مقدمات في العلوم الشرعية [32]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما علم المنطق، فهو علم قديم ليس في الأصل من علوم المسلمين، بل كان من علوم الإغريق اليونانيين.

ونشأته من لدن رسطاليس أو أرسطا طاليس، فهو واضعه، والعرب ينطقونه بـأرسطو، ورسطاليس أيضاً، كقول المتنبي:

من مخبر الأعراب أني بعدها جالست رسطاليس والإسكندرا

وكذلك قول أبي العلاء المعري:

إذا قورنت في أمر بدون فلا يكن منك في هذا نفور

ففي الحيوان يجتمع اضطراراً أرسطاليس والكلب العقور

وهذا العلم تعريفه أنه علم القوانين والمقاييس التي يرجع إليها في إثبات الأحكام.

والمقصود بالأحكام هنا الأحكام العقلية، وذلك أن العقل يرجع إليه عند الاختلاف في الفهم والتصور عموماً، والعقول متباينة، فما من أحد إلا وهو راضٍ عن الله في عقله، والناس بهذا لا بد أن يكون لديهم ما يتحاكمون إليه عند اختلاف عقولهم، فالذي يمكن أن يتحاكموا إليه، وأن يرجعوا إليه عند اختلاف العقول هو قواعد منضبطة المتفق عليها فيما بينهم.

وهذه القواعد احتاج الناس إلى وضع قوانين يتحاكمون إليها عند اختلافهم اختلافاً عقلياً، وهذه القوانين يحتاج إليها في نوعين من أنواع العلوم، مثل العلوم العقلية البحتة، والعلوم التجريبية، بخلاف علوم الوحي فإن لها قوانين يرجع إليها غير هذه، فالوحي المرجع فيه إلى النص، الذي يحسم الخلاف في المواضع التي يقصد حسم الخلاف فيها، وما لم يحسمه النص فإن الشارع أحاله إلى الأفهام والاجتهادات والاستنباطات.

فدل ذلك على أنه ليس من أصول الدين التي لا ينبغي الاختلاف فيها، بل هي قابلة للاختلاف في وجهات النظر، وكل ما لم يحسم بنص فهذا يدل على أنه ليس من أصول الدين التي لا يمكن الاختلاف فيها، وهو قابل للاختلاف في وجهات النظر.

أما الأمور العقلية؛ فبما أن حكم العقل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إيجاب، واستحالة، وجواز.

وجد لها طرفان:

الطرف الأول: الإيجاب، وهو حكم العقل بالثبوت الذي لا يقبل النفي.

الطرف الثاني: الاستحالة، وهي حكم العقل بالانتفاء الذي لا يقبل الثبوت.

وبينهما الجواز، وهو الواسطة، فهو تجويز العقل للأمر، أي: قبوله لإثباته ونفيه.

فالتجويز هو مساحة الاختلاف في العقول، وأما الإيجاب والاستحالة فهما طرفان، هما موقفا العقل، في الطرفين في الإثبات والنفي.

فاحتيج إذاً إلى معيار متفق عليه بين الجميع، وهذا المعيار يرجع فيه إلى علمين: أحدهما: التصور، والثاني: التصديق، أي: نوعين من أنواع المدركات.

فالتصور معناه: إدراك المفردات، أي: معرفة مفردات الأشياء دون حكم عليها، كمعرفة السماء، معرفة الأرض، معرفة الماء، معرفة النار.. ونحوها من المفردات، هذا الذي يسمى بالتصور.

العلم الثاني: وهو علم التصديق، وهو علم الحكم، أي: إثبات نسبته إلى المفردات، فبعد معرفة المفردات يحكم عليها بإثبات أو نفي، مثلاً: الحكم على السماء بالفوقية، الحكم على الأرض بالتحتية، الحكم على الماء بالإطفاء للنار، الحكم على النار بإحراق الأشياء، هذه أحكام في الإثبات والنفي تسمى بالتصديق، واختيار هذا الاسم لها، بحيث إن حكمها في الأصل قابل للنفي أو الإثبات، فإذا قلت: من دخل النار احترق، ومن شرب الماء ارتوى، هذا قابل للإثبات، وقابل للنفي؛ لأنه لم ينزل به الوحي، ولا العقل يوجبه، وإنما يرجع فيه إلى العادة، فقد جربنا أن من دخل النار احترق، وأن من شرب الماء ارتوى، فهذا إذاً حكم تجريبي، ومن لم يجربه يحتاج إلى أن يثبت له، فاحتيج حينئذٍ إلى تصديقه أو تكذيبه.

