التسهيل في الفقه - كتاب الطهارة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

اللهم انفعنا بما علمتنا, وعلمنا ما ينفعنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:

إن من نعم الله على عبده أن يجعله مباركاً, والمبروك كما ذكر ذلك ابن جرير الطبري : هو صاحب الخير الكثير, صاحب الخير في نفسه, وصاحب الخير لغيره, وإن ممن أعطاه الله سبحانه وتعالى بركته من بين عباده هو ما نحسبه والله حسيبه شيخنا عبد الله بن جبرين رحمه الله, فهو مبارك في حياته, ومبارك بعد مماته, وما هذه الدورة التي تلقى في هذا الجامع المبارك جامع الشيخ عبد الله الراجحي إلا أحد البركات التي من الله جل جلاله وتقدست أسماؤه بها على شيخنا عبد الله بن جبرين وهو في قبره, فكان ذلك من النعم التي تتنزل على قبره بسبب اسم هذه الدورة, وما هذا الحضور وهذا الجمع المبارك إلا تيمناً بما استن به شيخنا عبد الله بن جبرين من هذا الأمر, وبالأمس رأى أحد طلبة العلم رؤيا خير ولله الحمد, فأخبرني عن رؤيا طويلة, لكن الذي يفرح أنه رأى شيخنا محمد بن عثيمين وهو يطوف معه, فسأله عن حاله, وسأله عن حال شيخنا عبد الله بن جبرين ؟ فقال بلهجة شيخنا محمد : أبشرك! هو بخير, قال: الرائي: بشرني يا شيخ! هو في الجنة؟ فقال: نعم, وهذه بشرى لشيخنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الفردوس الأعلى, وأن يلحقنا وإياه مع زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

المراد بالفقه في الدين

أيها الإخوة! وإن من نعم الله على عبده أن يوفقه للفقه في الدين, فإن الفقه في الدين من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، والفقه في الدين أيها الإخوة! ليس الفقه في الأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية, كما هو في المصطلح الفقهي المعروف, وإنما الفقه في الدين هو الفقه في الشريعة؛ ليدخل في ذلك الفقه الأكبر وهو التوحيد, فمن عظم الله جل جلاله في سره ونجواه وفي خلواته وجلواته, وأدى أوامر الله جل جلاله وتقدست أسماؤه, فهذا هو الفقه في الدين؛ ولهذا روى بكر بن خنيس أنه رأى عبد الملك بن مروان قبل أن يتولى الخلافة ومعه جماعة وهم أول من أحيا الصلاة ما بين الظهر والعصر, فكأن الناس استحسنوا ذلك, فكانوا يحيون الصلاة ما بين الظهر إلى العصر, وكان الفقيه سعيد بن المسيب قد صلى في هذا المسجد, فلما أراد أن يخرج قال له بكر بن خنيس : يا أبا محمد ! يعني بذلك: سعيد , ألا ترى نعمة العبادة هذه, ألا تصنع مثلها فقال: ليست هذه بعبادة, ولكن العبادة غير ذلك, قال: فقلت: وما العبادة؟ قال: العبادة التفكر في أمر الله, والورع عما حرم الله, وأداء حقوق الله, ولا يتأتى هذا إلا من الذي أعطاه الله الفقه في الدين حقاً.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنا قاسم والله يقسم ), فالفقيه هو الذي يقسم حقوقه ما بينه وبين أهله, وما بينه وبين زواره, وما بينه وبين عامة الناس, يقسم ما بينه وبين ربه, يقسم ما بين الناس فيما بينهم؛ ولهذا فإن معرفة أمر الله جل جلاله وتقدست أسماؤه فيما يأتي الإنسان ويذر من أعظم المنن, نسأل الله أن يمن علينا وإياكم.

