مقدمات في العلوم الشرعية [38]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

لدينا الآن علم من علوم الشرع يسمى علم الآداب الشرعية، وهذا العلم في الواقع هو جزء من أجزاء علم الفقه بمعناه الواسع، لكنه أفرد بالتدريس وأصبح علماً مستقلاً ولاشك أنه ذو خطر ومنزلة من ناحية التعبد لله سبحانه وتعالى، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط في التكفير بالإيمان حسن ذلك الإيمان، حسن الإسلام فقال: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محى الله عنه كل سيئة كان جلبها، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه ).

وكذلك قال: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ).

والواقع أن هذا العلم يدخل في العنصر الثالث الذي هو الإحسان، فالإحسان في واقع العلم يشمل ثلاثة علوم:

العلم الأول: علم الآداب الشرعية.

والعلم الثاني: علم الأخلاق والسلوك.

والعلم الثالث: ما يتعلق بالنيات.

أما ما يتعلق بالنيات فما زال داخلاً في علوم الفقه، بعضه يدرس في القواعد وبعضه يدرس في الفقه وبعضه يدرس في الأصول.

وأما علم الأخلاق، فهو من علم السلوك الذي استقل من قديم، أصبح من العلوم الكبيرة وعلم الآداب الشرعية هو الذي سنتحدث عنه الآن.

أما تعريف هذا العلم: فهو العلم الذي يبحث فيه عن أحسن الهيئات التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها في حياة الإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الشريعة متدرجة، فجعل لبها وأساسها القناعة العقدية وجعل سور القناعة العقدية وحصنها وبيتها هو الإسلام المبني على الأركان العلمية: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة).

ثم جعل وراء ذلك التحسينات والحدائق المحيطة بهذا السور وبهذا المبنى، وهي الآداب التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ويتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً وعلى قدره تتفاوت منازلهم في الإسلام، فالتكليف كله في الأصل امتحان يمتحن الله به عباده والله غني عن عبادة الناس.

فلما امتحنهم بتكاليف جعلها متدرجة، فمنها ما يوافق أهواء الناس وميولهم فيسهل عليهم ولا يشق ومنها ما يوافق ميول بعضهم، ومنها ما يوافق في بعض الأحوال والبيئات ويشق في بعض ذلك، ومنها ما يكون شاقاً دائماً.

وقد أرشد الله إلى هذه المشقة في الصلاة فقال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

وكذلك في الجهاد حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ( ذروة سنام الإسلام )، وبين الله مشقته في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].

وبين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه ذروة سنام الإسلام )، ليدل ذلك على مشقته، ( فكفى ببارقة السيوف فتنة )، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا التدرج له مظهران:

المظهر الأول: فيما يتعلق بالفعل فهو مرقاة الترقي في منازل القرب، (فلا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ).

والمظهر الثاني: في العكس نسأل الله السلامة والعافية، فإن الإنسان إذا ازدرى شيئاً من الآداب والمندوبات أدى به إلى ترك السنن المؤكدات، فإذا ترك بعضها أدى به ذلك إلى ترك الفرائض، فإذا تركها أدى به ذلك إلى نقص أصل الإيمان وهكذا.

ولهذا قال العلامة محمد مولود بن أحمد فال رحمه الله في ذكر آداب المأكل والمشرب يقول:

فالمتهاون بها يبلى بأن يؤول أمره إلى ترك السنن

والمستخف بأداء السنن عمداً بإهمال الفرائض مُني

مُني: بمعنى بلي.

وما بعد ذلك إلا أصل الإيمان فيسهل زواله وذهابه نسأل الله السلامة والعافية.