وهذا العلم كان يمكن أن يسمى بالتكذيب أو أن يسمى بالتصديق، فاختير له خير الاسمين، فسمي بالتصديق؛ لأن التصديق أولى من التكذيب، والأول سمي بالتصور؛ لأن التصور مشتق من الصورة، ومعنى ذلك أنه إدراك لصورة الشيء وهيئته، ولذلك كل تصديق مؤلف من أربعة تصورات.

مثلاً إذا قلت: الفيل بارك، هذا تصديق؛ لأن فيه إثباتاً وحكماً على الفيل بالبروك، وهو مؤلف من أربعة تصورات: التصور الأول: إدراك الفيل نفسه، بغض النظر عن اتصافه بالبروك، فمن لم يفهم معنى هذه الكلمة لا يمكن أن يدرك ما تحتها.

ولهذا قال ابن هشام رحمه الله في مغني اللبيب: وسألني ابن عقيل وقد عرض اجتماعنا عن إعراب قول زهير بن أبي سلمى:

تَقِيّ نقي لم يكثر غنيمَة بنهكة ذِي قربى وَلَا بحقلدِ

فقال: علامَ عطف قبله ولا بحقلد، فقلت: حتى أعرف ما الحقلد، فإن الإعراب مندرج تحت المعنى، فبحثنا عن عنه فإذا هو الشحيح، أو سيئ الخلق، فقلت: عطفاً على التوهم، فكأنه قال: لم يكثر غنيمة بنهكة ذي قربى، ولا بنهكة ذي قربى، ظن أنه قال: بإنهاك ذي قربى، ولا بحقلدِ، ليس ظناً أنه قال: ليس بمكثر غنيمة بنهكة ذي قربى، وليس بحقلدِ، وهي عطف على التوهم.

التصور الثاني: هو تصور البروك بغض النظر عن اتصاف الفيل به، فلا يمكن أن يفهم هذه الجملة: الفيل بارك، إلا من يعرف البروك ما هو، فمن لا يفهم معنى البروك لا يمكن أن يفهم هذه الجملة.

التصور الثالث: هو هيئة بروك الفيل هل هو مثل بروك البقرة، أو بروك الناقة، أو بروك الشاة، أو بروك الكلب، فمن لم يعرف هيئة بروكه يمكن أن يتصور حصول البروك، لكن لا يستوعب بروكه تماماً.

التصور الرابع: هو ثبوت هذا أو نفيه، هل هو صدق أو كذب، هل فعلاً الفيل بارك، أو غير بارك.

هذه أربع تصورات.

وقد يجتمع التصديق الواحد، مثلما قلنا: هذا حرام، أو هذا حلال. لا بد أن تعرف أولاً هذا ما هو. كما إذا قلت: (التمر ربوي)، فلا بد أن تعرف التمر أولاً، فمن لم يعرف (التمر) لا يمكن أن يفهم هذا الحكم الشرعي (ربوي)؛ ومن لم يفهم الربا لا يمكن أن يفهم هذا أيضاً، ثم بعد هذا من لم يعرف نوع الربوية أو علة الربا في المطعومات، لا يمكن أن يتصور الربوية في التمر، فلا يدري هل فيه ربا النساء أو ربا الفضل، أو هما معاً، والواقع أن التمر جنسه من الربويات ففيه ربا الفضل، والنساء مع الجنس، وفيه ربا النساء فقط مع غير جنسه، ( فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، التمر بالتمر، بينهما ربا الفضل، وربا النساء، والتمر بالقمح بينهما ربا النساء، وليس بينهما ربا الفضل، ثم بعد ذلك إثبات كون التمر ربوياً يحتاج فيه إلى نص، فيرجع فيه إلى الحكم الشرعي، كما في حديث عبادة بن الصامت مثلاً، وهكذا.

هذا إذاً هو حد هذا العلم.

أما موضوعه، فهو أحكام العقول، وأحكام العقول ترجع إلى هذين الحكمين: التصور والتصديق.

فالتصور آلته المعرفات، والتصديق آلته الحجج، والتصور إنما يعرف بالمعرفات كالحد، والرسم، وأنواع التعريف: التعريف اللفظي، وشرح الكلمة بما يرادفها.

وأما التصديق فآلته الحجج، وهي البراهين المثبتة للأمر المشكوك فيه، والحجج إنما تكون عقلية أو نقلية، فالنقلية المرجع فيها إلى السماء، والعقلية التي المرجع فيها إلى حكم العقل لا بد فيها من قياس؛ لأنها تعتمد على البرهان، والبرهان يعتمد على الأقيسة، والقياس ينقسم إلى قسمين: قياس حملي، وقياس استثنائي، والقياس الاستثنائي يسمى بالقياس الاقتراني أيضاً، فالعلم الذي يبحث فيه عن المعرفات وعن الحجج وإبطال تلك الحجج. هذا هو العلم المنطق.