نبذة مختصرة عن كتاب التسهيل في الفقه

الكتاب هو لـأبي عبد الله محمد بن علي بن محمد البعلي , صاحب التصانيف، العالم الفقيه البارع كما وصفه كثير ممن ترجم له, وهو من أوائل من كتب المختصرات من كتب الحنابلة؛ ذلك أنه توفي سنة ثمانية وسبعين وسبعمائة, وهو قد عاصر أبا العباس بن تيمية رحمه الله, ولا يعلم هل تتلمذ عليه درساً أم لا؟ وإلا فإنه قد تتلمذ على كتبه واختصر كثيراً منها كالصارم المسلول وغيرها, وهو صاحب الاختيارات، ومختصر الفتاوى المصرية, وغير ذلك.

وهذا الكتاب فيه فائدة عظمة، وهو أولى من كتاب عمدة الفقه للإمام أبي محمد بن قدامة ؛ وذلك أن الإمام أبا محمد بن قدامة ألف هذا الكتاب لصغار الطلبة؛ وقد ترك كثيراً من المسائل؛ لأنه سوف يعوضها في كتاب آخر, وهو كتاب المقنع.

أما هذا الكتاب -أعني: كتاب التسهيل في الفقه- فإنه مع صغر حجمه إلا أنه قد حوى مسائل أكثر من مسائل عمدة الفقه, وهو وإن كان أقل من كتاب زاد المستقنع, ومن كتاب الدليل, إلا أن عبارته أسهل من عبارة صاحب الزاد, وترتيبه أيضاً قريب من ترتيب الدليل, والدليل قد يكون أحسن من حيث الترتيب والعبارة, ومن حيث سعة المسائل, فهو يصلح أن يكون الكتاب الثالث بعد الزاد والعمدة، وهذا الكتاب، وهو أجمع من كتاب: أخصر المختصرات.

والسبب في عدم اهتمام مشايخنا بهذا الكتاب: هو أن هذا الكتاب كان يذكر في ترجمة أبي محمد البعلي , ولم يوجد ويظهر إلا عام 1414هـ, وهذا هو السبب الذي جعل مشايخنا ربما لم يشرحوه في دورات سابقة, فالسبب أن استكشافه واستخراجه من المخطوطات كان متأخراً بسبب التأخير في إيجاده.

ثم تتابع الناس في تحقيقه، ولعل من أفضل من حقق متنه هو شيخنا عبد الله بن صالح الفوزان , وله شرح عليه سماه فقه الدليل في شرح التسهيل, وأنا أنصح كثيراً الإخوة الذين يريدون أن يقرءوا في الفقه أن يقرءوا هذا الشرح, ففيه فوائد كثيرة.

والقصد من هذا الشرح هو معرفة عبارة المؤلف، والثاني معرفة دليل المؤلف, وإذا كان هناك قول راجح يخالف ما اختاره المؤلف فإننا نذكره, وسوف نذكر بعض الفوائد والقواعد الفقهية والقواعد الأصولية؛ حتى يتسنى للطالب أن يفقه الدليل, فالعبرة في كل ما يأتي الإنسان هو الدليل, وليس الاهتمام بالمتون, إلا إذا كانت طريقاً وسبيلاً إلى الدليل الشرعي؛ لأننا متعبدون بذلك, فإذا وفق الله العبد لمعرفة تصوير المسألة وتصوير الأدلة وفقه الخلاف فإنه بإذن الله سوف يكون من أئمة الإسلام. نقرأ مستعينين بالله.

ترجمة مؤلف كتاب: التسهيل في الفقه

قال الشيخ الإمام العالم العلامة البارع النقد المحقق أبو عبد الله بدر الدين محمد بن الشيخ الصالح علاء الدين علي بن شمس الدين محمد بن أسبا سلار البعلي الحنبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه: [ الحمد لله المهيمن السلام، الذي شرع الحلال والحرام، وخص نوع الإنسان بمزيد الطول والإنعام، وهدى أهل السعادة منهم للإسلام، ووفق من لطف به واختاره لتعلم الأحكام، وجعل قائدهم إليه سيدنا محمد المصطفى خير الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله وأصحابه الغر الكرام، صلاة دائمة مدى الدهر والأيام.

