مقدمات في العلوم الشرعية [31]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فإن من الأبواب الفقهية التي جعلت علوماً مستقلة: علم الخراج؛ وهو علم مصادر وموارد المال في الدولة الإسلامية، فكل ما يتعلق بمالية الدولة الإسلامية يدرس تحت اسم الخراج.

ومن أوائل المؤلفين في هذا العلم: الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة قاضي القضاة، فقد ألف فيه كتاباً أرسله إلى هارون الرشيد، وافتتحه بكثير من النصائح, والواقع أن الكتاب ليس مختصاً بالخراج، بل ذكر فيه أيضاً آداب السجون وما يتعلق بها، وذكر كثيراً من سياسات الدولة العامة, والعمل مع الرعية عند فسادها, وعند حصول الفتن فيها والقلاقل.

ومن الكتب المؤلفة في ذلك: كتاب الخراج لـيحيى بن آدم, وهو مطبوع أيضاً.

وكذلك: كتاب الاستخراج لأحكام الخراج لـابن رجب الحنبلي, وهو مطبوع أيضاً, فهذه تقريباً أهم كتب الخراج الذي اشتهرت, وهناك شرح لكتاب الخراج لـأبي يوسف اسمه: الرتاج في صحة الخراج، وهو مطبوع, طبعته دائرة الأوقاف العراقية.

وكتاب الأموال لـأبي عبيد القاسم بن سلام أيضاً ينحو هذا المنحى إلا أنه ليس بالفقه؛ بل هو في الرواية، فيذكر فيه بعض أقوال السلف بأسانيدها، وإن كان يذكر بعض آرائه هو ويرجحها في بعض الأحيان، فيمكن أن يعد مع هذا.

ونفس الشيء بالنسبة لكتاب لأموال لـابن زنجويه, وكذلك الأموال لـابن أبي عاصم, وغيرها من الكتب المختصة بالأموال من كتب السلف, وإن كانت لا يقصد بها مثل ما نقصده هنا في الخراج مما يتعلق ببناء الدولة الإسلامية, إنما يذكرون ما يتعلق بالفقه المالي وروايتاهم عن السلف بأسانيدهم.

أما ما يتعلق بالإمامة فلا شك أن هذا الباب من الأبواب الفقهية ذات الخطب المهم, والدولة الإسلامية تحتاج في هذا الباب إلى مصادر ومراجع, والناس اليوم حين لم يعد لهذا الفقه تطبيق لم يعودوا يقبلون عليه, ولم يعد فيه تجديد ولا تأليف، فغفل الناس عنه حتى أصبح كثير من الناس يزعم أن المسلمين لديهم عجز ونقص في مجال السياسية، والأحكام الدستورية عموماً، وهذا غير صحيح، فمؤلفات المسلمين في هذا الباب كثيرة جداً، ولا يخلو مذهب من المذاهب من عدد من الكتب اختصت بهذا الباب, ومن أوائل الذين ألفوا في هذا الباب: الماوردي, فقد ألف كتاب: الأحكام السلطانية, وهذا الكتاب وضع الله عليه القبول فتناقله الناس، وقد نظمه الشيخ محمد المامي في قصيدة.

وكذلك القاضي أبو يعلى الحنبلي، فقد ألف أيضاً الأحكام السلطانية, وأتى فيه بتقسيمات الماوردي، وتبعه في أكثر ما قاله، ولا ينفرد عنه إلا بما فيه أقوال للإمام أحمد أو لبعض الحنابلة, وقبل هذا كتاب: غياث الأمم عند التياث الظلم، لـأبي المعالي عبد الملك بن الجويني, وهو كتاب مهم جداً في أحكام الإمامة عموماً, وكذلك كتاب الإمامة للأصبهاني, وكتاب الإمامة للآمدي, وكتاب الإمامة أيضاً لـابن تيمية، وكتابه الآخر: السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية, وكتاب الإشارة في تدبير الإمارة للإمام الحضرمي قاضي المرابطين في بلادنا في القرن الرابع الهجري, وكتاب إكليل الكرامة في أحكام الإمامة للقنوجي, وكذلك الإنابة لأحكام الخلافة للبلاذري.

وهناك عدد من الكتب الصغيرة في أحكام الإمام عموماً, وجدي رحمه الله له كتاب صغير اسمه: أحكام وتنصيب الإمام الأعظم.