إذاً موضوع علم المنطق الذي يدرس التعريف والحجج، مرجعه إلى هذين الأمرين.

بعد هذا واضعه؛ كما ذكرنا هو أرسطاليس، لكن لدى المسلمين مترجمه هو المأمون، سابع خلفاء بني العباس، فقد أمر بترجمته، وشارك هو في الترجمة، والواقع أن المسلمين في ذلك العصر قد بدءوا إنتاج بعض القوانين التي تشبه القوانين المنطقية، ولكن لم يكن لهم اطلاع على تقدم اليونانيين فيها، فقد سبقوهم إلى هذا المجال، وأتقنوا فيه، لكن كان علم اليونانيين مرتبطاً بجانب من الخرافة والشرك؛ لأن نظرتهم العقلية كلها مبنية على تعدد الآلهة، فاحتاج المسلمون إلى تنقية المنطق من آثار هذه الوثنية الإغريقية. وكلف هذا جهداً جهيداً؛ لأن كثيراً من المصطلحات كانت في الأصل مصطلحات شركية، فغيرت في الترجمة العربية، وأصبح المنطق خالصاً منها.

لكن مع هذا بقي الخلاف في حكمه، وهذه مقدمة أخرى، وهي حكمه.

ذهب بعض أهل العلم إلى تحريم تعلمه، ومن هؤلاء ابن الصلاح، والنووي، وبعض علماء الشافعية، وتختلف نظرتهم إلى ذلك.

فـالنووي رحمه الله يرى أن علم المنطق يثير كثيراً من الشبه العقلية، ويجهد العقول ويشغلها عما هو أهم، فمن أجل هذا رأى تحريمه؛ لأن مذهب النووي تحريم العبث كله، فهو يرى أن كل ما هو عبث فهو حرام.

أما ابن الصلاح فإن وجه تحريمه له أنه يؤدي إلى الكبر، فإن من عرفه قويت حجته على غيره، فاستطال عليه بلسانه، فيؤدي ذلك إلى كبره وعجبه، والكبر والعجب كلاهما من أمراض القلوب، وإمراض القلوب حرام، ويحرم على الإنسان السعي في تحصيلها.

ويخالفهم من علماء الشافعية الإمام الغزالي، فيرى أنه فريضة، وقال: من لا يعرفه لا يوثق بعلمه، وقال: هو معيار العلوم كلها، وذلك أن العلم يرجع إلى وحي وإلى عقل، فالوحي لا يمكن أن يفهم إلا بالعقل، والعقل الناس فيه متفاوتون فلا بد فيه من مرجع، ومرجعه إنما هو إلى التصور والتصديق، فمن لم يعرف هذا لا يمكن أن يوثق بعلمه وإدراكه لكل ذلك، وبالأخص بعد التأليف، أي: حين ألفت المؤلفات على الطريقة المنطقية.

وما قاله دافع عنه عدد من المتأخرين بعده كـالآمدي، والبيضاوي، وابن الحاجب، وعدد من أئمة الإسلام، وللمدافعة وجه؛ لأن الغزالي رحمه الله إنما يتكلم في زمانه، وقد توفي سنة (505) للهجرة، وقد انتشرت المؤلفات في أصول الفقه، والفقه، وعلم الحديث، وحتى في علوم اللغة كالنحو والصرف، والبلاغة، وكلها متأثرة بعلم المنطق.

وأيضاً فإن علوم الشريعة قد اتسعت في زمانه وكثرت، فقد بلغت ذروتها وقمتها في عصر الإمام الغزالي، ففي القرن الرابع والخامس كان ذروة التطور لدى المسلمين، وزيادة العلوم، وزيادة المؤلفات، وانتشارها والتواصل الحضاري مع الحضارات الأخرى، وكان هذا العلم حكماً آنذاك على المؤلفات كلها، ولا يمكن استيعاب هذه العلوم المختلفة، ولا إدراك بناء بعضها على بعض إلا بمعرفة قواعده، فما قاله الغزالي إذاً صحيح من هذا الوجه، لكنه لا ينسحب على من سبق، فلا يقصد الغزالي به أن الذين سبقوه من أئمة المذاهب ومن عاصرهم مثلاً أنهم لا يوثق بعلمهم؛ لأنهم ما درسوا المنطق، إذ سبقوه، فهذا ما أراده الغزالي، ولا يتجه إليه نظره بوجه من الوجوه، بل مقصده من عاصره هو ومن جاء بعده.