أما بعد: فهذا مختصر في الفقه على مذهب الإمام المبجل، والحبر المفضل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه، جعلته على القول الصحيح مما اختاره معظم الأصحاب؛ تسهيلاً على الطلاب، وتذكرة لأولي الألباب، مع كثرة علمه، وقلة حجمه، نسأل الله النفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم بمنه وكرمه؛ إنه منان كريم ].

هذه مقدمة صاحب الكتاب وهو الشيخ محمد بن علي البعلي , سمي واشتهر بـابن أسبار سلار , وقد اختلف من ترجم في معنى هذه العبارة, فبعضهم يقول: إن الأصح أنها أسفا سلار, وهي كلمتان الأولى فارسية, والأخرى تركية, أسفا فارسية, سلار تركية, ومعناها: مقدم العسكر, أو مقدم الجيش, وهو الذي يقوده وله رأيه وتوجيهه في العسكر, ولعل أحد أجداده عرف بذلك, مثل الألقاب المشهورة عندنا كاللواء والفريق وغيرها. فهؤلاء هم الذين يكونون لهم أتباعاً, ويستشارون في هذا الأمر.

والإمام البعلي اشتهر بحسن المختصرات, فإنه اهتم بكتب أبي العباس بن تيمية رحمه الله واختصرها, وإليه المنتهى في زمانه عند أهل بلده في فقه الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل , وهو وإن لم يؤلف كثيراً في الفقه إلا أن كل من ترجم له ذكره بهذه الميزة, خاصة الإمام ابن رجب صاحب التصانيف الفقهية والحديثية, فإنه أشار إلى أنه الفقيه البارع صاحب التصانيف, وحسبك بإمام كـابن رجب يذكره بهذا.

أسباب تأخر ظهور تصانيف الحنابلة في الفقه

ذكر المؤلف هنا مقدمة لست بحاجة إلى أن أقف عند كل كلمة فيها؛ لأن القصد هو معرفة مراد المؤلف في المسائل الفقهية, إلا أنه قال: (فهذا مختصر في الفقه على مذهب الإمام المبجل والحبر المفضل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ) الحنابلة رحمهم الله تأخرت تصانيفهم في الفقه لأسباب؛ وذلك لأن الإمام أحمد رحمه الله كره أن يكتب عنه, وقال لأصحابه الكبار كـأبي داود و الخلال و إسحاق الكوسجي : لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا سفيان ؛ ولكن خذوا من حيث أخذوا. ولما علم أن إسحاق الكوسجي -صاحب مسائل الإمام أحمد و إسحاق بن راهوية - كتب مسائل للإمام أحمد وجعل يقرأها على الناس فيما وراء النهر, فقيل للإمام أحمد : إن إسحاق يقرأ مسائل يحدث بها أنك تقول بها, قال: أخبروه أني رجعت عنها؛ وذلك لأنه لا يحب أن يكتب عنه، وهذا من ورعه, فعلم - إسحاق وكان في بلاد السند أو تركستان- بخبر أحمد فرحل إلى الإمام أحمد وسأله عن هذا, وقرأ عليه مسائله, فاستحسنها الإمام أحمد وعلم أن إسحاق من أهل العلم وليس من المقلدين, فكأن الإمام أحمد في آخر أمره خفف في هذا الأمر.

وقد سئل عن أفضل كتاب في الحديث؟ فقال: عليك بكتاب أبي محمد مالك بن أنس , إلا أنه ليته لم يكتب ما بعد الحديث, وهو قول مالك : والأمر المجمع عليه عندنا, فكره الإمام أحمد أن يكتب مع الحديث شيء؛ وذلك لأجل التعظيم, فقد كان يعظم السنة, ويعظم القرآن, فكره أن يكتب أحد من أقواله مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم, فلما علم الله سبحانه وتعالى صدقه وإخلاصه قيض له من يكتب أقواله ويهتم بتخريجاته, فكان ذلك هو السبب الذي جعل بعض الفقهاء لا يذكر الإمام أحمد من ضمن الفقهاء, كـابن جرير الطبري و أبي عمر بن عبد البر , وإلا فإن الإمام أحمد رحمه الله من أفقه الناس كما قال الإمام الشافعي : خرجت من العراق ولم أجد رجلاً أعلم ولا أفقه ولا أورع ولا أزهد من أبي عبد الله بن حنبل , وقال: الإمام أحمد إمام في ثمانية: إمام في القرآن, إمام في السنة, إمام في الفقه, إمام في الورع, إمام في الزهد, إمام في الفقر, وذكر أمرين آخرين.

