأتي من عند الله إنما تظهر حيث نقص الإيمان، فإذا ازداد الإيمان اكتفي بالآيات التشريعية أي: الوحي، وإذا نقص الإيمان جاءت الآيات الأخرى، ومن أمثال هذا ما كان يحصل في الأمم السابقة، ففي حال الجاهلية لم يكن أحد يستطيع الاعتداء في الحرم إلا جاءته قارعة عاجلة، هذا في حال الجاهلية والكفر، كما قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57]، وكما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، وقد كان الرجل من قريش إذا أراد أن يعصي خرج من الحرم، ولذلك قالت امرأة منهم:
أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور والله آمن طيرها والعصم تأمن في ثبير
ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحرير يمشي إليها راجلاً بفنائه ألفا بعير
أي: يمشي إليها حافياً بفنائه ألفا بعير، وحصل لهم من القصص في هذا الشيء الكثير جداً، فلما جاء الإسلام أصبح كثير من فسقة المسلمين يمارسون فسوقهم في مكة، فلا يأتي ما كان يعهده أهل الجاهلية من ذلك، وكذلك ما كان في الأمم السابقة، فقد كان يأتيهم من الآيات البينات الشيء الكثير، فالمعجزات التي تجري على أيدي أنبيائهم، كميلاد عيسى من غير أب، وإحيائه للموتى وإبرائه للأكمه والأبرص، ونفخه في الطين فيكون طيراً بإذن الله، ونزول المائدة له، هذه الآيات ليست مثل آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وإن كان بعضها مادياً، لكن لم تصل لكثرتها وتواترها إلى هذا الحد.
كذلك فإن خوارق العادات التي ظهرت على أيدي الصحابة، وإن كانت موجودة, إلا أنها فيمن بعدهم أكثر، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الخوارق في أيام التابعين أكثر منها في أيام الصحابة، وأنها في أيام أتباع التابعين أكثر منها في أيام التابعين، وهذا بالاستقراء، وما ذلك إلا للحاجة إليها، ومن المعلوم أن خرق العادة إنما يكون بعادة أخرى لله، فالله سبحانه وتعالى له عادات في هذا الكون هي سننه، فكل عادة خرقها إنما يخرقها بعادة أخرى، فالطوفان خارق للعادة التي هي عادة سير الكون، لكنه عادة أخرى وهي عادة الله في الانتصار للمظلومين من أوليائه، فكل خارق هو خارق لعادة وهو عادة أخرى من وجه آخر.
بعد أن انتهينا من بيان حد وتعريف علم السلوك والتصوف، نأتي إلى واضع هذا العلم، فلا يمكن أن يعين له واضع بخصوصه، لكن أول ما ظهر كعلم كان في البصرة أيام التابعين على رأس المائة الثانية، وبداية العناية به كانت بأقوال الإمام الحسن البصري ومحمد بن سيرين ومن كان على شاكلتهما من أواسط التابعين، وقد توفي الحسن البصري ومحمد بن سيرين سنة مائة وعشرة للهجرة، توفيا في نفس السنة وبين وفاتهما مائة يوم تقريباً.
وقد اشتهر كثير من المنقطعين للعبادة في البصرة إذ ذاك، وكان الناس يزورونهم لتذكيرهم بالله، كثير من أولئك المنقطعين للعبادة تظهر الحكمة وتجري على ألسنتهم، وتلك الحكمة لا تنسى إذا سمعت من أحدهم يتأثر بها سامعها، وينقلها وتبقى معه، ولهذا فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله عندما كان والياً على خناصرة بالشام مر به رجل كبير السن فرآه ضباً جميلاً، فقال: يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول، فأثرت هذه النصيحة في عمر تأثيراً بالغاً، فجعلها منهج حياته، فلقيه بعد ذلك فقال: عهدي بك بخناصرة ووجهك مضيء وفراشك وطيء، فقال: إني ذكرت تلك العقبة، ومنذ فارقتني وأنا أجتهد في قطعها.
وقد كان الناس يرحلون إلى أولئك المنقطعين للعبادة كما يرحل في طلب الحديث، فكما كانت الرحلة في طلب الحديث كذلك كان كثير من الناس إذا شكوا قسوة، أو مرضاً من أمراض القلوب رحلوا إلى بعض المعروفين بالانقطاع للعبادة والزهد، فيسمعون منهم حكمة مؤثرة، وقد اشتهرت الثغور الشامية بوجود المنقطعين للعبادة، فقد كانت مكاناً مناسباً؛ لأن المستقر فيها أيضاً مرابط في سبيل الله في وجه العدو، والعبادة في الرباط أفضل بكثير من العبادة في الأماكن الأخرى، فاشتهرت ثغور ومنها جبل لبنان وما حوله، قد اشتهر قديماً بذلك، وكذلك بيت المقدس وما حوله ودمياط من مصر والإسكندرية، تلك المناطق اشتهرت بوجود هذا النوع من الناس في الزمان الأول.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمات في العلوم الشرعية [18] | 3790 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [39] | 3564 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [42] | 3515 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [30] | 3440 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [16] | 3393 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [4] | 3375 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [22] | 3326 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [13] | 3264 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [6] | 3257 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [35] | 3147 استماع |