ومن العلماء من يضع قيوداً لحكمه، فيرون أنه إنما يجوز الاشتغال به لكامل القريحة، ومن ممارس للكتاب والسنة.

وهذه الأقوال الثلاثة هي التي أشار إليها الأخضري رحمه الله بقوله:

والخلف في جواز الاشتغال به على ثلاثة أقوال

فابن الصلاح والنواوي حرما وقال قوم ينبغي أن يعلما

والقولة المشهورة الصحيحة جوازه لكامل القريحة

ممارس السنة والكتاب ليهتدي به إلى الصواب

وفي العصور اللاحقة بعد الغزالي اشتهر الخلاف الجدلي بين أهل الحديث وأهل الرأي، وكان أهل الحديث إذ ذاك يمثلهم الحنابلة، وأهل الرأي يمثلهم الحنفية، وبين الطائفتين خلاف موروث قديم، فالحنفية يأخذون بمذهب أبي منصور الماتريدي في العقائد، والحنابلة آنذاك يأخذون بمذهب البربهاري وابن حامد ومن على شاكلتهما من أئمة الحنابلة، فالحنابلة يصفون أهل الرأي بأنهم يؤلهون العقل، ويقدمونه على كل ما عداه، ويؤثرونه على النص، وأنهم أعيتهم السنن أن يحفظوها، فاشتغلوا بالرأي، والآخرون يعيدون عليهم الحجة نفسها، فيقولون: هؤلاء ما عجزوا أن يفهموا قضايا العقول، فرجعوا إلى النقول عن قوم غير معصومين، ولا جاءت النصوص بعصمتهم، واعتمدوا على قال فلان، وقال فلان.

والواقع أن الطائفتين يمكن أن يصطلحا، وألا يقع فيهما اختلاف، فليس الأمر بهذه الدرجة، فحتى الرأي لا يمكن أن ينفرد دون النقل، ودون الأثر، والأثر أيضاً كثير منه رأي، فالآثار عن التابعين وعن الصحابة، وعن أتباع التابعين أكثرها رأي، غير معتمدة على توقيف.

ولهذا ترون أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تأثر بمدرسته الحنبلية، فألف كتابه الرد على المنطقيين، لكن الواقع أنه ما ألف هذا الكتاب حتى تعلم المنطق، وعرف قواعده؛ لأنه أراد نقضه من خلال قواعده، والذي توصل إليه هو مجرد وجود بدائل منطقية رشحها هو أن تكون بديلاً عن القواعد التي وضعها المناطقة قبله، فهو مجرد منطق، لكن بقراءة أخرى، فالجميع يتفقون على أن العقل لا يمكن تجريده، وأن الإنسان لا يستغني عنه، وأن الشارع ما أراد تعطيل العقول، وأن من عدم العقل غير مكلف؛ لأن العقل هو مناط التكليف، وأن النص لا يحكم بذاته، وإنما يحكم به، وأن دلالاته لا يمكن أن تستوعب إلا من خلال الفهم الراجع إلى العقل، فهذا لا اختلاف فيه، لكن الاختلاف فقط هو في حدود ما يعطاه العقل من المرجعية وما لا يعطاه.

وأصل هذا الخلاف كما تعلمون مسألة التحسين والتقبيح، التي انفرد بها المعتزلة برأي شاذ، حيث زعموا أن الشرع مظهر لتحسين وتقبيح سابقين عليه، فيرون أن كل ما حرمه الشارع فإنما حرمه من أجل قبحه عقلاً، وأن كل ما أباحه أو ندب إليه أو أوجبه فلأن العقل يرى أنه أفضل وأحسن، أي: يستحسنه، وهذه النظرة لدى المعتزلة اقتضت بهم إلى تمجيد العقل، ثم وقع فيها بعض الشواذ من علماء المسلمين الذين كانت لهم شذوذات كبيرة، ومنهم الطوفي من الحنابلة، فتمجيده للمصلحة أرجع فيه الأمور إلى التحسين والتقبيح العقليين، بل إن بعض الناس يلومون ابن القيم رحمه الله حين قال: حيث وجدت المصلحة فثَمَّ شرع الله، ويقولون: كان لازماً على ابن القيم أن يقول: حيث وجد شرع الله فثمة المصلحة، فظاهر كلامه موافقة الطوفي، لكن ابن القيم لا يرى رأي الطوفي في هذا الباب.