الشاهد من هذا هو أن الإمام أحمد رحمه الله لم يكن يحبذ من طلابه الكبار أن يكتبوا عنه, بخلاف أصحاب المذاهب الأخرى, فإن مذهب أبي حنيفة الذي كتب أقواله هم أصحابه الكبار, كـأبي يوسف و محمد بن الحسن , فإن الإمام الشافعي يقول: كتبت عن محمد بن الحسن حملي بعير, وحمل البعير يعني: يمين ويسار وهذا يدل على أنها كتب كثيرة, كذلك الإمام الشافعي نفسه كتب كتباً كثيرة, فإنه كتب عن محمد بن الحسن مسائل, فكان يذكر مسائل محمد بن الحسن ثم يستتبع ذلك بالآثار المرفوعة والموقوفة والمقطوعة من سلف هذه الأمة, وكتب ما يسمى بالإملاء, وكتب كتاب الأم.

كذلك مالك بن أنس كتب عنه أناس وخلق كثير, أما الإمام أحمد فإن أكثر ما روي عنه إنما هي مسائل، ثم جاء من جاء بعدهم فكانوا هم الطبقة الثانية الذين حرروا أقواله وتخريجاته وغير ذلك.

وكان من أئمة المذهب الذين اهتموا بالمذهب أبو محمد بن قدامة صاحب المغني، و المجد أبو البركات صاحب المحرر، والقاضي أبو يعلى ، و محفوظ الكلوذاني صاحب رءوس المسائل، وصاحب الإرشاد ابن أبي موسى الهاشمي ، و أبو العباس بن تيمية ، و ابن مفلح صاحب الفروع، و ابن رجب صاحب القواعد الفقهية، فإن هؤلاء هم الطبقة الثانية الذين حرروا مذهب الحنابلة، وقيدوا معرفة الراجح من المذهب.

مراتب المذهب عند الحنابلة

المؤلف رحمه الله يقول: (جعلته على القول الصحيح مما اختاره معظم الأصحاب).

معرفة المذهب عند الحنابلة على مراتب كما ذكر ذلك الإمام البعري في كتابه، وأشار إلى ذلك الإمام المرداوي في مقدمة كتاب الإنصاف حيث قال: إن مذهب أحمد هو ما مشى عليه معظم وجمهور الأصحاب، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن من عرف مسائل أحمد وقرأ مسائل كبار أصحابه لا يخفى عليه مذهب أحمد .

وطريقة المتقدمين في معرفة المذهب تختلف عن طريقة المتأخرين، وأقصد بالمتقدمين طبقة أبي العباس بن تيمية وطبقة أبي محمد بن قدامة وطبقة الإمام المرداوي وطبقة ابن رجب فإن المرداوي قسم معرفة مذهب الإمام أحمد على مراتب فقال:

الأول: ما ذهب إليه معظم الأصحاب، فإن اختلفوا فما ذكره أبو محمد بن قدامة في مغنيه و المجد أبو البركات في شرح الهداية، وما ذكره ابن مفلح في الفروع، وما ذكره أبو العباس بن تيمية و ابن رجب ، ثم قال: فإن اختلفوا فما توافق عليه الشيخان، ويقصد بالشيخين في كتب الحنابلة هم: أبو محمد بن قدامة و المجد أبو البركات ، فإذا اتفق أبو محمد بن قدامة و المجد أبو البركات على قول فهذا هو المذهب، وإن اختلفوا فما قدمه وحرره ابن مفلح في الفروع، فإنه قال: لا أعلم كتاباً أعظم في تحرير المذهب من كتاب ابن مفلح صاحب الفروع، فإنه ذكر المذهب بدليله، فإن لم يرجح صاحب الفروع فهو ما ذكره ابن رجب في القواعد، وذكر أبو العباس بن تيمية في كتبه، وأما ابن تيمية فإنه كثيراً ما يذكر ترجيح أحمد على ما يختاره أبو موسى الهاشمي في كتاب الإرشاد، وهو كتاب حققه معالي الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الله التركي ، وهو كتاب جيد لمعرفة ترجيح مذهب الإمام أحمد .