أما الأبحاث المعاصرة في هذا الباب فهي كثيرة أيضاً بأضعاف ما قلنا من الكتب، مثل: الرسائل الجامعية, والأبحاث المستقلة, وغيرها لا حصر لها في الأقضية والإمامة.

ومن أفضلها أبحاث الشيخ عبد الكريم زيدان, وهذه بما يتعلق بالإمامة والقضاء والعلاقات الدبلوماسية والحصانة الدبلوماسية وغيرها, فهذا أحسن شيء, وله كتاب عنوانه: أبحاث فقهية لـعبد الكريم زيدان, وهذه طبعته نادرة اليوم وأصبحت قليلة.

ومن الذين عنوا بهذا الباب أيضاً جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وجمع فتاويهما في هذا رشيد رضا في فتاوي المنار؛ لأن المسألة أصبحت بعد سقوط الخلافة العثمانية مثار جدلٍ؛ هل نصب الخليفة واجب أو غير واجب؟ وقد شكك علي عبد الرازق في وجوب نصب الخليفة أصلاً، وألف كتاباً في هذا، ورد عليه عدد من المؤلفين في ذلك العصر منهم شيخ الإسلام مصطفى صبري مفتي تركيا في أيام الخلافة، وقد رد عليه بكتاب حافل مطبوع, ورد عليه عدد من المؤلفين في ذلك الزمان.

أما الحسبة -الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فهذا العلم يبحث فيه على ما يجب تغييره من المنكرات، وعن حكم نصب من يغير المنكر؛ وهو المحتسب, وقد كانت وظيفة من وظائف الدولة الإسلامية وظيفة الحسبة, والمحتسب لابد أن يكون فقيهاً في باب الحسبة، فيميز بين ما يجب تغييره وما لا يجب تغييره، وكذلك في وسائل التغيير وأساليبه, وقد توسع في هذا بعض المؤلفين حتى جعلوا المحتسب لابد أن يكون ملماً بالخلافات المذهبية؛ لأنهم يرون أن المنتهك أو الذي غير عليه إذا كان يعمل بمقتضى مذهبه فلا إنكار عليه, وليس للمحتسب أن يغير عليه مطلقاً, وقد ألف في هذا الباب كثير من المؤلفين، ومنهم من المذهب المالكي مثلاً:...، وكذلك صاحب كتاب الحلال والحرام أيضاً للأندلسيين, ومن الشافعية الشيزري، وألف فيه ابن تيمية رحمه الله رسالتين:

إحداهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والأخرى: الحسبة, وألف عدد من الأئمة من مختلف المذاهب بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكثير هم الذين كتبوا تحت هذا العنوان.

وهذا العلم -وهو علم الحسبة- من العلوم التي ينبغي أن تحيا اليوم، وأن يرجع الناس إليها، وأن يكثر تدارسها وتحيا كتبها؛ فالناس بحاجة ماسة إليها، وبالأخص أن الفقهاء يحصل لهم تناقض فيها، فعندما يعرضون إلى المسائل التي يغير فيها المنكر، يقولون: لا إنكار في مسائل الخلاف، هذا في الإطلاق, ثم إذا رجعوا إلى التطبيق أنكروا في كثير من المسائل التي هي من مسائل الخلاف، ولذلك حاول ابن تيمية رحمه الله تعديل القاعدة فقال: الصحيح أن يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، أما مسائل الخلاف فكثير من الخلاف غير معتبر, وقد رد عليه الكمال بن الهمام الحنفي فقال: إن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، فإذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد أهل اجتهاد، وقد صح أنهم أهل اجتهاد ورفعة, فكل ما اختلفوا فيه فهو من مسائل الاجتهاد أصلاً، فكيف نعرف أن المسألة قابلة للاجتهاد إذا لم نعرف ذلك في اختلاف المجتهدين فيها، وقد بحث الشاطبي أيضاً في هذه المسألة، وكذلك قبله القرافي وأطال النفس فيها والعز بن عبد السلام , وتعرض لها من المتأخرين بالتفصيل ابن نجيم في البحر الرائق، وأطال فيها النفس.