والآداب جمع أدب وهو بمعنى الرياضة والتعود، فيقال: أدب فلان فرسه بمعنى روضه حتى تعود الركوب، والعادة الحميدة تسمى أدباً، والعادة الذميمة كذلك قد تسمى أدباً، فيطلق على الضدين، ومن ذلك قول الحجاج بن يوسف في خطبته لأهل العراق عندما ولاه عبد الملك على العراقين، دخل مسجد الكوفة في وقت الجمعة متقلداً سيفاً متنكباً قوساً ممسك رمحاً ومعه غلام له، وقد تعمم بعمامة غطى بها أكثر وجهه، فقصد المنبر دون أن يسلم وجلس عليه وسكت طويلاً حتى تخافت الناس فيما بينهم، وقال عمير بن ضابئ: لعن الله بني أمية حيث يولون مثل هذا على العراقين دعوني أحصبه لكم؟!

فقام الحجاج فافتتح خطبته المشهورة، وبعد أن أكملها قال: يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، ففتح الغلام الكتاب وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى أهل الكوفة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته- فلم يقف الغلام ولم يرد أحد من أهل المسجد- فقال الحجاج: اسكت لا أبا لك - هذا أدب ابن نهية والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، اقرأ كتاب أمير المؤمنين؟ فقرأ الغلام فلما بلغ: إلى أهل الكوفة السلام عليكم ورحمة الله لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.

فلأؤدبنكم غير هذا الأدب، فسمى الذي هم عليه أدباً، مع أنه عكس الأدب، لكن المقصود هنا العادة وما تعودوا عليه فيسمى ذلك أدباً.

والأدب العادة المحمودة في الأقوال والأفعال، فمن اطلاقها على الأقوال المحمودة قول الشاعر:

أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب

كذاك أدبت حتى صار من خلقي إني رأيت ملاك الشيمة الأدب

وقد ورد في الحض على الأدب كثير من النصوص المأثورة، ومن أمثال العرب: الأدب خير ميراث، خير ما يورث الإنسان ولده أن يؤدبه تأديباً حسناً حتى يستطيع حسن المعاملة، ومن أهم الأدب بل هو أهمها على الإطلاق أن ينطلق فيه الإنسان مما جاء به الشرع، أن يكون سلوك الإنسان موافقاً لما جاء به الشرع، فلذلك احتيج إلى إحصاء إرشادات الشرع التي هي تحسينيات وكماليات، وليست من صميم الواجبات والسنن المؤكدات، ولا تدخل في قبيل المنهيات، وهذا الذي نسميه بالآداب الشرعية.

ونسبتها إلى الشرع تفريق بينها وبين الآداب اللغوية، فإن لكل حضارة أدباً، وسنذكر في علوم اللغة إن شاء الله علماً من علومها يسمى علم الأدب، فلكل حضارة أياً كانت أدباً يختص بها، كما كان لفارس أدب وللروم أدب، كذلك للعرب أدب تأدبوا به في الجاهلية، وقد روي من وجه لا يصح أن وفد الأزد حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رآهم فأعجبه هديهم وسمتهم، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون، فقال: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟ فقالوا: خمس عشرة صفة، خمس منها تخلقنا بها في الجاهلية، وخمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، قال: فما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية؟ فقالوا: الصبر على البلاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، وذكروا صلة الرحم وإكرام الجار -، فهذه خمس فأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلاقهم وآدابهم وهذه كلها موافقة للشرع، فإن الشرع يحض عليها، الصدق في مواطن اللقاء هو من الصبر الذي حض عليه وبين الله فضله في كتابه، وبين ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.

قد ذكر الله أن جزاء الصابرين الجنة: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:109-111]، أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً [الفرقان:75].

فهذا من جزاء الصبر، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

وكذلك ترك الشماتة في الأعداء فهو من الخصال الحميدة التي أرشد إليها الشرع، وكذلك ما يتعلق بإكرام الضيوف والجيران ونحو ذلك، فهو لا شك من خصال الإسلام المحمودة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ), في الحديث الآخر: ( فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ).