أما المتأخرون في زماننا فإنهم اعتمدوا في مذهب الإمام أحمد على ما مشى عليه صاحبي المنتهى والإقناع، فإذا ذهب المنتهى والإقناع على قول جعلوه هو المذهب، فإن اختلف المنتهى عن ما في الإقناع فإن بعضهم يقول: المذهب هو ما في المنتهى، وقال بعضهم: المذهب ما اختاره مرعي الكرمي في كتاب غاية المنتهى.

والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه قد تكلم على هذا الأمر وقال: معظم ما في المنتهى والإقناع مخالف للراجح من أقوال الإمام أحمد ؛ وإنما ذكر ذلك لأجل أنه كان في زمانه من يعظم المنتهى تعظيمه للقرآن، فأراد رحمه الله أن يكسر هذه الشوكة بهذا الكلام العظيم. ومن المعلوم أن العالم إذا رأى إقبال الناس على أمر أو على عالم، أو على كتاب، أو على أمر تعظيمهم للكتاب أو السنة، فإنه يتكلم بكلام قوي حتى يخفف هذا الأمر.

على كل حال: الآن أصبح معرفة مذهب الإمام أحمد في كتاب الإنصاف ميسوراً ولله الحمد، فإنه يذكر الصحيح من مذهب الإمام أحمد ، والمقصود من مذهب الإمام أحمد هو ما اختاره الإمام بدليله، أو ما فعله وداوم عليه.

الثاني: ما قيس على مسألة نص عليها، يعني: لو أن مسألة لم يذكر للإمام أحمد قول فيها فيأتي أئمة المذهب فيقولون: هذه المسألة قول الإمام أحمد فيها كذا تخريجاً على ما ذكره في مسألة كذا، والتخريج: هو إلحاق ما لم ينص عليه الإمام بمسألة نص عليها بجامع العلة، وهي القياس في السنة، فإن القياس معناه: إلحاق فرع بأصل بجامع بينهما من الكتاب والسنة، وأما التخريج فهي إلحاق فرع بأصل بجامع علة من كلام الإمام نفسه.

واعلم أن التخريج على المسألة لا ينضبط ولا يمكن نسبته للإمام إلا تقييداً تخريجاً، يقال: تخريجاً، والتخريج والوجه والاحتمال ألفاظ تذكر كثيراً في كتب الحنابلة، وهي قريبة من بعضها البعض، إلا أنهم يقولون في الوجه: هو ما جزم به في الفتوى، يعني: الوجه ما يفتي به الأصحاب، وأما الاحتمال: فما يذكره أحد أئمة المذهب تخريجاً على مسألة ذكرها الإمام أحمد ، فالوجه والاحتمال والقول ألفاظ قريبة من بعض، إلا أن الوجه أقوى؛ لأن ما يفتي به أصحاب المذهب؛ ولأن احتمال العالم لقول كذا شيء، وفتواه بناءً على مذهب أحمد شيء آخر، فهو أقوى.

هذه مقدمة أحببت أن تكون في بداية هذا الكتاب؛ حتى نعرف مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وعلى كل فإنه مهما بلغ العالم من العلم فإنه قد تضطرب عليه الأصول، فقد قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وما من إمام من أئمة الإسلام إلا وقد اضطرب في أصوله؛ وذلك ليكون الدين كله لله.