أما علم الفرائض فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم علماً مستقلاً، وهو العلم الذي يبحث فيه عن أسباب الإرث وموانعه، ومن يرث بالفرض, ومن يرث بالتعصيب, وعن الحجب, وكذلك ما يعرض من العول في المسائل وطرق قسمتها عند الانكسار مثلاً, وقد كان هذا العلم مدرجاً في علم الفقه تماماً، ولذلك لا يؤلف كتاب في الفقه جامع إلا ذكر فيه كتاب الفرائض, ومع هذا فقد أفرد ببعض المؤلفات المستقلة, ومن أشهر المؤلفات فيه منظومة على مقتضى المذهب الشافعي تداولها الناس وحفظوها, وهي لرجل من أهل الشام من الرحبة، تسمى الرحبية؛ نسبت إليه فصارت باسم الرحبية، وقد كثرت شروحها, ومن المؤلفات الواسعة فيه أيضاً كتاب: الزورق الخائض إلى علم الفرائض, وقد ألف فيه المتأخرون كثيراً من المؤلفات، لكن الواقع أن هذه المؤلفات تحصر فائدتها في مسائل قليلة فيها خلاف, ونحتاج فيها إلى ترجيح أو إلى القسمة، فقد قال المهم؛ لأن أكثر مسائل الفرائض محل إجماع أو على الأقل اتفاق بين الأكثر من المذاهب, أما المسائل الخلافية فهي مثل مسائل الحج، ومسائل ميراث ذوي الأرحام, وفرائض الإقرار والإنكار والمناسخات والعول, فهذه تقريباً هي التي يقع فيها خلافات بين المذاهب, ويحتاج فيها إلى ترجيح.

أما القسمة فصورها كثيرة لا يمكن أن تنحصر, ومن أحسن الكتب المتعلقة بقسم التركات كتاب الفرائض لـعبد الكريم اللاحم، فقد أتى فيه بكثير من الأمثلة الواقعية اليوم، وبتقعيد جيد في كثير من المسائل ما سبق لها.

وبالنسبة لعلم الفرائض فقد ورد فيه حديث أنه أول العلوم ينسى, وقد اعتنى به أهل نجد قديماً، منذ نشأة النهضة العلمية في نجد، ولذلك إلى الآن أهل نجد من أحسن الناس في علم الفرائض وأدراهم به, والواقع أنه من العلوم الحية التي يمكن أن تجذب الناس وتؤثر فيهم، ويمكن أن تقام له دورات لاجتذاب الناس إلى المسائل وإلى الدروس, وهو من العلوم المؤثرة أيضاً التي يمكن أن تستغل في الدعوة، فمن أراد أن يجتذب الذين لا يحبون العلم ولا يحبون الأمور العامة يجتذبوهم به؛ لأنه المرغوب لدى كثير من الناس، ومن العلوم العقلية التي فيها رياضة عقلية بالإضافة إلى جانب الأحكام الشرعية.

بالنسبة لسبب فصل علم الفرائض عن غيره من كتب الفقه: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعلموا الفرائض, وعلموها الناس؛ فإنها أول علم ينسى ), وأيضاً لما يرتبط بها من الحساب والرياضة العقلية، فهذا سبب فصلها, فمسائل الفقه الأخرى قليل منها ما يتعلق بالحساب والرياضة، فالاحتمالات العقلية فيه، مثلاً: احتمالات ميراث الهدمى, والغرقى, والمناسخات، فاحتملات كثيرة فيها رياضة للعقول.

بالنسبة لعلم الإمامة هنا لا يقصد به ما يدرس في علم العقائد، فعلم العقائد يذكر فيها الإمامة، والإمامة مسألة خلاف بين السنة ومن سواهم، فهذا هو خلاف سياسي, وقد سرى في المجال العقدي, فبنيت عليه الإحن بكاملها، فأصل افتراق الشيعة والخوارج مع أهل السنة الخلاف في تحديد الإمامة، فالشيعة يرون أن الإمامة مختصة بأسرة واحدة، وهي ذرية علي بن أبي طالب، والخوارج يرون أنها في كل المسلمين لا تختص بأسرة, وأهل السنة يرون أنها مختصة بقبيلة واحدة وهي قريش، فهذا الخلاف بينهم، فأصل هذا خلاف سياسي، ثم بنيت عليه مسائل عقدية.