وقد شرط النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين إكرام الضيف جائزته، أي: مدة ثلاثة أيام بالنسبة لأهل الحضر، وبالنسبة لأهل البادية يوماً وليلة، وما زاد على ذلك يكون مكرمة.

كذلك الخمس التي أمرتهم رسله أن يؤمنوا بها هي أركان الإيمان الخمسة: أن يؤمنوا بالله, وملائكته, وكتبه ورسله, واليوم الآخر, وأدخلوا القدر في الإيمان بالله؛ لأنه صفة من صفاته, والخمس التي أمرتهم أن يعملوا بها هي: أركان الإسلام الخمسة, فأعجب بذلك وزادهم خمساً تمت لهم بها عشرون خصلة.

فهذا الحديث جمع كثيراً من آداب الشرع, ولذلك اعتنى الناس قديماً بالأحاديث المختصة بالآداب, فعقدت لها أبواب في الكتب المهمة في كتب الحديث كلها، وأفردت بتآليف مستقلة كما سنذكره إن شاء الله.

إذاً هذا حد هذا العلم وتعريفه.

أما موضوعه فهو سلوك الإنسان كيف يكون موافقاً لأحسن هيئاته وأقربها إلى الله وأرضاها عنده؟ وقد اختلف هل الأصل في الإنسان استقامة السلوك أو اعوجاجه؟ فنحن نشاهد بالفطرة أن الصبي يحتاج إلى تأديب, وأن الدابة تحتاج إلى ترويض، فلهذا اختلف أهل العلم فقال الغزالي: الأصل في الإنسان الاعوجاج، أي: وجود أمراض القلوب, واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم شق صدره وأخرجت منه المضغة السوداء، وغسل قلبه بزمزم, قال: لو كان أحد ينجو من ذلك لنجا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله كابراً عن كابر من الخلائق جميعاً.

وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الأصل في الإنسان السلامة من أمراض القلوب والاستواء يكون سوياً، وأن ما عدا ذلك هو الشاذ، واستدلوا على هذا بقول الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30], وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هم اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ), وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا وينتج كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، فهل ترى فيها من جدعاء ), وفي رواية في الصحيح: ( فهل ترى فيها من جدع )، أي: من قطع, فهذان الحديثان وهذه الآية كل ذلك دليل على أن الأصل الفطرة، الفطرة المستقيمة.

والذي يبدو لي أنه بالإمكان أن يجمع بين الأدلة فيقال: الأصل في الإنسان قابلية الانحراف, والأصل فيه السلامة منه, فالذي نزع من النبي صلى الله عليه وسلم ليس الانحراف، فلم يكن فيه انحراف قط, والذي نزع منه هو قابلية الانحراف، فلم تعد لديه قابلية لذلك.

فحظ الشيطان لم يعد قابلية له, وهذا مثل الأمراض البدنية، فالأمراض البدنية الأصل في الإنسان السلامة منها، لكنه عرضة للإصابة بها، فالأصل أيضاً أن تكون لديه قابلية لها.

وعموماً فلا شك أن الإنسان بعد أن يصل إلى حد التكليف سيجد نفسه مصاباً بكثير من هذه الالتواءات والاعوجاجات في السلوك، فيحتاج إلى تقويم نفسه من ذلك, فالذي يقوم به نفسه ويستقيم به على هديه هو هذا العلم الذي هو علم الآداب الشرعية، أنه يزيده رقياً وإيماناً.

وواضع هذا العلم لا يمكن أن يحدد كغيره من العلوم الشرعية؛ لأن أكثر ما جاء به هو: مجرد جمع من نصوص التي جاءت من عند الله ومن عند رسوله صلى الله عليه وسلم, فلذلك أكثر المؤلفات فيه هي جمع فقط، وليس فيها ابتكار وإبداع, لكن من أوائل المؤلفين فيه البخاري رحمه الله، فقد ألف كتاب الأدب المفرد، وأيضاً في صحيحه كتاب الأدب, واستمر على ذلك أئمتنا في التصنيف، فما منهم أحد إلا ويضع كتاب الآداب أو أبواباً للأدب في جامعه، إذا كان على طريقة الجوامع والسنن، وإذا كان على طريقة المسانيد فيأتي بنصوص الآداب في مسانيد أصحابه الذين رووها.

