التسهيل في الفقه - كتاب الطهارة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه؛ ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

ثمة بعض الإشكالات التي ترد في مسألة الختان مثل أن يقول قائل: إن أحاديث الختان عامة بين الرجل والمرأة، فلماذا يفرق في حكم الختان بينهما؟

والجواب على هذا أن كل الأحاديث الدالة على الأمر بالختان ضعيفة، إلا ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( خمس من الفطرة )، ومن حديث عائشة عند مسلم : ( عشر من الفطرة )، ومنها الختان وذكر مطلقاً أنه من الفطرة، لكن الأحاديث الدالة على الأمر بوجوبه كلها لا تصح، وبالتالي فإننا نقول: إن وجوب الختان في حق الرجل من باب أنه إذا بلغ وجب عليه الصلاة والصوم لأنه بلغ، والبلوغ يوجب عليه أن يحسن الوضوء، ومن المعلوم أن الرجل حاجته إلى الختان لأجل الاستطابة والاستنقاء من النجاسة فيكون واجباً، أما المرأة فإن الأمر بالختان لها لم يرد فيه حديث، وبالتالي فإننا أبقيناه على الجواز لأننا لا يسوغ لنا أن نأمر بالوجوب إلا بدليل ولا دليل.

وأما مسألة القزع، فإن الحنابلة يكرهونها وهو مذهب الجمهور، وقلت: إن الأقرب التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( احلقه كله، أو اتركه كله )، وهذا أمر، والأصل في الأوامر الوجوب، ومخالفة الواجب محرم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الاستنجاء: ينحي داخل الخلاء ما فيه اسم الله تعالى إن أمكن، ثم يقول: باسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث، الرجس النجس الشيطان الرجيم، ويقدم رجله اليسرى دخولاً واليمنى خروجاً، عكس المسجد، ويعتمد على اليسرى في جلوسه ويصمت، ولا يلبث فوق حاجته، ثم يمسح ذكره وينثره ثلاثاً، ويبعد في الفضاء ويستتر، ويدنو من الأرض ويرتاد لبوله، وإذا خرج قال: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني.

ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في الفضاء، ولا يبول في ماء راكد، ولا تحت مثمر وظل نافع ومشمس، وطريق وشق ومغتسل ومهب ريح ومطر، ولا يستقبل شمساً ولا قمراً.

وموجبه: خارج من سبيل سوى ريح، ويسن بحجارة ثم ماء وباليسرى والقطع على وتر والتحول، ويجزئ بماء أو ثلاث مسحات ينقي بها إن لم يعد موضع الحاجة، بكل جامد طاهر منق، لا روث وعظم ومحترم ومتصل بحيوان، ويجزئ الوضوء قبله ].

قول المؤلف رحمه الله: (باب الاستنجاء).

والاستنجاء: هو إزالة النجاسة مما خرج من السبيلين بماء طاهر أو بالحجارة والخرق ونحو ذلك، وإن كان يطلق الاستنجاء غالباً على التنظيف بالماء.

إزالة ما فيه ذكر الله عند دخول الخلاء

قال المؤلف رحمه الله: (ينجي داخل الخلاء ما فيه اسم الله تعالى إن أمكن).

المؤلف رحمه الله لم يقل: يجب أو يستحب أن يزيل كل ما فيه اسم الله إذا أراد أن يدخل الخلاء؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك إلا حديث: ( كان رسول الله إذا دخل الخلاء وضع خاتمه )، وكان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عليه: محمد رسول الله، ولفظ الجلالة هو ذكر لله تعالى، وهذا الحديث لا يفرح؛ لأنه حديث ضعيف؛ وذلك لأن الأئمة أنكروه، ورواية ابن جرير عن الزهري فيها انقطاع؛ وذلك لأن ابن جرير وإن كان من رواة الزهري ، إلا أن روايته هنا فيها نوع من التدليس، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم, بل إن يحيى بن معين يقول: رواية ابن جرير عن الزهري منكرة يعني: أنها دائماً منكرة.