أما هنا في الفقه فإنما يتكلم في شروط الإمام أصلاً, ثم بعد ذلك في اختلاف الشرط منها، والشروط التي يمكن التغاضي عنها: شروط الكمال، وشروط الصحة, ثم بعد ذلك واجبات الإمام وحقوقه, ثم أركان الدولة ومن يوليهم الإمام الولايات, ووسائل التفويض، وكتاب الاستخلاف أي: ما يكتبه الإمام إذا أراد تولية إنسان, وما يتناوله الاستخلاف من الصلاحيات, وما يجوز له من بيت المال وما يحرم عليه, والكلام في عزل الولاة بموت الخليفة، ووجوب إقامة الجهاد في كل سنة، وأمور كثيرة داخلة في الإمامة.

بالنسبة لشروط الإمامة وشروط الخليفة عند أهل السنة فهي عشرة:

الشرط الأول: أن يكون مسلماً؛ لقول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].

الشرط الثاني: أن يكون ذكراً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ).

الشرط الثالث: أن يكون مكلفاً؛ لأن غير المكلف رفعت عنه التكاليف، والإمامة زيادة في التكاليف.

الشرط الرابع: أن يكون حراً؛ لأن العبد مملوك, وتصرفه ليس لنفسه، والإمام لا يمكن أن يكون كذلك.

الشرط الخامس: أن يكون مجتهداً في دين الله, فلا يكفي مجرد عالم مقلد لمذهب، بل لابد أن يكون الإمام مجتهداً؛ لأنه يأتم به الآخرون، وإذا كان مقلداً فهو مؤتم، والمؤتم لا يكون إماماً، وهذ مسألة إجماع ذكر الإجماع عليها ابن تيمية وابن حزم وغيرهما.

الشرط السادس: أن يكون عدلاً؛ لقول الله تعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124], فكل من كان ظالماً لنفسه ولغيره قطعاً لا يصلح للإمامة بنص القرآن.

الشرط السابع: أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً؛ لأن فاقد إحدى الحواس أياً كانت لا يستطيع القيام بأمور الإمامة، كقيادة الجيوش, وحماية البيضة.

الشرط الثامن: أن يكون كافياً أي: يستطيع القيام بما وكل إليه بأمور الإمامة، فيعرف التدبير.. ويكون تام العقل.. تام الورع؛ لأنه مؤتمن.

كذلك أن يكون في الكفاية قادراً من ناحية الشجاعة، ومن ناحية القوة البدنية على مقارعة الأعداء, والقيام بنصرة الدين.

الشرط التاسع: أن يكون قرشياً، أي: من ذرية فهر بن مالك بن النضر, وهذا دليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الأئمة من قريش ), وقوله: ( قدموا قريشاً ولا تقدموها ), وقوله: ( قريش قادت الناس لخير سبيل إلى يوم القيامة ), وغير ذلك من الأحاديث, وهذا الشرط خالف فيه ابن خلدون ومعه بعض المتأخرين، وخلافه غير معتبر, وقد عقد عليه الإجماع من قبل للأدلة الصريحة, وابن خلدون أراد أن يعلل له فقال: إنما حدد النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة قريش لما بينه أبو بكر في قوله: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش؛ بسبب العصبية الموجودة، فدانت لهم العرب. ولكنها في الحقيقة غير صحيحة, فالعلة هي الاصطفاء الرباني؛ إن الله اصطفى من ذرية آدم إبراهيم، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ذرية إسماعيل كنانة، واصطفى من ذرية كنانة قريشاً, فهذا اصطفاء رباني, وعليه تترتب الأحكام الشرعية المختصة بقريش.

الشرط العاشر: أن يكون وصوله للإمامة بطريقة شرعية, والطريقة الشرعية هي: إما بيعة أهل الحل والعقد له, وإما عهد من سبقه إليه، وهاتان محل إجماع, والطريقة الثالثة محل خلاف، وهي: إذا انتزعها بالقوة وكان متصفاً بالشروط، وهذه الطريقة ما ذكرها أبو يعلى, ولا ذكرها الماوردي، ولا ذكرها أبو المعالي الجويني، والسابقون لم يذكرونها، لكن المتأخرين يذكرونها, فقد ذكرها النووي وغيره.