لا أحد يمكن أن يكون قوله كله صواباً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم, وإلا فإن من نصب إماماً من أئمة الإسلام لا يأخذ إلا منه, ولا يترك إلا ما ترك, غير محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يستتاب, كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية ؛ لأنه لا أحد معصوم إلا محمداً صلى الله عليه وسلم, وقد تواردت كلمة الأئمة أنه كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب القبر, يعني: محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه, نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتبعين لسنته في السر والعلانية.

أيها الإخوة! وإن من نعم الله على عبده أن يوفقه للفقه في الدين, فإن الفقه في الدين من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، والفقه في الدين أيها الإخوة! ليس الفقه في الأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية, كما هو في المصطلح الفقهي المعروف, وإنما الفقه في الدين هو الفقه في الشريعة؛ ليدخل في ذلك الفقه الأكبر وهو التوحيد, فمن عظم الله جل جلاله في سره ونجواه وفي خلواته وجلواته, وأدى أوامر الله جل جلاله وتقدست أسماؤه, فهذا هو الفقه في الدين؛ ولهذا روى بكر بن خنيس أنه رأى عبد الملك بن مروان قبل أن يتولى الخلافة ومعه جماعة وهم أول من أحيا الصلاة ما بين الظهر والعصر, فكأن الناس استحسنوا ذلك, فكانوا يحيون الصلاة ما بين الظهر إلى العصر, وكان الفقيه سعيد بن المسيب قد صلى في هذا المسجد, فلما أراد أن يخرج قال له بكر بن خنيس : يا أبا محمد ! يعني بذلك: سعيد , ألا ترى نعمة العبادة هذه, ألا تصنع مثلها فقال: ليست هذه بعبادة, ولكن العبادة غير ذلك, قال: فقلت: وما العبادة؟ قال: العبادة التفكر في أمر الله, والورع عما حرم الله, وأداء حقوق الله, ولا يتأتى هذا إلا من الذي أعطاه الله الفقه في الدين حقاً.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنا قاسم والله يقسم ), فالفقيه هو الذي يقسم حقوقه ما بينه وبين أهله, وما بينه وبين زواره, وما بينه وبين عامة الناس, يقسم ما بينه وبين ربه, يقسم ما بين الناس فيما بينهم؛ ولهذا فإن معرفة أمر الله جل جلاله وتقدست أسماؤه فيما يأتي الإنسان ويذر من أعظم المنن, نسأل الله أن يمن علينا وإياكم.

الكتاب هو لـأبي عبد الله محمد بن علي بن محمد البعلي , صاحب التصانيف، العالم الفقيه البارع كما وصفه كثير ممن ترجم له, وهو من أوائل من كتب المختصرات من كتب الحنابلة؛ ذلك أنه توفي سنة ثمانية وسبعين وسبعمائة, وهو قد عاصر أبا العباس بن تيمية رحمه الله, ولا يعلم هل تتلمذ عليه درساً أم لا؟ وإلا فإنه قد تتلمذ على كتبه واختصر كثيراً منها كالصارم المسلول وغيرها, وهو صاحب الاختيارات، ومختصر الفتاوى المصرية, وغير ذلك.

وهذا الكتاب فيه فائدة عظمة، وهو أولى من كتاب عمدة الفقه للإمام أبي محمد بن قدامة ؛ وذلك أن الإمام أبا محمد بن قدامة ألف هذا الكتاب لصغار الطلبة؛ وقد ترك كثيراً من المسائل؛ لأنه سوف يعوضها في كتاب آخر, وهو كتاب المقنع.

أما هذا الكتاب -أعني: كتاب التسهيل في الفقه- فإنه مع صغر حجمه إلا أنه قد حوى مسائل أكثر من مسائل عمدة الفقه, وهو وإن كان أقل من كتاب زاد المستقنع, ومن كتاب الدليل, إلا أن عبارته أسهل من عبارة صاحب الزاد, وترتيبه أيضاً قريب من ترتيب الدليل, والدليل قد يكون أحسن من حيث الترتيب والعبارة, ومن حيث سعة المسائل, فهو يصلح أن يكون الكتاب الثالث بعد الزاد والعمدة، وهذا الكتاب، وهو أجمع من كتاب: أخصر المختصرات.