وألف البيهقي كتاب الآداب كذلك، جمع فيه كثيراً من هذه النصوص, ثم جاء الفقهاء فاستنبطوا من تلك النصوص بعض الضوابط المتعلقة بالأبواب المختلفة، وفصلوها إلى قسمين: قسم جعلوه جزءً من أجزاء العبادات فلم يجعلوه من هذه الآدب المختصة بهذا العلم، كمندوبات الصلاة التي في داخل الصلاة هذه لم تعد من هذه الآداب المفردة, وأوردوا فيه ما كان تحسيناً خارجياً، وبوبوه على أبواب: فمنها باب آداب المقام والسفر، أي: ما يتعلق بالإقامة والسفر من الآداب, وباب الأدب في الاكتساب وطلب الرزق, وباب الأدب في طلب العلم, وباب الأدب في النكاح وعشرة النساء, وباب الأدب في تربية الأولاد, وباب الأدب في مخالطة الناس والعزلة, وباب الأدب في التعبد وما يختص بالإنسان من المستحبات، كيف يأطر نفسه حتى لا يقع في إفراطٍ ولا في تفريط؟

وبعضهم يضيف إليها أبواباً شتى جزئية تدخل في عموم هذه، الأدب في اللباس, الأدب في السواك, الأدب في الاستطباب والعلاج, الأدب في الاغتسال, الأدب فيما يتعلق بالبدن من الادهان والامتشاط والعطر وغير ذلك، كل هذه تتعلق بها آداب.

وكذلك فإن الأصوليين أيضاً وضعوا بعض الضوابط المهمة في هذا الباب، فرأوا أن كل أمرٍ شرعي يتعلق بالآداب، فهذا صارف له عن دلالته الأصلية التي هي الرجوع، وأن كل نهي شرعي يتعلق بالآداب والإرشاد، فهذا صارف له عن دلالته الأصلية التي هي التحريم, فمثلاً: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الإنسان قائماً, ونهى أن يلبس إحدى نعليه ويمشي فيها وحدها, كل ذلك في أحاديث صحيحة, لكنها محمولة على الأدب، فتكون من باب الندب ولا يأثم فاعلها.

ومثل ذلك ما جاء في هيئات اللباس فكلها من باب الأدب، هيئات العمامة والثوب ونحو ذلك كلها من باب الأدب، وليس شيء منها ملزماً, وهكذا في هيئات الركوب والسفر والاكتساب، وآداب العشرة، وآداب البنيان والإقامة كل ذلك يدخل في هذا القبيل, وعادة الفقهاء أن يوردوا في نهايات الكتب كتاباً يسمونه كتاب الجامع فيخصونه للآداب الشرعية، ويكثر هذا في كتب المالكية, والحنفية كذلك يوردون في كتبهم كتاباً يسمونه كتاب الكراهة, فيجعلون فيه بعض الخصال التي نهى عنها الشارع نهياً غير جازم، وتتعلق بالآداب عموماً.

وهذه التسمية أول من سبق إليها الإمام مالك، فقد كان بعد كل كتاب من كتب العلم يضع باباً جامعاً، باب جامع وقوت الصلاة، باب جامع الصلاة, باب جامع الغسل, باب جامع كذا, جامع صلاة الليل, ثم في آخر الكتاب أتى بكتاب الجامع، ذكر فيه ما يتعلق بالرقى, وما يتعلق بفضل المدينة, وما يتعلق بأبواب مختلفة, فكان ذلك سنة المؤلفين من الفقهاء، سلكوا هذا الطريق في التأليف.