وأما من كان معه في جيبه شيء من ذكر الله فإنه لا يخلو من حالين:

الحالة الأولى: إذا كان قرآناً فإن الواجب صيانة المصاحف من دخول الخلاء، إلا إذا خاف عليه الإهانة، أو العطب كما لو كان في بلاد لا تقدر المصاحف، فإذا كان يأمن عليها السلامة فلا ينبغي له أن يدخل الخلاء ومعه المصحف؛ لأن المصاحف مأمور بصيانتها، فلا يجوز إهانتها.

الحالة الثانية: أن يكون معه غير القرآن كأن تكون أذكاراً أو غيرها فهذا الأفضل تركها تنزيهاً وتعظيماً؛ وترك الأفضل لا يلزم منه الكراهة، ولم نقل يستحب؛ لأن الاستحباب حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي ولا دليل، لكن الأفضلية تثبت بالقواعد العامة والأدلة العامة، ومن هذه الأدلة والقواعد العامة أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كره أن يذكر الله في الخلاء، وهو على غير طهر )، دل ذلك على أن ذكر الله يكون على طهارة أفضل، و الترمذي إذا قال في حديث: إنه حديث حسن، ولم يطلق حسن صحيح أو صحيح، فإن ذلك إشارة إلى ضعف هذا الإسناد، فإذا قال: هذا حديث حسن غريب، أو هذا حديث حسن، فإن ذلك إشارة إلى ضعف هذا الحديث؛ لأن الترمذي لا يطلق على الحديث بأنه حسن، إلا إذا كان في الحديث ضعف، والله أعلم.

الإتيان بالذكر الوارد عند دخول الخلاء

قال المؤلف رحمه الله: (ثم يقول: باسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث).

وهذه الزيادة لم يذكرها البخاري و مسلم ، فإن البخاري و مسلم رويا هذا الحديث عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء، قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )، ولم يذكر زيادة باسم الله، فدل ذلك على أنها ضعيفة، وهذا هو الراجح، أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث أنه كان يبسمل قبل الدخول في الخلاء، وعلى هذا فالسنة ألا يسمي، فإن سمى فلا حرج، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (يقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث ...) هذا ثابت في الصحيحين من حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )، أما ما ورد في غيره من الذكر مثل حديث: ( أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم )، فهذا الحديث لا يفرح به، بل هو حديث ضعيف؛ لأنه من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة يقول ابن حبان : فإذا جاءك إسناد كهذا فاعلم أنه مما عملته أيديهم، يعني أنه منكر، فإن عبيد الله بن زحر ضعيف، و علي بن يزيد الألهاني أيضاً ضعيف، فالحديث ضعيف، وعلى هذا فالسنة أن يقول الإنسان: ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) فقط، هذا هو السنة.

دخول الخلاء باليسرى والخروج باليمنى

قال المؤلف رحمه الله: (ويقدم رجله اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً).

هذا هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل اليمين من باب الإكرام، ويجعل اليسار في ما دون ذلك؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه كله )، وقد جاء في رواية: ( ويجعل اليسرى في ما سواء ذلك )، ولكنها رواية ضعيفة؛ لكن ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ( من السنة إذا دخل أحدكم المسجد أن يقدم رجله اليمنى، وإذا خرج قدم رجله اليسرى )، وإذا قال الصحابي: من السنة فله حكم الرفع، والحديث إسناده جيد رواه الحاكم وغيره.

وعلى هذا، فإنه إذا أراد أن يدخل المسجد، فالسنة أن يقدم رجله اليمنى، وإذا أراد أن يخرج قدم رجله اليسرى، وإذا أراد أن يدخل الخلاء، فإن الخلاء فيما سوى ذلك، فيقدم رجله اليسرى، والله أعلى وأعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (عكس المسجد).

وهذا ثابت عن أنس رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يقدم رجله اليمنى عند دخول المسجد ).

الجلوس بكيفية معينة عند قضاء الحاجة

قال المؤلف رحمه الله: (ويعتمد على اليسرى في جلوسه).

يعني: إذا أراد أن يقضي حاجته اعتمد على رجله اليسرى، بأن يجعل ثقل بدنه على رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ومعنى ينصب رجله: يمدها، وهذا جاء فيه حديث من طريق محمد بن عبد الرحمن عن رجل من بني مدلج عن أبيه أنه قال: قدم علينا سرقة بن جعشم ، وقال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقضي حاجته اعتمد على اليسرى، ونصب اليمنى )، وهذا الحديث ضعيف، فإن هذا الرجل من بني مدلج مجهول مبهم، وأبوه مبهم، و محمد بن عبد الرحمن مجهول؛ لذلك يكون الحديث ضعيفاً.