والسبب في عدم اهتمام مشايخنا بهذا الكتاب: هو أن هذا الكتاب كان يذكر في ترجمة أبي محمد البعلي , ولم يوجد ويظهر إلا عام 1414هـ, وهذا هو السبب الذي جعل مشايخنا ربما لم يشرحوه في دورات سابقة, فالسبب أن استكشافه واستخراجه من المخطوطات كان متأخراً بسبب التأخير في إيجاده.

ثم تتابع الناس في تحقيقه، ولعل من أفضل من حقق متنه هو شيخنا عبد الله بن صالح الفوزان , وله شرح عليه سماه فقه الدليل في شرح التسهيل, وأنا أنصح كثيراً الإخوة الذين يريدون أن يقرءوا في الفقه أن يقرءوا هذا الشرح, ففيه فوائد كثيرة.

والقصد من هذا الشرح هو معرفة عبارة المؤلف، والثاني معرفة دليل المؤلف, وإذا كان هناك قول راجح يخالف ما اختاره المؤلف فإننا نذكره, وسوف نذكر بعض الفوائد والقواعد الفقهية والقواعد الأصولية؛ حتى يتسنى للطالب أن يفقه الدليل, فالعبرة في كل ما يأتي الإنسان هو الدليل, وليس الاهتمام بالمتون, إلا إذا كانت طريقاً وسبيلاً إلى الدليل الشرعي؛ لأننا متعبدون بذلك, فإذا وفق الله العبد لمعرفة تصوير المسألة وتصوير الأدلة وفقه الخلاف فإنه بإذن الله سوف يكون من أئمة الإسلام. نقرأ مستعينين بالله.

قال الشيخ الإمام العالم العلامة البارع النقد المحقق أبو عبد الله بدر الدين محمد بن الشيخ الصالح علاء الدين علي بن شمس الدين محمد بن أسبا سلار البعلي الحنبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه: [ الحمد لله المهيمن السلام، الذي شرع الحلال والحرام، وخص نوع الإنسان بمزيد الطول والإنعام، وهدى أهل السعادة منهم للإسلام، ووفق من لطف به واختاره لتعلم الأحكام، وجعل قائدهم إليه سيدنا محمد المصطفى خير الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله وأصحابه الغر الكرام، صلاة دائمة مدى الدهر والأيام.

أما بعد: فهذا مختصر في الفقه على مذهب الإمام المبجل، والحبر المفضل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه، جعلته على القول الصحيح مما اختاره معظم الأصحاب؛ تسهيلاً على الطلاب، وتذكرة لأولي الألباب، مع كثرة علمه، وقلة حجمه، نسأل الله النفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم بمنه وكرمه؛ إنه منان كريم ].

هذه مقدمة صاحب الكتاب وهو الشيخ محمد بن علي البعلي , سمي واشتهر بـابن أسبار سلار , وقد اختلف من ترجم في معنى هذه العبارة, فبعضهم يقول: إن الأصح أنها أسفا سلار, وهي كلمتان الأولى فارسية, والأخرى تركية, أسفا فارسية, سلار تركية, ومعناها: مقدم العسكر, أو مقدم الجيش, وهو الذي يقوده وله رأيه وتوجيهه في العسكر, ولعل أحد أجداده عرف بذلك, مثل الألقاب المشهورة عندنا كاللواء والفريق وغيرها. فهؤلاء هم الذين يكونون لهم أتباعاً, ويستشارون في هذا الأمر.

والإمام البعلي اشتهر بحسن المختصرات, فإنه اهتم بكتب أبي العباس بن تيمية رحمه الله واختصرها, وإليه المنتهى في زمانه عند أهل بلده في فقه الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل , وهو وإن لم يؤلف كثيراً في الفقه إلا أن كل من ترجم له ذكره بهذه الميزة, خاصة الإمام ابن رجب صاحب التصانيف الفقهية والحديثية, فإنه أشار إلى أنه الفقيه البارع صاحب التصانيف, وحسبك بإمام كـابن رجب يذكره بهذا.