أما نسبة هذا العلم إلى غيره من العلوم، فهو بالنسبة للفقه جزء منه، فنسبته إليه نسبة العموم والخصوص مطلقين, ولذلك يتعرض فيه في كثير من الأحيان بكثير من المسائل الفقهية التي قد لا تدخل في الآداب، فمثلاً: النهي عن النمص والوشم والوشر والوسم في الوجه، والتطريف، وتغيير خلق الله بما نهي عنه، هذا في العادة لا يذكره الفقهاء إلا في هذا الكتاب الجامع، مع أنه فيه كثير من الأحكام التي هي من باب التحريم، ومن باب الأحكام الفقهية, لكن لا تدخل في باب من أبواب الفقه المعروفة, فلذلك يذكرونها في الغالب في هذا الموضع.

وقد يتعرض لها بعضهم في آداب النكاح في الوليمة وما يتعلق بها, وهكذا أحكام اللهو، ما يتخذ من الطبول ونحوها في الحرب، وما يتخذ من الدفوف في الأعراس ونحوها, وهكذا فهذه الأمور غالباً تذكر في الجوامع، وقد تتعرض لها في الجهاد وفي النكاح, كذلك آداب السفر، وعدم الإسراف في المآكل والمشارب ونحو هذا, هذا آداب الأكل والشرب وآداب الصدقة، في الغالب هذه تذكر في أبوابها من أبواب الفقه، ولكن مع ذلك تدرج في كتاب الجامع، فالطب والرقى ونحو ذلك من الأبواب في أغلبها إنما تكون في كتاب الجامع.

أما مستمد هذا العلم فهو من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وقد يدخله الاجتهاد, اجتهاد الأئمة المجتهدين فيما يتعلق بالاستنباط من عموميات الشرع، وذلك الذين يسمونه استحساناً، فمثلاً: إكثار الحركة في الصلاة لا شك أنه مزيل لهيبتها ومزيل للخشوع فيها, لكن لم يرد به نص جازم للنهي عنه، وإنما هو اجتهاد من الفقهاء استنبطوه من الأمر بالسكوت، فقد قال الله تعالى: (( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ )), حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238], أي: ساكتين أو داعيين، فهذا يقتضي قطع كل ما يمنع الخشوع وما يقتضي التشويش, ولا شك أن الحركة مانعة للخشوع مقتضية للتشويش.

أما فضل هذا العلم فهو ناشئ عن ثمرته، فإن الإنسان لا يستطيع إحسان التعبد لله سبحانه وتعالى وإحسان معاملته وصدق التوجه إليه، ولا إحسان معاملة والديه ولا غيرهما من الناس إلا بهذا العلم, فإذا أحيل الإنسان إلى طبعه وميوله فكثيراً ما تختلف الأهواء والطباع، فيكون رأي الوالد إلى اتجاه ورأي ولده إلى اتجاه آخر يختلفان فيه، فلا يعرف الإنسان كيف يبر أباه وأمه؟ وكيف يعاشر الناس ويخالطهم بخلقٍ حسن؟ إلا بمعرفته للآداب الشرعية التي هي المرجع لدى الجميع فهي الفيصل, فمن حاد عنها فهو المنحرف، ومن وافقها فهو المصيب, فلذلك كان فضل هذا العلم عظيم, ومع فضله فقليل من يشتغل به من الناس, وقد ذكر ابن الحاج رحمه الله أن الفقهاء كانوا سبباً في ذلك حين أخروه فجعلوه في مؤخرات الكتب، فيتعب الطالب قبل أن يصل إليه، وكثيراً ما ينقطع قبل وصوله إلى كتاب الجامع.