وهنا تنبيه وهو أنه ينبغي لطالب الفقه، أن يكون عنده إلمام ومعرفة في الحديث حتى يكون إدراكه للراجح جيداً، أما أن يكون مجتهداً في الفقه مقلداً في الحديث فهذا لا ينفعه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وعلى هذا فالسنة هو عدم السنة، فيقضي حاجته كيفما اتفق، فكل ما كان أسهل لبدنه، وأنفع له صنع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإن لنفسك عليك حقاً )، فإعطاء النفس حقها، عند قضاء الحاجة مطلب، والله أعلم.

وقد ذكر الأطباء أن ذلك ينفع، ولكن نقول: إذا ثبت طبياً فلا يلزم من نفع البدن استحباب الفعل، والله أعلم؛ لأن الاستحباب حكم شرعي، مثلاً يقولون: إن كل اثنتي عشرة ساعة ينبغي للإنسان أن ينام؛ لأن ذلك أنفع للبدن، فلا يصح أن نقول: كل اثنتي عشرة ساعة يستحب للإنسان أن ينام؛ لأن الاستحباب حكم شرعي، ولا يثبت إلا بدليل شرعي.

عدم الكلام عند قضاء الحاجة

قال المؤلف رحمه الله: (ويصمت).

يعني: ولا يتكلم عند قضاء الحاجة، وكأن المؤلف استحب عدم الكلام، وكره الكلام عند قضاء الحاجة، وليس هناك حديث صحيح في هذا الباب، وأحسن شيء ما روي من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله ليمقت للرجلين يخرجان، أو يضربان الغائط -يعني: المكان النازل- يقضيان حاجتهما كاشفان عورتهما يتحدثان )، فهذا ليس فيه دلالة على أن التحدث منهي عنه، ولكن المقصود أن الشارع يمقت أن ينظر الرجل إلى عورة أخيه وهو يقضي حاجته، والآخر ينظر ويتحدثان كأنهما لا يباليان، وهذا الحديث مع ذلك حديث ضعيف، والأقرب والله أعلم أن يقال: يكره للإنسان أن يتحدث عند قضاء الحاجة، فيما هو ذكر لله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مر عليه رجل وهو يقضي حاجته، فسلم عليه فلم يرد، وقال: إني كرهت أن أذكر الله وأنا على غير طهر )، كما جاء ذلك عند أبي داود من حديث المهاجر بن قنفذ ، وجاء عند مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي لم يرد عليه السلام. فدل ذلك على أن ذكر الله عند قضاء الحاجة، غير مشروع إلا في موطن واحد وهو إذا دخل الإنسان الخلاء وهو يريد أن يتوضأ، فالمشروع أن يسمي، ويكره له أن يذكر الله عند قضاء الحاجة، فالقاعدة هي أنه إذا تعارض مكروه ومستحب، فيقدم المستحب، وإذا تعارض واجب ومحرم فيقدم الواجب؛ لأن باب المأمورات أعظم من باب المحظورات، أما إذا تعارض مستحب ومحرم فيقدم المحرم؛ لأن درجته أعلى، والله أعلم.

أما الكلام في غير ذكر الله تعالى، فنقول: الأولى تركه؛ لأنه ليس من الأدب أن يتحدث الإنسان في الخلاء.

عدم اللبث من غير حاجة في الخلاء

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يلبث فوق حاجته).

يعني: إذا أراد أن يقضي الإنسان حاجته، فمن المعلوم أنه كاشف لعورته، فإذا جلس أكثر من حاجته فإنه يكون معرضاً عورته للانكشاف من غير حاجة، والقاعدة: أن كشف العورة من غير حاجة مكروه أو محرم على الخلاف عند أهل العلم؛ لقول معاوية بن قرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عليك عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
التسهيل في الفقه - كتاب الطهارة [1] 1863 استماع
التسهيل في الفقه - كتاب الطهارة [2] 1366 استماع
التسهيل في الفقه - كتاب الطهارة [4] 1342 استماع