والذي يتلخص من خلال هذه الأقوال أن علم المنطق أصبح من علوم المسلمين، وأن دراسته من فروض الكفايات، وأنه يتعين على المنفرد لطلب العلم لدراسة الكتب الموجودة؛ إذ هي مؤلفة على الطريقة المنطقية، فلا يمكن أن يستوعب رد الشبهات من العقائد، ولا أن يستوعب القواعد من الأصول، ولا من الجرح والتعديل، ولا من علم البلاغة والنحو والصرف، إلا إذا كان يعرف بعض القواعد المنطقية التي عليها بنيت الكتب والمؤلفات.

أما نسبة علم المنطق إلى غيره من العلوم، فهي نسبة العموم والخصوص الوجهي؛ لاشتراكه مع علم الكلام وعلم العقائد عموماً، وعلم الجدل، وعلم الفقه، والأصول، والمصطلح في بعض أبحاثه، ولانفراده هو عن هذه العلوم بأبحاث مستقلة، ومع هذا فالأبحاث المستقلة في علم المنطق التي لا تدخل في العلوم الأخرى قد يستغنى عنها بالكلية، فلذلك يمكن أن نستغني الآن عند دراسة بعض الجزئيات المنطقية التي لا يوجد لها ذكر في العلوم الأخرى، مثل الموجهات، ومثل نسبها، ومثل التسوير في القضايا الشرطية، فهذه لم يعد لها دخل في العلوم الشرعية كلها، ولكن لا يمكن أن يستغنى عن الكليات والجزئيات، وأقسام الكليات، ولا يستغنى عن المعرفات، ولا عن الأقيسة والقضايا، ولا عن البرهان، ولا عن خطأ البرهان، ولا عن لواحق القياس؛ فهذه أمور لا يستغنى عنها أبداً في العلوم الشرعية.

أما مستمد علم المنطق؛ فهو من العلوم التي مستمدها الأصلي العقل، وبعد تطويره وترجمته إلى العربية أصبح من مستمداته أيضاً لسان العرب، بل ربما يقال: إن من مستمداته أيضاً الكتاب والسنة، لاعتماد كثير من الجزئيات المنطقية على بعض النصوص الشرعية التي أخذت منها واستنبطت، فإن المسلمين لم يتركوه كما كان، وإنما طوروه ونخلوه، ولذلك قال المختار بن بون رحمه الله بعد ذكر الأقوال السابقة في حكم تعلم علم المنطق:

قلت نرى الأقوال ذي المخالفة محلها ما ألف الفلاسفة

أما الذي خلصه من أسلما فذلك واجب على الدوام

واجب يقصد به: فرض كفاية.

أما فضل هذا العلم -علم المنطق- فهو بحسب فائدته، فكل علم فضله بحسب فائدته، كما قال المقري رحمه الله:

كل علم للمزية اكتسب ففضل من معلومه له انتسب

ولا شك أن زيادة العقل مما يتفاضل الناس به، وأن من عرف كيف يقنع الآخرين ازداد فضله، والمنطق وسيلة لذلك، فهو وسيلة لترتيب الأفكار وتركيبها، ووسيلة لإقناع الآخرين، ووسيلة كذلك لإدراك كثير مما يخفى؛ فهذا وجه فضله.

وأما فائدته على طالب العلم؛ فهي إدراك مآخذ أهل العلم، وحججهم، وقوة العارضة في الاستدلال لمذهبه.

واسم هذا العلم هو (المنطق)، وهذا الاسم مشتق من النطق، فهو في الأصل: الكلام، كما قال الحكيم: (إن البلاء موكل بالمنطق)، والمنطق: النطق؛ وإنما سمي بذلك لأنه صيانة للمنطق عن الهذر، فإن من تعلمه استطاع أن يختصر الأدلة، ولذلك إذا وجدت كلام فقيه دارس للقواعد المنطقية فستجده نزراً قليلاً؛ لأن الذي يريد التعبير عنه سيصوغه في جمل يسيرة، أما كلام الفقهاء الذين لم يدرسوا المنطق فسينتشر ويكثر، ولذلك يتشعب ويصعب ضبطه، فالتقسيمات وضبط الألفاظ إنما يرجع فيها إلى هذا العلم.

أما مسائله فهي مثل أقسام العلم الحادث، والكلام في الكلية والجزئية، وأنواع الكليات، والمعرفات، والأقيسة، وضروب القياس، وأشكاله، والحجج، وخطأ البرهان، وأحوال القضايا من العكوس والنقض، وكذلك لواحق القياس.

إذاً هذه هي مسائله.