وقليل جداً من أهل العلم من درس هذا العلم واعتنى به، ولهذا تحصل الجفوة والغلظة في كثير من الأحيان، بل ومخالفة الشرع في عدد من المسائل الراجعة إلى الآداب, وقد ذكر ابن الحاج رحمه الله منها: أن العالم يجلس في مجلسه يقرر مسائل الربا, ويشرح وينظر ويستدل، فإذا رجع إلى بيته وهو يعلم ما في الأسواق من الفساد والربا، وأراد أن يشتري حاجةً أرسل صبياً أو جارية أو غلاماً يشتري له، فيشاركهم فيما كان يحرم عليهم.

وقلّ من أهل العلم من يقوم بهذه الآداب على وجهها، فيشتري لنفسه على الوجه الصحيح، ويمارس عمله بنفسه، فهذا مما أنكره ابن الحاج على علماء زمانه, قال: ما منعهم من النزول إلى الأسواق إلا الكبر، فهم يعرفون الحكم ويعرفون ما فيها من الفساد، ويعرفون انتشار الربا فيها وأنها قلّما تخلو صفقة فيها من ربا, ويعرفون أن عمر بن الخطاب قال: من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى، وكان يأمر بإقامة من لم يكن فقيهاً من السوق يخرج من السوق، والفقهاء يعرفون هذا، لكن قلّ منهم من يطبقه.

ولا شك أن مجال التطبيق من المجالات المهمة جداً في العلم, فالعلوم التي لا يصحبها عمل تكون وبالاً على أصحابها، وحسرة وندامة تقوم بها الحجة لله، ولا يجد صاحبها أي أثر لها.

أما تعلم هذا العلم فهو راجع إلى الخلاف السابق, فلا شك أن من يرى في نفسه تقصيراً في جانب من الجوانب يجب عليه تعلم ما يعالج به في الداء الذي فيه، وهذا سنذكره إن شاء الله في علم السلوك, من وجد في نفسه غضباً أو حسداً أو بخلاً أو رياءاً أو سمعةً أو نحو ذلك وجب عليه من التعلم ما يزيل به ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لم ينزل الله داء إلا وأنزل له دواء فتداووا عباد الله ), وقد حمل أهل العلم الأمر على الوجوب في أدواء القلوب وعلى الندب في أدواء الأبدان.

وما سوى ذلك فهو فرض كفاية حتى لو لم يكن هو واجب التطبيق جزئية المندوبة، آداب الأكل أن يأكل الإنسان بيمينه، وأن يأكل مما يليه، وأن يأخذ بثلاثة أصابع، وأن يستعين بالرابعة، وأن يحاكي أكيله في مدة المضغ وفي قدر اللقم، وفي الفاصل بينها، وألا ينظر إلى فيه وقت الأكل، وألا يسكت سكوت اليهود، وأن يرفع إحدى ركبتيه، والأفضل رفع اليمنى واعتماد على اليسرى، وألا يعتمد على يده اليسرى خلف ظهره، وكذلك ألا يزاحم ونحو هذا، أن يبتدئ بالبسملة وأن يختم بالحمد، ونحو هذا من الآداب الكثيرة المتعلقة بالطعام، وإن كانت هي غير واجبة، لكن تعلمها فرض كفاية؛ لأنها من أحكام الله المنزلة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على الأمة أن يكون فيهم في أهل كل بلد من يعرف هذه الأحكام وهذه الآداب، وهكذا في تربية الأولاد وخلطة عشرة النساء ونحو ذلك.

وأولى الناس بتعلم هذا أهل الحسبة وأهل الدعوة، أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وينفردون لذلك, وأهل الدعوة الذين يظهرون للناس بمظهر القدوة يقتدوا بهم, هؤلاء أولى الناس بتعلم هذا العلم والانشغال به وتطبيقه.

واسم هذا العلم علم الآداب الشرعية أو علم الأدب.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمات في العلوم الشرعية [18] 3790 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [39] 3563 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [42] 3514 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [30] 3440 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [16] 3391 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [4] 3375 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [22] 3327 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [13] 3262 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [6] 3256 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [35] 3145 استماع