بالنسبة لـعبد الله بن الزبير رضي الله عنه فإنه ما قام ودعا لنفسه وبويع للخلافة, فليس للمسلمين خليفة؛ لأنه إنما دعا لبيعة نفسه بعد أن مات يزيد بن معاوية، فهو في حياة يزيد إنما قاتله فقط؛ لأنه صاحب بغي, ولأن بيعته في رأيه هو لا تصح؛ ولأنه جنى على أهل المدينة بحرب الحرة, وقد ذكر ابن جرير الطبري: أن الإجماع منعقد على أن الخليفة التام الشروط إذا ظلم يجب على المسلمين القيام عليه، حتى ترد المظلمة لصحابها، فضلاً عمن ليس كذلك، وإنما يمثل لهذا بـعبد الملك بن مروان، فـعبد الملك قام ونازع ابن الزبير، فانتزع الأمر بالقوة وتتوافر فيه الشروط كلها، إلا الطريقة التي وصل بها للحكم وهي طريق الغلبة, وقد بايعه ابن عمر كما في صحيح البخاري، وعدد كبير من الصحابة، فذلك رجح بعض أهل العلم أن المتغلب إذا توافرت فيه شروط الإمامة فهذه من طريقة الوصول للحكم.

طبعاً هذه الشروط لا معنى لها إلا أنها إذا عدمت لا توجد الخلافة؛ لأن الشرط: ما يلزم من عدمه العدم، كالطهارة للصلاة, فإذا تولى حاكم وادعى الخلافة لنفسه، فلا يمكن أن يكون خليفةً ما لم تتوافر فيه الشروط، لكن يمكن أن يكون حاكماً أو أن يكون ملكاً، أو أن يكون جباراً من جبابرة الأرض، لكن ليس هو إماماً بالمعنى الشرعي للإمامة، التي هي نص عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، ووجوب الطاعة, ووجوب الدعاء له، والنصح له, هذا خاص بمن تتوافر فيه الشروط.

بالنسبة لهذه الشروط إذا اختل بعضها ولم يوجد ما يقارب، فيكون الحال كحال الشروط عند العجز عن إتمامها -كمن لم يجد ماءً ولا طهوراً فصلى بغير طهارة- فهذا النوع يسمى إمامة للضرورة، وعليه أفتى بعض الفقهاء بصحة إمامة الخلفاء العثمانيين عندما ألغوا الخلافة العباسية، وجمعوا في أنفسهم السلطنة والخلافة، وقد كانوا من قبل في آخر زمن الخلافة العباسية؛ كان الخليفة مجرد شكل ليس له شيء في الأمر ولا في الطاعة ثم ألغوه, فأصبح عبئاً على الدولة، فهو شخصية موجودة؛ لكن ما لها أي دور ولا أثر, فألغوا الخلافة وجمعت السلطنة والخلافة لنفسهم, وقد وافقهم على ذلك بعض العلماء المعاصرين لهم، ورأوا أن الخلافة في ذلك الزمان ليس لها دور في حياة الناس، وأنها من الوسائل لا من التعبدات، فرأوا أن الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصد لم تشرع, ومن الذين وافقوهم على ذلك الحافظ ابن حجر, وبعض من عاصره من الذين رأوا إلغاء الخلافة.

بالنسبة إذا طلب إنسان تتوافر فيه الشروط العشرة ولم يوجد فيجب النظر إلى الأمثل، ولذلك قال خليل رحمه الله: باب شروط الإمامة والقضاء قال: مجتهد إن وجد وإلا فأمثل مقلد, وقوله: (وإلا) معناه: إذا لم يوجد مجتهد فأمثل مقلد.

بالنسبة إلى الأحاديث التي فيها ذكر إمارة العبيد مثل: حديث: ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ), وغيره من الأحاديث, وقد جاء في هذا المعنى حديثان صحيحان, وجاء فيه بعض الأحاديث الأخرى دون ذلك، وهذا الإمارة هنا هي إمارة مصر من الأمصار أو جيش من الجيوش، ولا يقصد به الخلافة العامة, ودليل ذلك: ما أخرجه مسلم في الصحيح: من أن عمر رضي الله عنه لقي واليه على مكة بالطريق بين مكة والمدينة، فقال: من وليت على حرم الله؟ فقال: فلاناً مولى بني مطيع، فقال: أتولي على حرم الله مولىً؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه حافظ لكتاب الله عالم بالفقه والفرائض. فقال عمر: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يرفع بهذا العلم أقواماً ويضع به آخرين ), فالمقصود بقوله: ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي ), أي: الإمارة الصغرى لا الإمامة الكبرى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.